كيف لبلدٍ قام بإلغاء العبودية رسميًا أن تنعدم فيه المساواة لاختلاف في لون البشرة، ويكون فيه القانون أداةً لفرض الهيمنة السياسية رغم الادعاء بأنه واحة للديمقراطية؟
مع نهاية الحرب الأهلية الأميركية عام 1865، وإلغاء العبودية بشكل رسمي في كافة أنحاء الولايات المتحدة؛ وجد المواطنون الأميركيون السود أنفسهم أمام جملة من القوانين العنصرية، التي ظهرت لتقيّد حرّيتهم وتضعهم في مرتبة اجتماعية متدنية مقارنةً بالبيض، حيث لم يمنح انتصار الاتحاد الأميركي حقوقًا لأصحاب البشرة السوداء، "العبيد السابقون"، من سكان الجنوب.
في 15 نيسان/أبريل 1865، اغتيل رئيس الولايات المتحدة الأميركية أبراهام لنكولن على يد الممثل جون ويلكس بوث، الموالي للكونفدرالية، أثناء حضوره مسرحية "قريبنا الأميركي" في مسرح فورد. وكانت الحرب الأهلية الأميركية حينها على وشك الانتهاء، إذ وقعت عملية الاغتيال بعد خمسة أيام من استسلام قائد الجيش الكونفدرالي روبرت إدوارد لي، أمام قائد الجيش الاتحادي الجنرال يوليسيس غرانت.
كان الاتفاق ينص على أن يسلم الجنرال لي جيشه في فرجينيا الشمالية، مقابل عفو الجنرال غرانت عن جميع ضباط وجنود الجيش الكونفدرالي، والسماح لهم بالاحتفاظ بممتلكاتهم الخاصة.
وتَعتبر العديد من السرديات أن تاريخ استسلام الجنرال لي أمام الجنرال غرانت هو التاريخ الفعلي لنهاية الحرب الأهلية الأميركية، لكن الحقيقة أن الحرب استمرت لمدة 16 شهرًا إضافيًا بسبب استمرار بقايا الجيش الكونفدرالي الذين رفضوا الاستسلام في عدة ولايات جنوبية بالمقاومة، التي قادها الجنرالات جوزيف جونستون، وريتشارد تايلور، وإدموند كيربي سميث؛ إلى أن انتهت الحرب فعليًا في 20 آب/أغسطس 1866.
هل تم إلغاء العبودية؟
تولّى نائب أبراهام لنكولن، أندرو جونسون، وهو ديمقراطي من الجنوب، مهام الحكم بعد اغتياله. وقد فرضت تداعيات تلك الفترة هيمنتها على فترة رئاسته، سيما أنه أراد الإسراع بإعادة دمج الولايات الكونفدرالية في الاتحاد، وأوعز لحكوماتها المحلية بإدارة شؤونها وسن قوانينها الخاصة التي تناسب سكانها، دون تدخل السلطات الحاكمة بواشنطن في السياسات التي تقرها.
وبالتزامن مع نهاية الحرب، قدّم القانون الاتحادي حقوقًا مدنية لحوالي 4 ملايين شخص من السود كانوا "عبيدًا" في الجنوب ونالوا حرّيتهم، لتظهر حينها أزمة جديدة حول المساواة بين أصحاب البشرة السوداء والبيضاء، فقد سمح قرار جونسون بإعطاء الولايات الكونفدرالية شكلًا من الاستقلالية الذاتية لقادتها بإقرار ما يسمى بـ"قوانين السود" (Black codes)، التي تعاملت مع السكان الجنوبيين من أصحاب البشرة السوداء بشكل عنصري، وقامت بحرمانهم من العديد من الحريات المدنية، بل وأعطت الأفضلية في مختلف مناحي الحياة للسكان البيض.
وأدى سن تلك القوانين إلى دخول الرئيس الأميركي جونسون في صراع حاد مع الكونغرس، الذي يهيمن عليه الجمهوريون الشماليون الذين أقروا تشريعات بإنشاء مناطق عسكرية في الجنوب. وفي محاولة منه لتخفيف الصراع مع الكونغرس، سارع الرئيس الأميركي إلى سن التعديل الدستوري الثالث عشر الذي ألغى بشكل نهائي العبودية في كانون الأول/ديسمبر 1865.
ومع ذلك، وجد المواطنون الأميركيون السود أنفسهم في ظروف مشابهة لتلك التي كانت قائمة خلال مرحلة العبودية، فقد أقرت ولايتي ميسيسبي وكارولاينا الجنوبية أولى القوانين العنصرية، وأجبرت إحدى هذه القوانين المواطنين السود على الحصول على عقد عمل مكتوب بخط اليد مطلع كل عام، مع التأكيد على استحالة إلغائه طيلة العام، وعلى تعرض من يخالف ذلك للضرب والعمل القسري دون مقابل في المزارع، والسجن ودفع غرامات مالية لصاحب العمل.
سُمح لأصحاب البشرة السوداء في ولاية كارولاينا الجنوبية بالعمل في المزارع أو كخدم في المنازل فقط، كما أجبرتهم على دفع ضرائب سنوية بلغت قيمتها 100 دولار للعمل في وظائف أخرى. وفي بعض الولايات الجنوبية الأخرى، حصل المواطنون السود على حق ملكية أشياء معينة، لكنهم مُنعوا من الشهادة ضد المواطنين البيض في المحاكم على سبيل المثال، عدا عن أنهم أجبروا على الحصول على تراخيص وعقود لتقييد مجالات عملهم.
وإمعانًا في التفرقة العنصرية، توعّدت المحاكم في الولايات الكونفدرالية السابقة بتسليط أشد أنواع العقوبات على كل رجل أبيض يشغّل رجلًا أسود ويمنحه راتبًا مرتفعًا. ولضمان تطبيق هذه القوانين ضد المواطنين السود، تم انتداب البيض فقط في جهاز الشرطة، إضافةً إلى تشكيل ميليشيات من الرجال البيض.
وخلال فترة إعادة إعمار الولايات المتحدة بين عامي 1865 – 1877، عاد الديمقراطيون البيض إلى السلطة تدريجيًا في الولايات الجنوبية، وشاركت الميليشيات شبه العسكرية التي أسسها العنصريون البيض في هجمات استهدفت المعارضين والسود لمنعهم من التصويت بدايةً من عام 1870.
ومع ذلك، استمرت مشاركة السود في انتخابات المكاتب المحلية إلى أن قام الديمقراطيون، في عام 1880، بتمرير حزمة من القوانين لتقييد عملية الانتخاب، فتضاءلت بذلك مشاركة المواطنين السود. وبعد مرور نحو 10 سنوات على ذلك، في عام 1890 تحديدًا، قامت الولايات الجنوبية بتمرير دساتير وقوانين جديدة تفرض إجراءات معينة لنيل الحق في التصويت، من بينها دفع ضريبة معيّنة، وهو ما تسبب في خفض نسبة من يحق لهم المشاركة في عملية التصويت من المواطنين السود، الأمر الذي نتج عنه حرمانهم من الخدمات التي تقدمها الهيئات المحلية، بل وحتى التأثير في قرارات الهيئات التشريعية في الولايات الجنوبية التي تمّ فيها تجاهل كافة مطالبهم.
وفي العام نفسه، أصدرت ولاية لويزيانا قانونًا يُعرف باسم قانون "السيارات المنفصلة"، الذي يُلزم شركات السكك الحديدية بتوفير "أماكن إقامة متساوية، لكن منفصلة بين المسافرين البيض والملونين"، داخل عربات خطوط السكك الحديدية في الولاية.
وأثارت هذه القوانين العنصرية غضب مناهضي العبودية في الشمال. ولإيقافها، عمل الجمهوريون على تمرير جملة من التعديلات الدستورية بالكونغرس، من بينها قانون الحقوق المدنية والتعديل الرابع عشر الذي مدد الحماية الفدرالية القانونية للمواطنين على قدم المساواة بغض النظر عن العرق، والتعديل الخامس عشر الذي منح حق الانتخاب لجميع الأميركيين بغض النظر عن عرقهم ولونهم.
لكن الأمور ازدادت تعقيدًا فيما بعد، خاصةً عقب تنصيب رذرفورد هايز، مدعومًا من الجنوبيين، رئيسًا للولايات المتحدة في عام 1877، بعد الوصول إلى توافق وطني مع الجمهوريين في الكونغرس تم بموجبه التوافق على إنهاء فترة إعادة الإعمار وسحب آخر جنود الاتحاد الفيدرالي من الجنوب.
وعقب ما سبق، استعاد الديمقراطيون البيض قوتهم وسيطروا على الحكومات المحلية في الولايات الجنوبية، حيث عانى السود هناك من اضطهاد مستمر من العنصريين البيض، وهو ما ساهم في ظهور قوانين "جيم كرو" (Jim Crow) التي زادت أوضاعهم سوءًا، وساهمت في عزلهم عن باقي السكان.
مأسسة الفصل العنصري
أصبح الفصل العنصري في الفترة الممتدة من 1890 إلى 1920، أمرًا مشروعًا قانونيًا ورسميًا، بل وأمرًا عرفيًا اعتاد عليه الناس حتى أصبح فصل السود ثقافة لدى الأميركيين.
ظهرت عبارة "قانون جيم كرو" لأول مرة عام 1904، لكن استخدامها سبق هذا التاريخ ويعود إلى مصادقة المجالس التشريعية في الولايات الجنوبية على قوانين العنصرية الموجهة ضد السود.
ويعود أصل العبارة إلى أغنية ظهرت لأول مرة عام 1832 تحت اسم "جمپ جيم كرو"، وهي أغنية ورقصة تسخر من السود قدّمها الفنان توماس د. رايس، المسرحي الأكثر شهرة في عصره في الولايات المتحدة وبريطانيا.
وكان رايس يقوم، خلال أداء العرض، بوضع مكياج أسود اللون للسخرية من الشخصية المفترضة للأسود المزارع الذي يرتدي ملابس مرقعة، يومئ بقبعته، يلوي نفسه لإثارة الضحك ويغني. وهكذا أصبحت شخصية جيم كرو شخصية رئيسية في عروض رايس، وأعطت صورة "للعبد الأسود" المكتفي بحالته. ومع مرور الوقت، اقترن مصطلح "جيم كروم" بكلمة عنصرية تحتقر السود وتعني "الزنجي".
استخدم المؤرخون تعبير "جيم كرو" للإشارة إلى حقبة "الفصل العنصري"، التي كانت محدودة بقرارين من المحكمة العليا في الولايات المتحدة، أيدته عام 1896، ثم أبطلته عام 1954. وكان الفصل العنصري بين الأعراق في فترة ما بعد الحرب قانونيًا في الولايات الجنوبية، ويعبّر عن أعنف نظام للسيطرة العنصرية في العصر الحديث في أوقات السلم.
وشكّلت قضية "بليسي ضد فيرغسون" في عام 1896 معيارًا على إضفاء الطابع القانوني للفصل العنصري على نطاق واسع في الولايات الجنوبية، وخلق قرار أعلى محكمة في البلاد مناخًا من "التمييز القانوني" الذي استمر لما يقرب من ستة عقود. كما أصبح زواج البيض والسود ممنوعًا قانونيًا، بل وفُرض على السود اجتياز اختبارات محو الأمية قبل أن ينالوا الحق في التصويت.
عدا عن ذلك، أصبح الفصل العنصري شائعًا في المرافق العامة والمؤسسات التجارية ومكاتب البريد وعربات السكك الحديدية والحافلات والمطاعم والفنادق والمسارح والحدائق العامة، وحتى دورات المياه ونوافير الشرب وغرف الانتظار والمصاعد وأكشاك الهاتف والصالونات ودور السينما والشواطئ، وصولًا إلى المستشفيات ودور الأيتام ودور المسنين. بل إن مبدأ التمييز طُبِّق حتى على السجون والمشارح والمقابر، إذ ذهبت ولاية فلوريدا إلى حد استخدام مشنقة مختلفة لإعدام السجناء البيض والسود المحكوم عليهم بالإعدام.
وفي ولاية ألاباما، طُلب من شركات الحافلات أن يكون لديها غرف انتظار مخصصة للبيض والسود مفصولة بحاجز مصنوع من المعدن أو الخشب أو القماش المتين، أو أي مادة أخرى لإعاقة الرؤية بين القسمين. بينما فرضت شركات خطوط السكك الحديدية، في ولاية أركنساس، غرامة قدرها 500 دولار لكل قطار غير منفصل قيد التشغيل. فيما جرى اعتبار الموظفين الذين لم يسارعوا في إخراج راكب أسود من القطار، في ولاية جورجيا، مخالفين لإرشادات الفصل العنصري، ومذنبين بارتكاب جنحة.
وفي الوقت نفسه، في ولاية كارولينا الشمالية، طُلب من عربات الترام التي تحمل البيض أو السود فقط أن تعرض لافتات مضيئة مكتوب عليها "البيض" و"الملونين" ويمكن رؤيتها بوضوح. وكان الأمر متروكًا لسائق القطار ليقرر فرز الراكب، لكن الشركة كانت محمية من المسؤولية القانونية إذا ارتكب السائق "خطًأ صريحًا".
هكذا اجتمعت في عهد قوانين "جيم كرو" العادات والقانون والعنف لتقييد التواصل بين الأجناس بشكل كبير أحدث شرخًا منهجيًا، يُشار إليه بمصطلح "السكان الأصليون" الذي يستخدمه الجنوبيون لتعريف أنفسهم.
منفصلون لكن متساوون!
ورغم الادعاءات بأن الجميع سيحصل على المستوى نفسه من الخدمات في المنشآت المنفصلة، إلا أنه كانت هناك دائمًا تفرقة على أرض الواقع، إذ كانت الخدمات والتسهيلات المخصصة للمواطنين السود أقل جودة من الخدمات التي يحصل عليها البيض. فعلى سبيل المثال، كان نصيب معظم مدارس السود في التمويل العام أقل من المدارس القريبة التي يرتادها الطلاب البيض. وحتى في الولايات الشمالية التي لم تطبق نظام الفصل العنصري، كانت الوقائع على الأرض تفرض هذا الفصل، فقد التحق معظم الطلاب السود بالمدارس التي عُرفت بأنها مدارس للسود بصورة شبه مطلقة، والعكس صحيح بالنسبة للطلاب البيض.
وعُزِّز هذا الفصل بإجراءات عنصرية مختلفة. فعلى سبيل المثال، ساد لدى السكان البيض في المناطق الجنوبية اعتقاد مفاده أن إقامة السود في الأحياء التي يسكنونها من شأنه أن يقلل من قيمة ممتلكاتهم وعقاراتهم. كما شجعت حكومات الولايات الجنوبية عائلات السكان البيض على الانتقال إلى الضواحي عبر منحهم قروضًا مخفضة من خلال مبادرتي إدارة الإسكان الفيدرالية وإدارة المحاربين القدامى.
في المقابل، تعرض السود أيضًا للتهجير من منازلهم بحجة بناء طرق سريعة تمر عبر الأحياء التي يسكنونها، كما دمرت الحكومات عشرات الآلاف من المنازل التي تعود لعائلات من أصحاب البشرة السوداء مقابل تعويضات زهيدة بحجة أنّ منازلهم في تلك الأحياء في حالة متدهورة، عدا عن إرغامها على الانتقال إلى مساكن ممولة اتحاديًا كانت تسمى "المشاريع"، وتعتبر من الأسباب الرئيسية في تدمير المزيد من المنازل.
سادة بيض وخدم سود
شهد عام 1912 فوز وودرو ويلسون في الانتخابات الرئاسية مستفيدًا من الانقسام داخل الحزب الجمهوري، وعدم مشاركة غالبية السود في الانتخابات بسبب القيود القانونية المفروضة عليهم في قانون التصويت، التي لا تنطبق على المواطنين البيض.
وقام ويلسون عقب فوزه، وهو ديمقراطي من الجنوب، بتعيين الجنوبيين في مجلس الوزراء، وقد تسبب هؤلاء في رفع منسوب التفرقة العنصرية، حيث مارسوا ضغوطًا من أجل سرعة فصل أماكن العمل بين البيض والسود. وعرض ويلسون فكرة الفصل في المكاتب الفيدرالية على الرغم من أنها أُدمجت في العاصمة واشنطن بعد الحرب الأهلية، ما أدى إلى احتجاجات رافضة لهذا التوجه، لكن الرئيس الأميركي كان لديه اعتقاد راسخ بأن الفصل كان في مصلحة الأميركيين البيض والسود، على حدّ سواء.
وخلال العقدين الأولين من القرن العشرين، أصبح المشهد في كامل الجنوب الأميركي على هذا الشكل: لافتات على المداخل المزدوجة للمباني العامة والشركات مكتوب عليها "للبيض فقط" و"للملونين فقط". وقد ساهم فصل الفضاء العام في تكريس مقولة "البيض الخيرين" هم السادة، والسود هم الخدم، والاستثناء الوحيد لهذا الفصل الصارم كان يتعلق بالخدم السود الذين سُمح لهم بدخول مساحات البيض للقيام بواجباتهم فقط.
العقل المريض
كان التبرير الشائع لهذه الهندسة الاجتماعية المهووسة بالفصل هو أن الاختلاط سوف يدمر ذروة الحضارة التي وصل إليها الرجل الأبيض في الجنوب، إضافةً إلى الاعتقاد الراسخ لدى شريحة واسعة من البيض في جنوب الولايات المتحدة بتفوقهم العرقي على السود. فعلى سبيل المثال، اعتقد سكان المسيسبي – حتى نهاية سنوات الأربعينيات من القرن الماضي – بأنّ "التركيبة البيولوجية لجسم الإنسان الأسود، وشعوره وعاطفته هي أدنى مما لدى الإنسان الأبيض"، عدا عن أن الرجل الأسود لا يستطيع التحكم في سلوكه.
والسود "كسالى بطبيعتهم". ولذلك فإن فرض القيود عليهم بالقوة ضرورة لجعلهم يعملون. وهم لا يملكون مفهومًا للوقت، وبالتالي غير قادرين على "تأخير إشباع رغباتهم أو التخطيط للمستقبل". هم راضخون لسلوك القطيع ولا يرغبون في تحسين وضعهم، ولهذا السبب يفضلون أن يقودهم البيض بحسب مزاعم سكان المسيسيبي، الذين ادعوا أيضًا بأنه "لا يوجد بين كل ألف من السود، واحد يريد أن يكون حرًا".
يتعين على البيض كذلك أن يتوخوا الحذر لأن السود "كذابون ولصوص بطبعهم، وغير مستقرين وغير جديرين بالثقة"، عدا عن أنهم "ساذجون بالفطرة، بحيث يمكن إغراؤهم بسهولة من قبل جهات خارجية، خاصةً الشيوعيين".
وقد توصل هذا "العقل المريض" إلى قناعة مفادها أنّ الرجل صاحب البشرة السوداء لديه طبيعة "ثنائية عجيبة"، فهو "متواضع ومحبوب عندما يعيش في العبودية، ومسيء وخطر عندما يكون حرًا".
يقول عالم الاجتماع إدوارد دو بويز في كتابه "إعادة الإعمار الأسود"، إن "مجرد حقيقة أنّ الرجل الأبيض يمكن أن يكون السيد الفعلي لعقول وأجساد بشر آخرين، بموجب القانون، ساهم في تضخيم غرور معظم المزارعين بغض النظر عن أي سبب آخر، لذلك أصبحوا متغطرسين ومختالين ومتوحشين وحادّي الطباع. لقد سنّوا القوانين وألقوا الأوامر، وكانوا يتوقعون الإذعان والإذلال. ويسهل إهانتهم". وهذه الرغبة في امتلاك هذا النوع من القوة دفعت حتى بالبيض الذين يعيشون في الفقر إلى إيجاد متعة في تعذيب السود ومفاقمة معاناتهم.
الزراعة دينامو الفصل
على عكس الشمال الذي ركز على الاستثمار في الصناعة، اعتمدت الولايات الجنوبية بشكل أساسي على الاستثمار في المزارع الكبيرة التي تنتج القطن والحبوب، ليصبح الجنوب هو المحرك الاقتصادي الأول للولايات المتحدة. وكان الاعتماد بشكل رئيسي على "العبيد" كيدٍ عاملة. ولذلك أصبحت "تجارة العبيد" ضرورية لهذا القطاع وتلقى رواجًا كبيرًا، وهو ما دفع بالكثير من الإقطاعيين في الولايات الجنوبية إلى الاستثمار في هذه التجارة وجلب العبيد عبر السفن من إفريقيا.
وأدى ارتفاع أسعار محاصيل القطن والحبوب إلى خلق علاقة طردية مع أسعار العبيد العاملين في المزارع. وبسبب شعورهم بحس "أخلاقي" تجاه ظاهرة العبيد، ولمصلحة في حماية اقتصادهم، سعى الشماليون إلى إلغاء العبودية، ولم يتحقق لهم ذلك إلا عبر حرب أهلية طاحنة. وقد خلق الوضع الجديد إشكالية داخل الولايات الجنوبية، إذ أصبح "العبيد السابقون"، مواطنين يعمل الكثير منهم في الزراعة لدى ملّاك الأراضي البيض، الذين اعتبروا إلغاء القيود التي فرضتها العبودية أمرًا غريبًا وخطيرًا، وأصبح دمج هؤلاء في الحياة اليومية يشكل تهديدًا حقيقيًا لثقافتهم.
كان التخوف من المزارعين السود أمرًا شائعًا في الولايات الجنوبية. ولمنعهم من أن يصبحوا "وقحين" حين يطالبون بمستحقاتهم، كان الحل هو طردهم قبل أن يقوموا بإفساد الآخرين، سيما أن ملّاك الأراضي البيض كانوا حينها دائمي التوجس من المزارعين السود، الذين اعتقدوا بأنهم قد يشكلون خطرًا على نظام العمل في المزارع.
ولذلك، مارس ملاك الأراضي إرهابًا على المزارعين السود، وانتشرت في ولاية المسيسيبي ظاهرة مخيفة تمثلت في دعوة الملاك البيض أصدقائهم لحضور "حفلات الجلد"، وتعذيب للمزارعين السود أمام زملائهم "كتحذير وليكونوا عبرة".
وبلغ العنف ضد المزارعين السود ذروته عندما حاولوا تنظيم أوضاعهم وتحسين أحوالهم، إذ تدخلت الميليشيات التي تحميها حكومات الولايات لقمع محاولات تنظيم المزارعين، وتعرض قادة المزارعين المشتبه بهم للضرب أو الإخصاء أو القتل.
وفي معظم الولايات الجنوبية، تمتع ملاك الأراضي الزراعية في ظل قوانين "جيم كرو" بخصوصية تتيح لهم اللجوء إلى المحاكم الجنائية بدلًا من المحاكم المدنية لمقاضاة المزارعين الذين يتخلوا عن العمل في أراضيهم، وهو ما يعرضهم للسجن ودفع غرامات باهظة أو إعادتهم للعمل بدون مستحقات.
وكان جهاز الشرطة حينها متواطئًا مع ملاك الأراضي أيضًا، حيث كان أفرادها يسارعون إلى فرض غرامات ورسوم باهظة على المواطنين السود بسبب جرائم تافهة، أو بذريعة مثل الإخلال بالنظام العام، أو التسكع والتشرد، وذلك من أجل تحصيل الأموال وتحويلها إلى ميزانية الشرطة والسلطات المحلية، لتصبح العقوبة الجنائية نشاطًا مربحًا على حساب السود.
وعندما يفتقر ملاك الأراضي البيض إلى اليد العاملة، فإنهم يبلغون محافظ الشرطة الذي سيطبق فجأةً قوانين غامضة ضد السود الفقراء، وبالتالي لن يكون أمامهم سوى التجنيد القسري للعمل في الأراضي الزراعية. أما السجناء، فكان يتم الضغط عليهم لتوقيع عقود تسمح لملاك الأراضي الاستعانة بهم متى ما أرادوا.
وفي ظل هذه القوانين التي تصل إلى عقوبة بالإعدام، والمراسيم التي تحد بشدة من أنشطة القائمين على توظيف العمال السود الذين يبحثون عن عمل في المناطق الحضرية، فإن هذا المزيج من التبعية الاقتصادية والضغوط القانونية كان بمثابة تأسيس لما يسميه عالم الاجتماع والناشط السياسي وليام إدوارد بورغاردت دو بويز بـ"عبودية الدين"، أو "نظام العمل القسري"، التي وضعت السود بين مخالب ملاك الأراضي ورجال الشرطة والقانون.
في المقابل، وعلى الرغم من وحشيتهم، سارع ملاك الأراضي للإشارة إلى المساعدة التي قدموها للمزارعين السود، والتي كانت على شكل طعام ورعاية طبية وتدخل لحل مشاكلهم مع القانون. وفي هذا الإطار، تقول عالمة الأنثروبولوجيا هورتنس باودرميكر إنّ: "المشاعر التي تصاحب موقف البيض تجاه السود متنوعة ما بين المودة، واللطف، والشفقة، والتسامح، والخوف، والعداء. الشيء الوحيد الذي لن يقدمه أي رجل أبيض علنًا لرجل أسود هو الاحترام".
نقاء العرق
في المقابل، كان حصول النساء من ذوي البشرة السوداء على عمل مدفوع الأجر سهلًا إلى حد ما، لكنه كان مقتصرًا على العمل في البيوت كطاهيات أو مدبرات منزل أو مربيات لأن جميع الأسر البيضاء، باستثناء الفقيرة منها، تجلب خدمًا.
وعملت النساء مقابل أجور زهيدة لمدة أربعة عشر ساعة في اليوم، سبعة أيام في الأسبوع. وجاء ذلك على حساب إهمال أسرهن، عدا عن التهديد الدائم بالاعتداء الجنسي من الرجال البيض الذين رسموا صورة نمطية مقززة للمرأة السوداء، مفادها أنها "عاهرة" ومفرطة في الجنس، ولا توجد بينهن امرأة "عفيفة" بعد سن البلوغ. أما المرأة البيضاء في الجنوب، فهي نقية وغير مفرطة في العلاقات الجنسية.
وفي هذا الإطار، كان هناك هوس رئيسي للبيض يتعلق بالنقاء العرقي الذي كانت ثقافة المنطقة مهتمة به بشكل خاص، وتمت مراقبة فرص إقامة علاقات حميمة بين الأعراق بشدة، وقمع أي انتهاك، حقيقي أو متخيل، من جانب الرجال السود وبوحشية. ولم يكن مسموحًا أبدًا للرجال السود تحت أي ظرف من الظروف بإقامة علاقات حميمة مع النساء البيض، حتى عاملات الجنس منهن. وتعتبر مثل هذه العلاقة أكثر خطورة من سفاح القربى، والشخص الذي يشارك فيها يخاطر بحياته حرفيًا. وبلغ هذا "الانحطاط العنصري" ذروته خلال عمليات الضرب والجلد والعنف الجماعي والتعذيب.
وخلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، تم إعدام حوالي 2060 أميركيًا أسود دون محاكمة، ثلثهم بعد اتهامهم بـ"الاعتداءات جنسية" أو إدانتهم بارتكاب مخالفات بسيطة تجاه النساء البيض.
في حين ساد التقدير فيما يتعلق بعلاقة الرجال البيض مع النساء السود. ولم يُخفِ العديد من البيض الجنوبيين، بما في ذلك المحافظون، حقيقة علاقاتهم مع نساء سود بموازاة مع حياتهم العائلية، وبقي الأمر مقبولًا طالما أن تلك العلاقات ليست رسمية حتى وإن أفضت إلى أطفال لن يكون لهم الحق في الاندماج داخل مجتمعات البيض.
ومع مرور السنوات وظهور حركات المطالبة بالحقوق التي فرضت تغيرًا جذريًا في القوانين، بالإضافة إلى الدعاية الأميركية بأن الولايات المتحدة هي أرض الحريات، ظل إرث جيم كرو حاضرًا مع كل الحوادث العنصرية المستمرة حتى يومنا هذا.