تعقيدات القضية الفلسطينية طويلة الأمد، والتوترات السياسية والمخاوف الإنسانية والحقوقية تجاه الشعب الفلسطيني؛ دفعت، مجتمعةً، الفنانين المناصرين للقضايا العادلة حول العالم إلى إصدار أناشيد وأغانٍ داعمة لفلسطين وقضيتها العادلة والتحررية. استخدم الفنانون من أنحاء عدة حول العالم منصاتهم، الإبداعية للتعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني سواء بالرسم أو النحت أو التمثيل.. إلخ، باعتبارها لغة عالمية وثورية لعبت دورًا مهمًا في رفع مستوى الوعي بالقضية حول العالم ومناصرتها، لا سيما عند الشعوب التي مرت بتجارب استعمارية واستيطانية مشابهة كما في جنوب إفريقيا، التي عانى شعبها من الفصل العنصري "Apartheid" لمدة 66 عامًا، إذ أزيل عام 1994.
غالبًا ما تحتوي هذه الأغاني على كلمات قوية تحكي قصصًا مقنعة وواقعية بحتة من حياة الفلسطينيين، وتسلط الضوء على قضايا مثل الفصل العنصري، والتمييز، وانتهاكات حقوق الإنسان، والإبادة، وقتل المدينة، واغتيال النفس البشرية. ويشجع الغناء العالمي حول القضية الفلسطينية المستمعين على تصور عالم يسوده السلام والوحدة ينتهي فيه الظلم الواقع على الفلسطينيين منذ أكثر من 75 عامًا.
الدراسات الثقافية والقضايا العادلة
تتعمق الدراسات الثقافية المرتبطة بالموسيقى والأغاني الثورية والفنون التقليدية، في دراسة التفاعل المعقد بين المجتمع والهوية وهياكل السلطة وعلاقات المستعمِر بالمستعمَر، وسبل المقاومة في هذا السياق.
ويأتي هذا الاهتمام بالأغاني والموسيقى بعدّها نتائج ثقافية للرد على احتكار الإعلام والوسائل الثقافية من قبل المستعمرِين كسلطة أقوى، بعد أن تم تحييد الأفكار الطبيعية للمقاومة وفرض أدوات تهميشية لثقافة المستعمَر والإمعان باستخدام أدوات للفصل العنصري. ومن هنا، فقد جاءت الأغاني الثورية كمنتديات للمعارضة وخلق حالة الوعي المضاد والمناهض لسرديات الاحتلال والاستعمار بكل كياناته وأدواته، ولتجسيد الوثيقة التاريخية للفعل المقاوم وحفظها شاهدًا على وجود الوحش الذي ينهش بطن المدينة.
وبدراسة تأثير الموسيقى في هذا السياق، فإن الأغاني المتعلقة بالفصل العنصري والتمييز والحروب، هي بمثابة تعبيرات مؤثرة عن المقاومة والدعوات إلى العدالة الاجتماعية وفضّ قيد الاستعمار. هكذا نجد أن أشهر الألحان المؤلمة لفنانين ثوريين حول العالم كانت من جنوب إفريقيا من أمثال ميريام ماكيبا وهيو ماسيكيلا خلال حقبة الفصل العنصري، وصولًا إلى أعمال خالدة وصلت العالمية مثل "الحرب" لبوب مارلي، أو "الحديث عن الثورة" لتريسي تشابمان.
تتجاوز هذه الأغاني الحدود، وتصبح أناشيد للمجتمعات المهمشة في جميع أنحاء العالم، وتتحول الروايات الغنائية والألحان المثيرة للذكريات إلى أدواتٍ للتعبير عن النضال ضد القمع المنهجي والتمييز العنصري.
وبعيدًا عن مجرد الترفيه، أصبحت هذه الأغاني بمثابة قطع أثرية ثقافية توثق المناخ الاجتماعي والسياسي في عصرها، وتساهم في الوعي العالمي الجماعي. وبالتالي، توفر الدراسات الثقافية عدسة يمكننا من خلالها تحليل وتفسير وتقدير التأثير العميق للموسيقى في تشكيل التصورات، وتعزيز التضامن، وإلهام التغيير في مواجهة المظالم التاريخية.
الفن العالمي والقضية الفلسطينية
لا تزال القضية الفلسطينية، ومنذ زمن طويل، محور اهتمام دولي على مستويات عديدة، من السياسي إلى الدبلوماسي إلى الثقافي والفني. وقد استحوذت جذورها وتعقيداتها على قلوب وعقول النشطاء والفنانين في جميع أنحاء العالم. ومن النشاط الشعبي إلى الجهود الدبلوماسية، اكتسبت هذه القضية وعيًا دوليًا كبيرًا حول ماهيتها وحقوق أصحاب الأرض، وابتكر الفنانون حول العالم ألحانًا تضامنية وكلمات داعمة ومناصرة لتطلعات الشعب الفلسطيني بالعيش على أرضه السليبة ورفض العنف، والفصل العنصري، والمعاملة بالحرمان، والحصار.
وبعد نشوء دولة إسرائيل عام 1948، وممارسة التهجير والفصل العنصري، وارتفاع تيارات العنصرية والدعوات إلى الإبادة الجماعية؛ زاد الوعي العالمي حول حقوق الفلسطينيين.
وكان من أهم جوانب الوعي الدولي هي حركات التضامن والمقاطعة، وأهمها حركة المقاطعة "BDS" التي ظهرت عالميًا دعمًا للقضية الفلسطينية، وأفرزت اصطفاف منظمات المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان والناشطين الشعبيين خلف الفلسطينيين، فأدانوا انتهاكات حقوقهم، ودعوا إلى العدالة والمساواة. وكان من البارز أيضًا التحول اللافت للمغنين العالميين تجاه القضية الفلسطينية ودعمها، وإصدار ألبومات وأغانٍ مفردة تخص فلسطين وقضيتها، على مرأى ومسمع الداعمين للاحتلال والقوى الاستعمارية.
ألهمت القضية الفلسطينية فنانين سوفيتيين وأوروبيين وأفارقة ليغنوا لفلسطين ولحريتها، لتبقى أغانيهم حاضرة في جميع المسيرات والوقفات الاحتجاجية والمظاهرات المنددة بوجود نظام فاشي تمعن آلته الحربية بقتل الشعب الفلسطيني الأعزل. فمن إيطاليا، أطلق الفنان أمبيرتو فيوري أغنية "Della Rossa Palestina" التي صُنفت كأشهر أغنية شيوعية مساندة للقضية الفلسطينية منذ سبعينيات القرن الماضي، وثيمتها الرئيسية الدعوة لوحدة فلسطين وتمجيد قوة الفدائيين والفدائيات، والتغني بقدرتهم على الوقوف أمام الاستعمار الجامح، مع ربط قضية فلسطين بقضية فيتنام التي انتصر فيها الفيتناميون على الأميركان بنصر ساحق ومذل للماكينة الأميركية.
وفي عام 1976، أطلقت فرقة "Kofia" في السويد، التي أسسها الفلسطيني جورج توتري، أغنية "ELD Palestina Mitt Land" التي تندرج ضمن إطار أغاني المقاومة الخالدة، والتي سلطت الضوء على ممارسات التهجير والحصار والتجويع المفروضة على الشعب الفلسطيني، مع الدعوة للخلاص من الاحتلال والإمبريالية والممارسات الرجعية التي تضعف القدرة على التحرير، والحديث عن المذابح التي نفذتها العصابات الصهيونية، مثل "الهاغانا" و"شتيرن"، ضد أبناء فلسطين.
يقول جورج توتري لموقع "TRT World" إنه أسس هذه الفرقة ليعرّف الناس بعالم فلسطين وقضيتها المسالمة، وينشر مظلوميتها في المهجر بمساعدة أبناء الشتات الفلسطيني. وقد بدأ توتري العمل على الفرقة في سبعينيات القرن الماضي، وانضم إليها عدد من الشباب الغربيين الذين آمنوا بقضية فلسطين التحررية رغم القيود التي فرضتها السويد عليهم.
وبحسب توتري، فإنه كانت هناك العديد من الفرق والموسيقيين الفلسطينيين في جميع أنحاء العالم، وأن الغالبية العظمى منهم كانوا يغنون مباشرة للشعب الفلسطيني وقضيته، لكن نهج "كوفيا" الفريد في استخدام الموسيقى السويدية كأداة لتثقيف الشعب السويدي، ونقل رسالة المقاومة الفلسطينية إلى الأوروبيين بلغة خاصة بهم، جعلهم بارزين بالأغاني والكلمات الملهمة واللحن الحماسي.
وبعد أعوام قليلة، أصدرت فرقة "Kofia" أغنية "Leve Palestina" التي تعمقت في تحدي الأيديولوجيا الصهيونية الإسرائيلية، وتمجيد خصوبة الأراضي الفلسطينية وقدرتها على الحياة الطويلة ومقارعة الاحتلال، والتغني بصمود اللاجئين، وتأييد الكفاح المسلح.
وبعد أن ظلت هذه الأغنية محظورة لما لا يقل عن 40 عامًا بتهمة معاداة السامية، أُعيد إحياؤها بقوة بعد حرب إسرائيل على غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، عبر منصات التواصل الاجتماعي، بالتنسيق مع "رقصة الحرية" الملحمية للهنود الحمر التي تجسد رفض السكان الأصليين للإبادة، وتعبّر عن قوتهم وتمسكهم بحقهم بالعيش ومقاومة الاضطهاد، وذلك في رسالة مفادها أن المقاومة أبدية وخالدة، والأغاني الحماسية الداعمة لها ملهمة للشباب العربي الأوروبي للنزول إلى الشارع والتنديد بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عمومًا، والحرب على غزة خصوصًا. شكّلت "Leve Palestina" شرارة فنية ألهبت مواقع التواصل الاجتماعي، واستخدمها صناع المحتوى لبناء ذاكرة جمعية بعد 7 أكتوبر 2023، بفيديوهات قصيرة وتنسيقات فنية ملهمة.
وفي عام 1995، أصدر الفنان الجامايكي بنجامين زفانيا أغنية "Palestine" التي تطلع بها إلى حرية الأرض والإنسان، وعبّر من خلالها عن رغبته بأن تتحرر فلسطين كما تحررت جنوب إفريقيا وتيمور الشرقية. يتغنى زفانيا بشجرة الزيتون الفلسطينية، وبالمحاربين الفلسطينيين القدماء على أسوار مدينة القدس. كما يؤمن، كما يعبّر في أغنيته، بأن الحرية قادمة للشعب الفلسطيني المناضل، وأن الحقيقة التي لا يمكن للاحتلال أن يطمسها أن الحرية قادمة لفلسطين مهما طال الزمن، وأن أبناء البلاد التي تحررت من الاستعمار يعرفون كيف تؤخذ الحقوق.
وعن حقوق الإنسان في غزة وفلسطين عمومًا، أصدر المغني مايكل هارت أغنية حملت عنوان "We Will Not Go Down" بعد أن شنت إسرائيل، بين عامي 2008 و2009، حربًا على قطاع غزة تحت اسم "عملية الرصاص المصبوب"، وردت عليها المقاومة الفلسطينية في القطاع بعملية سمتها "معركة الفرقان"، بغرض إنهاء حكم حركة "حماس" في قطاع غزة، وتدمير القدرة الصاروخية للمقاومة، والوصول إلى المكان الذي تخبئ فيه المقاومة الأسير جلعاد شاليط.
يغني مايكل هارت لغزة ولحقها بالعيش بسلام بعد أن دمرت ماكينة الحرب الإسرائيلية منازل الغزيّين ومدارسهم وأحالت البنية التحتية رمادًا، وجعلتها مكانًا غير قابل للعيش بسبب القصف العشوائي لحاراتها وشوارعها. وتتضمن كلمات الأغنية دفعة معنوية كبيرة للفلسطينيين مفادها أنهم لن يتنازلوا عن أرضهم، وأنهم باقون فيها رغم الحصار والقتل والتشريد.
وللمدينة والشوارع والحارات ومساكن الأهل والأطفال في فلسطين المحتلة نصيب في أناشيد الألباني آدم رمضاني. وقد عبّرت أغنيته "Palestine" التي أصدرها عام 2007، عن الحزن والتوق لحرية المدينة والقرية في فلسطين. أنشد رمضاني لأحلام الأطفال ومستقبل الفلسطيني الذي تغتاله آلة الوحشية الإسرائيلية كل يوم منذ 76 عامًا. كما غنى لعقود من الدمار والكوابيس في كل ليلة، والأحلام المبعثرة والآمال التي ينسفها الفصل العنصري المتمثل بالاحتلال الإسرائيلي، إضافةً إلى الجرحى والأسرى الذين لا ينامون بكاء وحرقة.
مبادرة "موسيقيون من أجل فلسطين"
وفي سياق الدعم الفني العالمي لفلسطين، أُطلقت حملة "موسيقيون من أجل فلسطين" التي وقع عليها حوالي 6000 فنان وموسيقي حول العالم يرفضون التعاطي مع أي نشاط فني في إسرائيل. وبحسب الوثيقة التي أصدرتها الحملة، فإن الموقعين أكدوا أنه لا يمكنهم الصمت بعد 75 عامًا من الاحتلال العسكري الإسرائيلي ونظام الفصل العنصري ضد الفلسطينيين، كما وصفته منظمات حقوق الإنسان الدولية والفلسطينية والإسرائيلية الرائدة، وأنهم يقفون بحزم ضد جميع أشكال العنصرية، بما في ذلك معاداة السود ومعاداة السامية وكراهية الإسلام والعنصرية المعادية للعرب والمعادية للفلسطينيين.
ومن بين الموقّعين على الوثيقة مجموعة من المغنيين العالميين، أبرزهم روجر ووترز، وباتي سميث، وكاتيرينا باربيري، والمغنية الأميركية كيلاني "Kehlani"، التي شاركت في تظاهرات شهدتها ولاية لوس أنجلوس دعمًا لغزة، وعبّرت عن دعمها بصورة كُتب فيها "أنا أقف مع فلسطين".