يكتب تلميذ الشيخ أبي خليل القباني، كامل الخلعي، في الترجمة التي وضعها للشيخ القباني، أنّ "مرسح" الأخير عندما وصل مصر وبدأ العمل فيها كان "موردًا عذبًا يؤمه الكبراء والأمراء والشعراء والأدباء لمشاهدة رواياته وجلها من منشآته". ويضيف أن القباني كان أيضًا على جانب عظيم من ثبات الجأش وقوة العارضة في تفهيم المعنى وتقرير القاعدة، فيقولهما بكلام بسيط يقرب من الإفهام، ويسهم تناوله لمن له بهذا الفن أدنى إلمام".
كما أن الخلعي يورد في الترجمة أنه لطالما سمع القباني يقول: "التمثيل جلاء البصائر ومرآة الغابر. ظاهره ترجمة أحوال وسير، وباطنه مواعظ وعبر. فيه من الحكم البالغة والآيات الدامغة ما يطلق اللسان ويشجع الجبان، ويصفي الأذهان. ويرغب في اكتساب الفضيلة، ويفتح للبليد باب الحيلة، ويرفع لواء الهمم، ويحركها إلى مسابقة الأمم، ويبعث على الحزم والكرم. يلطف الطباع، ويشنف الأسماع، وهو أقرب وسيلة لتهذيب الأخلاق ومعرفة طرق السياسة، وذريعة لاجتناء ثمرة الآداب والكياسة. هذا إذا تدرج فيه من ذكر الأحوال إلى ضرب الأمثال، ومن بيان المنهاج إلى الاستنتاج، ليرتدع الغر عن غيه وينزجر، ويجد العبرة في غيره فيعتبر".
يكاد يكون هذا الكلام الذي يورده الخلعي على أنه سمعه من القباني، قريبًا من السبب الذي سوف يورده المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس فيما بعد، حول وقوف الرجعية ضد القباني في مقالته "لماذا وقفت الرجعية ضد أبي خليل القباني"، ألا وهو الظاهرة المسرحية.
نقرأ أيضًا أن القباني كان قد أكّد أن ما يقدمه ليس لهوًا ولا تسلية وإنما هو عظة وعبرة، يستفيد الرائي ويتعظ، من خلال عرض قصص الأجداد، وما أحرزوه من أمجاد، وقد جمع أفكاره تلك في مجموعة من الأبيات الشعرية قالها في مقدمة مسرحية "هارون الرشيد مع أنس الجليس"، على هذا النحو:
"مراسح أحرزت تمثيل من سلفوا
وعظًا وجاءت لنا عنهم كمرآة
نمثل اليوم أحوال الألي سبقوا
من طيبات لهم أو من إساءات
عسى يكون لنا فيمن مضى عبر
تجدي ونعلم أنا عبرة الآتي
عسى نكون كرامًا إذ يشخصنا
من بعدنا أو فيا طول الفضيحات
فالحر إن مات أحيته فضائله
والوغد إن عاش مقرون بأموات
هذا هو المقصد من تمثيل من عبروا
لا اللهو والزهو والإعجاب بالذات".
تتقاطع هذه الأبيات أيضًا مع رؤية ونوس اللاحقة عن خطورة التشخيص، والتي يبدو أنّ القباني كان قد وقف عليها من قبل، وأشار إليها دون مواربة، بالقول إن التشخيص قد يعرض طيبات الذين سبقوا أو إساءاتهم، وبالتالي: ليست العفوية التي يذكرها ونوس على أنها كانت سائدة في عروض القباني هي وحدها التي يمكن أن تنزع هالة القداسة والبعد الشاقولي الذي يضعه مَن هم في ذروة الهرم الاجتماعي كي يبقيهم في علوٍ عن الشعب، إنما قد تكون تعرية بعض هذه الشخصيات ناتجةً عن قصد، ينطلق منه صاحب العرض نفسه، وهذا "هو المقصد من تمثيل من عبروا". فالقباني إذن كان قد وقف على خطورة التشخيص وما يحمله من أبعاد، وكان على علم بأنّ لا النص وحده هو الخطير، إنما العرض كظاهرة مسرحية وما تحمله هذه الظاهرة من بعدٍ اجتماعي. وربما، نقول ربما كي لا نحمّل الرجل فوق طاقته، اعتمد التشخيص كوسيلة لمقارعة أولئك الذين في ذروة الهرم، اعتمده كي يريهم إساءاتهم عن طريق عرض إساءات الذين سبقوا.
شيءٌ آخر يكتبه حسني كنعان في مقالته "أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية" له صلة بالأسباب التي يذكرها سعد الله ونوس على أنها سبب وقوف الرجعية في وجه القباني. وهو أنّه: "حتى شيوخ القباني الذين كانوا ينكرون عليه هذه النزعة في مطلع حياته، أضراب المفتي الشيخ محمود حمزة ذي النزعة الصوفية، والشيخ واعظ السجدة وكبار العلماء، كانوا لا يتورعون عن حضور مجالسه (أي القباني) ومشاهدة رواياته الأخلاقية والتاريخية والاجتماعية، لأنهم ما كانوا يرون فيها من الأمور المحرمة ما يخالف مبادئهم".
سوف ترشدنا هذه المعلومة إلى صحة العلاقة التي يضعها ونوس سببًا في وقوف الرجعية الدينية ضد القباني، وهي العلاقة التي كانت تربط رجال الدين بالمجتمع الإقطاعي الموشك على الانهيار، وصعود البرجوازية، ومعها النهضة. ما يعني أنّ ليس كل رجال الدين أخذوا هذا الموقف من القباني، فبعضهم كما ذُكر كان يحضر هذه المجالس، ومنهم المفتي نفسه. لذا، فإنّ الأسباب الأخلاقية التي ادّعتها الرجعية كانت بالفعل واهية، كما ترد في نص المضبطة، لا بسبب الحجة التي يوردها سعد الله ونوس فقط عن وجود خيمة كراكوز في ذلك الزمن، في مقاهي الشام، وما فيها من بذاءة وألفاظ مكشوفة ومواقف ماجنة، بل للشاهد التاريخي السابق كذلك، وهو أن المفتي والشيخ واعظ السجدة وكبار العلماء كانوا يشاهدون عروض القباني، ما يؤكد أنّ وراء الأسباب الأخلاقية الواردة في المضبطة سببًا أعمق تخفيه الرجعية.
في مقالته "لماذا وقفت الرجعية ضد أبي خليل القباني؟" يذكر ونوس الأسباب التي عزاها بعض الدارسين، ثم ينقدها. وأولها الأسباب الأخلاقية التي يُستدَل عليها في نص المضبطة: "إن وجود التمثيل في البلاد السورية مما تعافه النفوس الأبية، وتراه على الناس خطبًا جليلًا، ووزرًا ثقيلًا... فتطبع في الذهن سطور الصبابة والمجون وتميل النفس إلى أنواع الغرام والشجون، والتشبه بأهل الخلاعة والمجون".
أما السبب الثاني الذي يورده ونوس وينقده، هو الذي يذكره إبراهيم الكيلاني، ومفاده أنّ نصيب الشيخ سعيد الغبرا مما كان يدفعه القباني استرضاءً لزعماء الرجعية كان ضئيلًا فشد رحاله إلى الأستانة. ونقدُ ونوس لهذا السبب يقوم على أن القباني لو استطاع استرضاء الزعماء كلهم دون الشيخ سعيد الغبرا لما تدافعوا للتوقيع على المضبطة التي حملت 26 توقيعًا، كل أصحابها شيوخ وأعيان.
أما المرجع الآخر الذي يروي نهاية القباني بصورة مختلفة هو ما يقوله قسطندي رزق في كتابه "تاريخ الموسيقى الشرقية"، ويذكر فيه: "وما كادت الفرقة (أي فرقة القباني) تمثل رواية أبي الحسن المغفل، حتى قام بعض المشايخ الرجعيين وقعدوا لظهور هارون الرشيد على المسرح، على شكل أبي الحسن المغفل ورفعوا احتجاجًا بذلك إلى الحكومة العثمانية بالأستانة فأصدرت إرادة شاهانية بمنع التمثيل العربي في سوريا". وهذا أكثر الأسباب تماسكًا من الأسباب المباشرة لهجوم الرجعية على القباني ومسرحه.
يسرد ونوس بعد ذلك بداية استخدام الرجعية الدينية لمصطلح "البدعة"، في القرنين 18 و19. إذ يقول إنّ بنية النظام الاجتماعي العثماني كانت ترتكز على تحالف وثيق بين كبار الإقطاعيين ورجال الدين، واستمرت هذه العلاقة بيسر إلى حين أخذ التفكك والفساد ينخران جسد الدولة العثمانية، وبالتالي النظام الإقطاعي الذي تقوم عليه. وأجبرت الضرورة التاريخية الدولة العثمانية على الاختيار بين الانهيار أو تجاوز نظامها الإقطاعي بعدة إصلاحات حديثة شبه برجوازية. فشكل رجال الدين البدعة في وجه كل تغيير يمكن أن يمس المناخ الإقطاعي القائم. وهكذا كانت البدعة ذريعة يستخدمها رجال الدين لإيقاف انهيار الطبقة الإقطاعية المتحالفين معها وتعويق نمو البرجوازية. (يذكر جورج طرابيشي في كتابه هرطقات شيئًا عن ذلك، إذ يقول بما بمعناه إنّ اصطلاحين كانا يحكمان العلاقة في المجتمع العربي، هما الابتداع والاتباع، وكانت الرجعية الدينية تقف في وجه الابتداع وتحث على الاتباع، وهما اصطلاحان قريبان، في تاريخ الفكر الإسلامي، من اصطلاحي العقل والنقل).
يقول ونوس إن تعبير البدع كثرت في دمشق يعني من حيث الموضوعية التاريخية أن البرجوازية أخذ يشتد عودها واستطاعت أن تفرض على المجتمع قيمًا وعادات وأنماط تفكير جديدة. هذا "الجديد" أفزع الرجعية بسبب مدى العلمانية التي ينطوي عليها. ما يعني أن ذريعة البدعة كانت ذريعة مطاطة يستخدمها رجال الدين لتحقيق أغراض سياسية اجتماعية.
يقف ونوس بعد ذلك على العوامل التي جعلت الرجعية ترمي تجربة القباني بتهمة البدعة.
وهي عوامل ثلاث ضمن الظاهرة المسرحية. فالمسرح فنٌّ مركب لا يمكن تقليصه إلى مجرد نص، وللتجربة بعد اجتماعي تكوّنه مجموعة العلاقات الحية والتأثيرات المتبادلة بين المسرح والجمهور في مكان وزمان. من هذا البعد يستمد المسرح خصوصيته كظاهرة ثقافية حية. وفي هذا المنظور تبرز عوامل الخطر التي أحسها رجال الدين في تجربة القباني، وتكمن في الظاهرة المسرحية لا في الأفكار التي كان يلقيها المشخصون على الخشبة، وهذه العوامل ثلاثة:
أولها أن ظهور المسرح كان جزءًا من حركة التنوير أو النهضة التي رافقت صعود البرجوازية في المجتمع. وكان ظهوره يلبي واحدة من الحاجات الثقافية والاجتماعية لهذه الطبقة، وسوف نجيء على توضيح ذلك بواقعة تاريخية لم تذكرها المراجع.
أما العامل الثاني فهو الطابع الاجتماعي للظاهرة المسرحية، إذ استطاع القباني أن يجعل من العرض المسرحي حدثًا اجتماعيًا يهز سكون مدينته. وربما كان يسري خلال هذه التجربة في نفوس جمهورها شعور بالتساوي فيما بينهم. كما أنهم كانوا يتعلمون وعي حالتهم وأوضاعهم عبر التدخل في سياق الرواية والتعقيب على موقفها.
أما العامل الثالث وهو الأهم، فهو التشخيص، الذي اتّضح أنّ القباني كان يعي خطورته وفقًا للكلام الذي يرويه الخلعي على أنه سمعه منه.
يقول ونوس إن النظم الإقطاعية الدينية تعتمد في سيطرتها على تأكيد الحدود بين الطبقات، ويعنيها أن يظل لها فضاء شاقولي يرفعها فوق الشعب، بحيث تحيطها هالة من القدسية. من هنا تنبع خطورة التشخيص لأنه ينزع هالة القدسية. وفي جو عروض القباني العفوية كان أداء الممثل يلعب دورًا في تعرية أولئك الذين في ذروة الهرم الاجتماعي، وفي تمزيق أقنعة القدسية عن وجوههم.
ما يعني أن الملوك والأمراء كانوا يفقدون دلالتهم السامية بالتقليد / التشخيص. وأسهم القباني، يقول ونوس، ولو لم يدرك ذلك، في تقويض تلك الطبقة التي كانت تقاوم الانهيار. وظهور هارون الرشيد على المسرح كسبب في قيام رجال الدين على القباني يبدو معقولًا في هذا السياق، بسبب فعل التشخيص.
أما عن العامل الأول، وهو أن المسرح جزء من حركة التنوير والنهضة التي رافقت صعود البرجوازية، فيتوضح في حادثة تاريخية لم تذكرها المراجع. وقد رواها تيسير خلف في مقالة حديثة له: "عن الشيخ الدمشقي سعيد الغبرا وحفيده الفلسطيني شفيق الغبرا". يقول خلف فيها: "أولًا؛ لابد من التأكيد على أن علاقة الشيخ سعيد الغبرا بإغلاق مسرح القباني في دمشق في شهر تشرين الأول/ أكتوبر عام 1883 ثابتة في أكثر من مصدر، منها رسالة للقباني نفسه أرسلها لصديقه يحيى تللو عام 1895 يذكر فيها مسؤولية الشيخ سعيد الغبرا عن تشرده بعبارة صريحة، وكذلك نص لأديب حلبي يدعى خورشيد أفندي كتبه عام 1893 يذكر فيه بالاسم الشيخ الغبرا ويمتدح وقوفه ضد القباني وبدعته. لكن؛ ما حصل تاليًا غاب عن الرواية المتداولة، ولا يبدو أن ثمة أحد من دارسي تلك المرحلة اهتم بما حصل في اليوم التالي لإغلاق المسرح ومنع التمثيل في ولاية سورية العثمانية. ما جرى في حقيقة الأمر، وبناء على الوثائق العثمانية المحفوظة في إسطنبول، أن دمشق انتفضت بعد إغلاق مسرح القباني انتفاضة غير مسبوقة، وملأت الكتابات الجدارية المعادية للسلطنة، والمنشورات الورقية الداعية لاستقلال العرب جدران وشوارع المدينة، وهو ما احتاج إلى حملة أمنية تواصلت عدة أيام، وانتهت باعتقال الوجيه الدمشقي عبد الغني بيك القوتلي بتهمة قيادة هذه التحركات، وقد وصلت أصداء هذه الانتفاضة للصحافة العالمية في باريس ولندن وبرلين ونيويورك، لكن بعد أيام قليلة تم إطلاق سراح القوتلي لثبوت براءته، وليتبين لاحقًا أن عملية اعتقاله وأفراد عائلته كانت خطة من الوالي حمدي باشا لتشتيت الأنظار عن السبب الحقيقي لهذه الانتفاضة المسؤول عن تبعاتها الشيخ سعيد الغبرا". ويضيف خلف: "قد اتضح في ما بعد أن المنتفضين من أبناء دمشق، من المؤيدين للقباني هاجموا بيت الشيخ سعيد الغبرا، كما يذكر ذلك صراحة الشيخ خورشيد الحلبي، وأجبروه على مغادرة دمشق إلى الأبد".
وحسني كنعان في مقالته التي ذكرناها يروي شيئًا من الحوادث التي كانت تقع بين أنصار القباني وخصومه، ذلك قبل ذهاب الغبرا إلى الأستانة، لكن بعد هجوم الرجعية عليه. فيقول: "وكان كثيرًا ما تقع الواقعة ما بين أهل باب السريجة مسقط رأسه وباب الجابية التي نشأ فيها وترعرع، وما بين حي العمارة والقيمرية مواطن خصومه ومنافسيه. فيقتتلون من أجله بالحجارة والخناجر، وتنقلب ساحات هذه الأحياء إلى ساحات قتال تنذر بأقدح العواقب وأسوأ الخواتيم".
على أن ما يذكره خلف يؤكد أن طرد الغبرا من دمشق وقتها، يعني في هذا السياق، أن البرجوازية كانت متنبهة إلى أن المسرح يعبّر (أو سوف يعبّر) عنها، وأنه جزء من صعودها. وبالتأكيد فليس الإقطاعيون ولا الرجعيون من طردوا الغبرا، إنما أولئك الذين كانوا ينتمون إلى البرجوازية الصاعدة، ويشاهدون عروض القباني، وينتمون إلى الظاهرة المسرحية، وهم بعدها الاجتماعي.
أما عن عامل التشخيص، فيمكن الاستدلال عليه كما قلنا من كلام الخلعي الذي يقول إنه سمعه من القباني، وأهم جزء منه هو ذاك الذي يشير صراحةً أن التمثيل "يطلق اللسان ويشجع الجبان، وهو أقرب وسيلة لمعرفة طرق السياسة". وفي مقدمة "هارون الرشيد وأنس الجليس"، نستدل من الأبيات التي وضعها القباني أنه، كما سلف، يعرف ما ينطوي عليه التشخيص، ويعرف أن القصد منه لا عرض طيبات الألي سبقوا، إنما إساءاتهم كذلك. وبما أن أبطال القباني هم أمراء وملوك، أو من تلك الطبقة التي أشار إليها ونوس، فإن نزع هالة القدسية عنهم وإلغاء البعد الشاقولي الذي يرفعهم عن الشعب، هو أمر يدركه القباني. صحيح أنه ربما ليس هو مقصده الأساسي، أي ليس بغيته، لكننا يمكن أن نخمن أنه يستتر خلف المقصد من تمثيل من عبروا، كما يقول، ولو لم يشر إليه صراحةً، أو يدرك أنه هذا هو بالفعل، فقد أدرك ما يحيط به، وما يؤدي إليه.