وضعنا العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وما خلّفه من قتل وتدمير وتهجير وأوضاع إنسانية صعبة، مع تهديدات واضحة ومستمرة بتنفيذ عمليات تهجير واسعة لسكانه؛ أمام العديد من الأسئلة المهمة، وأولها: أين هو الإطار الجامع للشعب الفلسطيني في كل ما يجري حاليًا؟ وأين هي القيادة الفلسطينية وما مدى التزامها بدورها الأخلاقي والإنساني والوطني والسياسي والقانوني تجاه الشعب الفلسطيني في محنته الراهنة؟
لا يخفى أن مؤسسات "منظمة التحرير الفلسطينية" معطلة، وقرارها مُغيَّب من قيادة غارقة في الفساد تفرّدت بالقرار ودمّرت مؤسسات المنظمة. وبعد 60 عامًا على تأسيسها، لم يتوقع أكبر المتشائمين أن يصبح هذا الإطار الوحدوي الذي قاد العمل الوطني الفلسطيني خلال مسيرة التحرير، مغيبًا بشكل كامل في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ القضية الفلسطينية، بعد أن فقدت مؤسساته وجودها الفعلي ودورها المؤثر.
بداية السقوط
في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 13 تشرين الثاني/نوفمبر 1974، قال الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات: "لقد اكتسبت منظمة التحرير الفلسطينية شرعيتها من طليعتها في التضحية ومن قيادتها للنضال بكافة أشكاله، واكتسبتها من الجماهير الفلسطينية التي أولتها قيادة العمل واستجابت لتوجيهها.. واكتسبتها من تمثيل كل فصيل ونقابة وتجمّع وكفاءة فلسطينية في مجلسها الوطني ومؤسساتها الجماهيرية".
وأضاف: "لقد تدعمت هذه الشرعية بمؤازرة الأمة العربية كلها لها.. كما أنّ شرعيتها تعمقت من خلال دعم الأخوة في حركات التحرر ودول العالم الصديقة المناصرة التي وقفت إلى جانب المنظمة تدعمها وتشد أزرها في نضالها من أجل حقوق الشعب الفلسطيني". وتابع أن: "منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهي بهذه الصفة تنقل إليكم تلك الرغبات والأماني وتحملكم مسؤولية تاريخية كبيرة تجاه قضيتنا العادلة".
وبعد 19 عامًا، ضرب عرفات ما قاله عرض الحائط، ولم يكن الحدث خيارًا لحظيًا حتّمته ظروف حرب الخليج الثانية وفشل مؤتمر مدريد للسلام، بل مسارًا طويلًا اختارت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية نهجه. والمفارقة أن اتفاق أوسلو الذي عقد في 13 أيلول/سبتمبر 1993 بين القيادة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية، برعاية أميركية، كان بداية مرحلة تهميش دور المنظمة.
وبالإضافة إلى غياب إجماع وطني حول ما جرى، أفرز الاتفاق سلطة فلسطينية أُريد لها أن تكون بديلًا لمنظمة التحرير، بدعم عربي وغربي وإسرائيلي، لاعتبارات متعلقة بالمهام المرسومة لها، والتي أفرزت واقعًا جديدًا على الساحة الفلسطينية عزز دور السلطة في الضفة الغربية وقطاع غزة على حساب منظمة التحرير، الأمر الذي تسبب في إضعاف المنظمة بعد أن كانت الإطار الجامع للفلسطينيين. كما أدى هذا الوضع إلى فك الارتباط بين تجمعات الشعب الفلسطيني الرئيسية: في الشتات، وفي المناطق التي احتلتها "إسرائيل" عام 1967، والأراضي المحتلة عام 1948.
تهميش مؤسسات منظمة التحرير
ومع الوقت، زاد استئثار السلطة الوطنية الفلسطينية بالقرار الفلسطيني، بالتوازي مع تهميش مؤسسات منظمة التحرير التي تجاوزت دوائرها وهيئاتها بما في ذلك اللجنة التنفيذية، التي تُعتبر أعلى سلطة تنفيذية للمنظمة، عدا عن ممارستها سياسة فرض مؤسساتها بديلًا عن مؤسسات المنظمة.
هكذا أصبح دور المجلس المركزي الفلسطيني الذي أصدر قرار تشكيل السلطة الفلسطينية محصورًا في اجتماعات دورية ويُصدر قرارات عامة باتت حبرًا على ورق، في حين حلّت وزارة خارجية السلطة محل الدائرة السياسية لمنظمة التحرير، واستحوذت على مكاتبها التمثيلية والسفارات الفلسطينية في الخارج.
أما دائرة شؤون اللاجئين المسؤولة عن متابعة أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات وأماكن الشتات، فحُجِّم دورها بالتوازي مع التركيز على الضفة الغربية وقطاع غزة مقابل تهميش الدور النضالي لفلسطيني الشتات، وذلك في وقت ظهرت فيه مشاريع التوطين التي تسعى إلى إنهاء حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى بلادهم.
أما اللجنة التنفيذية فاقتصر دورها على اجتماعات يحضرها ممثلو الفصائل الذين لا يملكون أي دور فاعل سوى مجرد الاجتماع، كما أنهم غير مخولين باتخاذ القرارات المتعلقة بالوضع الفلسطيني.
وحتى الصندوق القومي الفلسطيني المسؤول عن صرف رواتب العاملين في مؤسسات المنظمة والفصائل المنضوية تحتها، أُلحق بدوره بحكومة السلطة في رام الله التي أصبحت متحكمة بقراراته والميزانية التي يصرفها، بل إنها استعملته كوسيلة ضغط على الفصائل والعاملين في المنظمة لتمرير قراراتها دون معارضة، مشهرةً سيف التهديد بقطع المخصصات والميزانيات عنهم.
نتائج كارثية
وفي ظل هذه العلاقة الملتبسة، جرى الحديث في الكثير من المناسبات عن ضرورة إصلاح منظمة التحرير، لكن الأمر ظل مجرد حبر على ورق. فإصلاح المنظمة يعني البدء بإعادة بعث مؤسساتها على أُسس سليمة عبر عملية ديمقراطية واسعة، تُطبَّق نتائجها بشكل فعلي على الأرض لتضمن مشاركة حقيقية في صياغة القرار الوطني الفلسطيني، باعتبار منظمة التحرير هي الحاضنة الجامعة لكل شرائح الشعب. لكن متطلبات الإصلاح تتعارض مع النهج الذي ارتأت السلطة الفلسطينية أن تسلكه، والذي أتى بنتائج كارثية على الشعب الفلسطيني.
لقد توهمت قيادة السلطة أنّ اتفاق أوسلو سيكون مرحلة انتقالية تنتهي بقيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، فقدمت التنازلات تلو التنازلات، وفرضت على منظمة التحرير، بحكم سيطرتها على قيادتها، إدخال تعديلات على الميثاق الوطني الفلسطيني في الدورة الـ21 للمجلس الوطني الفلسطيني، التي انعقدت في مدينة غزة ما بين 22 و25 نيسان/أبريل 1996، وذلك بإلغاء المواد التي: "تتعارض مع الرسائل المتبادلة بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة اسرائيل يومي 9 و10 أيلول/سبتمبر 1993".
رغم ذلك، لم تؤد هذه التنازلات إلى دفع "إسرائيل" لاتخاذ خطوات تمهد الطريق للانسحاب من كامل الأراضي المحتلة عام 1967، بل أصبحت غطاءً لحقائق مريرة على الأرض فرضتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة عبر مواصلة عمليات مصادرة الأراضي وبناء وتوسيع المستوطنات وتهويد القدس.
هكذا أصبح الشعب الفلسطيني أمام صورة قاتمة بعد فشل خيار اتفاق أوسلو، الذي أدى إلى انهيار المشروع السياسي الفلسطيني، وتسبب بالانقسام القائم منذ 17 عامًا والذي يعتبر الأخطر في التاريخ الفلسطيني المعاصر، ليس فقط لناحية العدد الكبير من الضحايا الذين سقطوا بسببه، بل لناحية الشرخ الذي أحدثه داخل المجتمع الفلسطيني، وجَعْل غزة تقف لوحدها في مواجهة خمس حروب طاحنة. وقد ازداد الشرخ عمقًا عقب التحديات التي فرضها العدوان الإسرائيلي الحالي على غزة.
نقطة فاصلة
وفي ظل ما ينتظر غزة من مشاريع خطيرة تسعى إلى تهجير الفلسطينيين وإنهاء الحالة الوطنية، يقف الشعب الفلسطيني وكل القوى التي تقول إنها جزء من المشروع الوطني الفلسطيني أمام مرحلة فاصلة كبيرة، تحتم عليها تفعيل المظلة الجامعة التي لطالما كانت الحيز الذي حمى المشروع الوطني الفلسطيني منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية، رغم العثرات والخسارات القاسية بعد هزيمة 1967، والخروج من الأردن، والغوص في متاهات الحرب الأهلية اللبنانية، وذهاب السادات مهرولًا إلى القدس عارضًا مشروعًا للسلام لم يتحقق، وليس انتهاءً بالخروج من بيروت، ودخول قيادة منظمة التحرير في نفق التسوية.
لذا تبقى منظمة التحرير هي الملاذ الأخير ولكن بعد إعادة صياغة ميثاقها الوطني بمشاركة كل أطياف الشعب الفلسطيني في غزة والداخل المحتل والشتات، وقواه الوطنية بما في ذلك حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي". والمطلوب اليوم جرد لمسيرة طويلة وعملية نقد ذاتي للوقوف أمام مكامن الخلل، وعلى الجميع الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت دون إغفال الظروف الصعبة والقاهرة التي مرت بها مسيرة النضالية للشعب الفلسطيني.
وتتطلب عملية البناء الجديدة ترتيب البيت الفلسطيني وعقد حوار بروح المسؤولية بمشاركة الجميع في الداخل والشتات وكل القوى داخل منظمة التحرير وخارجها، لتحديد معالم الطريق، شرط أن يكون مختلفًا عن مهرجانات حوارات الفصائل السابقة والاتفاقات التي كان حدها الأوراق التي كتبت عليها.
لقد أصبح من الضروري إعادة تفعيل أُطر منظمة التحرير ومؤسساتها، والقيام بعملية انتخاب لقيادة جديدة تكون منفصلة عن مشروع السلطة الفلسطينية المرتهن، عبر عملية ديمقراطية شفافة تحظى بتوافق وإجماع وطني على قاعدة الثوابت الوطنية.
وستكون هذه المراجعة الشاملة والصادقة الطريق لترسيخ الوحدة الوطنية، والدفاع عن الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني غير القابلة للمس، وهي: حق العودة، وتقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
دون ذلك، نحن أمام انهيار كبير غير معلوم المعالم، ودون أي إجابة واضحة عن سؤال: إلى أين نذهب؟ لكن إذا غابت روح المسؤولية واستيعاب الحالة الكارثية التي يمر بها الشعب الفلسطيني، وفي ظل وضع يشكل سابقة يتحالف فيها الأخوة مع الأعداء عليك لفرض ما هو مُعد من مشاريع للتطبيع والتفريط بالحقوق الفلسطينية؛ فنحن بدون شك على أعتاب نكبة جديدة ستكون أقسى من كل ما مر سابقًا.