بين فنون الأداء الصوتي يخدعنا التأريخ المعاصر لفن تلاوة القرآن، إذ يتقوقع هذا التأريخ في حقبة التسجيلات ولا يكاد ينظر إلى ما قبلها ولا يحاول أن يعرف عنه شيئًا. وينقبض في قوقعته أكثر حين يبدأ رحلته من حقبة الإذاعات، فيفتتح قائمة القراء الكبار بالشيخ محمد رفعت، الذي افتتح الإذاعة المصرية عام 1934م ويكتفي معه باسمين أو ثلاثة من جيله، ثم يواصل التأريخ لمن تلاهم من القراء وصولًا إلى عصرنا، وكأن هذا الفن لم يكن له وجود قبل نشأة الإذاعة، وكأننا لا نعرف شيئًا من تاريخه قبل 1934، رغم أنّ عُمره يكاد يكون عُمر الإسلام.
سيكون من نافلة القول أن نورد في البداية بعض الأحاديث النبوية التي تحض على التغني بالقرآن وتحسين الصوت به، أو تلك التي نسبت حُسن الصوت بالقرآن إلى بعض الصحابة كأبي موسى الأشعري، ربما لأن هذه الأحاديث تُحيلنا إلى معانٍ عامة في ممارسة التلاوة، لا يمكننا الجزم أنها البداية الحقيقية لـ"فن التلاوة" الاحترافي الذي نعرفه، وإن ظلت تمثل أصولًا دينية مجمَعًا عليها لقيام هذا الفن على النص المقدس.
لكنّ التراث الفقهي يحملنا إلى معنى أشد وضوحًا وتخصيصًا، هو ما يسمّيه "القراءة بالألحان"، وهو اصطلاح يُفهم منه قراءة القرآن مُنغّمًا، الأمر الذي كان محل خلاف شهير بين الفقهاء مِن مُجيز ومانع وكارِه، لكنّ نصوص التاريخ والتراجم تفيدنا بأن العمل استقرّ على قبول التلاوة المنغمة، وأن فطرة الناس مالت إلى أن تسمع القرآن بأداء نغمي جميل، وأن جماهير المسلمين تجاوزت الفتاوى المتشددة التي حرمت القراءة بالألحان كما تجاوزت فتاوى تحريم المعازف، وأنها فعلت ما فعلته البشرية على اختلاف أممها وعصورها من تجميل عباداتها بالتغنّي أو الموسيقى أو الرسم والنحت لتولد الفنون كلها من رَحِم الأديان.
ولأنّ "القراءة بالألحان" كانت ظاهرة شائعة في جميع أقطار المسلمين، ووصلنا الخلاف حولها عبر التراث الفقهي الذي جاب هذه الأقطار واستغرقها، فإننا لا نستطيع تنزيلها اليوم على نمط واحد من أنماط التلاوة المنغمة المعروفة، بل إنّ امتدادها عبر الأقطار يوجب أنها حملت أشكالًا فنيةً مختلفة ربما تفسر لنا الجدل الفقهي حولها، بحسب اقتراب هذه الألحان أو ابتعادها عن أحكام التجويد وآداب التلاوة العامة، لكنّ الذي نستطيع الجزم به أن مفهوم "القراءة بالألحان" يمثل سقفًا لكل مدارس التلاوة المنغمة التي أدركَتْها التسجيلات، كالمدرسة العراقية والحجازية القديمة والتونسية والمغربية والتركية، وفي الصدارة بالتأكيد المدرسة المصرية التي حظيت بالانتشار الأوسع في العالم الإسلامي، والتي خدمتها المصادر التاريخية بشواهد كثيرة تدل على ازدهار قديم.
جذور أموية وعباسية وفاطمية
مثّل "قرآن الجمعة" أهم المناسبات الأسبوعية الراتبة التي يُمارس فيها فن تلاوة القرآن في مصر، إذ يتلو القارئ نصف ساعة أو ساعة إلا ربعًا في المسجد قبل صلاة الجمعة، ويتوافد المصلون لسماع التلاوة قبل الخطبة والصلاة، وقد بدأت هذه العادة في العصر الأموي، إذ شهد تاريخ جامع مصر العتيق المشهور بجامع عمرو بن العاص ابتداء عادة قرآن الجمعة فيه عام 76هـ في ولاية عبد العزيز بن مروان وخلافة عبد الملك بن مروان، وكان أول قارئ قرآن جمعة القاضي عبد الرحمن بن حُجيرة الخولاني، وهو من التابعين، وتوفي عام 83هـ، وارتبطت نشأة هذه العادة بالمصحف الذي أمر عبد العزيز بن مروان بكتابته في مصر حين بعث إليه الحجاج بن يوسف الثقفي بمصاحف إلى الأمصار، فأخذَت عبدَ العزيز العزة والأنفة وقال: يُبعَثُ إلى جند أنا فيه بمصحف! وأمر بكتابة مصحفه الذي كان يُحمل من بيته إلى الجامع كل جمعة ليُقرأ فيه. ثم كان قارئ الجمعة زمن هشام بن عبد الملك هو القاضي توبة بن نمر الحضرمي.
ولا شك أن ثبات هذه العادة الأسبوعية في العصر الأموي لأكثر من خمسين عامًا جعلها حاضنة جيدة لتطوير فن التلاوة المنغمة مبكرًا، إذ ليس أمام قارئ يقرأ على الناس كل جمعة من المصحف في غير صلاة ولا خُطبة إلا أن يُحسّن صوته ويُنغم تلاوته ليغريهم بسماعه ويستحق مكانه، وبحُسن الصوت وجودة الأداء يتفاوت قراء الجمعة ويمكن أن يتفوق اللاحق على السابق.
فإذا وصلنا إلى العصر العباسي وجدنا في ترجمة الربيع بن سليمان المرادي تلميذ الإمام الشافعي أنه كان مؤذن جامع عمرو بن العاص، وكان يقرأ القرآن بالألحان، ولعل هذا من أقدم الأخبار التي تربط بين احتراف التلاوة المنغمة واحتراف الأذان، لحاجة كليهما إلى الصوت الجميل والأداء الحسن.
مع ولاية أحمد بن طولون (254-270هـ/868-884م) تزداد الهوية الفنية للتلاوة وضوحًا، إذ يحكي المقريزي أن ابن طولون "اتخذ حجرة بقربه فيها رجال سماهم بالمكبّرين، عدّتهم اثنا عشر رجلًا، يبيت منهم في كل ليلة أربعة يتعاقبون الليل نُوَبًا، يُكبّرون ويُسبحون ويحمدون ويهللون، ويقرأون القرآن تطريبًا بألحان، ويتوسلون بقصائد زهدية، ويؤذنون أوقات الأذان".
وربما يشير هذا النص إلى أن التلاوة وصلت في عصر أحمد بن طولون إلى درجة من النضج الفني تشبه ما نعرفه الآن، إذ لم تعد مجرد تلاوة بألحان، أي منغمة، بل صار من غاياتها التطريب، كما ارتبطت ممارستها الاحترافية بممارسة الإنشاد والأذان، ما يعني حاجة الجميع إلى معرفة نغمية وملَكات فنية خاصة.
مع العصر الفاطمي توثقت الممارسات الفنية للتلاوة أكثر، إذ كان حضور القراء أساسيًّا في الرسوم والاحتفالات والمواكب الفاطمية على كثرتها، وتعددت فيها الفقرات الفنية من تلاوة تطريبية وإنشاد للقصائد الصوفية وتكبير وتهليل وأذان في أوقات الأذان، ومن العصر الفاطمي تمدنا المصادر باسم قارئ يُعد أقدمَ مَن عرفنا بعد الربيع بن سليمان، هو أبو العباس أحمد ابن المشجّرة، الذي كان قارئ الوزير الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي (487-515هـ/1094-1121م) ووُصف بجمال الصوت وسحره حتى ورد الخبر بأنه "كان يقرأ يومًا في جامع عمرو فسمعه اثنان إلى جانب بعضهما فانصدع قلب أحدهما فمات، واستمع الثاني فغلب عليه الحال فمات!"
في العصر المملوكي الذي شهد كثافة في الإنشاءات المعمارية من السلاطين والأمراء، شهدت القاهرة ظاهرة معمارية خدمت فن التلاوة وأسهمت في نشره، هي شبابيك الأضرحة، إذ عمد كل منشئ إلى عمل شبابيك كبيرة في حجرة ضريحه تطل على الشارع، وتُخصص لجلوس القراء الذين يتلون القرآن ليسمعهم كل من بالشارع، فيصل ثواب التلاوة إلى صاحب الضريح، الذي أوقف عليه أموالًا تُصرف منها رواتب القراء، وبهذا توافر للقراء المحترفين مصدر رزق إضافي من وقفيات السلاطين والأمراء الراحلين.
تسجيل متأخر.. وآباء مؤسسون
رغم أن تقنية التسجيل الصوتي دخلت مصر عام 1903، فإنّ فن التلاوة لم يُفد إفادة حقيقية من منجزات الحداثة إلا بعد عدة عقود، فلم يُقبل كبار القراء على التسجيل خلال السنوات الأولى من عمل شركات الأسطوانات في مصر، بل إن هذه الظاهرة شملت كبار المطربين أيضًا، الذين لم يطمئنوا إلى هذا الاختراع الجديد، وفضلوا الانتظار عدة سنوات حتى يتأكدوا من نجاحه بأصوات مطربي الصف الثاني.
وكان الأمر في حالة التلاوة أشد تعقيدًا، فلم تزل المحاذير الشرعية حاضرة أبدًا عند ظهور أي اختراع جديد يتعامل مع القرآن بالشك في حِلّه وجواز استعماله، والامتناع عنه لآراء تتفاوت بين تحريمه ووصفه بالبدعية، والتورع عنه احتياطًا وحَيْرة، حتى يُثبِّت الزمنُ حضور الاختراع الجديد ويصبح من مسلّمات العصر، حينئذ تُقبِل الأوساط الشرعية على استعماله، وتنسى شكها القديم كأن لم يكن.
إلى جانب هذا فربما أسهم في تأخير التسجيل الصوتي للتلاوات قِصرُ مدة الأسطوانة في سنواتها الأولى، إذ لم تكن تزيد على ثلاث دقائق، ارتفعت بعد ذلك إلى ست، ولا شك أنها مدة غير كافية لتسجيل تلاوة تمثل واقع فن التلاوة في عصرها.
أما أقدم أسطوانة مسجلة لتلاوة قرآنية فوصلتنا من عام 1905 وهي أسطوانة أوديون لتلاوة الشيخ محمد سليم من سورة مريم، وفي العام التالي سجل أسطوانة أخرى لتلاوة من سورة يوسف، ولا نعرف كثيرًا عن هذا الرجل، الذي وصلتنا بصوته أسطوانات غنائية أيضًا، ما يجعلنا غير متأكدين إن كان من كبار القراء المحترفين، أم أنه مُغنٍّ سجل تلاوات بصوته ضمن تجارب كثيرة بِكر لشركات الأسطوانات في عهدها الأول؟ على أن التقسيم التخصصي الدقيق بين القراء والمنشدين والمطربين لم يكن معروفًا في هذه الحقبة، ولم يتمايز تمامًا إلا مع نشأة الإذاعة، إذ كان المشايخ يمارسون الفنون الثلاثة في الغالب، كلًّا في وقته وسياقه.
والحقيقة أنّ البحث في تاريخ كبار القراء خلال الربع الأول من القرن العشرين يحيلنا إلى أربعة أسماء أصواتها مفقودة اليوم، هم القراء محمود القيسوني وحسين الصواف وحنفي برعي، ورابعهم الشيخ أحمد ندا، الذي بلغ زعامة هذا الفن وتوفي عام 1932 قبيل افتتاح الإذاعة بعامين.
هذا الحدث الأهم الذي كتب الأولية في الذاكرة لأسماء أخرى على رأسها الشيخ محمد رفعت (1882-1950) الذي افتتح بصوته الإذاعة المصرية يوم 31 أيار/مايو 1934 ليُعدّ الأب المؤسس لهذا الفن في حدود تاريخه المسجل، ورغم شهرة رفعت قبل افتتاح الإذاعة بعقود، وما حمله صوته من جمال متفرد وشجنٍ غائر وخشوع لا مزيد عليه، فقد منحته الإذاعة الخلود، إذ صار صوت الأثير وصوت الناس، وظل لنحو عقد أقوى القراء حضورًا وشعبية وأكبر أسماء الإذاعة نجومية لا ينافسها إلا أم كلثوم وعبد الوهاب، حتى أقعده المرض عن التلاوة عام 1943 وبقي له عند السميعة خصوصية لا ينازعها أحد إلى يومنا هذا، وارتباط ببعض الأوقات والمناسبات كقرآن الصباح وشهر رمضان.
ورغم أثر الإذاعة الفارق في رحلة رفعت، فإنها لم تكن صاحبة الفضل في ثروة تسجيلاته التي وصلتنا، بل إنه حين مرض لم يكن في مكتبتها له إلا تلاوتان فقط تناوب بينهما، لكنّ التسجيلات ظهرت بعد عدة سنوات بفضل بعض محبي الشيخ الذين كانوا يسجلون له في جلساته الخاصة بغير علمه، وعلى رأسهم زكريا باشا مهران.
ومن جيل الشيخ رفعت أيضًا حظيت الإذاعة بقارئ أقدم منه مولدًا ويُعد أسنّ من وصلنا صوته من المشاهير، هو الشيخ علي محمود (1878-1943) وهو قارئ منشد مطرب صاحب حضور باذخ في الفن ومعرفة شاسعة بالموسيقى، وقد سبق له أن سجل في العشرينيات عدة أسطوانات غنائية لشركة أوديون، فيما وصلنا من تلاواته ستة تسجيلات فقط سُجلت على الأغلب في جلسات خاصة.
لكن أهم اسم بعد الشيخ رفعت في جيله هو الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي (1890-1962م) الذي كان ثاني من قرأ في الإذاعة، وقد بدأ حياته منشدًا ثم تحول قارئًا ولم يصلنا بصوته إلا التلاوات، وكان صاحب صوت ضخم عظيم المساحة، ومكانة رفيعة في الفن، إذ تحمل تلاوته ملامح متقدمة من التخطيط الفني والبناء غير المرتجَل جعلته مؤثرًا في عدد كبير من القراء اللاحقين، وقد عُمّر ووصلتنا بصوته ثروة كبيرة من التسجيلات، احتفظ فيها بقوّته وألقه حتى اليوم الأخير من حياته.
ولا يخفى أثر الإذاعة في مسار فن التلاوة، فمنذ افتتاحها أصبحت المعيار الذي يماز به كبار القراء عن غيرهم، وأصبح القراء الذين لم تتعاقد معهم في درجة تالية من الشهرة، وبالتبعية في تصنيف فني تالٍ، كما لعبت دورًا بارزًا في حماية المستوى الفني للتلاوة، من خلال لجان الاختبار التي أنشأتها لاحقًا وتشددت في فرز المتقدمين إليها، فلم يشهد منحنى الجودة انحدارًا ولا تذبذبًا طيلة العقود التي تحكمت خلالها الإذاعة في فرز القراء وإجازتهم واستبعادهم، ومن آثار الإذاعة التي امتدت وثبتت بعد ذلك الفصل الواضح بين اختصاصات الأداء، فبعد أن كان الشيخ قارئًا منشدًا مطربًا تمايزت التخصصات، وكان لهذا بعض الأثر الإيجابي حين تفرغ للتلاوة الموهوبون فيها، ما جعلهم يخصّونها بكل إبداعهم ويُطورون فيها مذاهبهم في الصناعة الفنية، ما ارتقى بها درجات أعلى من النضج والاكتمال.
دولة التلاوة.. العصر الذهبي للفن الشريف
خلال سنوات الثلاثينيات انضم إلى الإذاعة عدد من القراء من أجيال لاحقة على المؤسسين، على رأسهم الشيخ طه الفشني (1900-1971) والشيخ عبد العظيم زاهر (1904-1971) ثم قارئان شابان وصلا إلى الأثير دون العشرين، هما الشيخ أبو العينين شعيشع (1922-2011)، والشيخ كامل يوسف البهتيمي (1922-1969) الذي قرأ في الإذاعة حينًا ثم تركها وعاد إليها في الأربعينيات.
عقد الأربعينات وأوائل العقد الذي يليه شهدا انضمام عدد من الأسماء الوازنة إلى الإذاعة يُعزى إليها اليوم تشكيل تاريخ التلاوة وتطويرها الفني وشعبيتها ومعظم ثروتها من التسجيلات، حتى ابتكر السميعة مصطلح "دولة التلاوة" إشارة إلى ما بلغه هذا الفن من الثراء والتعقيد والشعبية في العالم الإسلامي.
كان من أشهرهم القراء محمود خليل الحصري (1917-1980) ومحمود علي البنا (1926-1985) وعبد الباسط عبد الصمد (1927-1988) ومحمد صديق المنشاوي (1920-1969) ومعهم الشيخان شعيشع والبهتيمي اللذان سبقا إلى الإذاعة، وكان واسطة عقد هذه الحقبة وعصب دولة التلاوة الأقوى تأثيرًا والأعلى إثراء لفنها هو الشيخ مصطفى إسماعيل (1905-1978)
دخل الشيخ مصطفى إسماعيل الإذاعة من باب أعلى منها، هو القصر الملكي، إذ دُعي من قريته التابعة لطنطا إلى القصر الملكي عام 1944 بعد أن قرأ مرة في القاهرة نال فيها الإعجاب، وسرعان ما أصبح قارئ القصر الملكي لثمان سنوات حتى خلع الملك عام 1952، ونقلت الإذاعة صوته من القصر قبل أن يُصبح قارئًا فيها، حتى سعت هي إليه وأصبح من قرائها.
إلى الشيخ مصطفى إسماعيل يُعزى أكبر تطوير فني عرفته التلاوة، إذ جعل القفلة أشد وضوحًا وإطرابًا، وطوّر الجملة النغمية الطويلة المقفولة لتصبح وحدة الإطراب الرئيسية التي ينتظرها الجمهور، كما ثبّت مسارات مقامية مرتبة ترتيبًا منطقيًّا بعد أن كان الانتقال المقامي قبله مرتجلًا يخضع لسليقة القارئ ومزاجه.
وبسبب هذه التطويرات الفنية التي أحدثها، مع ما وهبه الله من قوة ومساحة في الصوت تغير شكل التلاوة، وبات الجمهور أشد تفاعلًا معها في المحافل العامة في المساجد والمآتم وغيرها، الأمر الذي تُظهره تسجيلات الشيخ مصطفى إسماعيل بوضوح، وباتت (الحفلة/السهرة/التلاوة التي يحضرها الجمهور) المنتَج الأعلى ثراء لفن التلاوة، وسرعان ما تعقبه السميعة بالتسجيل حتى تكونت مجموعات خاصة من الأسطوانات اجتمعت منها معظم ثروتنا المعروفة الآن من التسجيلات.
تأثر مجايلو الشيخ مصطفى إسماعيل بالتطويرات الفنية التي أحدثها وباتت عندهم أشبه بالقواعد، وبدءًا من سنوات الخمسينيات مثّل فنُّ التلاوة واحدةً من أهم القوى الناعمة للإسلام ولمصر وإذاعتها، إذ أصبح القراء نجوم مجتمع، ودُعوا بشكل سنوي للتلاوة في البلاد العربية والإسلامية وحتى غير الإسلامية، وصار لهم شعبية جارفة ما بين المغرب وإندونيسيا، وأصبحت التلاوة المصرية على يد هذا الجيل التلاوة الرسمية للعالم الإسلامي، يسمعها ويقلدها كل المسلمين في أقطار الأرض.
الستينيات وما بعدها.. فقدان المركزية
شهد عقد الستينيات ازدهارًا أكبر لتسجيل الحفلات، كما شهد ظهور منتجات جديدة لفن التلاوة، كالمصحف المرتل الذي سجله لأول مرة الشيخ محمود خليل الحصري عام 1960، وتبعه أربعة من كبار القراء خلال السنوات اللاحقة، إيذانًا بإفساح المجال لمزاج جديد في السماع يطلب السرعة ويقتصد في التطريب، كما كان توثيقًا صوتيًا لنص القرآن كاملًا لأول مرة، الأمر الذي أغرى بمشاريع توثيقية أخرى كالمصحف المجود والمعلم ومصاحف القراءات، وهي منتجات لم يكن الإبداع الفني غايتها الأولى.
كما ضمت الإذاعة في الستينيات عددًا من القراء المجيدين على تفاوت بينهم، إلا أنهم لم يلحقوا إبداع السابقين ولم يبلغوا من الشعبية ما بلغوه، ربما يُعزى هذا إلى تساهل طرأ على الإذاعة في شروطها الفنية، وقد يُعزى إلى تطور مزاج السماع العام الذي يمكن رصده في تطور شكل الغناء أيضًا، كما قد يُفسَّر بنوع من التشبع أصاب فن التلاوة بعد ثلاثة أجيال متتابعة من القراء الكبار عبر ثلاثة عقود. وكان من أشهر القراء الذين دخلوا الإذاعة في الستينيات إبراهيم الشعشاعي ومحمد عبد العزيز حصان وأحمد محمد عامر ومحمد أحمد شبيب.
لكن سنوات الانفتاح، سبعينيات القرن الماضي، شهدت التطور الذي أفقد الإذاعة مركزيتها، إذ انتشرت أجهزت الكاسيت في الأرياف وحملت أصوات جميع القراء على اختلاف مستوياتهم، وسرعان ما نشأت شركات لإنتاج الكاسيت في المحافظات ركزت إنتاجها على القراء المحليين الذين لم تعتمدهم الإذاعة ولم يجازوا من لجان اختبار، بل إن بعضهم قد مُنع من التلاوة من قِبل الأزهر، وباتت الإذاعة مجرد قناة من قنوات النشر، قبل أن ينقل الإنترنت النشرَ إلى مستوى أعلى من الشمولية - والفوضوية أيضًا - إذ صار لكل قارئ مواقعه وقنواته على اليوتيوب وصفحاته على مواقع التواصل، وبات يبث على الهواء كل ما يقرأ مصورًا بأعلى جودة، من غير لجان استماع ولا إجازة ولا تصنيف فني ولا توجيه علمي، ولا شك أن هذا الانفتاح الشامل قد ألغى الفرز وأضر بالمستوى الفني العام وسوّى في الفرصة بين جميع القراء، كما فعل الإنترنت بكل شيء تقريبًا.
وتزامنت هذه العقود مع صعود الترتيل الخليجي الذي - وإن لم يُفقد التلاوة المصرية مركزيتها في العالم الإسلامي تمامًا - فقد نازعها فيها وجعلها على المحكّ، مع تبدُّل مزاج السماع الذي كان يمنح القارئ كثيرًا من الوقت والذهن لرصد دقائق إبداعه والطرب لها.
لكنّ الإنترنت نفسه نفخ الروح في جماهيرية فن التلاوة، من جهة أخرى، حين أتاح ثروة تسجيلات القراء القدامى عبر أكثر من خمسين عامًا، وباتت آلاف التلاوات والحفلات في متناول كل من يريد أن يستمع، تجذب ملايين لم يدركوا عهد التلاوة الذهبي، ويتداولها الهواة كاملة أو عبر مقاطعها المنتقاة لتحوز آلاف الإعجابات والمشاركات، ليبقى فن التلاوة في كل عصر حيًّا بأصواته وتسجيلاته، وسمّيعته الذين لا ينتهون.