هاني الديب طبيب بشري مصري من الإسكندرية، تخصص في مجال أمراض المخ والأعصاب. وعلى الرغم من دراسته ومزاولته للطب وتدريسه أيضًا، حيث يعمل أستاذًا مساعدًا بكلية الطب، فإن شغفه بالفنانة الراحلة شادية وعشقه للبحث والتوثيق، دفعاه لإنجاز مرجع ضخم عنها تحت عنوان "رحلة العمر: شادية بين السينما والأغنية 1959 – 1987"، وقد صدر عن دار "المحرر للنشر والتوزيع" بالقاهرة في 508 صفحة من القطع الطويل والمزيّن بالصور والقصاصات الصحفية.
والكتاب عمل ينم عن جهدٍ كبير أنجزه فرد وحيد لا مؤسسة! كما أن الديب أسس جروب لعشاق شادية وأرشيفها الفني على شبكة التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، بات مع الوقت نافذةً موثقة لكل ما يخصّ شادية وفنها. عن كتابه الشيّق ورحلته الطويلة في التوثيق والكتابة والتنقيب عن كل ما يخصها، كان لـ"ميغازين" هذا الحوار الشيّق معه.
ــــــــــــــــــــــــــ
- نعرف أن مجال عملك ودراستك هو الطب البشري، فكيف تولَّد لديك هذا الشغف تجاه الأرشيف الفني والصحف والدوريات القديمة؟
ربما لأنني أجد في هذه الصحف والمجلات صورة لطيفة لما كانت عليه الحياة في مصر خلال سنوات الستينيات والسبعينيات التي لم أعايشها فعليًا. لكني كنت دائمًا أستمع إلى أحاديث الآباء عن أنها كانت أيامًا جميلة مليئة بالأحداث السياسية والفنية. وبتجميعي لهذه الصحف والمجلات، تكونت لدي يومًا بعد يوم مكتبة لا بأس بها استطعت من خلالها أن أجمع تفاصيل مشوار شادية مع الفن وأهم محطاته. وذلك كما تُجمع قطع البازل بجوار بعضها البعض، لتكتمل الصورة الفنية والإنسانية للنجمة المفضلة لدي.
- لديك عشق لكل ما قدمته الفنانة شادية من أغنيات وأفلام ومسرحيات وحتى أعمال إذاعية، فلماذا هذا الاهتمام بها دون سواها من الفنانات؟
وجدت لديها، ربما، سمات فنية، لم أجدها في سواها. فهي في رأيي الشخصي أجمل مطربة مثّلت وأجمل ممثّلة غنّت. وإذا استطعنا الفصل بين الشخصيتين سنجد – بشكل محايد ودون أي تحيز – أنه يُمكن أن نضعها بين أهم ثلاث نجمات في جيلها في عالم السينما وكذلك في مجال الأغنية.
وهذه المكانة، التي تستحقها بكل تأكيد، حصلت عليها دون أن تحارب أحدًا أو تدخل في صراعات مع أحد. بل كانت كثيرًا ما تتوقف أو تبتعد لمجرد أنها تعرضت لبعض المضايقات أو الخلافات. فكيف الحال إذا كانت أكثر إصرارًا أو قدرة على احتمال هذه الصراعات؟ أعتقد أنها ستكون الأولى بكل تأكيد وبمنتهى السهولة، فهي تمتلك القبول والتلقائية والبساطة والصدق، وكلها مقومات تجعلها قريبة من قلوب الناس وتفسر التفاف الجمهور حولها حتى بعد سنوات طويلة من الاعتزال.
لذلك لا أجد – في رأيي الشخصي – فنانة أخرى تستحق هذه المكانة. وفي الوقت نفسه، أجد أنه على الرغم من الاحتفاء الجماهيري والرسمي بها في مناسبات كثيرة، فإنه لا يزال أقل بكثير جدًا جدًا مما تستحق.
- يُثار جدال من حين لآخر عن استحقاق هذه الفنانة أو تلك للقب "صوت مصر"، الذي كانت شادية تُعرف به خلال مسيرتها الفنية. في رأيك، لماذا استأثرت شادية بهذا اللقب؟
أعتقد أن إثارة مثل هذا التنافس غير المنطقي على هذا اللقب هو نوع من السُخف. كأن تحاول سيارة متهالكة أن تسبق طائرة نفاثة مثلًا! فأين من يحاولن أن يتنافسن على هذا اللقب من مكانة شادية؟ في اعتقادي الشخصي أنهن إذا وقفن جميعًا الواحدة فوق كتف الأخرى، فلن يصلن حتى إلى قاعدة الهرم الذي صنعته شادية واستحقت به هذا اللقب.
والمفارقة أن شادية كانت ترى أن مصر أكبر من أي صوت، وأنها تفضل أن تكون "بنت مصر" على أن تكون "صوت مصر". فهي الحب الكبير كما وصفتها، وارتباط أي فنان باسم مصر هو تكريم وشرف كبير له. وكما قالت إن هذا اللقب لهو أعظم جائزة حصلت عليها. وبالتأكيد، فإن السبب الأول والمباشر لإطلاق هذا اللقب عليها هو إبداعها غير المسبوق في لون الأغاني الوطنية الذائبة عشقًا في حُب مصر في مرحلة ما بعد هزيمة 1967. وأطلق عليها هذا اللقب في إحدى حفلاتها عام 1971 عندما قدمتها صديقة عمرها الفنانة تحية كاريوكا على أنها "صوت مصر"، وتناقل الجميع هذا اللقب من بعدها وارتبط بـ"شادية".
كما ارتبطت شادية بالغناء الصادق والمُعبّر عن معشوقتها الأولى وحُبها الأكبر! والأمر ليس مبالغة إذا استعرضنا حفلاتها في السنوات الثلاث الأولى بعد عودتها للغناء في حفلات عام 1970، لنجد أن الجمهور كان ينتظر جديدها الوطني بنفس درجة الشغف التي كان ينتظر بها أحدث أغنياتها العاطفية، بل ويطلب هذه الأغنيات الوطنية في الحفلات مثل "يا حبيبتي يا مصر" و"يا أم الصابرين" وغيرها. وأعتقد أن هذا لم يحدث مع مطربة أخرى باستثناء سيدة الغناء العربي أم كلثوم! وأعتقد أن هذا يكفي لأن تكون – وحدها فقط دون غيرها – صوت مصر!
- حدثنا في البداية عن المنهج الذي اتبعته في توثيق كتابك "رحلة العمر: شادية بين السينما والأغنية 1959 – 1987"، خاصةً أن هناك مجموعة من الكتب التي صدرت مسبقًا عن شادية وسيرتها.
في الحقيقة، أنا أعتبر نفسي واحدًا من الجمهور ولستُ ناقدًا أو مؤرخًا محترفًا، لكني أحب القراءة. ومن قراءاتي في مشوار شادية وجدت أن اغلب الكتب التي صدرت عنها كانت تعتمد على الكلام المُرسل، وكذلك الحكايات التي قد لا تكون أكثر من مجرد سيناريوهات درامية في خيال المؤلف، دون الاعتماد على مصادر موثقة لهذه الأحداث.
وهذه المؤلفات بالتأكيد لاتشبع شغفي بالتأريخ والتوثيق كقارئ، بل قد تثير أعصابي عندما أقرأ أخطاءً تاريخية فجة لا تصدر من هاوٍ مبتدئ. ولا شك أن هناك استثناءات قليلة لكتب ومجلدات وملفات صحفية اعتمدت على التوثيق الدقيق لتواريخ وتفاصيل مشوارها. وتلك المؤلفات كانت من أهم المصادر لدي، وقد أشرت إليها جميعًا في مصادر الكتاب وقدمت الشكر لاصحابها.
أما عن الأسلوب، فلا أدعي أنني اخترعت أسلوبًا معينًا، لكنني تعاملت مع الكتاب كما أتعامل مع المشروعات البحثية التي تعودت أن أقدمها خلال دراستي للطب. فقد تعلمنا أن هناك دائمًا مصدرًا موّثقًا بالتاريخ لكل جملة أو فقرة داخل البحث. فحاولت أن تكون مصادري للكتاب إما أحاديث إذاعية أو تليفزيونية بصوت شادية نفسها أو قصاصات صحفية من مجلات عربية أو مصرية صدرت في حياة شادية. واعتبرت أن في ذلك موافقة ضمنية على ما جاء بهذه الصحف، خاصةً إذا تكررت تلك الأخبار في أكثر من صحيفة أو مجلة.
أعترف أن هناك العديد من الأخبار والمقالات التي قد تحتوي على مبالغات أو تفاصيل كاذبة، ربما تكون شادية نفسها اعترضت عليها في حينها، لكننا لم نتأكد من هذا، ربما لطبيعتها الهادئة والبعيدة عن خلق المشاكل والصراعات، لكنني حاولت قدر الإمكان أن أبتعد عن هذه المصادر أو أنوّه أنني أتشكك في دقتها، حتى إذا توصلنا – يومًا ما – إلى التأكد من صدقها أو كذبها، فعندها يمكننا أن نعيد صياغتها بشكل أكثر توثيقًا وتدقيقًا.
- من خلال بحثك، هل يمكن القول إن شادية هي الفنانة الوحيدة التي نجحت في تحقيق ذلك التوازن بين أدائها كمطربة في الإذاعة والحفلات وكممثلة على شاشة السينما؟
بشكل محايد وكمشاهد عادي، أرى أنه يمكن اعتبارها المطربة الوحيدة من نجمات جيلها والأجيال السابقة والتالية من نجمات الطرب العربي التي حققت أنجح تجربة سينمائية، كمًا وكيفًا. فمن حيث الكم، فتجربتها السينمائية – بعدد أفلام تجاوزت 100 فيلم – أقوى وأكبر من تجارب سينمائية لنجمات كبيرات في عالم السينما.
أما من حيث الكيف، فقد تواجدت أفلامها بقوة في جميع إحصائيات أفضل الافلام العربية، ومنها إحصائية مئوية السينما المصرية عام 1996 (6 أفلام)، وإحصائية أفضل الافلام الكوميدية عام 2022 (6 افلام)، وأفضل الأفلام الغنائية عام 2023 (9 أفلام). وهي الإحصائيات التي أجراها مهرجان الإسكندرية السينمائي بمشاركة مجموعة من النقاد، ونافست فيها نجمات القمة السينمائية.
وفي رأيي أيضًا أن هناك مطربة أخرى أعتقد أنها نافست بقوة كممثلة في التليفزيون، وهي الفنانة هدى سلطان التي تعتبر من أقوى نجمات الدراما التليفزيونية. وأعتقد أنهما – شادية وهدى سلطان – امتلكتا أقوى تجربة تمثيلية كمطربات في السينما والتليفزيون. ولا أعرف ربما إذا قدمت شادية تجارب للتليفزيون أن تنافس أيضًا بقوة على قمة الدراما التليفزيونية!
أما عن تحقيق التوازن في مشوارها السينمائي، أعتقد أنها نجحت بشكل كبير في الحفاظ على وجودها وتألقها كممثلة ومطربة في خطين متوازيين، وإن طغى التمثيل قليلًا على الغناء في مناطق كثيرة من مشوارها. إلا أنها كانت تحاول أن تستعيد شغفها بالغناء من وقت لآخر على الرغم من الكثير من المضايقات التي تعرضت لها في عالم الغناء وخاصة الحفلات، التي دفعتها إلى اعتزال تلك الحفلات أكثر من مرة في مشوارها الفني، وعودتها من حين لآخر بحفلات قليلة عددًا.
لكنها كانت تحقق النجاح الجماهيري بلغة الأرقام، وذلك كما وثقتها الصحافة حينها. لكنّي في النهاية أعتقد أنها كانت تميل للتمثيل أكثر من الغناء. أو، بعبارة أخرى، كان شغف التمثيل بداخلها أقوى قليلًا من اهتمامها بالغناء. ويظهر ذلك بوضوح حين وصفت نفسها يومًا في حديث إذاعي شهير مع الكاتب الصحفي أنيس منصور أنها "ممثلة مشتغلة بالغناء"!
- بمناسبة السينما، كيف تنظر إلى مسيرة شادية على شاشة السينما، وما هي أبرز التجارب والمحطات التي لا يمكن تجاوزها في رحلتها الثرية؟
ربما تكون أولى التجارب الهامة لها هو إقدامها على الإنتاج السينمائي، وهو ما أشرت إليه تفصيلًا في فصل سيتم نشره في المشروع القادم إن شاء الله، فقد استطاعت أن تثبت لصنّاع السينما أنها قادرة على أن تخرج من إطار البنت الشقية المَرحة "الدلوعة" الذي ظلت حبيسته في السنوات السبع الأولى من مشوارها، وذلك حتى قدمت "ليلة من عمري" عام 1954 وهو أول ما أنتجت.
ثم "شاطئ الذكريات" في عام 1955، لتشجع بذلك المخرجين في الأعوام التالية على تقديم تجارب أكثر نضجًا ومنها على سبيل المثال "وداع في الفجر" 1956، و"لواحظ" 1958، و"الهاربة" 1958؛ إلى أن جاءت القفزة السينمائية الكبيرة عام 1959 في "المرأة المجهولة"، قبل أن تبدأ محطة أخرى وهي التمثيل بلا غناء في عام 1962، وكان هذا في رواية نجيب محفوظ "اللص والكلاب". وتوازت معها محطة أخرى في سينما الستينيات وهي كوميديا فطين عبد الوهاب في مجموعة من الأفلام بدأت عام 1962 "الزوجة 13"، وقد اختير أغلبها ضمن أفضل 100 فيلم كوميدي في تاريخ السينما المصرية.
وأعتقد أن سينما الستينيات كانت أكثر المراحل ثراءً في رحلتها السينمائية، ولذا يصعب اختيار بعض الأفلام دون الآخر. وأعتقد أيضًا أن تلك السنوات كانت كلها محطات هامة. وعلى الرغم من خفوت شعاع التجربة السينمائية لديها قليلًا في السبعينات، مقابل وجودها كمطربة في حفلات الغناء، فإنه لا بد من التنويه بمحطة سينمائية هامة حينها، وهي ثلاثيتها مع المخرج أشرف فهمي، وهي "امرأة عاشقة" 1974، و"أمواج بلا شاطئ" 1976 الذي نالت عنه جوائز عديدة، و"رغبات ممنوعة" الذي تعرض للكثير من المشاكل الإنتاجية وتسبب في امتناعها عن التمثيل لسنوات طويلة بعد أن ظل حبيس العُلب، وذلك قبل أن يُعرض جماهيريًا مرة واحدة في مهرجان القاهرة عام 1979، وصولًا إلى إطلالاتها الأخيرة في "لا تسألني من أنا" عام 1984.
- هل حقًا كانت شادية، هي الأفضل والأقرب في تجسيد الشخصيات التي كتبها الأديب العالمي نجيب محفوظ على شاشة السينما؟
أعتقد ذلك. وهذا ما ذكره الكاتب الكبير في مقالات عديدة استطعت توثيقها، فقال عن "نور" في مجلة "الكواكب"، 31 كانون الأول/ديسمبر 1963، إن: "شادية كانت عظيمة جدًا في اللص والكلاب.. فيلم رائع بلغت فيه القمة". وقال عن "حميدة" في حوار لمجلة "نورا"، 12 كانون الأول/ديسمبر 1988: "شادية في زقاق المدق كانت ناضجة فنيًا جدًا، وخاصةً في الجزء الأخير الذي احتاج منها إلى جهد تمثيلي كبير وأجادت جدًا".
وقال عن "كريمة" في حوار لمجلة "الكواكب"، 12 كانون الثاني/يناير 1965: "مع تخصص شادية التي أصبحت تمثل فقط.. شادية صورت كريمة أحلى مما تخيلتها كانت فعلًا أبرع من كل بنات أفكارنا." وقال عن "زهرة" في حوار لمجلة "نص الدنيا"، 31 آب/أغسطس 2003: "ميرامار الذي أقنعتني فيه شادية بأنها زهرة الفلاحة القادمة من الريف والتى تعرضت لكل هذه المآسي ونجت منها".
لذلك لا أعتقد أنني أمتلك عبارات أفضل من ذلك، وربما تكون هناك نجمات أخريات حققن النجاح في روايات نجيب محفوظ. لكنني، كمشاهد عادي، أرى أن شادية صاحبة التجربة الأهم والأكثر نجاحًا ونضجًا بين كل من جسدن بطلات نجيب محفوظ.
- يتضح لي عشقك لشادية من خلال الفصل الثالث من الكتاب عن حفلاتها وفي ظني أنها محاولة أولى لرصد وتوثيق تلك الحفلات رغم صعوبة المهمة، فما الذي توصلت إليه بعد هذه الرحلة؟
توصلت إلى قناعة تامة أننا خسرنا كثيرًا كثيرًا كثيرًا كجمهور من عدم اهتمامها بتوثيق حفلاتها سواء بتسجيلها إذاعيًا او تصويرها تليفزيونيًا. والنتيجة أن ما لدينا من حفلات أقل من 20% مما قدمت من على مدى مشوارها الفني، فقد كانت هي الأنجح بمقاييس الجمهور والنُقاد في تلك الأيام.
وتوصلت أيضًا إلى أن توقفها المتكرر عن الحفلات في أكثر من مناسبة ولأكثر من سبب أفقدنا تراثًا غنائيًّا ضخمًا من الأغنيات. وكان من الممكن أن يكون هذا التراث هو الأكبر لمطربة عربية، فقد توقفت عن الحفلات حوالي 8 سنوات لمجرد أنها تعرضت لمضايقات تتعلق بترتيب الصعود على المسرح في إحدى حفلات عام 1961، وذلك حتى عادت بقوة عام 1970 بسلسلة من الحفلات المعدودة، قبل أن تنزوي مرة ثانية في صيف 1975 بعد أن تعرضت لمضايقات أخرى من بعض موظفي التليفزيون، مما أدى لانقطاع التيار الكهربائي عن إحدى حفلاتها.
ظلت متوقفة عن التعامل مع التلفزيون لمدة 5 سنوات، وحُرمنا بذلك من تصوير أهم وأجمل حفلاتها حتى عام 1980، لتعود بقوة من جديد وتقدم سلسلة حفلات مصورة ناجحة حتى شعرنا أننا سنعوض ما فاتنا. لكننا تفاجئنا مرة ثالثة بتوقفها عن الحفلات عام 1982، ولكن هذه المرة لانشغالها على مدى 3 سنوات بعرض مسرحيتها الأيقونة "ريا وسكينة ".
عادت من جديد عامي 1985 و1986 بثلاث حفلات رسمية، تتوج بها المشوار وتختمها بالليلة المحمدية لتسدل الستار على رحلة من أجمل وأنجح ما يكون. كما أن هذه الرحلة من أصعب الرحلات الفنية من حيث التوثيق، لأنها كما سبق وأشرت إلى أن أحداثها الصاخبة المتتالية كانت تمنعنا من الاستمتاع بنغمات طربها الساحر. وأود القول بأنها محاولة أرجو أن تكون بداية لمزيد من التوثيق لهذا الجانب من مشوارها. وأعتقد أن هذا هو أكثر جزء من الكتاب يحتمل المزيد من الإضافات والتوثيق، عندما تتوفر لدينا معلومات جديدة إن شاء الله.
- أريد أن أتوقف معك عند الأغنيات الوطنية التي قدمتها شادية في مناسباتٍ عديدة، فهل يمكن أن ترصد لنا أبرزها؟
أعتقد أننا نحتاج في هذه النقطة تحديدًا إلى صفحات طويلة! فقد كانت شادية حاضرة بصوتها في كل معارك وانتصارات وانكسارات الوطن والامثلة كثيرة جدًا. ولكنني أريد هنا أن أتحول لأغنيات وطنية ذابت فيها عشقًا بمصر، دون مناسبات محددة. وهذه الأغنيات في اعتقادي الأكثر عُمقًا والأبقى أثرًا في ذاكرة الوطن. ومنها: "يا حبيبتي يا مصر" 1970 وهي في رأيي دُرة التاج، و"يا أم الصابرين" 1971 التي أرى أنها لا تقل روعة عن سابقتها. ولكن ظهورها في العام التالي لها مباشرة جعلها تتوه قليلًا في فلك "يا حبيبتي يا مصر" ثم "أقوى من الزمان" 1978، والتي أذابت فيها الحدود بين الأغنية الوطنية والعاطفية، فأصبحت أيقونة لا تُنسى. والأمثلة أكثر مما يمكن حصره في سطور قليلة، لكنني باختصار أعتقد – في رأيي الشخصي – أن شادية فيما بعد عام 1967 كانت صاحبة أصدق تجربة بين نجمات هذا الجيل في الغناء للوطن "بصدق"، وأكرر: بصدق!
- من الفصول الفارقة في الكتاب أيضًا، الفصل الخامس حول شادية في الإذاعة ومحاولتك لرصد أعمالها الإذاعية وتجاربها المختلفة. فهل يمكن أن تحدثنا في اختصار عن أبرز أعمالها الدرامية الإذاعية والفوازير واختيارها مذيعة؟
قدمت شادية للإذاعة 7 مسلسلات إذاعية منها عملين لإذاعات غير مصرية وهما "وسقطت في بحر العسل" للإذاعة البريطانية عام 1975 من إخراج علي عيسى، و"شيء من الحب" لإذاعة الكويت عام 1983 من إخراج وجدي الحكيم. أما أعمالها للإذاعة المصرية، فقد كانت من أنجح وأشهر الأعمال الدرامية للإذاعة، ولاتزال حتى الآن تحقق نسب استماع عالية جدًّا على صفحات الإذاعة المصرية على اليوتيوب، فقد ارتبط الجمهور بصوت شادية في مسلسلات مبهرة كان للمخرج المبدع محمد علوان النصيب الأكبر فيها، حيث قدم لها "سيدة" في "نحن لا نزرع الشوك" 1968، وفاطمة في "صابرين" 1972، و"زبيدة" في "سنة أولى حب" 1974.
وكانت لها تجربة فريدة بإذاعة صوت العرب في مسلسل "جفت الدموع" 1966 للمخرج أحمد عبد الحميد، وأخيرًا دورها الذي لا يُنسى في "الشك يا حبيبي" 1977 للمخرج سمير عبد العظيم. وعندما وافقت على الظهور كضيفة شرف في المسلسل الإذاعي الأول للمخرج حسين كمال "كل هذا الحب" عام 1982، فقد حققت النجاح وطغت أخبار مشاركتها على أخبار العمل نفسه! كما قدمت كنجمة محبوبة الفوازير للإذاعة ثلاث مرات (وهو ما تمكننا من حصره): الأولى لإذاعة صوت العرب عام 1964 والثانية للبرنامج العام 1973 والتي لم تكتمل لظروف قيام حرب أكتوبر المجيدة والأخيرة عام 1975. وفي مجال البرامج، كانت لها تجربتان رائعتان: الأولى عام 1979 عندما بدأت في تقديم حلقات "بكرة يبتدي النهاردة"، ثم توالت على تقديمه نجمات أخريات بعدها. ولها كذلك التجربة الشعرية الفريدة "عاشق الموال" عام 1981.
- لا بد من التوقف عند فرسان النغم – كما أسميتهم – في مسيرة شادية. في رأيك، من هو الملحن الذي استطاع صياغة شخصية البنت الدلوعة الشقية؟ وماذا أضاف لها كل من محمد فوزي، ومحمود الشريف، ومنير مراد، وبليغ حمدي، وكمال الطويل، ومحمد الموجي، وأحمد صدقي، وخالد الأمير؟
أعتقد أن منير مراد في مراحلها الأولى حتى نهاية الخمسينات، كان هو صاحب السبق في صياغة اللون الذي تميزت به شادية في بداياتها. صحيح أن محمد فوزي كان هو أول من رسم هذا اللون لها، إلا أن منير مراد استطاع أن يضيف المزيد من الإبداع والتألق على ألحانه لشادية، فأصبحت علامات لا يُمكن أن تُنسى. ثم جاء بليغ حمدي في الستينيات ليرسم طريقًا آخر لها في الغناء، حيث نقلها من الغناء الخفيف إلى أغنيات التعبير التي لا تنسى، وذلك في لوني الغناء الشعبي والتعبيري، وتبعه في هذا اللون محمد الموجي.
أما محمود الشريف وأحمد صدقي، فكانا بالنسبة لشادية – إن جاز لي التعبير – رجلا الحرس القديم اللذين أعاداها إلى الموسيقى الشرقية الأصيلة في سنوات السبعينيات. وذلك بعد أن كانا أهم فرسان فترة الخمسينيات بأغنيات لم تخرج عن لون الغناء الذي تميزت به شادية.
وأنا اعتقد، كمستمع غير متخصص، أن شادية فرضت لونها على كل من لحن لها في فترة من الفترات. أما كمال الطويل، فأعتقد أن تجربته مع شادية كانت تستحق أن تاخذ مساحة أكبر من ذلك. لكننا مع الأسف، لم نخرج منها إلا بعدد قليل – غير مؤثر – من الأغنيات باستثناء "رحلة العمر" كأغنية أحبتها شادية وقدمتها في حفلات.
أما خالد الأمير، فبعدما قدم لها "اتعودت عليك"، وكانت تجربة جديدة وناجحة، قدم لها صورًا مكررة بعض الشيء لم تحقق الإشباع الفني، وذلك على الرغم من نجاحها جماهيريًا، ونفس الشيء يمكن أن يُقال عن باقي جيل السبعينيات من الملحنين، مثل إبراهيم رأفت ومحمد علي سليمان، فقد أضافت لهم شادية نجاحًا وانتشارًا جماهيريًّا أكثر مما أضافوا إليها، باستثناء عمار الشريعي – هذا في اعتقادي – الذي استطاع أن يقدم لها تجربة غنائية مختلفة عما اعتادت أن تقدمه في سنوات السبعينيات من أغنيات طربية طويلة نسبيًا.
- بعد هذه الرحلة الطويلة من البحث، لماذا في رأيك هذا الالتباس الذي حدث حول علاقة شادية بالموسيقار محمد عبد الوهاب، وماذا عن المعلومات المغلوطة حول رأيه في صوتها؟
في الحقيقة، كنت قد أعددت فصلًا خاصًا عن علاقتها بالموسيقار، خاصةً فيما يتعلق برأي كل منهما في الآخر. وكنت أريد أن أضعه ضمن مجموعة فرسان النغم، لكنني تراجعت بعد ذلك لأن تجربتها الموسيقية معه لم تكن بنفس قوة وتاثير تجربتها مع آخرين، فآثرت أن أتركها كفصل مستقل في المشروع القادم.
ربما يكون ذلك اعتراضًا صامتًا مني كعاشق لصوت شادية ومستمع لألحان عبد الوهاب، خسر كثيرًا من عدم تعاونهما معًا مهما كانت أسبابه. فلم ينتج عن تعاونهما معًا سوى ظهورها في جميع الأناشيد الوطنية التي لحنها بدءًا من "قولوا لمصر" 1956، و"الوطن الأكبر" 1960، و"الجيل الصاعد"1961، وأخيرًا "صوت الجماهير" 1963، وأغنيتين فرديتين هما "أحبك" 1954 في فيلم "شرف البنت"، و"بسبوسة" التي أعدت لتكون ضمن أغاني فيلم "زقاق المدق" 1963 وتم الاستغناء عنها. وأعتقد أن هذا هو ما تسبب في القطيعة بينهما لتظهر بعد حوالي ١٥ عامًا ضمن أحداث فيلم "وادي الذكريات".
أما فيما يتعلق بالمعلومات المغلوطة في آراء عبد الوهاب في صوت شادية، فل ابد أن اعترف بالفضل لمحاوري العزيز في أنه ساعدني كثيرًا في توثيق أهم الآراء التي أطلقها عبد الوهاب في صوت شادية، والتي حاولت بها أن أصحح الكثير من المعلومات غير الدقيقة في هذا المضمار. وربما يكون سبب الالتباس هو التساهل في نقل المعلومة دون التاكد من مصدرها. وربما اعتقد من روج لمثل هذه الآراء المغلوطة أن عدم تعاون عبد الوهاب مع شادية يمكن أن يتسبب في أن يهاجمها. والحقيقة أن آراءه عنها كانت دائمًا تبدو جيدة ولطيفة، لكنني أشعر في بعض الأحيان أن هناك غضبًا مختبئًا بداخلها. فهذا مجرد إحساس! هذه الآراء أعددتها لتكون ضمن المشروع القادم في فصل خاص يحمل المزيد من التوثيقات فيما يتعلق بالعلاقة الفنية بينهما، والتي لم تكن أغلب الوقت في أحسن حالاتها! لكن يسعدني اعترافًا بالجميل أن أعرضها الآن.
أطلق عبد الوهاب التصريح الأول في مجلة "صباح الخير" في 9 آب/أغسطس 1957 حيث قال عنها: "صوتها عائلي تحس وأنت بتسمعها إنك تسمع ابنة عمك أو ابنة خالتك وهي تغني بين أسرتها فقط". وبعد ثلاث سنوات، قدمت جريدة "الجمهورية" حوارًا لعبد الوهاب مع كامل الشناوي نشر في 27 أيار/مايو 1960 قال فيه عنها: "صوتها باسم يثير في النفس السعادة والنشاط.. صوت كله شقاوة وعفرته صوت يقنعك أنك تصدق منها كل شيء حتى الكذب". وهو تقريبًا الرأي ذاته الذي نُشر في "الكواكب" بعد سنوات طويلة، وتحديدًا في 11 شباط/فبراير 1969: "صوت رشيق يشبه صوت البنت الشقية اللي بتضحك عليا وعلى الرغم من علمي أنها بتضحك عليا فإنني أحبها".
أما الرأي الأخير الذي استطعت توثيقه حتى الآن، فقد نُشر في مجلة "الكواكب"، في 1 نيسان/أبريل 1969، في حوار أجراه معه صالح جودت عن نجوم الأغنية العربية: "شادية أتصورها دائما بنت البلد.. اللطيفة.. الخفيفة.. الرشيقة.. خفيفة الظل التي يمثل صوتها اللوعة الشابة ولهذا أتخير لها الأغنية المصرية المصبوغة بهذه الصفات".
- هل يمكننا القول إن مسرحية ريا وسكينة، كانت بمثابة تتويج لمسيرتها الفنية الممتدة؟
بكل تأكيد. فقد جاءت المسرحية في فترة كان يتوقع فيها الجميع أن شادية أصابها الملل وأنها تتجه بسرعة إلى الاعتزال. فجاءت المسرحية كقفزة إلى قمة جديدة في مشوارها الفني، وحققت النجاح الفني والجماهيري وأصبحت من كلاسيكيات المسرح العربي حتى بعد 40 عامًا من عرضها الأول. ولذلك يمكن القوم بكل ثقة إن "ريا وسكينة" أعطت شادية ميلادًا فنيًّا جديدًا في نهاية مشوارها. وأعتقد أنها امتلكت من الذكاء الفني ما يجب، حيث إنها لم تكرر التجربة، فلم تفقد بذلك تجربتها الأولى البريق والسحر الذي حصلت عليه، باعتبارها التجربة المسرحية الوحيدة لها.
وهنا أريد أن أشير لنقطة الذكاء الفني لشادية والتي عُرفت دائمًا بأنها تقدم ما تحب من إبداع في عالم الفن بتلقائية كما يحلو لها. وتقدم تجارب فنية جريئة دون أن تتقيد بأي مقاييس للنجاح والفشل. فيظهر ذلك على أنه اندفاع ومجازفة، ولكن طبيعتها النقية وحس الفنانة الصادقة بداخلها، جعلا هذه التجارب علامات بارزة ينبهر بها كل من يتتبع مشوارها. وهذا في اعتقادي هو ذكاء فطري في شخصية شادية الفنانة. وهو واحد من أسباب نجاح "ريا وسكينة" ونجاح تجارب أخرى جريئة في مشوارها الفني.
- أخيرًا، هل نشهد لكم في المستقبل القريب عملًا توثيقيًا جديدًا عن الفنانة شادية لاستكمال ما أنجزتموه من قبل؟
أنا بالفعل كنت قد انتهيت من مشروعي التوثيقي عن شادية في كانون الأول/ديسمبر 2023 في حوالي 40 فصلًا تحتوي على كل ما استطعت توثيقه حتى تاريخ انتهائي من الكتابة عن مشوار شادية الفني والإنساني، وذلك بدءً من طفولتها وأسرتها التي تحمست لها كفنانة وبداياتها في عالم الفن وعلاقاتها بزملاء العمر من ممثلين ومخرجين وشعراء وملحنين وغير ذلك. وأيضًا أحاديثها عنهم وأحاديثهم عنها.
لكن الكتاب في صورته المبدئية تعدى 1200 صفحة، فكان من المستحيل عمليًّا أن يصدر كل هذا في كتاب واحد، فقمت بالفعل بتقسيمه إلى كتاب تضمن توثيق المحطات الفنية لشادية في السينما والغناء والإذاعة والمسرح وأهم الإحصائيات التي توثق هذا المشوار. وهو ما صدر في 10 فصول ضمن كتاب "رحلة العمر".
أما باقي الفصول الثلاثين، وهي فصول قصيرة إلى حدٍ ما، فإنها تُكمل بشكل كبير ملامح "رحلة العمر" الفني لشادية، وذلك من خلال سرد رحلتها الإنسانية منذ طفولتها وحتى اعتزالها الفن وبعض اللمحات الفنية التي أشرت إليها سابقًا في الحوار، كعلاقتها بعبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفاتن حمامة والمزيد من رفقاء رحلتها الفنية، وذلك بالإضافة إلى بعض التجارب الفنية التي خاضتها كتجربة الإنتاج السينمائي والأفلام الاستعراضية والأغنيات الطربية الطويلة وأيضًا رأيها فيها.
وكذلك التجارب الأخرى التي لم تخضها كالعمل للتليفزيون وأسباب عزوفها عنها. فكل ما سبق يعد ضمن محتوى المشروع القادم بإذن الله. وهي لمحات أخرى في رحلة شادية الفنية والإنسانية، لتكتمل بها الصورة التي كنت أتمنى أن أرسمها عن النجمة التي أرى أنها تستحيل على التكرار أو النسيان!
وربما أستطيع لاحقًا بإذن الله – عند حصولي على المزيد من الأرشيف الصحفي – أن أكمل بعض الرتوش والإحصائيات التي أشرت في كتاب "رحلة العمر". فهي لا تزال قيد الاضافة والمراجعة المستمرة، كلما حصلت على معلومات جديدة، لتكون الإحصائيات أكثر شمولًا ودقة. ويُمكن أن أضيفها إلى المشروع نفسه في طبعاتٍ لاحقة إذا قدّر الله لنا ذلك، فهذا المشروع التوثيقي كان أحد أهم أهدافي في الفترة الماضية، وكنت متفرغًا له بشكل كبير طوال عام 2023 حتى انتهيت منه في نهاية العام، وعدت بعد ذلك لممارسة مهنتي الأثيرة إلى قلبي، بعد أن عشت هذا الشغف مع تجربة الكتابة عن شادية، والتي كانت من أمتع ما يمكن.
لكنني لا أقاوم هذا الشغف بين الحين والآخر فأجلس لأضيف قائمة إحصائية جديدة أو أعيد كتابة جزء من فصل كتبته سابقًا، وذلك لأحقق لنفسي المتعة كقارئ، فأستمتع بما أكتب وأرجو أن يستمتع القارئ بما كتبت!