في عام 1865، أُنشئت "شركة المياه" برؤوس أموال وبإدارة أوروبية بموجب عقد امتياز ينتهي في عام 1969، وقد تولت الشركة مهمة إقامة ماكينات الضخ وتركيب مواسير المياه داخل القاهرة. كان عملًا شاقًا يتطلب الجَلد والمثابرة حتى انتهاء المهمة، ويشير المؤرخ الفرنسي أندريه ريمون في دراسته عن السقّايين في القاهرة المنشورة في مجلة "المجلة" (تشرين الأول/أكتوبر 1966)، إلى أن عدد المشتركين الذين أدخلوا المياه إلى منازلهم كان 4200 فرد فقط عام 1891. واقتصر الأمر لفترة طويلة على إحضار المياه إلى قلب العاصمة عبر شبكة من الحنفيات التي حلت محل الأسبلة إلى حد ما، وقامت الشركة بوضع موظفين للإشراف عليها لمراقبة توزيع المياه على المستهلكين وتحصيل ثمنها.
هذه الفكرة كانت حلمًا راود عبّاس باشا الأول، والي مصر، الذي أراد بناء شبكة من المضخات والمواسير والحنفيات لضخ المياه إلى بعض الأماكن المرتفعة في القاهرة. وقبل أن يبدأ في تنفيذ مشروعه، أبلغه المهندسون بأن تكلفته الإجمالية تُقدر بحوالي 130 ألف جنيه، فوجد أن هذا المبلغ ضخم وعزف عن تنفيذ المشروع.
ستصبح هذه المحطة، فيما بعد، سببًا أساسيًا في بداية اختفاء طائفة "السقايين" من الحياة المصرية على الرغم من الدور الكبير الذي لعبوه على مدار عدة قرون في توصيل المياه إلى البيوت في القاهرة وأنحائها. وكل طائفة تختفي تترك خلفها أسئلة مثل: من هي هذه الطائفة، كيف عاشت وكيف اختفت تدريجيًا من واقع الحياة المصرية؟
نشأة طوائف السقايين
اعتمدت القاهرة قديمًا على النيل بشكل أساسي في الشُرب، فلم يكن الخليج المصري يوفر المياه للمصريين إلا ثلاثة أشهر فقط في السنة عقب الفيضان. وهنا لعبت طائفة السقايين دورًا أساسيًا في جلب المياه إلى البيوت يوميًا. ويشير ريمون في دراسته السابقة إلى أن علماء الحملة الفرنسية في القاهرة عام 1801، ذكروا ما لا يقل عن ثماني طوائف من السقايين، خمسة منها كان أفرادها يقتسمون الماء الذي يحصلون عليه من النيل لينقلوه إما على ظهور الجمال "طائفة باب اللوق"، أو على ظهور الحمير: "أربع طوائف في أحياء باب البحر، باب اللوق: حارة السقايين، قناطر السباع".
وارتبطت إقامة هذه الطوائف في الحد الغربي من القاهرة، على نحو واضح، بضرورة التواجد بالقُرب من مصدر المياه. وعند باب اللوق، كانت تتواجد طائفة السقايين أصحاب الجمال التي تعمل في وسط المدينة. أما الطوائف الأربع الأخرى للسقايين أصحاب الحمير، فكانت تتوزع من الشمال إلى الجنوب بشكل يسمح لها بتغطية مساحة جغرافية واسعة من العاصمة.
وهكذا تجوّلوا على مدار قرون في منطقة الحدائق في المسافة الواقعة بين النيل والقاهرة وبين بولاق ومصر القديمة. وبينما كانت القربة التي يمتلكها أصحاب الجمال تُصنع من جلد الجاموس، صُنعت قربة أصحاب الحمير من جلد الماعز.
وضمت القائمة أيضًا طائفة السقايين في حي باب زويلة، في حين كانت الطائفة السابعة تتكون من باعة المياه في الشوارع بالقطاعي الذين كانوا ينتشرون في مصر القديمة وبولاق والقاهرة. ولعل هذه الطائفة هي أكثر الطوائف التي لفتت انتباه المؤرخين والفنانين الذين تناولوا التاريخ الاجتماعي للقاهرة في القرون الماضية، وقد عُرفت باسم "السقا شربة"، الذي يحمل قربة جلدية تحت إبطيه ويتدلى منها خرطوم نحاسي طويل لسكب الماء.
أما الطائفة الثامنة، فضمت من ينقلون هؤلاء المياه غير الصالحة للشرب، وكانوا يقيمون في حي قاسم بك. وأغلب الظن أنهم كانوا يحصلون على المياه المالحة التي لا تصلح للشرب، لكنها تصلح لأغراض منزلية أخرى من بعض الآبار.
ويشير الأديب أحمد أمين في كتابه "قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية" (1953)، إلى أن السقا كان يحترف توزيع المياه على البيوت قبل دخول الحنفيات إليها. وكان يحمل القِرب على ظهره وهي مملؤة بالماء سواء الحلو أو المالح. وكان التعامل مع صاحب البيت يتم بإحدى طريقتين: الأولى هي طريقة الشَرطة، حيث يرسم شَرطة على باب المنزل الذي سلَّمه قربة الماء. والثانية هي طريقة الخرزة الزرقاء، حيث يعطي صاحب المنزل حوالي عشرين خرزة زرقاء وكلَّما حضر إلى المنزل ناوله صاحب المنزل واحدة.
وهكذا تتكرر العملية مرة تلو الأخرى، وعندما تنفد الخرزات الزرقاء عند صاحب المنزل فهذا معناه أنه استلم عشرين قربة مثلًا. وربما لا يعرف كثيرون أن كمية المياه المأخوذة من نهر النيل لم تكن تُباع مباشرة إلى سكان القاهرة كافة، فجزء كبير منها كان يُوضع في "الأسبلة" لسد حاجة الفقراء الذين لا يستطيعون الشراء، إذ وصل عدد الأسبلة في القاهرة عام 1806 إلى 300 سبيل.
تعدد طوائف السقايين
في تحقيق نادر نشرته مجلة "الدنيا المصورة" الصادرة عن "دار الهلال"، بتاريخ 3 تموز/يوليو 1930، أُشير إلى أن كل منزل كان فيه زير لحفظ المياه، حيث كان السقا يأتي إليه يوميًا بقربة لتفريغ المياه فيه. وكان ذلك الزير يقوم على حمالة من الخشب وتحتها وعاء يستقبل ما فيه من ماء خاليًا من الكدر أو الطمي، وغالبًا ما كان يُوضع نوى المشمش في أسفله لترشيح الماء وتكريره. وكانت لكل سقاء بيوت يتعامل معها يوميًا، حيث كان السقاة يتوزعون على طول الشوارع والحارات والأزقة.
ومن بين طوائف السقايين طائفة عُرفت باسم "الحملية"، وهي عبارة عن مجموعة من السقاة الذين يسقون الناس على قارعة الطريق، وكانت حاوية الماء لديهم عبارة عن إبريق كبير من الخزف له فم من النحاس، فكانوا يصبون الماء في أقداح من النحاس أو قلل من الفخار. وكان أكثر أفرادها بحسب "الدنيا المصورة" من الرفاعية والبيومية، حيث كانت أباريقهم تثلج الماء ويضيفون إليه القليل من قطع النارنج أو ماء الزهر فيكتسب عطرًا خفيفًا رائقًا.
وقد اعتادوا أن ينتشروا في الموالد والاحتفالات الدينية، حيث كانوا يعلقون في أعناقهم كيسًا لجمع النقود التي يتلقونها كهبة من المارين. وبطبيعة الحال، اختلف ندائهم عن باقي السقاة، فكانوا يرددون في الشوارع: "سبيل الله يا عطشان.. الجنة والمغفرة يا صاحب السبيل".
لقد أدت عملية نقل المياه عبر السقاة إلى البيوت إلى تطور مجموعة من الصناعات اليدوية المرتبطة بها، فهناك الأواني الخزفية والقرب الجلدية والجرار الفخارية التي أخذت في التوسع والانتشار نظرًا لارتباطها بطوائف السقايين. كما أن مراكز تواجد صناعة هذه الأدوات كان قريبًا من نشاط السقايين. فقد تمركزت صناعة القرب الجلدية في جنوب باب زويلة، حيث سُمي الحي بأكمله بحي القربية. وفي حي الأزبكية ظهرت ورش صناعة الفخار.
ولم تقتصر مهنتهم على نقل المياه فقط إلى البيوت، إذ أصبحوا مع الوقت من العناصر النشطة في المجتمع، حيث أشار الباحث نبيل السيد الطوخي في كتابه "طوائف الحرف في مدينة القاهرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر 1841 – 1890" (2009)، إلى أن حرفتهم كانت تقتضي النفاذ إلى البيوت وبالتالي تم الاعتماد عليهم في نقل الأخبار وانتشارها. كما لعبوا أيضًا دور "مرسال الغرام" بين منزل وآخر.
طقوس السقا
كان للسقايين حارة خاصة بهم يسكنون فيها تبدأ من آخر شارع الشيخ ريحان حتى شارع درب الحمام. أما الشارع الذي كان يبدأ من شارع باب زويلة وينتهي عند أول شارع الحمزية، فكان مخصصًا لبيع القرب والدلال وأدوات جلب المياه. وبحسب دراسة أجراها شوقي عبد القوي عثمان ونشرتها مجلة "الفنون الشعبية" في نيسان/أبريل 1988، فإنهم كانوا يتبعون نظامًا وقواعد بعينها لضمان نظافة المياه المجلوبة وكذلك الأشخاص والأوعية المستخدمة في حمل الماء من مصدره إلى البيوت. ففي حالة دفع الأمواج القاذورات إلى الشاطئ، كان واجبًا على السقايين الابتعاد عنها فورًا، كما فُرض عليهم عدم أخذ المياه من أماكن الاستحمام إلى جانب عدم استخدامهم للراوية الجديدة من الماء مباشرة، بل لا بد من تركها في الماء لأيام وذلك لتغير طعم ورائحة الماء بها من أثر الدباغة. وفيما يتعلق بالسقاة الذين كانوا يستخدمون الكيزان في سكب المياه، فكان يجب عليهم تنظيف الكوز وصيانته من حين لآخر، وكان يتوجب عليهم أيضًا جلاء الكيزان وتطييب شبابيكها بشمع المسك واللادن الطيب العنبري واستخدام البخور في تفقد الخوابي كل ثلاثة أيام. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن السقاة لم يكن يُسمح لهم بجلب المياه أثناء الليل وذلك لعدم قدرتهم على تمييز نظافة الماء وسلامته في الظلام. وكذلك لا يلجأ السقاة إلى الغش في حجم الماء داخل القربة فلا يتركون الكمية ناقصة أو أقل من الحد المسموح.
أجور السقايين
لم تكن طائفة السقايين من الطوائف الأوفر حظًا في المجتمع القاهري قديمًا، فبحسب ما ذكره إدوارد وليام لين في كتابه "المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم" (ط/ 1950)، فإن ما كانوا يحصلون عليه لا يربو على قرش واحد نظير حمل قربة ماء مسافة ميلين تقريبًا. وعلى الرغم من هذا الدخل البسيط فإنهم كانوا يدفعون الضرائب إلى الوالي في العصر العثماني. يقول لين: "نصادف السقاة والحمالون أكثر ما نصادفهم في الاحتفالات الدينية كموالد الأولياء التي تجري في القاهرة وجوارها ويدفع لهم زائر ضريح الولي في مثل هذه المناسبات مالًا ليوزعوا الماء على المارة بمعدل قدح ماء لكل من يرغب. ويُعرف هذا العمل (بالتسبيل) ويتم هذا العمل لراحة نفس الولي وفي احتفالات أخرى غير الموالد. ويُسمح للسقاة بملء أباريقهم أو كرباتهم من سبيل ماء ولا يطلبون مقابلًا من كل الذين يقدمون لهم الماء. ويؤدون أغنية بسيطة بينما يوزعون الماء على المارة في الشوارع فيدعون العطاش إلى مشاركتهم في عمل الخير الذي يقدمونه لوجه الله".
وتنوعت أنشطة السقايين في المناسبات الدينية المختلفة، فبعضهم كان يُطلب منه جلب الماء خلال الجنازات أو كانوا يتقدمون موكب المحمل في موسم الحج لتوفير المياه العذبة للعطشى على حساب المنشآت الخيرية. وبحسب ريمون، فإن السقايين كانوا ينتسبون لاثنين من الأولياء هما سليمان الكوفي ومحمد بن عبد الله. ومن بين الرؤساء السبعة لطوائف السقايين، كان هناك سبعة يحملون لقب حاج.
إلهام الفنانين والأدباء
شهدت مهنة السقاة تطورًا ملحوظًا مع الوقت. فمع دخول القرن التاسع عشر، أصبحت الخيول والحمير التي تجر براميل المياه والخزانات الصغيرة طرفًا أساسيًا في المسألة. وعندما دخلت شركة المياه على الخط، بدأت طائفة السقايين تختفي على نحو تدريجي من المشهد العام للشارع المصري، ولذلك كان من الطبيعي أن نجد العديد من لوحات المستشرقين التي صورت مشهد السقا في الشارع المصري خلال قرون خلت، حيث حاول الباحث ربيع أحمد سيد أحمد أن يرصدها في كتابه "الحرف التراثية في مصر في ضوء الاستشراق التشكيلي" (2023).
ولا يخفى على أحد الرواية البديعة "السقا مات" للأديب يوسف السباعي التي حاول فيها رصد بعض ملامح هذه الطائفة وعلاقتها بالمجتمع المصري في ضوء أسلوب فلسفي أدبي، وهو العمل الذي نقله إلى شاشة السينما مخرج الواقعية صلاح أبو سيف بالعنوان ذاته عام 1977 ضمن أداء ثنائي استثنائي قدمه فريد شوقي وعزت العلايلي.
ومن ندائهم الشهير لهم "يعوض الله"، استلهم بديع خيري في رواية "ولو" عام 1918 لحن "السقايين". وفيه، تعرض لمعاناتهم وتبدل أحوالهم في بدايات القرن العشرين، وهو اللحن الذي أبدع في إخراجه سيد درويش مع فرقة نجيب الريحاني. واليوم، في ظل التطورات التكنولوجية التي نشهدها في عمليات نقل المياه أو تقطيرها، هل لا زلنا نذكر السقايين ورحلتهم الشاقة؟