شكّل عام 2011 حدًا فاصلًا بين الدراما السورية ذات القيمة والمحتوى الجيد والمقبول بالنسبة للجمهور وذائقته الفنية، حيث قدّمت بعض المسلسلات، التي لاقت رواجًا محليًا وعربيًا، أطروحات ذات صلة بالعلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية. وللمشاهد والمهتمين أيضًا بالمشهد الدرامي رؤيتهم بشأن الكوميديا التي أنتجتها الشاشة السورية، إذ يعتبرون أن مسلسلات مثل "ضيعة ضايعة" و"الخربة" هي نهاية حقبة قدّم فيها كتّاب سوريون كوميديا هادفة تعالج مواضيع وثيمات حقيقية وواقعية بقالب كوميدي تارةً، و"تراجيكوميدي" تارةً أخرى، عدا عن نقل صورة حقيقية لشرائح مهمشة في المجتمع السوري، لم يعد أي من الكتاب يتطرق لها بعد عام 2011 في ظل التجاذبات السياسية والطائفية والمناطقية القائمة.
تقودنا هذه المقدمة إلى فرضية مفادها أن الراحة الاجتماعية والثقافية والفنية (ونقصد هنا الحالة الاجتماعية الطبيعية قبل الحرب)، تقود إلى الجرأة الفنية ومناقشة مواضيع جريئة مرتبطة بالسلطة والمال والاقتصاد والتفاعلات الاجتماعية القائمة على هذه العلاقات، التي شكلت جوهر أعمال فنية استطاع مؤلفوها، بجرأة واضحة، صياغتها ونقلها إلى الشاشات.
أحد أهم هذه المسلسلات كان، ولا يزال، مسلسل "الخربة" الذي كتبه الدكتور ممدوح حمادة، وقدّمه ضمن مشروعه المتخيّل والطموح حول كتابة مجموعة مسلسلات متتالية، بدأها بمسلسل "ضيعة ضايعة" بجزئيه، يناقش في كل واحد منها شريحة مناطقية من مكونات المجتمع السوري ضمن قالب كوميدي خفيف بلهجته وأسلوبه في الحوار، وثقيل بمحتواه الفكري وثيماته المستخدمة لربط الشخصيات الفنية، وبالتالي ربط وتجسيد شخوص واقعية تُحكى سيرها خلال عمل درامي.
إنتاج مسلسل "الخربة"
مسلسل "الخربة" عمل درامي كوميدي عُرض عام 2011، وهو من إنتاج شركة سوريا الدولية للإنتاج الفني، وإخراج السوري الليث حجو. يُعد المسلسل من أبرز الأعمال الدرامية السورية الحديثة التي تمزج بين الكوميديا والنقد الاجتماعي، وتدور أحداثه في قرية متخيّلة تُدعى "الخربة"، بينما جرى تصويره في الواقع في قرية "ذكير" التي تقع على مشارف محافظة السويداء السورية، في بيئة بسيطة أصيلة بعيدة عن تعقيدات الحياة المدنية والتطورات التقنية الحديثة.
تتنافس خلال حلقات المسلسل عائلتان كبيرتان، هما عائلتا "بو قعقور" و"بو مالحة"، في صراعات يومية مليئة بالمواقف الساخرة والتعقيدات الاجتماعية. وتخضع هذه البيئة لتأثير العادات والتقاليد بأبعادها الاجتماعية والسياسية والثقافية، إلى جانب الأعراف والتعاليم الاقتصادية المتوارثة من الكبار و"العُقاّل"، بما يخدم طابع كل شخصية يعرضها الكاتب والمخرج.
وعلى الرغم من تنوّع محتويات النص بمواضيع وأفكار عادية درامية مطروقة، مثل الحب والزواج والعمل والبطالة، إلا أن الغنى الحقيقي يكمن في قدرته على نقل المشاهدين إلى مستويات أعلى من المواضيع، مثل الصراع على السلطة، وسلطة العائلة الواحدة (الزعيم الواحد عمومًا)، والتصدي للرأسمالية العالمية والتحرر من جشعها، والأزمة الاقتصادية العالمية وأثرها على البيئة المحلية للقرية النائية في الأصل والبعيدة عن كل مقومات الحياة، بالإضافة إلى المال والعمّال والعلاقات الاجتماعية القائمة بناءً على موروث تقليدي يفصّل الأمور بحسب: العيب، النخوة، والكرم، وغيرها من المعايير.
يبقى أهم المحاور الأساسية التي يتناولها العمل هو دور المال والاقتصاد في هذه العلاقات الاجتماعية المعقدة، من خلال نقل تأثير المال على العلاقات بين أفراد العائلتين والمجتمع القروي عمومًا، وكيف يُعيد تشكيل الديناميكيات الاجتماعية في إطار من الكوميديا الهادفة.
المال أداةً للسيطرة والنفوذ
في "الخربة"، المال ليس مجرد وسيلة للمعيشة، بل هو أداة قوية للسيطرة وتحقيق النفوذ داخل القرية بالنسبة لشخصيتي "أبو نمر" (كبير عائلة بو قعقور) و"أبو نايف" (كبير عائلة بو مالحة)، اللذين يستخدمان ثرواتهما لتعزيز نفوذهما وسلطتهما داخل العائلة والقرية. ويمكن ملاحظة ثلاثة مستويات لاستخدام المال لتعزيز السلطة والنفوذ لدى كل منهما.
المستوى الأول داخلي على مستوى العائلة الكبيرة (بو قعقور وبو مالحة)، حيث يبذل كلاهما قصارى جهده لصرف الأموال على أبناء العائلة في سبيل الحفاظ على سلة الزعيم الواحد في كل أسرة، ويتجلى ذلك عبر قيام أبو نايف ببناء عيادة للدكتور فوزي ليصبح طبيب العائلة في البداية، قبل أن يروّج له على أنه طبيب القرية الوحيد.
يطلب أبو نايف من الدكتور فوزي أن يعالج سكان القرية مجانًا، ويرسل له المرضى بدوره على أنهم "من طرفه". وفي هذه الحالة، لا يجب على الدكتور فوزي مطالبتهم بـ"كشفية" لأن زعيم الأسرة أوصى بهم، ولأنه إن فعل يكون قد أساء إلى كرامة وسمعة عمه أبو نمر.
أبرز هذه المشاهد مشهد لقاء "عبودي الكازية" (صاحب الدكان الوحيد في القرية) بكل من أبي نايف وأبي نمر عائدًا من عيادة الدكتور فوزي. يسأله أبو نايف عما إذا كان الدكتور قد أخذ منه "كشفية" أم لا، فيجيبه عبودي أمام أبو نمر بأنه أخذ فعلًا لكن مع خصم. هنا يستشيط أبو نايف غضبًا ويُحرَج أمام أبو نمر الذي يبدأ بإغاظته مشيرًا إلى أن كرامة أبو نايف لم تعد في محلها طالما أن الدكتور فوزي (الذي ينتمي إلى الجيل الجديد من أبناء الخربة) لم يستجب لمطالب زعيم عائلته بأن يعالج السكان بالمجان، وعلى حساب العم أبو نايف (الذي لن يدفع له في كل الأحوال).
المستوى الثاني داخلي على صعيد القرية، حيث تستخدم شخصيات مثل أبو نايف وأبو نمر المال كأداة للهيمنة على الرأي العام المحلي والقرارات المحلية في القرية، إضافةً إلى تجنيد أكبر عدد من السكان لصالح كل منهما، فنجد أن "أبو نمر" وأبو نايف يلجآن في عدة مناسبات إلى إغداق المال على عبودي الكازية الذي يمتلك "دكانًا" فيه بضائع محلية ومهرّبة، والأهم من هذا أنه يمتلك ميكرفونًا (وكالة أنباء القرية بالمفاهيم الإعلامية) يعلن فيه الأخبار المهمة في القرية، ويوظفه في خدمة أجندات كل من الزعيمين بحسب المال المقدّم لأنه المكان الوحيد لإذاعة الأخبار والبيانات والقرارات، التي يرغب كل من الزعيمين في إيصالها إلى جمهور القرية، وبالتالي إحداث تغيير في الرأي العام المحلي لصالح من يدفع مالًا أكثر لعبودي.
وعكست حالة الانتخابات في القرية هذا النموذج من الرغبة في دفع المال للحصول على الأصوات والتأييد من جهة. ومن جهة أخرى، قام كل من الزعيمين بإغداق المال على المنصة الإعلامية الموحّدة للقرية لتأليب الرأي العام المحلي لصالح حملته الانتخابية، واستقطاب عائلات أخرى مثل عائلتي "بو بعجور" وبو طاقين".
أما المستوى الثالث، فخارجي يتجاوز القرية وتتداخل فيه إشارات إلى مسؤولين ومتنفذين داخل الدولة مثل "الرفيق أبو طارق" و"مدير الناحية" و"المحافظ"، الذين يستخدم الزعيمان الرشاوى للوصول إليهم بهدف عرض قضاياهم ومناقشتها، والوصول إلى "واسطة" تُحدث فرقًا في السياسة المحلية للقرية، بما يضمن اتخاذ قرارات تخدم مصالحهما الشخصية وتساعدهما في التحكم بموارد القرية.
يتضح هنا كيف يؤثر المال بشكل كبير في الحياة العامة والمناخ السياسي للقرية، وكيف يجعل أيضًا الشخصيات الثرية (أو التي تتظاهر بالثراء) صنّاع قرارات خفية خلف الكواليس، عدا عن تداخل المال مع السلطة بهدف توطيد العلاقات السياسية والاجتماعية على مستويات أعلى، أهمها العلاقة بين قرية "الخربة" وقرية "المصطبة" التي تعج بالمسؤولين و"الواصلين" إلى القيادة، وتستطيع أيضًا أن تتحكم بالمشهد العام في المحيط القريب من "الخربة"، متجاهلةً دور عائلتي "أبو قعقور" و"أبو مالحة" في ظل حالة التناحر الرمزية بين هاتين القريتين.
ويمكننا الذهاب في المستوى الثالث إلى العلاقة بين قريتي "الخربة" و"المصطبة"، التي تصل إلينا من الكاتب بشكل متقطع حسب حالة قرية "الخربة"، وحالة زعيميها أبو نمر وأبو نايف، على النحو التالي: كلما أحسّ الزعيمان بالضعف والهوان ونقص في المال والسلطة، يلجآن إلى المقارنة بين قريتهما و"المصطبة" التي تتمتع بنفوذ وسلطة واسعين في المنطقة بسبب قربها من الحكومة ووجود ضباط ومسؤولين كبار منها في الدولة، حيث يعتبران أنها تقف عائقًا أمام تطور الخربة وتنامي الدور الوظيفي لكل من العائلتين على مستوى المنطقة.
تمثّل حالة المقارنة هذه متنفسًا لكلٍ من الزعيمين العاجزين عن تقديم أي جديد لأهالي قريتهما. بل إنها تمتد لتصبح نافذةً لإلقاء اللوم والهروب من المسؤوليات وكذلك الفشل في إدارة الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالقرية، وتتمثل بهجرة الجيل الثاني والثالث من العائلتين إلى العاصمة والاطلاع على نماذج التطور فيها، وكذلك الهجرة إلى فنزويلا والأرجنتين على مستوى أعلى.
وما يزيد من تعقيد الأمور الفقر في الموارد، وعدم القدرة على الوصول إلى السلطات لطرح المشكلات وإيجاد حلول جوهرية تخرج الزعيمين من حالة العزلة التي يعيشانها، ولا يملكان للنجاة منها سوى المراهنة على ما تبقى من مبادئ الكرامة والشرف و"مسكة الشوارب"، والعشم بالجاه والنفوذ التقليدي للجيل الأول من العائلتين.
لكن هذه المبادئ لم تعد ذات نفع في نظر الجيلين الثاني والثالث، مثل جميل بو قعقور وابنته فلوديا، والدكتور عاطف ابن نفجة بو قعقور، والدكتور فوزي بو مالحة، الذين عايشوا المجتمعات الكبرى ومارسوا طقوس المجتمعات الرأسمالية، واطلعوا على المادية البحتة لمجتمع المدينة (العاصمة ومدن اللجوء). ولذلك، لم يعد أبناء هذين الجيلين يكترث لأي من هذه المبادئ في ظل النزعة العالمية نحو النجاة من شبح الرأسمالية، ولم تعفِ هذه المبادئ الزعيمين من الوقوع في حالة إنكار للتطور الاقتصادي البنيوي الحاصل، وعدم قدرتهما على الدخول في عباءة المجتمعات المادية الجديدة.
أزمة المدينة، والعودة إلى الخربة
تشهد المدينة في مسلسل "الخربة"، بشكل عام، أزمات اقتصادية متفاقمة، مثل التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة والبطالة وانعدام الفرص، نتيجة لتراكم العديد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العالمية، الأمر الذي دفع شخصيات الجيل الثاني من عائلتي بو قعقور وبو مالحة إلى البحث عن بدائل لتعويض الحياة المرفهة التي كانوا يعيشونها في المدينة، مثل شراء جميل بو قعقور بشراكة مع ملحم بو مالحة سيارة "تاكسي أجرة" والعمل عليها لكسب مدخول إضافي، لكن دون جدوى، ما دفعهما إلى العودة إلى القرية كملاذ ومهرب من شبح الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعالم بحسب الحقبة الزمنية المتخيلة للمسلسل.
واضطرت بعض شخصيات المسلسل إلى تبديل نمطها الاقتصادي للمواءمة مع التقلبات الاقتصادية العالمية، بعد تفاقم سيطرة القطاع الخاص على الصناعة والتعليم والصحة وغيرها، ما أثر على عمل هذه الشخصيات وفاقم من مخاوفهم المستقبلية.
ونتيجة لهذا الضغط على الشخصيات، كانت العودة إلى الأنماط الاقتصادية التقليدية ونموذج الإنتاج الآسيوي (أي نموذج الإنتاج الزراعي والحِرفي والاعتماد على الموارد المتاحة لتحقيق الاكتفاء الذاتي) نافذة لاستدامة العيش والتغلب على مصاعب أزمة الاقتصاد الحضري وانعدام الأمان الوظيفي.
كان قرار جميل بو قعقور وملحم بو مالحة بالعودة إلى "الخربة"، كحل للتغلب على ضغوط الحياة الحضرية المكلفة وغير المستدامة، مُبَرَّرًا نتيجة لتضخم الأسعار في المدينة التي أصبحت بيئة معيشية غير محتملة للطبقات الفقيرة والمتوسطة، وهؤلاء جاؤوا من القرية مع زوجاتهم ولم يؤسسوا لحياة مستدامة في المدينة، والمحصلة أنهم لم يصمدوا أمام تضاعف تكاليف السكن، الغذاء، والرعاية الصحية والتعليم وغيرها، واضطروا للعودة إلى القرية.
وكعادة تربية السلطة في إلقاء اللوم على جهات خارجية وأسباب افتراضية عند وقوع مشكلة أو أزمة ما، يلوم كل من جميل وملحم، وهما في طريقهما إلى الخربة، في مشهد مأساوي، الإمبريالية العالمية باعتبارها سبب تركهما للمدينة، حيث يقول جميل بو قعقور: "الإمبريالية لو طالع بإيدها تطفشنا عالصحرا كانت بتطفشنا، مش بس بترجعنا عالضيعة". ويرى كل من جميل وملحم أن هدف الإمبريالية هو قصقصة أجنحة البروليتاريا ومنعهم من النهوض بالاقتصاد العالمي، وأن تبقى هذه الطبقة مملوكة بكل ما فيها للنظم الاقتصادية الكبرى في العالم، وتبقى خدمًا وعبيدًا لرؤوس المال.
الإشكالية هنا أن القرية بدورها تعاني تبعات الأزمة الاقتصادية العالمية، لكن دون أن يدري أبو نايف وأبو نمر أن نقص المال بين يديهما هو نتيجة لأزمة اقتصادية أدت إلى انهيار العديد من المؤسسات والشركات الكبرى حول العالم، وأن الخربة برمزيتها قد تأثرت أيضًا.
وفوق هذا، فإن السلطة الأبوية للقرية، متمثلةً بشخصيتي أبو نايف وأبو نمر، تفرض هي ذاتها أسلوبها الاقتصادي الذي قد لا يتناسب مع قرار العودة إلى القرية لكل من جميل وملحم. كما أنهما لا يكترثان للأسباب الحقيقية التي دفعت الجيل الثاني للعودة من المدينة، بل يعتقدان أن السبب الأساسي هو العودة إلى حضن الخربة بعد الغياب والشوق إلى سلطتهما كزعيمين، بل الجناح الذي لا يمكن لأحد أن يزيح عن ظلّه.
الأسرة والمال
يعالج نص "الخربة" الجانب المظلم للعلاقات الأسرية القائمة على المصالح والنفعية من جهة، وعلى السلطة الاقتصادية من جهة أخرى. الاقتصاد والمال محركان أساسيان للعلاقات الأسرية بين أفراد العائلة الصغيرة ( Nuclear Family) والعائلة الكبيرة (Extended Family). وغالبًا ما تعتمد شخصيات العمل في كلا المستويين على الميراث (مجموعة عقارات وأراضٍ زراعية) لتسيير الأمور الحياتية، ثم على القروض والديون كوسيلتين حديثتين لتدبير أمور المعيشة، لا سيما أن شخصية التاجر "عبودي الكازية" تسهل للشخصيات الأخرى الاقتراض لترتيب شؤون الأسرة، بالإضافة إلى الاقتراض من الزعيم الأب لكل عائلة.
تقدم لنا شخصية "نفّجة بو قعقور" وزوجها "توفيق بو قعقور" وشخصية "عطرشان بو مالحة" وزوجها "جوهر بو مالحة"، نموذجين متشابهين حول كيفية إدارة الأسرة من قبل الزوجات اللاتي يقترضن المال من الزعيمين بغرض العيش مع زوجين لا يملكان عملًا سوى أن يكونا مستشارين خاصين للزعيمين أبو نمر وأبو نايف.
الضغط الاقتصادي على الأسرة، ونظرة كل من الزوجين (جوهر وتوفيق) إلى أن العمل في زراعة الأرض، ميراث الآباء، لم يعد يجدي؛ دفع كلًا منهما إلى أن يتّبعا نموذجين غير أخلاقيين في التعامل مع الأسرة وتجاهل الأمور الطبيعية للقيام بمهمة إدارة الأسرة من تأمين ملبس ومأكل ومشرب وتعليم وصحة وغيرها، وقد اتبعا نموذجين متشابهين إلى حدٍ ما.
النموذج الأول هو التملق إلى السلطة بهدف التقرب من القيادة العليا وتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية على المدى البعيد، وتحقيق قيمة اجتماعية متخيّلة عبر التصاق "جوهر" بقيادة شعبة "حزب البعث" المتمثلة بالرفيق أبو طارق والرغبة في الظهور الإعلامي في كل الاحتفالات و"التدشينات"، لعل وعسى أن يحصل على حظوة السلطة ويترقى من مجرد عضو نصير إلى عضو عامل، ويضطر أن يظهر التزامًا وأخلاقًا حزبية عالية للحصول على ترقية.
أما النموذج الثاني، فهو نموذج الزوج الخانع والمطيع لزوجته التي "تصرف على البيت" ويقدم لها فروض الطاعة حتى ترضى، ويجاهد للحصول على مدح منها تحت أي ظرف. يقدّم لنا "توفيق" شخصية عاطلة عن العمل، يستجدي رضى زوجته عبر الخضوع لطلباتها وطلبات أبيها الزعيم أبو نمر، حتى وإن كانت على حساب حياته الشخصية وتفضيلاته ومبادئه التي طالما يستذكرها سرًا بينه وبين نفسه، ويكتمها حين مجيء "نفجة" التي تمتلك صرّة المال و"مبرومة رأس الحية"، كقطعة ذهب تعوّل على ثمنها في حال اشتدت المسائل تعقيدًا.
ولا يمكن لأي من هاتين الشخصيتين، بوصفهما نموذجين للعلاقات الأسرية المصغرة، القيام بأي نوع من التمرد أو الاحتجاج على زوجتيهما نظرًا لتحملهما أعباءً كبيرة دون اكتراث من الزوجين للوضع الاقتصادي المتردي الذي تعيشه كل من الأسرتين في بيئة بسيطة، تلجأ شخصياتها إلى إجراءات نجاة لا تتلاءم مع وضعهم حتى.
أما على مستوى العائلة الكبيرة، فإن الصراعات تكبر بين أبناء الجيل الثاني بسبب تباين أساليب الإدارة وأساليب الحصول على المال، وبسبب تباين المبادئ الاقتصادية لكل منهم، على اعتبار أن جزءًا منهم سافر وتغرّب واطلع على ثقافات جديدة، وأساليب عيش مختلفة عن الموروث المحلي للخربة، وانخرط في الوظائف الحكومية والعمل الإداري والخدمي في المدن الكبيرة، بينما لا يزال الجزء الثاني يزال يرزح تحت سلطة الزعيم الأول دون أي تحديث للمبادئ الاقتصادية التقليدية القائمة على الاقتراض والسداد على آجال متباعدة ترتبط "بالموسم" الزراعي كقطاف الزيتون وبيع دبس العنب والمنتجات المحلية.
تؤدي القروض والديون في "الخربة" إلى تعقيدات اجتماعية عميقة، إذ تتحول العلاقات من كونها مبنية على الاحترام المتبادل إلى علاقات مبنية على المصلحة والمنفعة، بحيث يصبح المدين رهينة للدائن، مما يخلق نوعًا من التبعية التي تؤثر على العلاقات العائلية والاجتماعية داخل العائلة الكبيرة. وتدفع هذه المسؤولية الكبيرة الزعيمين إلى بيع ورهن العقارات بهدف تحصيل المال وتنفيذ طلبات الأبناء والأحفاد بغية الحفاظ على سمعة وشرف العائلة من الضياع أمام العائلة الأخرى. كما تضطر شخصية مثل أبو نمر إلى تكرار جملة عميقة حرفيتها "لو بدي بيع شنتاني (السروال)" في كل مرة يريد فيها أن يعبر عن التزامه العالي بتنفيذ وعوده لأفراد عائلته الكبيرة وتحقيق مصالحهم.
يتجلى هذا في المحاولات الدائمة لتصحيح المسار الاقتصادي لبعض شخصيات العمل، مثل شخصية "سمعان" عندما أراد أبو نمر تحسين وضعه، وطلب التعاضد بين جميع أبناء العائلة لترتيب أموره وتزويجه. وكذلك عندما أراد أبو نايف شراء قطعة أرض وأجبر الجميع على التعاون في هذا الأمر حتى لا يخسر سمعته بين أبناء القرية.
يساهم هذا الوضع في خلق توترات وصراعات بين أبناء العائلة، ويدفع "أبو نمر" إلى التورط في صراعات مالية غير محسوبة العواقب، لكن يجب على الشخصيات التعامل مع تداعيات هذه الترتيبات المالية في حياتهم اليومية، ولا مفرّ من التعامل مع الزعيم الأول والواحد على هذا الأساس.
الاقتصاد الموازي والأسواق غير الرسمية
يسلط المسلسل الضوء أيضًا على مفهوم الاقتصاد الموازي أو الأسواق غير الرسمية التي تنشأ في المجتمعات الريفية. ففي "الخربة"، تنتشر الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية مثل تجارة المواد المهربة أو السوق السوداء، والتي تُعد جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية في القرية.
تُستخدم هذه الأنشطة كوسيلة للتحايل على القوانين الصارمة أو لتعويض نقص الموارد، ما يؤدي إلى نوع من الاقتصاد الموازي الذي يخلق تحديات اجتماعية وأخلاقية جديدة. يتمثل هذا بدور عبودي الكازية ومجموعة المهربين الذين يأخذ منهم بضاعة مهربة، ويبيعها بسعر أعلى من المنتج الوطني المحلي، بالإضافة إلى جعل دكانه الصغير سوقًا كبيرة تحتوي كل ما يحتاجه أهل الخربة بأسعار مختلفة عن السوق العادية، كما الحال في بيع البنزين والكاز والديزل (المازوت).