الترجمان رفيق السياح الذي نسيناه

الترجمان.. رفيق السيَّاح الذي نسيناه

22 سبتمبر 2024

تحولت الصور الفوتوغرافية القديمة، مع الوقت، إلى وثيقة تاريخية دالة على الكثير من الأحداث والشخصيات، وكذلك بعض المهن المنقرضة، تلك التي أوجدتها ظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية في فترات زمنية معينة.

ومن بين مئات الصور القديمة، سواء التي تحفل بها الألبومات التاريخية أو مواقع الإنترنت ومنصات التواصل، نلاحظ في بعضها وجود مجموعة من الأشخاص الذين يرتدون جلبابًا بلديًا ويعتمرون عمامة مميزة وهم يسيرون بجوار السائحين بالقُرب من الأهرامات وأبي الهول في الجيزة. 

ويبدو، من الوهلة الأولى، أن هؤلاء الأشخاص ما هم إلا سُيَّاس للخيول والجمال التي تقل السيَّاح، أو هم من الذين يتولون مهمة حمل الحقائب والأغراض الثقيلة من مكان لآخر. لكن المثير للاهتمام أن هؤلاء الأشخاص كانوا النواة الأساسية لفكرة المرشد السياحي التي أصبحت من ركائز اقتصاديات السياحة فيما بعد. فمن هم هؤلاء؟ وكيف تطورت هيئتهم وحرفتهم عبر الزمن؟

الترجمان وشقاء المهنة

اعتاد الأدباء والمؤرخون أن يطلقوا على هؤلاء الأشخاص اسم "الترجمان"، وهي كلمة تعني الشخص القائم بشؤون الترجمة من لغة إلى أخرى خلال جولاته مع السيَّاح. وهناك من ذهب إلى أنها مشتقة من "Dragoman"، أي العطَّار حسبما صرَّح تادروس بطرس، عميد التراجمة المصريين، في حواره مع الإعلامية سامية الإتربي. وهي تشير في رأيه إلى أنها تعبير مجازي حول امتلاك الترجمان لإجابة أي سؤال يطرح عليه من قِبل السائح، تمامًا كالعطَّار الذي يملك وصفات لكل شيء.

أما المفكر والأديب أحمد أمين، فكان من أوائل الذين وقفوا على تعريف هذه المهنة في مؤلفه "قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية" (1953)، حيث أشار إلى أنهم قوم أغلب ما يكونون من سكان الهرم يصحَبون السائحين لمشاهدة الآثار المصرية، ويحكون لهم بعض تاريخها. 

وتنوعت اللغات التي يعرفونها ما بين الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وأُخذ عليهم محدودية الثقافة التاريخية، في الوقت الذي يمتازون فيه بطلاقة اللسان. وهم يتحدثون بسرعة في أغلب الأوقات، وينتشرون عند الفنادق التي يكثر فيها السيَّاح في القاهرة وكذلك في الأقصر وأسوان. وقد عملت الحكومة من جهتها على إنشاء مدرسة متخصصة لتثقيفهم بالتاريخ المصري القديم حتى يتمكنوا من ممارسة مهنتهم بحرفية وسهولة.

وعلى الرغم من التعريف السابق الذي ساقه أمين، فإن تفاصيل يوميات هذه المهنة، تحديدًا، ظلت مجهولة بالنسبة للعامة حتى فترة ليست ببعيدة. أما هم، فكانوا يتضايقون من تحامل الكتَّاب والصحافيين عليهم أغلب الوقت، وهذا ما أفصح عنه أحد التراجمة في حوار له نشرته مجلة "الدنيا المصورة"، الصادرة عن "دار الهلال"، بتاريخ 18 كانون الأول/ديسمبر 1929، حيث قال في مطلع حديثه الذي أدلى به للمندوب أمام فندق الكونتنتال: "المهنة، شاقة، والأجر قليل؛ ولكن ماذا نعمل والحياة تتطلب مننا السعي والجري وراء القوت، خصوصًا وأن لنا عائلات لا تنقص أفراد إحداها عن عشرة أشخاص؟".

ويردف في موضع آخر: "تصوّر حضرتك مثلًا، شابًا مثلي يقوم من نومه في الساعة الخامسة كي يكون واقفًا على باب الفندق في السادسة، ولا تنسى أني ساكن في (الهرم) كبقية زملائي، ويظل واقفًا على رجليه هكذا إلى الخامسة مساءً ثم يعود إلى منزله.. شهران وأنا على هذا الحال! لم يرزقني الله مليمًا واحدًا، أتعرف السبب؟ لأن السيَّاح لم يفدوا كثيرًا على مصر بعد، فمنذ منتصف هذا الشهر (ديسمبر) تبدأ جموع السياح في الوفود إلى أرض الفراعنة، وها أنا في الانتظار".

لقد أشار هذا الترجمان في الفقرة السابقة من المقابلة إلى المعاناة التي يعايشها الترجمان خلال مواسم السياحة، حيث أعداد السياح ليست منتظمة طوال العام. كما أن هذه المهنة تتطلب التواجد في ساعات مبكرة قبل الانطلاق في الجولة السياحية اليومية. 

أما المحاور الذي أجرى المقابلة، فقد افتتحها بالعديد من المعلومات المفيدة التي تسلط الضوء على هذه المهنة وتفاصيلها في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، ومنها أن هؤلاء التراجمة اعتادوا على التواجد بالقرب من الأهرامات والفنادق الكبرى التي تجاورها، وهم يرتدون الجلباب والقفطان ويمسكون بيدهم عصا غليظة. كما أنهم يسكنون في الغالب داخل بيوت صغيرة أغلبها من الطين واللبن لا يزيد ارتفاعها عن خمسة أمتار وبها نافذة وحيدة.

ولم يكن عددهم حينها قد تجاوز ثلاثمائة ترجمان يتوزعون في القاهرة على مختلف الفنادق والشركات، فالقاهرة وحدها كانت تضم مائتي ترجمان، ومن بين الشركات التي اشتهرت حينها بعمل جولات سياحية شركة "أمريكان إكسبريس"، التي كانت تمتلك وحدها مائة وخمسين مترجمًا يرأسهم الشيخ عبد السلام الجابري، الذي كانت تسند إليه مهمة إرشاد كبار السياح، نظير تقاضي مبلغ 48 جنيهًا مصريًّا في الشهر.

وهكذا كانت هذه الشركات هي التي تحدد جدول الجولات السياحية من خلال كشف محدد تسلمه إلى الترجمان، الذي يسلم أجرته بدوره اليومية إلى المشرفين "50 قرشًا مثلًا"، ليقوموا في نهاية كل شهر بتسليم المبلغ له، والذي لم يكن يتجاوز الخمسة أو الستة جنيهات على الأكثر، وذلك إلى جانب الإكراميات المالية التي يحصلون عليها من السياح.

أبجدية الحرفة

في وقت مبكر، كان الصحافيون والنقَّاد ينتقدون العديد من التراجمة ويأخذون عليهم عدم معرفتهم العميقة بتاريخ الآثار المصرية والمعلومات الخاطئة التي يصدرها أغلبهم إلى السياح. وفي المقابل، كان التراجمة يدافعون عن أنفسهم عبر حواراتهم في الصحف والمجلات. ففي الحوار السابق، يقول الترجمان: "يظن الكثيرون من الناس أننا جهلاء لا نعرف القراءة ولا الكتابة ولا أي شيء عن تاريخ مصر القديم، أهو أنا مثلًا.. درست حتى أتممت ونلت الابتدائية، وهذا (وأشار إلى زميل له) معه شهادة القبول ثم أخذني أبي وهو مترجم أصيل، فدربني على الإنجليزية والفرنسية اللتين حذقهما وبرع في التحدث بهما من كثرة اختلاطه بالإفرنج، ثم اشترى لي كتب التاريخ والدليل المصري؛ فدرستهما حتى أستوعبهما تمامًا؛ وكلنا يعرف القراءة والكتابة؛ ويعرف آثار مصر (حتة حتة)!".

والغريب في الأمر أنه على الرغم من هذه النقاط الإيجابية التي أوردها الترجمان، فإن النظرة السلبية تجاه المهنة ظلت قائمة لفترة من الزمن، فقد حدث في إحدى المرات أن تنكر مندوب مجلة "الدنيا المصورة" في زي سائح أجنبي ليتعرف عن قُرب على طبيعة عمل التراجمة ويومياتهم مع السياح. وقد تفاجأ، على حد تعبيره، وبحسب المقالة المنشورة بتاريخ 13 آذار/مارس 1930، من المعلومات الخاطئة التي يصدرونها إلى السياح.

تاريخ بعيد

إن الذي يتتبع تاريخ التراجمة في مصر يمكنه أن يصل إلى معلومة مفادها أن هذه المهنة متواجدة في المجتمع منذ عصور بعيدة تعود إلى العصر المملوكي. وهذا ما أورده الباحث إبراهيم محمد حامد سليمان في دراسته "الترجمان في العصر المملوكي: دليل ومرشد الحجاج الأوربيين 648 – 923 هـ / 1250 – 1517م" (مجلة كلية الآداب بقنا، 2022). فهؤلاء التراجمة كانوا ملازمين لبلاط السلطان المملوكي، وخصوصًا عند قدوم الحجاج المسيحيين أو السفراء الأجانب لزيارة السلطان.

وقد كان هؤلاء التراجمة يسمعون من الزائرين ثم ينقلون الحديث إلى السلطان بعد ترجمته إلى اللغة العربية. كما حظي الكبار منهم بمكانة رفيعة في المجتمع المصري، وذلك نتيجة للأموال الضخمة التي يملكونها. وكان بعضهم يمتلك الذهب والفضة والأحجار الكريمة، بالإضافة إلى ارتدائهم لأفخم الملابس المصنوعة من الحرير.

كما كان يُنظر إلى هذه الوظيفة، تحديدًا، على أنها من المهن المرموقة التي تدر على صاحبها رزقًا وفيرًا. وقد امتلكوا من السُلطة ما يتيح لهم السماح بدخول الحجاج الوافدين من سانت كاترين إلى القاهرة أو عدمه! بل كان يتوجب عليهم أحيانًا مراسلة هؤلاء التراجمة الكبار قبل الشروع في دخول القاهرة.

ولم تكن مهام التراجمة تقتصر فقط على التواصل بين السلطان والحجاج، بل كان من المنوط بهم أن يذهبوا – في الغالب – لاستقبال هؤلاء الحجاج عند وصولهم المطرية قبل الدخول إلى القاهرة. بل وكان هؤلاء التراجمة يخصصون المنازل المناسبة لإقامة الوافدين، وذلك إلى جانب قيامهم بإرسال مجموعة من الجنود المماليك لتأمينهم أثناء الرحلة.

وعندما تنتهي رحلة الحجاج في القاهرة، كان كبير التراجمة هو من يتولى مسؤولية ترتيب إجراءات سفرهم باتجاه الإسكندرية، حيث يزودهم ببعض صكوك السلطان المملوكي حتى لا يتعرض لهم أحد بسوء. ولعل أشهر كبار التراجمة في ذلك العصر هو تغري بردي، الذي عُرف بنفوذه الكبير وشهرته الواسعة.

وهكذا يبدو أن هذه المهنة أخذت في التطور تدريجيًّا داخل المجتمع المصري حتى وصلنا إلى القرن العشرين، حيث أصبح منوطًا بالترجمان مرافقة السياح الأجانب وإرشادهم في جولاتهم السياحية اليومية للتعرف على تاريخ مصر القديم. وتحول اسم أصحابها تدريجيًّا من ترجمان إلى مرشد سياحي "Tour Guide". وقد حددت وزارة السياحة والآثار المصرية الشروط التي يجب أن تتوافر به لمزاولة المهنة والتراخيص التي يجب الحصول عليها من أجل ذلك. بل وأصبحت لهم نقابة عامة تباشر حقوقهم وخدماتهم من حين لآخر. وتحول الترجمان مع الوقت إلى صورة من صور الماضي البعيد.

الأكثر قراءة

1

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

2

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

تحدّث الرومان واليونانيون قديمًا بإعجاب عن بخور وطيوب سبأ، لدرجة أنهم وصفوا سكانها بأنهم من أثرى شعوب العالم، وأنهم يأكلون في أوعية من الذهب، ويسكنون بيوت فارهة

3

من يمتلك الإنترنت؟

تقول ولادة شبكة الإنترنت الكثير من ناحية تحولها إلى مجال للسيطرة والربح، خصوصًا حين نضع نصب أعيننا أنها استراتيجية اتصالية أميركية

4

"يا ما في الجراب يا حاوي".. الحواة من إبهار الشارع إلى شاشات التليفزيون

لم يكن الحواة فئة طارئة على المجتمع المصري، فقد تواجدوا في الشوارع والميادين العامة منذ القرن التاسع عشر الميلادي

5

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم

اقرأ/ي أيضًا

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

تحدّث الرومان واليونانيون قديمًا بإعجاب عن بخور وطيوب سبأ، لدرجة أنهم وصفوا سكانها بأنهم من أثرى شعوب العالم، وأنهم يأكلون في أوعية من الذهب، ويسكنون بيوت فارهة

هديل عطا الله

الحاوي
الحاوي

"يا ما في الجراب يا حاوي".. الحواة من إبهار الشارع إلى شاشات التليفزيون

لم يكن الحواة فئة طارئة على المجتمع المصري، فقد تواجدوا في الشوارع والميادين العامة منذ القرن التاسع عشر الميلادي

محب جميل

طيف جيم كرو

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم

محسن القيشاوي

غزة تحت الإدارة المصرية

تسعة عشر عامًا من الزمن.. غزة تحت الإدارة المصرية

يستعرض النص أبرز المحطات التاريخية بارزة للعلاقات المصرية الفلسطينية في ظل الإدارة المصرية لقطاع غزة، التي بدأت بعد نكبة 1948، واستمرت حتى نكسة 1967

عبد الرحمن الطويل

الإسلام المغربي في إفريقيا

الإسلام المغربي في إفريقيا.. جسور روحية من فاس إلى تمبكتو

عمل المغرب على نشر الإسلام الصوفي في دول غرب إفريقيا، مما جعل الزوايا والطرق الصوفية مع الوقت فاعلًا رئيسيًا في استمرارية الروابط الروحية والثقافية بينه وبين عدة دول إفريقية

عبد المومن محو

المزيد من الكاتب

محب جميل

كاتب مصري

الحكاية السرية لتوزيع الصحف المصرية.. عصر الورق وأبطاله

مهنة توزيع الصحف والمجلات كانت من المهن الشاقة، إذ كان على الموزع أن يمشي بين الأزقة والشوارع ويقطع مسافات بعيدة لتوصيلها إلى الزبائن

العرضحالجي.. محامي الغلابة الذي توارى مع الزمن

لُقّب العرضحالجي بـ"محامي الغلابة"، وكان معتدًّا بمهنته واثقًا كل الثقة من أدواته ومهاراته سواء في كتابة العرائض القانونية أو الرسائل الغرامية

القرداتي.. مهنة منقرضة أحبها المصريون

رغم تواجد القرود في الحياة المصرية القديمة وارتباطها بالمصريين على مدار تاريخهم، فإن مهنة القرداتي اليوم أصبحت من المهن المندثرة في الحياة المصرية

حلمي التوني: طموح أن تصبح مطربًا تشكيليًا!

قدّم حلمي التوني لوحات تنبض بعناصر التراث الشعبي ومفرداته، وكان صاحب أثر ملموس في عالم صناعة الكتب والنشر عبر ما قدّمه من أغلفة متميّزة لعل أشهرها أغلفة روايات نجيب محفوظ

هاني الديب: شادية أجمل مطربة مثلت وأجمل ممثلة غنت

يتحدث هاني الديب في حواره مع ميغازين عن رحلته في الكتابة عن الفنانة المصرية شادية، حيث نقّب في تلال من المصادر لأجل توثيق مشوارها الفني

السقا المصري.. الذين رووا عطش القاهرة

لعبت طائفة السقايين دورًا أساسيًا في جلب المياه إلى بيوت القاهرة قبل ظهور محطات المياه، واعتمد الناس عليهم في نقل الأخبار وانتشارها بل وحتى تبادل الرسائل الغرامية