قد لا يكون بمقدورك أن تُقنع المخرجين والمنتجين بأنك بطل ونجم، لكنك تستطيع أن تُقنع الجمهور أنك كذلك إذا كنت يوسف عيد، الممثل الذي نجح في أن يكون بطلًا لكل مشهد يظهر فيه، وإن لم يكن بطلًا لأي عمل قط.
ينتظم عيد في أجيال متلاحقة من نجوم الظل في السينما المصرية، فاكهة المَشاهد، أصحاب الملامح المنحوتة والتعابير المرسومة والأصوات المميزة والشخصيات المسبوكة والمحبوكة؛ الذين يَغفل معظم المشاهدين عن حفظ أسمائهم لأنهم يظهرون في مشهد واحد أو في عدد محدود من المشاهد التي لا تجعلهم من أبطال العمل الرئيسيين.
هذه حالة مستمرة منذ عبد النبي محمد، وعبد الغني النجدي، وعبد المنعم إسماعيل، وحسين إسماعيل، وحسن أتلة، وسميحة محمد، ونصر سيف، وعشرات الأسماء التي رفدت السينما المصرية بشخصيات ذات تركيب فني غير ساذج وغير بسيط، لكنها تظهر خلسة لدرجة أن المشاهد لا يكاد يقع أسيرًا لأدائها حتى تختفي مجددًا فلا يكاد يسأل عن أسمائها.
لكنّ عيد تقدّمَ عدة خطوات على هذا النمط وفرض على المشاهد، وعلى البطل والمخرج والمنتج، حضورًا عميقًا جعل المشاهد يعرف اسمه ويحفظه جيدًا ولا ينساه بانتهاء مشهده، بل ربما ظل يذكره ويستدعيه بعد انتهاء الفيلم، وربما لا يذكر من الفيلم إلا مشهد عيد!
نجم المعادلة الصعبة
المعادلة الصعبة التي حققها يوسف عيد، والتي يندر أن يحققها ممثل، أنه بطل المشهد الذي يظهر فيه، وإن كان أمام أعتى الأبطال. فمهما كان ثقل بطل العمل وتاريخه، عليه أن يتنحّى عن مركز البطولة عدة دقائق ريثما يُكمل مشهده مع يوسف عيد.
فعلها عيد مع الجميع، مع فريد شوقي وفؤاد المهندس وعادل إمام ومحمود عبد العزيز وأحمد زكي وعلاء ولي الدين ومحمد هنيدي وأحمد حلمي وأحمد مكي. فعلها في كل عمل ظهر فيه. هذه قاعدة لن نجد لها إلا قليلًا من الاستثناءات يمكن ردها، بلا تكلف، إلى عيوب الحوار والإخراج، لا إلى موهبة عيد.
يرجع حضور عيد الطاغي إلى خصوصيات في ملامحه وصوته لا يستطيع المشاهد ولا العمل تجاوزها، إذ يملك وجهًا أسمر مزدحمًا، ليس هادئًا ذلك الهدوء الذي يجعله يمر دون أن تشعر به، بل لا بد أن يستوقفك ويأخذك معه وفيه. ومفعمًا بالطيبة، فلا يمكنك أن تتخيله شريرًا أو قاسيًا أو عنيفًا.
وشعبيًا، يشبه ملامح القهوجي والسبّاك والعسكري وتلك القائمة من الشخصيات التي اعتدنا أن نراه فيها من طبقات نألفها ولا نشعر أن لها من العوازل الاجتماعية ما يثير حقدنا عليها، وفوق ذلك فهو وجه مرن العبوس والغضب، إذا عبس أو كشر استطاع أن يقلب عبوسه ضحكًا وفكاهة بلا انفعال ولا استعراض، وهي مهارة لم يؤتَها إلا عدد قليل من الممثلين كمحمد كمال المصري ونجاح الموجي.
وامتلك يوسف عيد صوتًا ثخينًا دافئًا وحنونًا، جهوريًا، لا بد أن يأخذ بسمعك فتتأمل المشهد لتنظر من صاحب هذا الصوت؟ وما شكله؟ وماذا يؤدي؟ وكيف؟ وبجُمّاع صفاته صار صوته مطربًا في حديثه العادي، تألفه الأذن وترتاح إليه، ومع لثغته الفطرية في الراء، بات صوته أشد لفتًا للسمع بتكوينه غير المعتاد، وبات بكل هذه المكونات أعلى جاهزية لأداء الإفيهات والإضحاك.
مثّل صوت عيد ميزة كبرى حُرمها كثير من الممثلين المساعدين، بل والأبطال. فصوت بهذه الجهورية والثخانة والدفء لا بد أن يكون طاغي الحضور، ولا يمكن أن تكون وظيفته مجرد أداء الجمل، بل إنّ حضوره فن قائم بذاته، إذ بات صوت عيد في ظل موهبته في أداء المواويل البسيطة في سياقات الكوميديا "كنزًا"، في حين أن هناك ممثلين آخرين أدوا المواويل، وربما أداها بعضهم أداءً أصح من أداء عيد من الوجهة الموسيقية، لكنهم لم يحققوا بها أي حضور لأن أصواتهم عادية غير ذات حضور.
إمكانات عيد جعلته فرصة يجب استغلالها في نظر صنّاع الأعمال التي شارك فيها، فصارت تُكتب له الإفيهات وتُسند إليه قذائف الضحك، وتُدرج له المواويل في الحوار، ما أكد انتزاعه لبطولة مَشاهده، وتحوُّل البطل بجانبه إلى سنّيد له يفرش الجُمل التي تؤدي إلى الإفيهات حتى يكتمل مشهد عيد ويخرج من الكادر فيعود البطل إلى بطولته.
رحلة صعبة.. ونحت في الصخر
ولد يوسف عيد بحي الجمالية العريق بالقاهرة يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1948، ولعل جميع أدواره الأولى التي وصلتنا، ولأكثر من عشر سنين، تؤكد أن رحلته في عالم التمثيل كانت نحتًا في الصخر، وأنه رسّخ أقدامه في عشرات الأدوار الصغيرة ليخلق هذه المعزّة الخاصة له عند المُشاهدين، بموهبته وحضوره وحدهما دون مِنّة من منتج أو مخرج أو ممثل بطل.
هذه الصعوبة الظاهرة تؤكد أن ما قبلها كان أصعب، وأن سنوات يوسف عيد الأولى في التمثيل، والتي لم يصلنا شيء منها مصورًا، كانت رحلة كفاح جديرة بالإعجاب، الأمر الذي أغرى الفنان وحيد سيف - في مشهد جمعه بعيد من مسرحية "شارع محمد علي" - أن يصنع منه إفّيهًا شهيرًا يرثي لعيد أنه يمثل منذ عام 1967 ولم يشتهر، وقد خرج هذا الرثاء في صورة سخرية ضحك منها المشاهدون، لكنهم عرفوا بفضلها أن هذا الرجل يمثل منذ عقود، وأنّ تأخر شهرته لم يكن لنقص في موهبته، بل لسوق لم يميزها أو لم يستوعبها.
يمثل العام 1975 بداية المرحلة الأولى من شهرة يوسف عيد، كما يمثل بداية قائمة طويلة من الأعمال التي وصلتنا، حيث ظهر في هذا العام مع فريد شوقي في مسرحية "نحن لا نحب الكوسة"، ومع محمود المليجي ومحمد صبحي في المسرحية الشهيرة "انتهى الدرس يا غبي"، كما ظهر لأول مرة في السينما في فيلم "شقة في وسط البلد" مع نور الشريف ومحمود ياسين وصلاح السعدني وزيزي البدراوي وميرفت أمين، وكانت المفارقة أنه غنّى في هذا الفيلم ليؤكد منذ البداية حضوره ممثلًا كوميديًا يجيد الغناء ويقدمه ضمن شبكة مواهب كثيرة.
لكنّ عقد الثمانينيات شهد كثافة في الحضور وتطورًا في الأدوار يمكن اعتبارهما بداية النجومية الحقيقية ليوسف عيد، حيث صارت له طلة خاصة شكلًا وصوتًا وحوارًا، لا يخطئها المُشاهد ولا يمكن أن تشتبه عليه بطلّة ممثل آخر، أو تعوم وتموع في عشرات الطلّات المتشابهة.
قدّم يوسف عيد خلال عقد الثمانينيات عددًا من الأدوار التي ما زال الجمهور يذكرها إلى اليوم ويَعِدُّها من علاماته، وحظي بالظهور في أفلام هامة تُعد من أفضل ما أُنتج خلال هذا العقد الذي يُعدّ حقبة الواقعية في السينما المصرية، فظهر في أفلام "4-2-4" عام 1981 مع سمير غانم ويونس شلبي، ومع نور الشريف في فيلم "بيت القاضي" (1984)، وفيلم "كل هذا الحب" (1988)، وتألق مع أحمد زكي في فيلم "التخشيبة" (1984). أما محمود عبد العزيز، فتألق معه في ثلاثة أدوار تُعد من علاماته في ثلاثة أفلام من علامات عبد العزيز: "الكيف" (1985)، و"الحِدق يفهم" (1986)، و"الجوع" في العام نفسه.
كما حظي خلال عقد الثمانينيات بظهور لافت مع عادل إمام في أفلام: "عصابة حمادة وتوتو" (1982)، و"خمسة باب" (1983)، و"الأفوكاتو"(1983) ، و"النمر والأنثى" (1987).
وربما كان دوره في فيلم "الأفوكاتو" الأهم والأعلق بالذاكرة، إذ قدم دور مجند مكلف بحراسة مساجين يؤدون الأشغال الشاقة في الجبل، كان من بينهم عادل إمام (حسن سبانخ المحامي الفاسد) وصلاح نظمي (سليم أبوزيد السياسي الفاسد)، حيث قام المحامي بخداع المجند ليتنازل له عن ملابسه ويأتي بزميل يتنازل عن ملابسه للسجين الآخر ليهربا بها، فيما ارتدى المخدوعان ملابس السجن وبدءا ممارسة الأشغال الشاقة. ورأى المخرج رأفت الميهي اختتام الفيلم بيوسف عيد وهو يُحطم الصخر بملابس السجن، ويقول مخدوعًا: "دا احنا حنلمّ لمّ" إشارة إلى ما خدعه به الفاسد من حلم الثراء، ليرمز الميهي بشخصية عيد وحده للسلطة التي خدعها الفساد وأفلَت، والشعب الذي نهب الفاسدون أمواله وأقنعوه بالشقاء.
لم يكن ظهوره في "النمر والأنثى" أقل تميزًا، وإن اعتمد فيه على الإضحاك بملامح جادة صارمة، ضمن تنوع قدراته الأدائية. كما برز من أدواره السينمائية في الثمانينيات دور "مستكة" في فيلم "حارة برجوان" (1989)، ويُعد هذا الدور قالبًا كوميديًا لشخصية معيبة اجتماعيًا تُهضم في سياق الكوميديا، وقد أداه كثير من ممثلي الصفوف الثانية بشكل نمطي، ولعل أداء عيد له كان الأشد هضمًا والأسهل تذوقًا عند المشاهد، لما طعّمه به من إمكاناته الكوميدية التي باتت أشد حضورًا من الشخصية ذاتها.
قدم عيد في الثمانينيات عددًا من المسلسلات، كان أهمها مسلسل "البشاير" عام 1987، وأدى فيه دورًا كبيرًا متعدد المشاهد، هو دور "فوزي الريجسير"، واجتمع في هذا العمل بالكوميديانة الكبيرة سناء يونس (1942 – 2006) لتمثل المشاهد القليلة التي جمعتهما واحدة من أجمل مشاهد الضحك التلقائي على شاشة التلفزيون، كما قدم عددًا من المسرحيات كان أهمها "علشان خاطر عيونك" (1987) أمام النجم الكبير فؤاد المهندس.
موهبة عابرة للأجيال.. وتألق حتى النهاية
لم تحمل التسعينيات إضافة نوعية لرحلة يوسف عيد الفنية، لكنه ظهر فيها بعدد من الأعمال المهمة والمميزة، كان منها على شاشة السينما "يا مهلبية يا" (1991)، و"ليلة ساخنة" (1995) مع نور الشريف، وظهر مع عادل إمام في "بخيت وعديلة الجردل والكنكة" (1996)، و"رسالة إلى الوالي" (1998)، و"الواد محروس بتاع الوزير" (1999). كما ظهر مع أحمد زكي في عملين من علاماته: "ضد الحكومة" (1992)، و"اضحك الصورة تطلع حلوة" (1998)، والأخير من أجمل أدوار عيد، حيث قدم شخصية مصور جوال على الكورنيش يدخل في صراع مع أحمد زكي (المصور الوافد حديثًا إلى القاهرة) في مشهدين من أجمل لقطات الفيلم الكوميدية.
خلال التسعينيات، ظهر عيد أيضًا في عدة مسلسلات تلفزيونية، منها: "ساكن قصادي" (1995)، و"السيرة الهلالية" (1997) الذي ظهر فيه مدّاحًا يغني بصوته المتميز. كما كان ظهوره المسرحي الأبرز في مسرحية "شارع محمد علي" أمام فريد شوقي، الذي أفسح لعيد المجال كي يخرج عن النص معه، بل ويرتجل الضحك عليه: "دا من يوم ما محمود المليجي مات مش لاقي حد يضربه!".
بداية الألفية حملت الانفجار الثاني لنجومية عيد مع موجة أفلام الجيل الجديد الذين عُرفوا وقتها بـ"الشباب"، وهي موجة انفجرت مع محمد هنيدي بفيلم "صعيدي في الجامعة الأمريكية" (1998)، لكنّ نجومية عيد معها بدأت عام 2000 مع علاء ولي الدين بفيلم "الناظر" الذي كان فارقًا في مسيرة هذا الجيل كله، وخرج منه جميع ممثليه نجومًا.
عبقرية الكتابة في فيلم "الناظر"، لشريف عرفة وأحمد عبد الله، أنه ليس فيه سنّيدة بل كل ممثليه أبطال، برغم الحضور الطاغي لبطله الرئيسي علاء ولي الدين الذي كان الناظر أنجح أدواره. فقد كُتبت لجميع الممثلين إفيهات في مشاهدهم جعلت مركز البطولة يتنقل بينهم، مع شخصيات مرسومة بعناية فائقة، كان حظ يوسف عيد منها شخصية "زكريا الدرديري مدرس الرياضيات والفرنساوي ع بال ما يجيبوا مدرس فرنساوي!". هكذا عرّف نفسه في أول جملة له في الفيلم بعد أن نطقها لأول مرة بسرعة مع مبالغة في لثغة الراء، جعلت المُشاهد ينفجر ضحكًا في المرة الأولى للسرعة واللثغة، وفي المرة الثانية للجملة ذاتها. ومع كل جملة كان ينطقها يوسف عيد في هذا الفيلم كان الضحك ينهمر، إفيهات من المواقف بِنتُ حوارِها بشكل شرعي، وإفيهات على التدريس، وثالثة على اللغة الفرنسية، واستدعاءات ناجحة لشعارات وهتافات قديمة، وخلطة بديعة جعلت شخصية "زكريا الدرديري" واحدة من أجمل وأخلد شخصيات يوسف عيد، وفيلم "الناظر" واحدًا من أجمل وأنجح الأفلام الكوميدية.
ظهر عيد مع علاء ولي الدين أيضًا في فيلمه اللاحق "ابن عز" (2001) الذي لم يحقق نفس النجاح، لكن الشخصية التي قدمها (عبده طوالي/ سائق التاكسي الذي يغني ويصدر شريطًا) حملت واحدة من أجمل لقطات الضحك في الفيلم، حيث مثّل وغنى وسخر من المجتمع.
وبرز يوسف عيد مع أحمد حلمي في ثلاثة أدوار مهمة، كلها مضحكة ولافتة، في أفلام: "صايع بحر" (2004)، و"جعلتني مجرمًا" (2006)، و"آسف على الإزعاج" (2008)، والثاني منها واسطة العقد وجوهرة أعماله مع حلمي، حيث قدم شخصية "الحنوتي" (الحنوطي/مغسل الموتى) الذي يطلب إعلانًا تجاريًا عن خدماته فتُطبع صورته على إعلان راقصة، لينتهي المشهد به وهو يضرب صاحب شركة التسويق (أحمد حلمي)، وبإفيه مضحك أيضًا.
لكن أهم أدوار عيد في الألفية الجديدة بعد فيلم الناظر كان دوره مع عادل إمام في فيلم "التجربة الدانمركية" (2003)، حيث تعددت مواقفه الكوميدية من انتظار أخيه المسافر في المطار إلى تتبع الحسناء وصولًا إلى بيتها، ثم يختفي حينًا ليخرج بشكل مفاجئ من الدولاب (خزانة الثياب) وهو يُغني موالًا في الغزل، كانت هذه أشد قنابل الضحك انفجارًا في الفيلم، واستُعمل جزء منها في إعلانه التجاري سنة عرضه، وما زال الجمهور يحفظ هذا المشهد بمواله إلى اليوم.
عادل إمام الذي احتفظ بزعامته للكوميديا خلال العقد الأول من هذا القرن رغم منافسة الشباب الطاغية، عرف قيمة عيد وتاريخه الطويل معه، فاستعان به بعد ذلك في أفلام: "حسن ومرقص" (2008)، و"بوبوس" (2009)، و"زهايمر" (2010).
تأخر تعاون عيد مع محمد هنيدي، مفتتح الموجة، إلى عام 2008، حيث ظهر في فيلم "رمضان مبروك أبو العلمين حمودة"، وحين أعيد تقديمه كمسلسل بعد أربع سنوات حاز عيد دورًا أكبر. أما محمد سعد فلم يستعن بِعيد إلا في عمل وحيد "اللمبي 8 جيجا" (2010)، ولم يمثل هذا التعاون إضافة لأي منهما، رغم كبر مساحة دور عيد مقارنة بأعماله الأخرى، لأنه لم تُكتب له إفيهات ولم يُسند إليه الإضحاك، بل ظهر في عدد كبير من المشاهد سنّيدًا متحدثًا بحوار سياقي كان يمكن أي ممثل أن يؤديه ويملأ مكانه.
مع مطلع العشرية الثانية من القرن الحالي، واصل عيد تألقه في أفلام مثل: "فاصل ونعود" (2011)، و"صرخة نملة" (2011). كما تألق تلفزيونيًا في الأجزاء الأولى من مسلسل "الكبير قوي" في شخصية المدرب الرياضي "حمدي كاتا". لكنّ العام الأخير من حياته منحه واحدًا من أجمل وأغرب أدواره، وهو دور المغني الجامايكي الأشهر بوب مارلي الذي قدمه في سياق من الفانتازيا التاريخية الساخرة في فيلم "الحرب العالمية الثالثة" (2014)، جاعلًا مارلي يُغني مواويل وأغاني شعبية مصرية، ومُحققًا به واحدًا من أكبر نجاحات رحلته الفنية.
لكنّ الجمهور المنتشي بأدائه في شخصية بوب مارلي فوجئ برحيله بعد أقل من شهرين من عرض العمل، وتحديدًا في الثاني والعشرين من أيلول/سبتمبر 2014 وحيدًا في منزله إثر نوبة قلبية، عن 66 عامًا، ليشعر الجمهور والوسط الفني معًا بحجم الفراغ الذي كان يملؤه، ولتصفه الصحافة الفنية ساعتها فقط بـ"الفنان القدير"، وهو اللقب الذي استحقه عن جدارة وضنّ عليه الوسط الفني به طول حياته. وما زال بعد عشر سنين يملأ بأعماله فضاءً من البهجة لا يملؤه سواه.
ورغم أن عيد صار تميمة حظ الأفلام الكوميدية في الحقبة الأخيرة من حياته، إلا أن هذا لم يدفع الكُتّاب والمخرجين لتطوير أدواره وتكبير مساحاتها إلا فيما ندر، وأظن السبب أنه بلغ هذا النجاح الفارق في مرحلة عمرية أشرف فيها على الشيخوخة، وهي مرحلة لا يُغامر معها المنتجون والمخرجون بتنجيم الممثل ومنحه البطولات. كما أنه ظل، بالمشهد والمشهدين، تميمة النجاح، فرأى صناع السينما أنهم مستفيدون منه كما يحبون، ولم يجدوا دافعًا لتطوير أدواره أو تكبيرها، وعاش راضيًا بهذا القليل الذي بقي عند الجمهور كثيرًا، يستمد منه الضحك إلى اليوم.
شخصيًّا، رأيت يوسف عيد في الحقيقة مرتين، الأولى في بواكير الدراسة الثانوية، عام 2002، ذاهبًا إلى المدرسة مررتُ بستوديو التراث بمنطقة الهرم لأرى عددًا من الممثلين والفنيين يستعدون لدخوله لابتداء التصوير، وفي صدارتهم يوسف عيد، بكامل أناقته ونشاطه، يخاطبهم ويوجههم وكأنه يشرف على تفاصيل العمل التي لم يسمح الوقت أن أعرفها أو أعرفه.
المرة الثانية كانت في صيف 2005، ليلًا، وفي مكان يبعد عن المكان الأول مئة متر لا أكثر. كنت أمشي مع زميل، وكان يمشي في الاتجاه المعاكس وحيدًا، وعلى وجهه ما يشبه الحزن. سألني صاحبي بصوت لم يستطع التحكم فيه: مش دا الممثل؟ هكذا قال. سمعه عيد، ونظر إلينا، وقتها أحببتُ أن أتوجه إليه وأسلّم عليه لكني ترددت، ولم تحتمل قوانين الفيزياء ترددي، إذ سرعان ما عبرَنا وعبرناه، كل في اتجاهه، ولم تكن مرة ثالثة.
واليوم أستدعيه في ذكرى رحيله العاشرة، لأهديَ إليه سلامًا تأخر 19 عامًا، ووردةَ عرفان.