غزة تحت الإدارة المصرية

تسعة عشر عامًا من الزمن.. غزة تحت الإدارة المصرية

7 نوفمبر 2024

إذا جلستَ مطولًا مع مُسنٍ مصري وعى حقبة ما قبل النكسة وقلّب معك في جراب ذكرياته، فلا بد أنه سيأتي على ذكر قطار غزة الذي كان يأتي إلى القاهرة مُحملًا بأنواع البضائع، وستزداد احتمالات تذكره إذا كان من أهل المحافظات التي سلَكتها سكة القطار مثل الشرقية ومحافظات القناة وسيناء، أو كان سكنها حينًا من الدهر للعمل أو التجنيد.

الأمر نفسه لو قابلتَ مسنًا فلسطينيًا من أهل غزة. لربما حكى لك كم سافر بالقطار إلى القاهرة والإسكندرية للدراسة أو التجارة، قبل أن تقطع نكسة 1967 هذا الشريان بين مصر وغزة، ولا يبقى للمُسنّ الغزاوي إلا أن يمر على أطلاله الحديدية الغائرة في شارع السكة، الذي يحمل اسمه آخر ذكريات غزة من قطار الوصل القديم.

ليست ذكريات القطار فحسب، بل هي ذكريات اتصال حيوي وثيق بين مصر وفلسطين قبل انتزاع الصهيونية لها، مثّلت فيه فلسطين حلقة اتصال مصر ببلاد الشام، واتصالًا وثيقًا بين مصر وغزة على وجه الخصوص في آخر حِقب ذلك الزمان؛ حقبة الإدارة المصرية لقطاع غزة بين نكبة 1948 ونكسة 1967.

في أيار/مايو 1948 وقعت حرب فلسطين، ودخل الجيش المصري إليها في منتصف الشهر: "لإعادة الأمن والنظام فيها ولإيقاف المذابح التي تقترفها العصابات الإرهابية الصهيونية ضد العرب وضد الإنسانية" (وفق بيان مجلس الوزراء المصري الصادر ليلة 14 - 15 أيار/مايو)، وقد استقبله أهل غزة بحماس، واحتفلوا بعد عدة أيام برفع العلم المصري على سارية مبنى الحكومة.

حملت الحرب أوزارها، وخاضت الجيوش العربية معاركها على مختلف الجبهات محققةً الانتصارات، قبل أن تنعكس الأمور وتتوالى الانكسارات، إلى أن حوصر لواء مصري في الفالوجا في تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، كان من بين ضباطه الرئيس - فيما بعد - جمال عبد الناصر.

عينت القيادة المصرية اللواء أحمد فؤاد صادق قائدًا عامًا لتدارك الموقف وإمداد المحاصرين، فوصل إلى غزة في الحادي عشر من تشرين الثاني/نوفمبر. وبينما تعددت محاولات إمداد الفالوجا، شنت العصابات الصهيونية هجمات عنيفة على مواقع أخرى للجيش المصري استولت خلالها على أسدود والمجدل وبيت حانون، وكان من أعنف تلك الهجمات هجومهم على التبة 86 شرق دير البلح لإرغام الجيش المصري على الانسحاب من غزة نهائيًا.

وإمعانًا في الخداع، تسللت القوات الصهيونية إلى العريش لإرغام القوات المصرية على الانسحاب من غزة، وهو ما وقعت فيه القيادة في القاهرة فأصدرت تعليماتها بالانسحاب، لكن اللواء صادق فطن للخديعة ورفض الانسحاب وأمر قواته بالهجوم والاستبسال حتى أجبروا الصهاينة على الانسحاب وقتلوا قائدهم، وكان لبسالة القوات المصرية في معركة التبة 86 الفضل في الحفاظ على عروبة غزة ومنع سقوطها في يد العدو كسائر المدن والبلدات الفلسطينية التي اغتُصبت عام 1948. وقد كرم الملك فاروق اللواء صادق بعد عودته إلى مصر ومنحه رتبة الباشوية تقديرًا لبسالته وحسن إدارته للمعركة، التي أنتجت وجود: "الأراضي الفلسطينية الخاضعة لرقابة القوات المسلحة المصرية"، التي ستُعرف فيما بعد بـ"قطاع غزة".

كان لتوقف القتال على الجبهات العربية الأخرى، والضغوط التي تعرض لها الجيش المصري، أثرها في إصدار الحكومة المصرية، في 7 كانون الثاني/يناير 1949، قرارًا بقبول الهدنة، تبعته "محادثات رودس" التي أخرجت اتفاقية الهدنة وكان من بنودها: "أن تبقى غزة والشقة الساحلية الممتدة حتى حدود مصر بيد المصريين"، وحُددت حُدود هذه المنطقة بعبارة: "يحتفظ المصريون بالسيطرة على الممر الساحلي الممتد من قرية رفح على الحدود المصرية الفلسطينية إلى نقطة تبعد ثمانية أميال إلى الشمال من غزة"، وحُددت إحداثيات المنطقة على خرائط فلسطين.

تولى مدير عام سلاح الحدود المصري إدارة: "الأراضي الفلسطينية الخاضعة لرقابة القوات المسلحة المصرية"، وكان ينوب عنه نائبًا يقيم في غزة، وظل الوضع على هذا الحال حتى أصدر الرئيس محمد نجيب، في كانون الثاني/يناير 1954، قرارًا بتعيين الأميرالاي عبد الله رفعت حاكمًا إداريًا عامًا لـ"قطاع غزة"، ليَثبت المصطلح على هذه البقعة الجغرافية من فلسطين إلى اليوم. 

 

الظروف الاقتصادية الصعبة ومشاريع التوطين

عانى قطاع غزة ظروفًا اقتصادية صعبة في السنوات الأولى بعد النكبة، كان السبب الرئيسي لها تحمله ضِعفَيْ عدد سكانه من اللاجئين. ففي عام 1953، بلغ مجموع سكان القطاع 306.272 نسمة، منهم 209.194 من اللاجئين الذين فروا إليه من المدن والقرى الفلسطينية التي سقطت في النكبة، في مقابل 97.078 نسمة فقط هم سكان القطاع الأصليون. وبذلك، بلغت نسبة اللاجئين إلى السكان الأصليين نحو 200%، في حين أن نسبتهم في الضفة الغربية لم تتجاوز 28%.

بدأت قضية اللاجئين تشغل الهيئات الدولية لكن من الناحية الاقتصادية فقط. وفي الثامن من كانون الأول/ديسمبر 1949، أصدرت الأمم المتحدة قرارها رقم 302 بإنشاء وكالتها لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التي عُرفت باسم "الأونروا"، والتي بدأت عملها اعتبارًا من أول أيار/مايو 1950، وبدأت تُعد برامجها للإغاثة والتعليم والإسكان.

مخيم للاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة
مخيم للاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة (Getty/ ميغازين)

ولما كان من مهام الوكالة إسكان اللاجئين، فقد برزَت ورقة التوطين خارج قطاع غزة ضمن أفكارها ومقترحاتها، ومنها مشروع لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في ليبيا قوبل برفض شديد من أهل غزة. ولأن السنوات الأولى من عمر قطاع غزة كانت تمثل السنوات الأخيرة من عمر النظام الملكي في مصر، بما حفلت به من اضطراب على مستوى العلاقة مع المحتل البريطاني وعودة المطالبات بجلائه عن قناة السويس والتفاوض مع بريطانيا بشأنه، ثم إلغاء معاهدة 1936 واشتعال العمل الفدائي ضد الإنجليز في القناة؛ فقد انعكست هذه الاضطرابات على السياسة تجاه غزة، وحاول المفاوض الوفدي اللعب بورقة غزة عارضًا حلًا يقضي بانسحاب القوات البريطانية من القناة إلى غزة.

وتزامن الأمر مع حملة قام بها بعض برجوازية غزة، وعلى رأسهم رشاد الشوا رئيس بلديتها، من أجل فتح باب الاتصال بالإنجليز والأميركان متصورين أن في هذا الاتصال حل مشكلات القطاع الاقتصادية الخانقة، ما أثار ردود أفعال غاضبة وصارمة من أهالي غزة ضد أي فكرة لعودة القوات البريطانية، وآلت الفكرة إلى الفشل، وتبرأت منها الحكومة الوفدية، فأرسل وزير الخارجية المصري خطابًا إلى الحاج أمين الحسيني يقول فيه: "إن مصر حريصة على عروبة فلسطين". أما الحاكم العام، فوزع بيانًا ينص على أن: "مصر لن تضم هذا القطاع ولن تتركه، بل ستبقيه وديعةً في يدها".

مثلت ثورة تموز/يوليو 1952 انفراجة نفسية لأهل غزة، باعتبار أنها قامت كرد فعل على هزيمة النكبة وضياع فلسطين. لكن السنوات الأولى من عمر الثورة لم تحمل جديدًا ذا بال بشأن فلسطين، بسبب انشغال قادتها بمشكلة الاحتلال البريطاني للقناة حتى وصولهم إلى اتفاقية الجلاء عام 1954، فضلًا عن خلافاتهم الداخلية التي استمرت تعصف بمجلس قيادة الثورة حتى عزل محمد نجيب في نهاية 1954. ونتيجة لذلك، لم يتخذ قادة الثورة حتى عام 1955 مواقف صدامية مع المحتل الصهيوني أو مواقف حاسمة بشأن غزة ومشكلاتها، فاستمرت هذه المشكلات في التمدد، وتركت الباب مفتوحًا لمشاريع التوطين التي تطرحها الوكالة وتدعمها القوى الغربية.

وكان من أخطرها مشروع التوطين في شمال غرب سيناء، الذي أبقته الإدارة المصرية قيد الدراسة في بداياته لانشغالها بقضايا مصر الداخلية، ما أثار غضبًا مكتومًا لدى اللاجئين في غزة. ومع عزل نجيب، بدأ عبد الناصر يُصعّد سياساته ضد الغرب وضد سياسة الأحلاف مع الغرب التي قادتها بعض الدول العربية. وحين فشلت الضغوط الغربية في كسر الموقف المصري، دخلت إسرائيل على الخط وشنّت غارة على غزة في شباط/فبراير 1955 - في رسالة سياسية واضحة لمصر- نتج عنها غضب شعبي أدى إلى انفجار التظاهرات في أرجاء القطاع وارتفاع الدعوات برفض مشروع التوطين، وهو ما سارعت إلى تلبيته الإدارة المصرية في العاشر من آذار/مارس، حيث أعلنت رفض مشروع التوطين وتعزيز الحراسة على الحدود وتشكيل جيش تحرير فلسطيني، ما طوى مشاريع التوطين إلى غير رجعة، وفتح الباب للعمل الفدائي ضد الاحتلال.

سنوات العمل الفدائي

كان لغارة شباط/فبراير 1955 أثرها في دفع الموقف المصري نحو المواجهة، وفي إثارة الرأي العام المصري، خاصةً أن معظم شهدائها كانوا من الجنود المصريين المرابطين في غزة، كما أدت إلى رفع درجة التوتر على الحدود، وازدياد وتيرة عمليات التسلل وإطلاق النار الفردية من القطاع. كما أنّ الأسابيع التي سبقتها وزامنتها شهدت توترات أخرى مثل احتجاز مصر للسفينة الإسرائيلية (بيت غاليم) التي حاولت عبور قناة السويس، واحتجاز طاقمها وتوجيه عدة تهم إليه، إضافةً إلى كشف خلية تجسس يهودية في مصر أُعدم معظم أفرادها. وقد أدت هذه التوترات إلى نشاط أممي قاده كبير مراقبي الهدنة، الجنرال بيرنز، لتهدئة الأوضاع على الحدود. 

وفي نهاية أيار/مايو 1955، دخلت المواجهة مرحلة أخرى حين أطلق جنود مصريون النار على سيارة جيب إسرائيلية، وردّ الإسرائيليون النار، ما نتج عنه استشهاد جندي مصري وجرح أربعة، ومقتل جندي ومدني إسرائيليَّيْن وجرح اثني عشر منهم ثمانية جنود، عدا عن قصف كيبوتسات عين هاشلوشاه وكيسوفيم وبزيم.

ثارت ثائرة الكيان مهددًا ومتوعدًا، وسافر الجنرال بيرنز إلى القاهرة مرة أخرى لترميم الهدنة، وخاضت مصر سياسة المناورة والمساومة بما يعصمها من الوقوع في ورطة المطالب الإسرائيلية والأممية بالمفاوضات المباشرة، ويجنبها المواجهة المباشرة قبل جلاء القوات البريطانية عن قناة السويس، خوفًا من أن تفتح المواجهة الصريحة بابًا خلفيًا للبريطانيين إلى غزة أو إلى القناة ونكث اتفاق الجلاء.

واستقر القرار المصري على دعم العمليات الفدائية المنظمة، ليبدأ العمل الفعلي في 25 آب/أغسطس 1955، وقد كُلف ضابط المخابرات المصري المقدم مصطفى حافظ بتنظيم صفوف الفدائيين. وفي حدود الإمكانات المتاحة والسياسات المرسومة له، فقد أدى مهمته على أكمل وجه، وقُدر عدد الفدائيين الذين كانوا يعملون تحت يديه بنحو ألف فدائي، كما فُتح باب التطوع للفلسطينيين، ومثل هذا الأمر تلبية لرغبات الفلسطينيين الذين طالبوا بعد غارة شباط/فبراير بإنشاء جيش تحرير فلسطيني، كما كان للمتطوعين دورهم في حرب 1956، وبعد ذلك عند إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية.

بلغ نشاط العمل الفدائي ذروته بين أيلول/سبتمبر 1955 والعدوان الثلاثي في نهاية تشرين الأول/أكتوبر 1956، وتمثلت هذه الذروة في ثلاث موجات كبيرة من العمليات الفدائية في أيلول/سبتمبر 1955، ونيسان/أبريل 1956، وتشرين الثاني/نوفمبر 1956. واتجهت ضربات الفدائيين نحو أهداف مؤثرة، فهاجموا المستوطنات والثكنات وسيارات النقل العسكرية، ونسفوا محطات اللاسلكي والكهرباء والمياه، وبلغ عمق عملياتهم أربعين ميلًا داخل الأرض المحتلة.

ولم تخلُ تلك الحوادث من ردود صهيونية عنيفة، فشن الكيان غارة بالمدفعية على خانيونس في نهاية أيلول/سبتمبر 1955، وأخرى على مدينة غزة في نيسان/أبريل 1956، نتج عنهما استشهاد عدد كبير من المدنيين. كما لجأ الصهاينة إلى سلاح الشائعات والاغتيالات الفردية، حتى نجحوا في اغتيال المقدم مصطفى حافظ في تموز/يوليو بواسطة طرد متفجر أُرسِل إليه. وباستشهاد حافظ، فقدت مجموعات الفدائيين قيادتها الماهرة والمؤثرة، كما لعب سلاح الشائعات دوره في هز الثقة بينهم وبين القيادة اللاحقة، ما أفقد العمليات كفاءتها الأولى. لكن، بالجملة، مثل نشاط الفدائيين خلال هذين العامين أول مبادرة عربية لخوض المواجهة المنظمة ضد الكيان الصهيوني منذ حرب 1948.

العدوان الثلاثي.. الصهيونية والاستعمار ضد مصر وفلسطين

بسبب مركزية الدور المصري في دعم فدائيي غزة، ومركزية دور غزة في العمل الفدائي العربي بعد النكبة، وجد الكيان الصهيوني فرصة سانحة حين شنت بريطانيا وفرنسا عدوانهما على مصر أواخر عام 1956، فانضم إليهما واحتل غزة وأبعد الجيش المصري عنها ليتخلص من إزعاج فدائييها، كما تقدم خطوات إلى الأمام فدخل سيناء واحتل مدينة رفح في أول تشرين الثاني/نوفمبر 1956، وباتت القوات المصرية في قطاع غزة محاصرة مقطعة الأوصال.

وهنا بدأت القوات الصهيونية هجومها على مدينة غزة في اليوم التالي. وبعد مقاومة لنحو تسع ساعات، أصدر الحاكم الإداري العام أمرًا لقواته بالاستسلام. أما خانيونس، فقد خاضت مقاومة شرسة ضد قوات الاحتلال أجبرت العدو على الاستعانة بالطيران الذي أخذ يفتك بالعسكريين والمدنيين على حد سواء. وفي مساء السادس من الشهر نفسه، انتهى القتال وسيطرت قوات الاحتلال على قطاع غزة وأعلنت حظر التجول، كما قامت بعمليات نهب وسرقة وقتل للمدنيين لإجبارهم على مغادرة المدينة.

وفي العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر، ارتكب الجيش الإسرائيلي مجزرة شنيعة في مدينة غزة، حيث أصدر أوامره للناس عبر مكبرات الصوت بالاجتماع في ساحات معينة، واقتادوا منهم تحت إرهاب الرصاص نحو 1800 شاب معصوبي الأعين إلى جهة غير معلومة، وظل مصيرهم مجهولًا حتى بدأ يتكشف في الرابع والعشرين من آذار/مارس من العام التالي بعد جلاء الاحتلال، إذ هطلت أمطار غزيرة جرفت التراب عند الكيلو 96 من الطريق العام، ما كشف عن مقبرة جماعية وُجِدت فيها 36 جثة أمكن التعرف على أصحابها.

وبعدها بيومين، ارتكب جيش الاحتلال مجزرة في رفح راح ضحيتها نحو 200 شاب، كما ارتكب مجازر أخرى ضد اللاجئين في الشاطئ وجباليا والمغازي والنصيرات والبريج.

بعد الاحتلال، تكونت في غزة جبهة وطنية أطلق عليها "جبهة مقاومة الاستعمار والصهيونية في غزة"، وانضم إليها الوطنيون من مختلف الأطياف، كما رفض أهل غزة التعامل مع الإدارات التي أنشأها الاحتلال لتسيير شؤون غزة، والتفّوا حول الموظفين المدنيين المصريين الذين فرضت عليهم قوات المحتل حراسة مشددة، ولم يبالِ الناس بأوامر تسليم السلاح، ودبروا التظاهرات، ومنها تظاهرة نسائية كبيرة انطلقت من مخيم الشاطئ إلى سراي الحكومة.

وبسبب صلابة المقاومة وصلابة الموقف المصري، انتهت الحرب بإصدار الأمم المتحدة أمرًا في 19 كانون الثاني/يناير 1957 يطلب من إسرائيل سحب قواتها من سيناء وغزة إلى ما وراء خط الهدنة. وفي السادس من آذار/مارس، انسحبت القوات الإسرائيلية لتدخل مكانها قوات الطوارئ، وانطلقت مظاهرات حاشدة في القطاع تحتفل بخروج المحتل وتطالب بعودة المصريين وتحيي صمود الرئيس عبد الناصر في وجه قوى الاستعمار. وبالفعل، عادت الإدارة المصرية ووصل الحاكم الإداري الجديد اللواء محمد حسن عبد اللطيف مساء 14 آذار/مارس، حيث استقبلته جموع حاشدة من الجماهير تحتفل بخروج المحتل وتؤكد عروبة فلسطين.

 

غزة في مرحلة المد القومي

جاءت حرب 1956 لتثبت للجماهير أن تحرير فلسطين ليس بالأمر السهل، وأنه بحاجة إلى إعداد قوي وطويل وحشد كبير. وقد أدى تولّد هذه القناعة إلى تخفيف الضغط الجماهيري على الإدارة المصرية التي كانت الأحلام الرومانسية قبل العدوان الثلاثي تلقي عليها طموحات التحرير الفوري لفلسطين، ما سبب كثيرًا من التوترات بينها وبين الأطياف الفلسطينية في غزة.

كما أن الانتصار السياسي الذي خرجت به مصر من حرب 1956 حسم الزعامة لعبد الناصر، وجعل جماهيريته في القطاع محل إجماع، بعد أن قاد معركة فعلية ضد الاستعمار والصهيونية، ما قضى على جماهيرية الزعامات القديمة كالحاج أمين الحسيني، وعلى الزعامات العشائرية وبقايا الهيئات التي حاولت تمثيل القضية الفلسطينية قبل النكبة.

أدى انتصار عبد الناصر إلى صعود التيار القومي في العالم العربي كله، واتخذ عبد الناصر شعار (الوحدة العربية طريق تحرير فلسطين) فاطمئن الفلسطينيون أن قضيتهم في القلب من سياسات ناصر القومية، وخفَتَ في غزة صوت القضية الوطنية باعتبار أن القومية العربية وقائدها يحملان هم القضية ويضعانها في صدارة الأولويات.

بلغ صعود التيار القومي مداه مع قيام الوحدة بين مصر وسورية عام 1958 لتُهدي الجماهير أملًا عريضًا في أن مشروع الوحدة والتحرير يسير في طريقه الصحيح. ومع قيام الوحدة، نشأ الاتحاد القومي ليصبح التنظيم السياسي لدولة الوحدة. ومارس نشاطه في قطاع غزة الذي بات كأي محافظة مصرية أو سورية في دولة الوحدة، وكان من اللافت أن دولة الوحدة لم تطبق في غزة قوانين التأميم الاشتراكية التي طبقتها في مصر وسورية، بسبب طبيعة الملكية المختلفة في القطاع، مما أبقى خريطته الطبقية على حالها. وفي الوقت نفسه، كان مرور عشر سنين وأكثر على نشأة القطاع كفيلًا بإتمامه دورة اقتصادية جعلته يتعافى من آثار النكبة واللجوء الاقتصادية الخانقة ويتلمس طرقًا للازدهار الاقتصادي.

مظاهرة مؤيدة للرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر في غزة
مظاهرة مؤيدة للرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر في غزة (Getty/ ميغازين)

لكن جاء الانفصال في نهاية 1961 ليضرب المشروع في مقتل ويثبت فشل الشعار، ويُفزع الفلسطينيين بأن الأمة لا تسير في اتجاه تحرير فلسطين، كما أنّ قوة الضربة كانت إعلان فشل ذريع للمشروع القومي جعل الصوت الوطني للقضية الفلسطينية يعلو مرة أخرى، خاصةً مع اشتعال الثورة الجزائرية التي مثلت نموذجًا ملهمًا للشعوب الراغبة في التحرر.

وفي ظل هذه التطورات المتلاحقة، وفي الخامس من آذار/مارس 1962، أصدر الرئيس جمال عبد الناصر نظامًا دستوريًا جديدًا لقطاع غزة: "لأن دواعي التطوير وتوالي الأحداث تقتضي إتاحة الفرصة لنظام دستوري جديد يساير آمال الشعب الفلسطيني وأهدافه"، ليصبح لقطاع غزة دستور لأول مرة بعد أن بقي ثلاثة عشر عامًا يعامل كمنطقة عسكرية خاضعة لحالة الطوارئ.

تكوّن النظام الدستوري الجديد من 74 مادة، كان أهمها مواد الفصل الثالث الذي نص على إنشاء مجلس تشريعي فلسطيني لمناقشة القوانين وإقرارها ثم إرسالها إلى الحاكم العام لإصدارها، وتكمن أهمية المجلس التشريعي في أنه مثّل أول مشاركة فلسطينية في حكم قطاع غزة وفي مناقشة القضايا الوطنية للشعب الفلسطيني.

لم يخلُ صدور قرار إنشاء النظام الدستوري والمجلس التشريعي في هذا التوقيت من ملابسات تتعلق بحادث الانفصال، وكأن إدارة عبد الناصر تعلمت من أخطاء تجربتها في سورية التي اتسمت بإغلاق المجال السياسي، فأنشأت مجلسًا تشريعيًا يستوعب الصوت الفلسطيني ويوفر منصة رسمية لمناقشة القضايا والهموم الفلسطينية، بدلًا من أن تنفجر تحت السطح وتفضي إلى ما لا تُحمد عقباه.

وقد قام هذا المجلس بدور تاريخي حين حمل هموم القضية الفلسطينية كلها لا هم غزة وحدها، وحاول أن يكون ممثلًا للشعب الفلسطيني كله، فشملت مناقشاته اقتراحًا بتشكيل لجنة سياسية لتمثيل الفلسطينيين خارج غزة، واقتراحًا بأن تكون غزة موطنًا لكل الفلسطينيين ويمنح حق الإقامة فيها لكل فلسطيني ولو لم يكن من أهلها أو لاجئًا إليها، باعتبار أن غزة تمثل الوطن الفلسطيني الباقي وحق الإقامة من لوازم حق الجنسية، وقد اصطدم هذا الاقتراح برفض الحاكم العام لأسباب موضوعية تتصل بضيق مساحة القطاع واكتظاظه باللاجئين. ورغم ذلك، فإن تضمّن جلسات المجلس لهذه الاقتراحات حوله إلى منبر لتمثيل الشعب الفلسطيني برمته، وجعله يطالب بإنشاء جبهة وطنية تمثل الفلسطينيين كلهم في الداخل والخارج، وهذه كلها تطورات متلاحقة أفضت إلى قيام منظمة التحرير الفلسطينية.

غزة في حقبة منظمة التحرير الفلسطينية

جاءت وفاة أحمد حلمي عبد الباقي رئيس حكومة عموم فلسطين الصورية، ومندوب فلسطين في الجامعة العربية عام 1963، لتفجر جدالًا حول الجهة التي يحق لها تسمية المندوب الجديد، فرأت مصر أن القرار حق لمجلس الجامعة العربية، فيما علت أصوات أخرى تقول إن القرار يجب أن يكون للفلسطينيين، خاصةً بعد أن صار لهم مجلس تشريعي يُفترض أنه يمثلهم. ولم يسلم هذا الجدل من صراعات السياسة بين عبد الناصر وخصومه، خاصةً مع الاختلاف الجذري في الرؤى حول القضية الفلسطينية بينه وبين النظام الهاشمي في الأردن، وتوتر العلاقات بينه وبين النظام الذي حكم سوريا بعد الانفصال.

في النهاية، عُين مندوب يحظى برضا مصر هو أحمد الشقيري، لكن الجدل الذي ثار صدفةً بسبب وفاة المندوب السابق أحدث جلَبة أخرى تنادي بإنشاء كيان فلسطيني يمثل الفلسطينيين كلهم، ويحمل قضيتهم إلى العالم ويعمل على حلها ويُخول إليه اختيار قادتهم وممثليهم. 

دخلت القضية إلى مناقشات المجلس التشريعي الفلسطيني الذي أكد على ضرورة وجود جهاز قيادي فلسطيني، ولم يكن للنظام العربي أن يتجاهل هذه الرغبة المتصاعدة، فنصّ قرار مؤتمر القمة العربي الأول مطلع عام 1964، على: "أن يستمر السيد أحمد الشقيري في اتصالاته بالدول العربية والشعب الفلسطيني بغية الوصول إلى إقامة القواعد السليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني وتمكينه من القيام بدوره في تحرير وطنه وتقرير مصيره"، فانعقد المؤتمر العربي الفلسطيني الأول في القدس، وأُعلِنَت "منظمة التحرير الفلسطينية" في العام ذاته وانتخب الشقيري رئيسًا لها.

حظي الكيان الوليد بدعم إعلامي عربي كبير رفع من سقف الطموحات الشعبية الفلسطينية منه. وحين زار الشقيري قطاع غزة، استقبلته مظاهرات حافلة هاتفة هازجة، لكن الشعار الذي قوبل به من جماهير القطاع كان "يا شقيري بدنا سلاح". وقد التقط الشقيري نبض الجماهير وبادر إلى إنشاء معسكر للتدريب العسكري في النصيرات بقطاع غزة، كما ألقى خطابًا ناريًا في افتتاحه، ما هيّج الحالة الوطنية بين الجماهير وأبعد عنها شكوك المشككين، وهي ترى فعلًا حقيقيًا على المستويين السياسي والعسكري.

لم يكن للتطورات المتلاحقة التي شهدت ارتفاع الصوت الفلسطيني مطالبًا بإنشاء كيان يمثله ويحرر أرضه، إلا أن تستتبع مثلها، فشهد المجلس التشريعي في قطاع غزة ثورة دستورية تهدف إلى تعديل دستور 1962 بما يطلق يد الأعضاء الفلسطينيين في إدارة شؤون قضيتهم، ويُحجم من سلطة الحاكم الإداري المصري ويؤكد مسؤولية قطاع غزة عن القضية الفلسطينية كلها وأنه وطن لكل الفلسطينيين.

التعديلات الجديدة كانت مثار جدل كبير بين المجلس والإدارة المصرية، ويمكن القول إن قسمًا كبيرًا من الخلاف راجع إلى أن الكثيرين من طموحات الشعب الفلسطيني العادلة كانت أكبر وأسرع وتيرة من إمكانات الدول العربية غير المستعدة لمواجهة إسرائيل عسكريًا حينئذ، وإن صرّحت بغير ذلك. لذا، حاولت الإدارة المصرية دائمًا تحديد مساحة عمل المؤسسات الفلسطينية بما لا يتركها تبتعد كثيرًا عن القرار المصري حينئذ.

في النهاية، وصل الطرفان إلى صيغة تسوية بخصوص التعديلات الدستورية، وجرى تفعيل العديد من المواد من غير أن يصدر بها قرار جمهوري، نتج عنها تعميم التجنيد الإجباري والتدريب الشعبي في قطاع غزة عام 1965، تبع ذلك إنشاء جيش التحرير الفلسطيني تنفيذًا لقرارات مؤتمر القمة العربية الثاني، وقد جرى تشكيله وتدريبه بإشراف قيادة أركان الجيش المصري وعلى رأسها الفريق محمد فوزي، وكان من أثر ذلك أن سادت القطاع في السنوات الثلاث الأخيرة قبل النكسة حالة عسكرة شبه تامة، رفعت الحماسة الوطنية وأحدثت نوعًا من الرضا عن معدلات السير باتجاه التحرير مع نشأة كيان عسكري إلى جانب الكيان السياسي.

كما أن هذه العسكرة رفعت من القدرات العسكرية والقتالية لسكان قطاع غزة، وكان من أثرها أن سلحتهم القوات المصرية بسلاح خفيف إبان عدوان 1967 استطاعوا استعماله حينًا ليختلف شكل مقاومة غزة للعدوان عن شكل مقاومة المناطق الأخرى، حيث تمكنت قوات جيش التحرير من صد قوات العدو عن غزة  مرتين يوم 5 حزيران/يونيو 1967، وقامت بقصف المستوطنات المحاذية لغزة حتى شوهدت ألسنة النيران ترتفع منها، واستمرت المعارك ومحاولات الدفاع عن غزة يومين صحبهما قصف صهيوني عنيف، ولم تتمكن القوات الإسرائيلية من احتلال مدينة غزة إلا في يوم 8 حزيران/يونيو، لتنتقل قصة فلسطين إلى فصل جديد، ما زال طويلًا وثقيلًا ويبحث عن نهاية.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

2

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

تحدّث الرومان واليونانيون قديمًا بإعجاب عن بخور وطيوب سبأ، لدرجة أنهم وصفوا سكانها بأنهم من أثرى شعوب العالم، وأنهم يأكلون في أوعية من الذهب، ويسكنون بيوت فارهة

3

من يمتلك الإنترنت؟

تقول ولادة شبكة الإنترنت الكثير من ناحية تحولها إلى مجال للسيطرة والربح، خصوصًا حين نضع نصب أعيننا أنها استراتيجية اتصالية أميركية

4

"يا ما في الجراب يا حاوي".. الحواة من إبهار الشارع إلى شاشات التليفزيون

لم يكن الحواة فئة طارئة على المجتمع المصري، فقد تواجدوا في الشوارع والميادين العامة منذ القرن التاسع عشر الميلادي

5

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم

اقرأ/ي أيضًا

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

تحدّث الرومان واليونانيون قديمًا بإعجاب عن بخور وطيوب سبأ، لدرجة أنهم وصفوا سكانها بأنهم من أثرى شعوب العالم، وأنهم يأكلون في أوعية من الذهب، ويسكنون بيوت فارهة

هديل عطا الله

الحاوي
الحاوي

"يا ما في الجراب يا حاوي".. الحواة من إبهار الشارع إلى شاشات التليفزيون

لم يكن الحواة فئة طارئة على المجتمع المصري، فقد تواجدوا في الشوارع والميادين العامة منذ القرن التاسع عشر الميلادي

محب جميل

طيف جيم كرو

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم

محسن القيشاوي

الإسلام المغربي في إفريقيا

الإسلام المغربي في إفريقيا.. جسور روحية من فاس إلى تمبكتو

عمل المغرب على نشر الإسلام الصوفي في دول غرب إفريقيا، مما جعل الزوايا والطرق الصوفية مع الوقت فاعلًا رئيسيًا في استمرارية الروابط الروحية والثقافية بينه وبين عدة دول إفريقية

عبد المومن محو

الضحك والفكاهة

حين يضحك الإنسان.. تاريخ شعبي للفكاهة

يعبّر الضحك عن تحرر لحظي من سلطة المنطق وقيوده، وقد استُخدم كأداةٍ للتنفيس ومقاومة السلطة. ورغم أهميته إنسانيًا، لم يتطرق له سوى القليل من الدارسين

عماد قيدة

المزيد من الكاتب

عبد الرحمن الطويل

كاتب وشاعر وباحث مصري

نجوم حول الكوكب.. فرقة أم كلثوم في وجدان السميعة

كان عازفو الست يفهمون عاداتها على المسرح ويقرؤون إشاراتها ورغباتها في الإعادة أو الانتقال، ويسدّون لحظات صمتها بالعزف ويسعفونها في أوقات الارتباك والنسيان

يوسف عيد.. نجم الظل الذي أعاد تعريف البطولة

لم يكن يوسف عيد من نجوم الصف الأول، لكنه فرض على المشاهد حضورًا عميقًا جعله يحفظ اسمه ولا ينساه بانتهاء مشهده في الفيلم، وربما لا يذكر من الفيلم إلا مشهده

دولة التلاوة.. قوة الإسلام الناعمة

لم يبدأ تاريخ فن تلاوة القرآن مع بداية حقبة الإذاعات، ويكاد أن يكون عمره من عمر الإسلام