ربما لا يبدو هذا مقالًا تخصصيًا لتحليل موسيقى سيد درويش، لكنه سرد موجز أحاول من خلاله فهم سيرة الرجل.
ولد سيد درويش البحر في مدينة الإسكندرية، يوم 17 آذار/مارس عام 1872 لأسرة فقيرة. ومنذ صغره، كان عاشقًا للموسيقى لدرجة أنه كان يقف على صندوق من الخشب يغني لأصدقائه، قبل أن يتمكن بعد سنوات طويلة من شراء عود قديم ويعزف عليه. ومع مرور الوقت، بدأ الصبي بحفظ موشحات الشيخ سلامة حجازي، والغناء لكبار المطربين بل والتلحين أيضًا، ليصبح فيما بعد واحدًا من عباقرة الموسيقى في العالم العربي خلال القرن العشرين.
دخل سيد درويش المعهد الأزهري ليتعلم قراءة القرآن، لكنه لم يكمل أكثر من سنتين فيه خرج بعدهما منه ليصبح مؤذنًا لمسجد الشوربجي، وهو من أكبر مساجد الإسكندرية، حتى صار يعرف بـ"الشيخ سيد"، وظل هذا اللقب يرافقه حتى وفاته.
لم تكن حياة الرجل سهلة أبدًا، فقد اضطر إلى إعالة أمه وأخواته بعد وفاة أبيه، فصار يقرأ القرآن ويغني أينما أمكن. لكن هذا لم ينفعه كثيرًا، فافتتح محلًا للعطارة وفشل في هذا أيضًا، ليعود إلى الغناء مجددًا.
سَمعهُ بالصدفة سليم وأمين عطالله فقاما بضمه إلى فرقتهم. كان هذا عام 1909، وقد قدموا عروضًا في الشام لكنهم فشلوا، حتى إن سيد درويش لم يعد يملك ثمن تذكرة العودة إلى دياره. عاد بعدها إلى الغناء في المقاهي، التي كانت مصنعًا للثقافة والفن قديمًا.
في عام 1912 أعاد الأخوان عطالله مع سيد درويش المحاولة مرةً أخرى، فذهبوا مجددًا إلى الشام لتقديم عروضهم المسرحية، لكنهم فشلوا أيضًا كما في المرة السابقة. وفي عام 1916، تعرف سيد درويش على الشيخ سلامة حجازي الذي كان معروفًا على مستوى البلاد كلها، وسافر إلى القاهرة لتقديم عروضه بعد دعوة الشيخ سلامة له، غير أن المحروسة لم تكنْ أرفق بهِ من الشام، إذ فشل فشلًا ثقيلًا من جديد، حتى إن سيد درويش بكى أثناء نزوله عن أحد مسارح القاهرة
عانى سيد درويش من فشل ظل يرافقه حتى التقى بنجيب الريحاني وبديع خيري، لتبدأ أخيرًا قصص النجاحات تتوالى، مثل "سالمة ياسلامة" و"طلعت يامحلا نورها" وغيرهما من أغاني درويش الخالدة، التي لاقت رواجًا كبيرًا عند الناس حينها. وبطبيعة الحال، لم تكن كل أعمال سيد درويش مع بديع خيري ونجيب الريحاني، لكنهما أوقفا درويش على طريق النجاح والشهرة، ودفعاه قُدمًا بكل قوة.
غنّى سيد درويش لكل شيء أحبه وأحسَ به تقريبًا. غنّى للشيّالين (شد الحزام)، وللصنايعية (يالله بينا على باب الله يا صنايعية). وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى واشتعال ثورة 1919 ضد الإنجليز، بقيادة سعد زغلول، ظل سيد درويش سيد مسارح المحروسة.
دعم سيد درويش ثورة 1919 عن طريق المسرح الغنائي، وعن طريق مشاركته شخصيًا في المظاهرات، وقد قام بتأليف الكثير من الأغاني المتعلقة بالثورة، وكانت تُغنى في المقاهي والحانات الشعبية على سبيل الترفيه، وربما كانت هذه طريقته في عدم الاصطدام مع المحتل.
يخبرنا الروائي المصري توفيق الحكيم، حين سُئل عن درويش في مقابلة له، أن: "المسألة لم تكن مسألة موسيقية فقط، فكامل الخلعي مثلًا كان موسيقيًا موهوبًا، لكنه لا يستطيع تلحين الكلام إلا إذا كان موزونًا. أما سيد درويش، فيستطيع تلحين أي شيء، إنه ساحر".
وعن نفسه أيضًا، يقول سيد درويش: "أستطيع تلحين حتى كلام الجرائد". وسواء كان هذا كلامًا دقيقًا أم لا، الكثير من أهل الثقافة والاختصاص اعتبروا سيد درويش فاتحة التعبيرية الموسيقية، ومخلصًا الأغنية المصرية من عجمتها التركية. ومنهم من ذهب إلى أن سيد درويش أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما بدأت زمن الخلافة العباسية، وأن الغناء المصري ككل ينقسم إلى ما قبل سيد درويش، وما بعده، وصولًا إلى التجديد الخلاق على يد عبقري الموسيقى محمد عبد الوهاب، وسيدة الغناء العربي أم كلثوم.
ربما يبدو هذا تحميلًا أيديولوجيًا للرجل باعتباره المخلّص، ففي زمنه وقبل ذلك أيضًا كانت هناك أفكار حقيقية بتركيب علاقة مختلفة عن الواقع بين الكلام واللحن فيما يختص بالعمل المسرحي، وهذا بالفعل ماذكره زكي طليمات في كتابه
ذكريات ووجوه
في مؤتمر الموسيقى العربية بمدينة القاهرة عام 1932، دارت نقاشات جادة حول مسألة تطوير موسيقى عربية مختلفة عن التركية والأوروبية، لكن أصحاب الاختصاص الغربيين رفضوا ذلك، وكان رأيهم أنه يجب الحفاظ على الموسيقى العربية بخصوصيتها كما هي بدون هارموني أو أوركسترا، فما كان من الطرف المقابل إلا اعتبار هذا الرأي "امتدادًا للاستعمار".
هكذا كان لا بد من تحميل أيديولوجي لشخص ما يكون رائدًا في الموسيقى، واعتباره مخلّصًا للأغنية المصرية من الارتباط التركي وفتح الطريق للأوركسترا والهارموني والبوليفونية، التي كانت رائجة في الموسيقى الغربية في القرن التاسع عشر. وقد تحدث الباحث وليد العبد الله عن هذا في محاضرته "اختراع الأصالة"، مشيرًا إلى أن درويش أراد تطوير عمل سلامة حجازي وتبسيط الموسيقى لإيصالها للناس لا أكثر من ذلك، وأن الرجل لم يكن مهتمًا في الأصل بـ"تمصير الموسيقى" وتخليصها من سطوة الموسيقى التركية والأوروبية، ولا بكونه فاتحة التعبيرية للموسيقى المصرية كما تم تحميله هذا بعد وفاته.
قصة الجليلة والشيخ
تعرّف فنان الشعب على جليلة أم الركب في حفل زفاف كان قد أنهى إحدى وصلاته. وما إنْ رأها حتى اشتعلت شرارة العشق الأميز في حياته. أمسك العود حينها وقام بغناء طقطوقة لا تزال خالدة إلى يومنا هذا، وهي: "خفيف الروح بيتعاجب برمش العين والحاجب".
أكمل كلمات الطقطوقة فيما بعد المبدع بديع خيري. ولا يعلم على وجه الدقة ممن كانوا حول سيد درويش إن كان عشقًا من طرف واحد فقطْ، وهو طبعًا طرف درويش. أو أن الجليلة، أو "قاهرة الرجال" كما يسميها الغواني، استغلت فنان الشعب كما تفعل مع الرجال دائمًا. وبصرف النظر عن موقف السيدة جليلة أم الركب، فإن هذا الجلال والجمال قد صنعه الشيخ، وليست الجليلة من خلق فنًا رفيعًا لا يزال يُسمع إلى يومنا هذا.
ربما احتاج الرجل وهمًا خاصًا به، ولم يكن مهمًا عنده التفاصيل الأخرى كتلك التي تهمُ عشاقًا تقليديين، فليست جليلة أم الركب جميلة كما صورتها الفنانة الحسناء هند رستم في فيلم شاركتْ بطولته مع الفنان كرم مطاوع، والذي يتناول قصة سيد درويش.
ولا هي سيدة نبيلة أبدًا، بل على النقيض من هذا، فقد كانت "جليلة وابور الكاز"، كما أسماها المقربون، منها مجرد كتلة ضخمة من الشحم، لكن درويش عبقري مرهف لا يعيش بلا عشق متصلْ، مثلما لا يكون فنانًا بغير فن متصلْ.
يقول شوبنهاور: "إن العشق هو خدعة من الطبيعة لنمارس البقاء بشكل رومانسي". ربما هذا أيضًا لم يكن هاجسًا عند سيد درويش، وأن الإثارة التي أرادها هي الإلهام فقط، وهو متعة طاغية تشعر بها عند اكتشاف شيء جديدٍ أنت تحتاجه حقًا، وهو ربما ما يفسر أيضًا تعاطي الرجل للمخدرات، وإسرافه في شرب الخمر.
في حياة فنان الشعب نساء أخريات كثيرات، حيث يذكر الصحفي حنفي المحلاوي في كتابه "من قتل سيد درويش" أن هناك فتاة اسمها فردوس غنى فيها سيد درويش: "ياناس أنا مت في حبي وجم ملايكة يحاسبوني/ قالوا لي روح جنة رضوان اخترت أنا جنة فردوس".
يذكر الكتاب نفسه أن سيد درويش وضع لحنًا جديدًا لسيدة اسمها منيرة المهدية، لكن عازف العود اختلف معها فأعطى لحنَ سيد درويش لمطربةٍ اسمها ودادْ. وعندما عاد سيد درويش من الإسكندرية وسمع وداد هذه تغني لحنه بطريقة خاطئة، هاجم عازف العود وقام بتكسير العود بعد سحبه منه وشتم المغنية وداد.
ومن المعروف أيضًا أن سيد درويش أحب المغنية والممثلة حياة صبري، التي تزوج منها فيما بعد. وبصرف النظر عن شكل علاقات سيد درويش مع النساء، وأنه لم يكن يختار كما قال كثيرون لعشقه عاشقات من "نماذج راقية"، وهو رأي غريب أقلّهُ أنه ينفي الفكرة من العشق أصلًا بمجرد ربط الحب "بالنموذج الراقي"؛ يبدو أن الشيخ كان يريد من العشق شيئًا غير الذي يريده العاشقون، وهو تمامًا ما منحته إياه السيدة جليلة أم الركب، وهي أقلهن جمالًا وأبعدهن عن "النموذج الراقي".
منحنا سيد درويش بجلال الجليلة ربما، أو بجلاله الخاص عنها، أغانيَ رائعة من أجمل ما صنعهُ فنه، مثل أغنية "وعلى قد الليل مايطول"، و"أنا هويت وانتهيت"، و"ضيعت مستقبل حياتي"، والأغنية الأجملُ التي تعبّر عن اشتداد الوجد به: "زوروني كل سنة مرة حرام تنسوني بالمرة حرام".
في حبه لجليلة أم الركب، أو الفكرة منه، ربما دافع سيد درويش عن نفسه ودفع عنها أمرًا لا يحبه، وهو كفكرة الفيلسوف برتراند راسل عن مهمة الحب، أنه ضرورةٌ للدفاع عن النفس ضد الوحدة.
موت سيد درويش أو قتله
بعد أن قدّم سيد درويش خلال حياته القصيرة الكثير من الأعمال، منها من صار نشيدًا وطنيًا لمصر، أي أغنية "بلادي بلادي بلادي.. لك حبي وفؤادي"، التي كتب كلماتها يونس القاضي، ولحّنها درويش؛ توفي في الخامس عشر من أيلول/سبتمبر في عام 1923 عن عمر تجاوز الثلاثين بقليل.
مات هكذا فجأة، وبدون مقدمات، ولم يعرف عنه أنه مَرِضَ أو تعرض لشيء ما من شأنه أن يهدد حياته. حينها، طلب ذوو سيد درويش من الحكومة تشريح جثته لمعرفة سبب الوفاة، لكن الطلب قُوبل بالرفض، مما زاد الشك في أن وفاة سيد درويش لم تكن طبيعية.
وبالعودة إلى حكاية المطربة وداد وما يذكره حنفي المحلاوي في كتابه "من قتل سيد درويش"، قامت المطربة وداد وبعد خلافها مع سيد درويش على لحن الأغنية، التي من المفروض أن تغنيها الفنانة منيرة المهدية، بدعوته إلى منزلها في محاولة منها لإقناعه بتحفيظها وتعليمها لحنًا جديدًا خاصًا بها. ولأنها تعلم كما يبدو أن سيد درويش يحب الطعام والشراب كثيرًا، فيأكل ويشرب بكميات كبيرةٍ في السهرة الواحدة؛ ظلت معه في سهرة خاصة حتى مطلع الفجر، ثم عاد بعدها إلى منزله وهو في حالة من الإعياء الشديد.
وفي الصباح، كان مجرد جثة هامدة. هذه رواية واحدة من الروايات الكثيرة عن حقيقة وفاة سيد درويش. نهايته الغامضة والمثيرة للجدل كثرت حولها الروايات، فقد ذكرت جريدة الأهرام عن المغنية حياة صبري، وهي زوجة درويش، أن رجلًا ثريًا كان قد أُغرم بمطربة قد تعرف عليها، فأخذها إلى منزل سيد درويش ليسمعها ويتبناها فنيًا.
لكن درويش أخبرها بأنها لا تصلح للغناء مطلقًا، وحصل بعدها شجار بينهما، فما كان منها إلا أن أخبرت حبيبها أن سيد درويش تحرش بها، فقام الحبيب بتسميم سيد درويش انتقامًا لحبيبته، وهو على ما يبدو رواية غير منطقية أبدًا لأن الحادثة حصلت في مدينة القاهرة، وسيد درويش لم يكن موجودًا في القاهرة وقتها بشهادة الكثيرين.
وثمة رواية أخرى تقول إنه تناول جرعة كبيرة من الهيرويين مع كأس من الويسكي، ثم عاد إلى منزله وأمسك عوده وراح يغني "أنا هويت وانتهيت". كل هذا حصل بعد أنْ كان في بيت جليلة أم الركب، مما أدى إلى وفاته في سريره وقد توقف قلبه نتيجة لجرعة زائدة من المخدرات، وهي أيضًا كسابقتها لا تبدو رواية منطقية.
لكن مسألة تصفية سيد درويش ربما تكون أقرب للتصديق، بسبب إزعاجه للإنجليز حينها وتحريض الجماهير ضدهم من خلال أغانيه الشعبية، والتي كان الجميع يغنيها، سواء في المقاهي وفي الحانات وفي الشارع وفي كل مكان تقريبًا، بمجرد سماعها من أول مرة. كان سيد درويش زعيمًا فنيًا للثورة، وربما شابه في زعامته سعد زغلول سياسيًا بوصفه قائدًا للثورة.
ومن المعروف أن سيد درويش قام، بعد منع تداول اسم سعد زغلول من قبل سلطة الاحتلال، بتلحين أغنية كتب كلماتها بديع خيري يقول مطلعها: "يا بلح زغلول". في إشارة واضحة لزعيم الثورة سعد زغلول. هذه الأغنية، وغيرها الكثير، أزعجت المحتل الإنجليزي لأنها، ببساطة، ستصبح على ألسنة الجماهير كلها، وهو ما يمكن اعتباره تحريضًا مستمرًا ضدهم، فوجب تصفيته بطريقة أو أخرى.
نعم، أزعج سيد درويش المحتل الإنجليزي، ومعه العائلة الحاكمة حتى منعت الرقابة أوبريت له بعنوان "شهوزاد" وليس شهرزاد، إذ كان العنوان دلالة مقصودة وواضحة إلى شهوات العائلة الحاكمة حينها، وكان هذا تعاونًا أوليًا بينه وبين الشاعر بيرم التونسي قبل أنْ يُنفى الأخير.
كان درويش قبل ذلك قد طلب من الشاعر بيرم التونسي أن تكون كلمات الأوبريت القادمة ملهبة لحماسة الجماهير المصرية ضد الاحتلال الإنجليزي، وذلك بسبب دعاية الإنجليز بأن الشعب المصري لا يستطيع حكم نفسه، الأمر الذي أزعج سيد درويش جدًا.
تقول كلمات الأوبريت: "أنا المصري كريم العنصرين/ بنيت المجد بين الأهرمين/ جدودي أنشأوا العلم العجيب/ ومجرى النيل في الوادي الخصيب".
أكد أحفاد فنان الشعب، وغيرهم من المقربين منه، أنه قد تم تسميمه بالفعل بوضع السم له بطريقة أو أخرى وتصفيته بقصد إزاحته عن المشهد المصري ككل، وهو ما قاله الدكتور محمد حسن وقتها من أنه يعتقد بشبهة تسمم أدت إلى وفاته.
رحل سيد درويش، وهو الثابت الحقيقي، الذي لم يكن ميالًا إلى حب العادة والمألوف، ولم يكن حريصًا على الأنماط التقليدية. فهل يمكن اعتباره فاتحة تعبيرية للموسيقى المصرية ومخلّصًا لها أم لا؟ وأيًا ما كانت الأسباب وراء موته، فقد كان مع رفاقه نتاجًا لثورة شعبية ومناخًا ثقافيًا كبيرًا أنتج عباقرة في الموسيقى والأدب والفلسفة. لقد كان سيد درويش رمزًا للبساطة القريبة من قلوب الناس، و"إمام الملحنين".