تعاني الصحف الورقية في العالم بأسره معاناة شديدة نتيجة عوامل عديدة يطول شرحها. فالصحافة الرقمية باتت سيدة الموقف في يومنا هذا، حيث أصبح من اليسير مطالعة الأخبار والمستجدات أولًا بأول. ووسط هذا السيل من الأخبار المتدفقة بسرعة فائقة، ظلَّ السؤال حائرًا: كيف حصل القراء على الأخبار في أزمنة خلت؟ وكيف كانت تُوزع الصحف بدايةً من خروجها من المطبعة حتى تصل إلى يد القارئ؟
نظام التعهد بين النجاح والدسائس
في تحقيق متميز نشرته مجلة "الدنيا المصورة" بتاريخ 21 أيلول/سبتمبر عام 1932، أُشير إلى أن الصحف المصرية لم تكن تعرف نظام "التعهد" منذ ربع قرن. فهذا النظام كان يقتضي أن يتعهد "المعلم" بدور الموزع الخاص للجريدة أو المجلة إما بنفسه أو عن طريق واحد من الصبية الذين يعملون معه ويطوفون بالشوارع.
ولسنا في حاجة إلى القول إن هذه المهمة كانت تتطلب درجة عالية من الثقة التي يتوجب توافرها بين الطرفين. فقد يحدث في مرة من المرات أن يهرب الرجل قبل أن يدفع ثمن ما باعه من أعداد الصحف والمجلات. وقد اشتهر من نظام "التعهد" حينها كل من "عكريشة" و"مصطفى الأبيض"، وفي أغلب الظن أن هذين الرجلين هما اللذان ابتدعا نظام التعهد في التوزيع.
ويبدو أن الحال بقي كما هو عليه حتى ظهر على الساحة رجلان قويان هما عبد العظيم أفندي سعودي، وعلي أفندي الفهلوي. وكان الثاني موضع ثقة كبيرة عند أصحاب الصحف والمجلات، وعمل بجدية للقضاء على حالة الفوضى التي انتشرت حينها. وعندما فارق صديقه وشريكه عبد العظيم أفندي الحياة، أسس إدارة منظمة لتوزيع الصحف والمجلات في مصر بمعاونة عدد من أصدقائه وزملائه.
والواضح أن الأمر لم يرق لإحدى الشركات الأجنبية التي حاولت أن تنفرد بمسألة توزيع الصحف والمجلات الورقية حينها، وذلك عبر إشاعة الفوضى والدسائس بين أصحاب الصحف والموزعين، لكنها فشلت في النهاية.
علي الفهلوي يقود المشهد
يبدو لي أن مهمة توزيع الصحف والمجلات الورقية كانت من المهمات العسيرة قديمًا، فلكم أن تتخيلوا معي المعاناة التي كان يشعر بها الموزع في المشي بين الأزقة والشوارع لتوصيل تلك الأطنان من الأوراق إلى الزبائن، فقد يحدث أن يكون الطقس في حالة سيئة، أو يتعرض له أحد بالمضايقة أو الكلام، عدا عن غياب عربات مجهزة لنقل أكوام الصحف والمجلات كما يحدث اليوم.
ولقد عرفت القاهرة علي الفهلوي الذي انفرد بمهمة توزيع الصحف والمجلات الورقية، فكان يعاونه مجموعة من المعاونين لكنهم أقل شأنًا ونفوذًا منه. وكان لكل واحد من هؤلاء المعلمين الذي يعاونونه ما لا يقل عن 50 أو 60 بائعًا صغيرًا.
وبحسب مجلة "الدنيا المصورة"، كان هؤلاء الصبية يتحركون مع موعد صدور إحدى الصحف أو المجلات. فالصبي كان يذهب إلى موقع المجلة أو الجريدة، قبل أن يلتحق به المعلم الأكبر ويحضروا السيارات ليضعوا بها الأكوام الورقية المكدسة، ثم تنطلق السيارة إلى مراكز المعلمين في أرجاء القاهرة المختلفة.
وهناك يتلقفها هؤلاء بفارغ الصبر، قبل أن يشرعوا في مهمتهم وهم يرددون عبارات شيقة لتجذب الأنظار إليهم. أما المكتب الرئيسي لإدارة عملية التوزيع، فكان موقعه في شارع قصر النيل بوسط القاهرة، وذلك بالإضافة إلى مقهى صغير بجواره كان يجلس فيه الموزعون كافة لتبادل أطراف الحديث حول المهنة وأبرز المواقف التي تعرضوا لها خلال القيام بعملهم.
علي كشك وشهرة فائقة
في ثلاثينيات القرن الماضي، عرفت مصر شخصية فريدة عملت في مجال توزيع الجرائد الورقية وبيعها، وكانت لها العديد من النوادر التي تناقلتها الصحف والمجلات. ففي مقالة نشرتها مجلة "الدنيا المصورة" في 8 كانون الثاني/يناير 1930، سرد محررها جزءًا من خطاب أرسله شخص يُدعى عبد المجيد أحمد عمرو إلى أسرة تحريرها جاء في مطلعه: "في القناطر الخيرية رجل في العقد الرابع من عمره أسمر اللون قوي الجسم، ليس بالبدين ولا بالنحيف، كفيف البصر اسمه علي كشك يبيع الجرائد وتراه يمشي في الأزقة والحارات، فتشك في أنه رجل أعمي لأنه يمشي مشي المبصرين ويهتدي إلى الطريق هداية الخبريين بتعاريج العطفات والتوائها، وهو يركب القطار وينزل منه وهو في أقصى سرعته، ويمتطي الدراجة (البسكليت) ويأخذ أمامه واحدًا أو اثنين ويسير بهما دون أن تزل قدمه أو يخطئ الطريق، ويسابق من يشاء في ركوب الدراجة وامتطاء كرام الخيل ويمضي بها مسرعًا كالبرق الخاطف".
لقد حفظ علي كشك القرآن الكريم في مطلع حياته بعد أن أدخله والده الكُتَّاب، وبدأ حياته في معاونة والده في توريد اللحوم والألبان إلى أحد السجون بواسطة عربة كارو يقودها حصان. والغريب أنه تعلم قيادة العربة الكارو قبل أن ينتقل إلى قيادة الحنطور، فاستقل بها وصار يعمل سائق حنطور لحسابه الخاص!
وعندما ضاقت به الحال ولم يجد في هذه المهنة المال الوفير، قرر أن يعمل في توزيع الجرائد الورقية سواء اليومية أو الأسبوعية في أرجاء القناطر الخيرية، فكان يذهب إلى القاهرة ليتسلم عددًا من الصحف والمجلات الورقية من أحد المتعهدين ويعود مرة أخرى إلى القناطر ليبدأ في توزيعها بنفسه.
وكان يحصل يوميًّا على 30 أو 40 قرشًا. والغريب أيضًا أنه كان يكتشف أمر النقود المزيفة التي كان يعطيها له أحد الزبائن. كما كان يلجأ أحيانًا إلى ركوب الدراجة، التي كان بارعًا في قيادتها، ليوصل الجرائد والمجلات على نحو أسرع إلى طالبيها. ولكم أن تتخيلوا أن هذا الرجل كان يشارك أحيانًا في بعض سباقات الدراجات التي كانت تُقام في محيط ميدان الأوبرا بالعتبة ويفوز بها!
وهو ماهر كذلك في ركوب الخيل. وقد حدث في إحدى المرات أن حضر إلى القناطر الخيرية تياترو "محمود أفندي صبري" لتمثيل مجموعة من المشاهد التمثيلية وألعاب الفروسية، فكانت من بينها لعبة الوثب على الحصان أثناء الدوران بسرعة في دائرة معينة. وبحسب المجلة، فإن هذه اللعبة كان يمارسها رجل وابنته، حتى علم علي كشك بالأمر وقرر أن يشارك بها. وقد اندهش الحضور من قدرته الفائقة على امتطاء الحصان والدوران معه.
معضلات الربح المتكررة
كان المتعهد قديمًا يواجه العديد من المشكلات التي تتعلق بالحصول على إيراد اليوم من الصبية الذين يوزعون الجرائد والمجلات الورقية هنا وهناك. فكان بعض الأولاد يسافرون خارج القاهرة إلى الإسكندرية وطنطا والمنصورة دون أن يدفعوا الإيراد (الوجبات). وعندها يضطر المتعهد إلى دفع ثمنها بنفسه والبحث عن صبي جديد أمين يسند إليه المهمة.
وكان المتعهدون يقسمون نطاق عملهم فيما بينهم حتى لا يتعدى نفوذ أحدهم إلى منقطة لا تخصه، كما أنهم لا يلجؤون إلى البوليس لحل النزاعات فيما بينهم، وغالبًا ما كانوا يتوجهون إلى علي أفندي الفهلوي لفض تلك النزاعات. كما كان أغلبهم يحرص على عدم الانتماء إلى حزب سياسي بعينه أو جهة سياسية ما.
لم ترتبط مسألة توزيع الصحف وبيعها بالقاهرة فقط، بل إن مدينة الإسكندرية – على سبيل المثال – امتلكت الموزعين المنتمين لها. وبحسب التحقيق الآنف ذِكره الذي نشرته مجلة "الدنيا المصورة"، فإن شخصًا معروفًا بالإسكندرية يُدعى ماهر أفندي حسن فراج كان هو المماثل لعلي أفندي الفهلوي بالقاهرة، وكانت الصحف تصل إلى الإسكندرية عبر قطارات السكك الحديدية بواسطة شخص يُعرف باسم "الأبوينه"، فهو الذي يقوم بتسليم الصحف بنفسه إلى المتعهدين في مختلف البلدان التي يمر عليها القطار، وذلك بعد أن يتسلمها من الإدارة.
وكانت هناك ثلاثة مواعيد ثابتة في كل يوم لاستلام الأعداد مع قطار الساعة الخامسة والنصف صباحًا، والعاشرة صباحًا، والسابعة مساءً. فالتوقيت الأول كان مرتبطًا بالصحف التي تصدر في القاهرة ليلًا، وعندها يقوم موظفو مكتب المتعهد باستلامها وتوزيعها على المعلمين أو من ينوب عنهم. أما التوقيت الثاني، فكان مرتبطًا بالجرائد التي تصدر في القاهرة صباحًا. وكانت تلك الأعداد تُوزع على محطتي سيدي جابر والإسكندرية. ولا يختلف الحال كثيرًا في حالة التوقيت الثالث، حيث تكون الأعداد الواردة مشتركة بين الجرائد والمجلات التي تصدر في القاهرة بعد الظهر.
بطل الركض والجرائد
ذكرت المقالة السابقة في مجلة "الدنيا المصورة" أن محمد السيد، بطل مصر في العدو، كان يعمل في مجال توزيع الصحف والمجلات منذ العام 1921. وقد ساعدته هذه المهنة كثيرًا على التدريب وتنمية مهاراته الشخصية في الركض. وعلى الرغم من ذلك، فإنه تركها في العام 1925 ليعمل حاجبًا في سراي الأمير عباس حليم، فقد كان يرى أنه مهضوم الحق، وأن مهنة بيع الجرائد لا تدر عليه دخلًا كافيًّا، لكنه سرعان ما عاد إليها من جديد بعد أن وجد في عمله بالسراي أمرًا لا يليق به.
وفيما يتعلق بالجرائد الإفرنجية، فقد عُقد اتفاق بين علي أفندي الفهلوي والسيد أفندي خضير يقتضي بأن ينفرد الأول بتوزيع الصحف والمجلات العربية، على أن يختص الثاني بتوزيع الصحف والمجلات الإفرنجية فقط. وهكذا، فقد أمدتنا المقالتان السابقتان بالمعلومات الوفيرة حول تلك المهنة وطبيعتها وظروفها والصعوبات التي كانت تواجهها.
نهاية عصر الورق
لقد باتت الصحافة الرقمية اليومية سيدة المشهد. ومع الوقت، تبدلت العديد من مفردات المهنة. فوصول الخبر إلى القارئ لم يعد مرهونًا بوصول الصحيفة الورقية أو المجلة المطبوعة إلى يده، ذلك أن الطفرة التكنولوجية التي نعيشها جميعًا حررت المسافة بين إدارة الصحيفة والمتلقي، كما اختزلت الوقت المرتبط بوصول المعلومة. فالقارئ ليس عليه سوى امتلاك الوسيط أو الجهاز المناسب للاطلاع على الأخبار والمقالات من مصادرها.
كما أن مسألة توزيع المطبوعات الورقية تطورت عبر الوقت وتم ربطها بمنظومات معقدة من خطوط السيارات والشاحنات الكبرى. وأظن أننا لسنا في حاجة إلى التدليل على مدى انشغال الكتاب والصحافيين بهذه المسألة، فالكثير منهم كان ولا يزال يتساءل عن المسارات التي يمكن أن تصل إليها الصحافة الرقمية في المستقبل القريب.
ومن بين هؤلاء الذين طرحوا استفساراتهم وتساؤلاتهم حول مستقبل الكتاب والصحف الورقية، أماني أحمد أمين في مقالة لها بعنوان "موقف الكتاب وصحافة الورق في المستقبل القريب"، التي نشرتها صحيفة الأهرام بتاريخ 22 كانون الثاني/يناير 1997. تقول أماني: "وإذا تساءلنا عن الذي تقدمه لنا الوسائل المعرفية الجديدة في طورنا ونحن مازلنا مجرد قراء تقليديين، فشبكة الإنترنت تفتح لنا نافذة نطل منها على كل ما نريد أن ننهله من كتب أو نتصفحه من مطبوعات أو مجلات في أكبر مكتبات العالم وأجهزته الإعلامية. ونستطيع في دقائق أن ننقل إلى طابعتنا أي ملف نشاء، وتتيح لنا الاشتراك في ندوات حول الموضوعات التي تهمنا، وللآن فمعظم هذه الخدمات مجانية، على الأقل إلى حين تعميم استخدام النقد الإلكتروني والوصول إلى ثوابت تحكم عمليات التشفير لضمان الخصوصية والأمان في التعاملات. العالم يتغير سريعًا حولنا وربما نتحول من قراء إلى متفاعلين لنواكب العصر. ولكن أنستطيع حقًا التكهن بما هو قادم؟ في هذه اللحظة التي مازلنا فيها نتكلم عن النشر الإلكتروني والأسطوانات المدموجة، تدور حروب شعواء بين الشركات العملاقة المنتجة للأجهزة الإلكترونية وبين عشر شركات منها من أنتج الفيديو أو يمتلك تقنيته".
تتيح لنا المقالة السابقة ولو نظرة خاطفة حول طبيعة التساؤلات التي كانت مطروحة في نهايات التسعينيات وبداية الألفية. ويبدو أن السرعة الفائقة التي تطورت من خلالها الأمور في يومنا الحالي، لم تترك لنا مجالًا لتأمل المشهد أو التكهن بما يمكن أن يحدث بعد ساعات، خصوصًا في ظل معايشتنا لواقع افتراضي هائل وثورة قادمة من الذكاء الاصطناعي AI. وفي وسط كل هذه التساؤلات والتطورات، يبدو أن مهنة متعهد توزيع الصحف الورقية والمجلات باتت جزءًا من ماضٍ بعيد.