ولد الشاعر الفرنسي فرنسيس كومب عام 1953. وهو مترجم وناقد وناشر أيضًا. تخرّج في معهد العلوم السّياسيّة بباريس، ودرس اللّغات الشّرقيّة (الرّوسيّة والصّينيّة والمجريّة).
انخرط في الحياة السياسية في سن مبكرة جدًا، وانضم إلى حزب الشباب الشيوعي في عام 1967، وتولى العديد من المسؤوليات السياسية. أسس منشورات "زمن الكرز" سنة 1993 وأدارها حتّى 2020.
جاء في مقدمة مختاراته الشعرية "يلزم كل شيء لصنع العالم وأكثر" التي ترجمتها الشاعرة السورية مرام المصري: "يؤكد فرنسيس كومب انتماءه للتغيير، للشعوب المقهورة، ويقف في وجه الظالم، إنه يستنشق هواء العالم، ويحس بلوعة الثكالى والأطفال المشردين، يهيل التراب على قبور القتلى، قتلى الجور والبطش والاستبداد".
أصدر مؤخرًا مختارات شعرية بالفرنسية بعنوان "صرخة غزة"، ضمت قصائد لـ19 شاعرًا فلسطينيًّا.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
- ما الذي دفعك إلى الكتابة الشعرية؟ وكيف تطور أسلوبك وتوسّعت مواضيعك على مرّ الزمن والتجربة؟
أكتب الشعر منذ طفولتي، ومنذ قصيدتي الأولى (كانت قصيدة جدّ متواضعة، كتبتها في سن السادسة تقريبًا)، يبدو لي أن آلية الإلهام هي ذاتها. كنت قد كتبت هذه القصيدة الصغيرة، محاولًا التعبير عن الانطباع الذي خلفته فسحة مشمسة في الغابة، في المنطقة التي كنت أقطن فيها، سيفي، في الجنوب الفرنسي.
بشكل عام، أكتب تحت سطوة الإلهام السعيد، حتى أجعل الفرح منتشرًا. الشعر الذي أكتبه "ربيعي" أكثر من كونه "خريفيًا". أحبّ أن أتكلم عن الحبّ، عن النساء، عن الزهور، عن الطبيعة.. لكن من المؤسف أن الحياة والمجتمع قررا غير ذلك. وتحت سطوة الظروف، تعين عليّ أن أكتب الكثير من القصائد ضد ما يرعبني: الحروب في المقام الأول، الاستغلال، البؤس.. لكن ثمّة أيضًا مواضيع شخصية. المرأة التي أحببتها وقضيت معها خمسين عامًا قد توفيت في شهر حزيران/يونيو من هذا العام، بعد أن حاربت السرطان لأكثر من سنتين. لقد خلّف ذلك فراغًا رهيبًا بداخلي، بقيت طيلة أسابيع بعد هذه الحادثة غير قادر على كتابة أي شيء، ثم عاودت من جديد، حتى أحيي ذكراها، وأدركت أن الحزن والموت قد دخلا إلى شعري، ولكني أتمنى أن لا يقتلا كثيرًا متعة الحياة والحبّ، وحتى الفكاهة.
- كيف يمكنك أن تكتب الشعر بشكل شبه يومي؟
لا.. أكتب حين أشعر بالحاجة إلى ذلك، الأمر ليس وظيفة في عالم الحروف. في البداية، كنت أتبنى مبدأ ألا أكتب إلّا ما كان يبدو لي فعلًا ضروريًّا. إلّا أن مفهوم "الضروري المطلق" لديّ قد توسع، إذ أنني رغم ذلك قد نشرت ثلاثين كتابًا.
بالنسبة للكثير من الشعراء الفرنسيين المعاصرين، يولد الشعر من التلاعب باللغة، من لقاء أكثر أو أقل حرية للكلمات. إنه تتمة لتلك الثورة الفنيّة المتمثلة في السريالية. بالنسبة لي، تولد القصائد تحت تأثير الأحداث والأفكار، بإمكاني أن أقول إن كل قصائدي تقريبًا، قصائد ظرفيّة، لكن هذه الظروف يمكن أن تكون متنوعة: قد تكون رؤية مجزرة أو ابتسامة امرأة.
مهما يكن، وحتى ترى القصيدة النور، يجب أن تظهر "فكرة شعرية"، لكن ماهي "الفكرة الشعرية" بالنسبة لي؟ إنها صورة تتضمن فكرة وتربطنا بالعالم. بالنسبة لي، القصيدة مثل نافذة تفتح على العالم وتفتحه بدورها.
- ما التأثيرات الأدبية أو الحياتية التي ساهمت في تشكيل شخصيتك كشاعر؟
كلّ ما أعيشه يؤثر فيّ، وأدافع عن تأثير الكثير من الشعراء، لا أحد يكتب على صفحة بيضاء. على سبيل المثال تأثرت كثيرًا: ببريشت، ناظم حكمت، ماياكوفسكي، نيرودا، ريتسوس، ويتمان، محمود درويش.. ومن بين الشعراء الفرنسيين تأثرت بالعديد منهم من فرنسوا فيون إلى أراغون وإيلوار، مرورًا بأبولينير. ولأسباب مختلفة، ألهمني بعضهم بغناء اللغة، في حين ألهمني آخرون بإحساسهم بالإخوة الإنسانية، التي باتت تتماهى مع فكرة الشعر نفسها بالنسبة لي. في عالم مهدد بفقدان الإنسانية، الشعر في نظري يملك فضل توسيع حدود القلب.
- كيف تقيّم العلاقة بين الشاعر والقارئ؟ وهل هذه العلاقة بخير في زماننا؟
سؤال واسع.. في بلد كفرنسا، حيث لا ينتشر الشعر شعبيًا اليوم، وحيث تباع دواوين الشعر بشكل قليل، أعلم أن الشعر يُلبي حاجة عميقة، لقد تمكنت من قياس ذلك خلال الخمس عشرة عامًا التي قضيتها بنشر القصائد في ميترو باريس؛ وقد حظيت هذه الحملة بإعجاب كبير من قبل مستخدمي الميترو. لكن "توسيع دائرة القراء" معركة دائمة، والمفارقة تكمن في وجود عدد كبير من الأشخاص الذين يكتبون الشعر مقارنةً بأولئك الذين يقرؤونه !
- ما الذي تغيّر في الشعر الفرنسي الحديث بحسب متابعتك منذ بدأت الكتابة وحتى الآن؟
عندما نشرت كتابي الأول عام 1981، كان أغلب الشعراء يعتبرون الشعر "عملًا على الكتابة". أنا أنتمي لجيل متعلق بممارسة القراءات العامة التي ساهمت في إضفاء بعد شفهي على القصيدة، لكن خلال أربعين عامًا، شهدت انقلابًا. اليوم، أصبح هذه البعد الشفهي غالبًا مهيمنًا، إلى درجة أن الجمهور يرفعه على الكتابة والشعر أحيانًا.
- من أين جاءت تسميتك بـ"آخر شيوعي في الشعر الفرنسي"؟
-إنه شاعر سوري، التقيت به في دمشق، شوقي بغدادي- اليوم هو متوفى- منحني بنصف جدّية، وبنصف سخرية هذا "اللقب المجيد" (اليوم، ولحسن الحظ لست وحيدًا بهذا القدر) لكن بالفعل أنني شيوعي منذ سن الرابعة عشر، وحين أرى الأضرار التي خلقتها الرأسمالية في العالم، يمكنني أن أعترف، بيننا، ألا رغبة لي في التغيير. لقد كنت الأمين العام لطلاب الشيوعيين في فرنسا في الفترة التي كانت فيها أكبر منظمة سياسية لطلبة، وقد كتبت كثيرًا حول الشيوعية والمشاكل المرتبطة بها، بما فيها تلك المرتبطة بالشعر.
أحد أهم كتبي عنوانه "قضية الكومونة" ويتناول تاريخ الثورات منذ العصور القديمة إلى يومنا هذا؛ الكومونة، لينين، ستالين، ماو.. لكن أيضًا الانتفاضات في العصور القديمة أو تاريخ القرامطة الذي لا يعرف عنه الكثير في أوروبا. الفكرة العامة هي أنه على الرغم من كلّ الخيبات والفشل والخيانات، إلى الحد الذي لا يمكننا تخيله؛ إذا كنّا سنتخلى عن الأمل في إنسانية قادرة على تجاوز انقساماتها، وتصالحها مع ذاتها ومع الطبيعة، فإننا سنتخلى عن فكرة الإنسانية نفسها. لا توجد إنسانية إلّا ضمن مشروع إنساني.
- ما أكثر القضايا أو المواضيع التي تهمك وتظهر باستمرار في قصائدك؟
لقد كان موضوع كتابي الأول "متدربو الربيع" عن "الحبّ، الحياة، الثورة" (ترجمه الكاتب الجزائري طاهر وطار إلى العربية ونشر تحت عنوان "الربيع الأزرق"). ثم واصلت الكتابة. مؤخرًا ترجمت الشاعرة السورية مرام المصري مختارات من قصائدي ونشرت في الكويت مع "دار الفراشة" تحت عنوان: "يلزم كل شيء لصنع العالم وأكثر"، والتي تقدم فكرة عن التنوع في المواضيع، ولكن أيضًا لأشكال الشعر التي أكتبها، هجائية أو غنائية، حول الحكاية ذات العبرة أو تلك التي تتسم بالدعابة والفنتازيا.
- ما دور الشاعر في دعم وتمثيل القضايا الاجتماعية والسياسية بحسب تجربتك كشاعر منخرط في الشأن العام؟
إذا كان الرجل أو المرأة، الذي يكتب الشعر، لا يعيش في جزيرة منعزلة، وإذا كان يعيش وسط الآخرين وليسا محبوسًا داخل فقاعته، فإن أحداث العالم ستؤثر فيه ومن الطبيعي أن يعبّر شعره عن ذلك.
بالتأكيد، ليس كافيًّا الدفاع عن أفكار سياسية في قصيدة لجعلها قصيدة سياسية مفيدة. من الضروري أن تكون قبل ذلك قصيدة حقيقية. إذ إن الخطاب وحده لا يكفي، إذا كان الأمر مجرد تكرار لما تقوله الخطابات فهذا لا طائل منه، خاصةً أن دور الشاعر ليس الإقناع، بل إعطاء شكل لمشاعر وأفكار مشتركة، لهذا يجب الالتفاف من خلال الإبداع الشعري، الصورة، الكلمة، الفكر الشعري الذي يقول أقل وأكثر مما تقوله السياسة أو الفلسفة. إنه يُعبر عما يشعر به الشاعر ويعيشه، ولهذا السبب بالضبط، يمكن ممارسة الرقابة على قصيدة سياسية حقيقية، لكن لا يمكن الاعتراض عليها من قبل أي شخص.
- في نقدك للتسليع تقول في إحدى قصائدك إن المرأة الغربية باتت مجرد صورة فقط، وهذه الصورة بلا حياة وبلا مشاعر وبلا أحلام.. إلى أي حدّ خلقت الرأسمالية كوارث من هذه النوع؟ وهل تؤمن بوجود مخرج إنساني؟
لحسن الحظ، أن أغلب النساء الغربيات لسْنَ مجرد صور، وهذه بالمناسبة خلاصة قصيدتي. لكن بالفعل عالم السلع يفرض صورًا نمطية، لذلك، فإنّ دور الشاعر الغربي هو كذلك نقد هذه الصور، بأن يدخل الواقع في القصيدة، وكذلك الحياة وتناقضاتها، دون أن ننسى أن أحلامنا هي الأخرى جزء من واقعنا.
- لديك قصائد عن غزة، وعن رفضك للاستعمال السياسي لمصطلح "معاداة السامية"، كيف تنظر إلى القضية الفلسطينية كشاعر وإنسان؟ وهل تعتبر أن للشاعر دورًا في نقل معاناة الشعوب المظلومة كالشعب الفلسطيني؟
الابتزاز بمعاداة السامية، كالذي يمارسه القادة الإسرائيليون، وأغلب وسائل الإعلام الغربية، لا يمكنه إخفاء جسامة مشروع نتنياهو الإجرامي المتجسد في المجازر ومحاولة إبادة الشعب الفلسطيني وثقافته وتاريخه وهويته ومستقبله.
أعتقد، وكما كتبت ذلك في إحدى قصائدي، أنّ أسوأ المعادين للسامية اليوم هم القادة الإسرائيليون، فهم من يسيئون لليهود في كلّ العالم، إذ حوّلوا أحفاد ضحايا النازية إلى جلادين بدورهم، وفي أحيان كثيرة إلى نازيين حقيقين.
المخرج؟ ربّما يكمن في الوقوف جنبًا إلى جنب في دولتين، قابلتين لتعايش. ربّما يكمن في نهاية المطاف، في فلسطين علمانية وديمقراطية، متجردة من كلّ ثيوقراطية. وهذا بالضبط ما يتعين على الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي تقريره بشأن مستقبلهما، لا أنا. لكن لا يبدو أن ثمّة حل، بالنسبة للطرفين، خارج السلام والتعايش. لهذا، يجب إيقاف المجازر عاجلًا، ووقف إطلاق النار، وإطلاق سراح الأسرى، ومن ثم إنهاء الاستعمار وسياسة الفصل العنصري، ربما السبيل الذي اتبعته جنوب إفريقيا ممكن.
- هل تعتقد بأن هناك مكانة ما للشعر في عصرنا الرقميّ المتسارع؟
يدعونا الشعر إلى التأني، وأخذ الوقت للقراءة، للتفكير والتأمل، للحلم وتذوق العالم والحياة... الحبّ والخمر تمامًا مثلما كان الحال عند أبو نواس!
الشعر هو شكل من أشكال مقاومة السرعة المجنونة لنمط الحياة الرأسمالية. الأشكال القديمة للقصيدة تواصل حضورها. بدءًا بالقراءة، الفردية، أو أمام الجمهور. أما الكتاب، وإن كان في وضع سيئ، فهو لم يمت بعد. سيواصل وجوده ويظل ذا قيمة. إلا أن الوسائل الرقمية تمنح بدورها تصورات جديدة، فالقصائد المنشورة على الفيسبوك بإمكانها أن تصل في غضون ساعات، بل وحتى دقائق، إلى عدد كبير من القراء، وهو ما لا يمكن للكتاب أن يفعله. وكما يقول الشاعر؛ حيث ينمو الخطر، ينمو أيضًا من ينقذ.