باسل رزق الله - سفيان البالي
"عصر الاحتباس الحراري انتهى وحل عصر الغليان العالمي". بهذه الكلمات الدرامية وصف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، حالة العالم في نهاية شهر تموز/يوليو 2023، الذي اعتُبر أكثر الأشهر سخونة في التاريخ منذ بداية تسجيل درجات الحرارة. وأضاف غوتيريش أن: "الإنسانية في موقف ساخن"، داعيًا إلى إجراءات دراماتيكية وفورية من أجل تدارك الكارثة في بدايتها وتجنب الأسوأ.
لسنوات طويلة، كان الحديث عن التغير المناخي مجرد حديث يدور في المؤتمرات ويبدو بعيدًا عنا جميعًا نظرًا لعدم انعكاسه بشكلٍ كبير على الحياة اليومية، خاصةً في دول الجنوب العالمي التي تقاتل حتى الآن على توفير الغذاء والماء النظيف قبل التفكير في هواء قابل للتنفس ومناخ معتدل. ولكن موجة الحر التي ضربت العالم في 2023، واعتُبرت الأعلى في غالبية بلدان العالم، كانت مؤشرًا أساسيًا على تعميم الاهتمام في التغير المناخي.
وبينما يعاني العالم من درجات الحرارة المرتفعة التي تهدد نمط الحياة القائم، تبحث دول الشمال - التي تنبعث منها أكبر كمية من غازات الاحتباس الحراري - عن ساحة صراع جديدة في العالم، وتعمل على زيادة سباق التسلح في سبيل السيطرة على الموارد في مناطق أصبح بالإمكان الاستفادة منها نتيجة الاحتباس الحراري.
الصراع على القطب الشمالي
في 6 آب/أغسطس 2023، أرسلت الولايات المتحدة الأميركية أربع سفن حربية، إضافةً إلى طائرة استطلاع، إلى سواحل ولاية ألاسكا بعد الكشف عن دورية عسكرية صينية وروسية مشتركة بالقرب من الولاية.
كانت هذه الدورية المشتركة أكبر دورية عسكرية تقترب من الأراضي الأميركية، وقد وصفها ضابط البحرية المتقاعد، وكبير الباحثين في مؤسسة "هيريتيج فاونديشن"، برينت سادلر، بأنها "سابقة تاريخية" ومناورة "استفزازية للغاية".
وجاء هذا التحرك بعدما كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن رصد البحرية الأميركية خلال دورية في بحر بيرنغ (المتجمد شتاءً)، سبع سفن صينية وروسية تبحر في المياه المتجمدة بالقرب من جزر ألوشيان (الجزر الأليوطية) في ألاسكا. ومن بين هذه السفن كانت المدمرة الصينية "نانتشانغ" التي كانت تشارك في تدريبات مشتركة مع البحرية الروسية ودخلت في المياه الأميركية. وحول ذلك، قالت الصحيفة الأميركية إن السفن قامت بإرسال: "رسالة لا لبس فيها حول القيمة الاستراتيجية للمنطقة بالنسبة لموسكو وبكين".
وأشارت الصحيفة الأميركية إلى أن الطائرات الروسية زادت من دورياتها فوق القطب الشمالي وتوغلت في الجنوب. فيما قال جهاز المخابرات النرويجي إنه مع ضعف القوات الروسية التقليدية بسبب الحرب في أوكرانيا، فإن أسلحتها الاستراتيجية تكتسب أهمية أكبر، ومن بينها الغواصات المسلحة نوويًا التابعة للأسطول الشمالي.
ساهمت هذه التحركات الروسية والصينية في وصول الولايات المتحدة إلى استنتاج يفيد بضرورة تعزيز وجودها في القطب الشمالي من خلال إضافة كاسحات الجليد باعتبارها أداة حيوية لوجود دائم في البحار الجليدية.
وفي مقارنة بالأرقام، تمتلك الولايات المتحدة كاسحة جليد واحدة، مقارنةً بـ13 كاسحة جليد تمتلكها روسيا، ما يعني أن الولايات المتحدة ستعمل على امتلاك المزيد من كاسحات الجليد في ظل التغير المناخي. وفي السياق نفسه، ارتفع عدد السفن التجارية والحكومية التي ترفع العلم الروسي، والنشطة في مياه القطب الشمالي، إلى متوسط شهري بلغ 709 سفن في عام 2022، بزيادة قدرها 22% منذ عام 2018.
بماذا يهتم العالم؟
رغم درجات الحرارة القياسية وإمكانية خسارة منطقة طبيعية إلى الأبد، فإن التركيز يدور حاليًا حول الفجوة بين الدول الغربية وروسيا والصين في سياق امتلاك الأسلحة والتقنيات التي تمكّن من العمل في هذه المنطقة قليلة السكان والفقيرة بالبنية التحتية. وتشير المصادر الأميركية إلى ضرورة إضافة المزيد من الأقمار الصناعية والطائرات المُسيّرة والسفن البحرية والرادارات بعيدة المدى من أجل تقليص فجوة التسلح، إضافةً إلى التركيز على الفجوة الكبيرة بالاستثمار في كاسحات الجليد التي يمكن أن تبحر عبر المياه المتجمدة.
وتتطلع موسكو إلى زيادة أسطولها الضخم خلال العام الحالي، 2024، بإضافة ثلاث كاسحات جليد جديدة من المفترض أن يتم تجهيزها بصواريخ "كاليبر كروز". ويمكن أن تسافر هذه الكاسحات بين سلسلة من القواعد العسكرية الجديدة التي فتحتها روسيا فوق الدائرة القطبية الشمالية. كما تلقت القواعد العسكرية أسطولًا من المقاتلات الروسية "Su-34" للتحليق فوق الممرات المائية في القطب الشمالي.
وفي المقابل، لا تمتلك الولايات المتحدة الأميركية كاسحة جليد مخصصة طوال العام لمنطقة القطب الشمالي، فيما تمتلك الصين الآن أكبر قوة بحرية في العالم من حيث الحجم، مع وجود طرادات ومدمرات مثل "نانتشانغ".
ما الذي استجد على المنطقة؟
يدور الصراع حول منطقة كانت سابقًا منعزلة لا يمكن المرور فيها بسبب الجليد. غير أن ذوبانه في المتجمد الشمالي سيجعل المنطقة ساحة للصراع، خاصةً أنها منطقة غنية بالموارد من جهة، وأن روسيا ترغب في الحصول على طريق بحري للشحن التجاري في مياهها المتجمدة من جهة أخرى.
المعلومة الأساسية هنا أن الاحترار في القطب الشمالي يَحدث أسرع بمرتين مقارنةً ببقية الكوكب، إذ وصل انتشار الجليد فيه عام 2020 إلى أدنى المستويات المسجلة على الإطلاق. وتعود أهمية هذا الصراع بالنسبة إلى روسيا لكونه يخفض ثلث مسافة الشحن بين آسيا وأوروبا، مقارنةً بالشحن عبر بحر الصين الجنوبي.
وكان الحديث عن الأمر، في عام 2021، يجري في سياق الصراع الاستراتيجي - وكذلك الصراع على النفوذ - بين روسيا والصين والولايات المتحدة على المنطقة وحول المرور التجاري وتنظيمه. لكنه اتخذ مع حرب أوكرانيا شكل صراعٍ عسكريٍ بارد على المنطقة، خاصةً بعد العقوبات الغربية على روسيا، حيث زاد نشاط سفن نقل الغاز الروسي عبره رغم التحذيرات البيئية من أضراره الدائمة في منطقة هشة وقابلة للانكسار بشكلٍ سريع، إذ تشير تقديرات بيئية إلى إمكانية أن يصبح القطب الشمالي خاليًا من الجليد ما بعد عام 2030.
وفي لقاء جمعه بالرئيس الأميركي جو بايدن، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: "ستصبح الملاحة عمليًا على مدار العام بسبب تغير المناخ"، وذلك في إطار حديث مطول دار بينهما، عام 2021، عن القطب الشمالي بعد اتهامات واشنطن لموسكو بـ"عسكرة" المنطقة من خلال إعادة فتح قواعدها العسكرية، التي تعود إلى الحقبة السوفيتية، هناك.
يضاف إلى هذه المصالح الاقتصادية مخاوف روسيا الاستراتيجية الجدية من انكشاف حدودها الشمالية أمام خصومها في "الناتو" بعد انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف. وطوال تاريخها، كانت الحدود الشمالية الروسية محمية بحاجز طبيعي هو القطب المتجمد، وهو ما عزز خيار تخزين معظم الترسانة النووية للبلاد في الشمال خلال الحقبة السوفيتية. واليوم، تخزن موسكو النسبة الأكبر من ترسانتها النووية في إقليمي مورمانسك وكاريليا، حيث يقع مقر الأسطول الشمالي وقاعدة الغواصات النووية "غادجييفو".
فلاديفوستوك.. موطن النزاع بين الحلفاء؟
في شهر آذار/مارس 2023، بعد أسابيع قليلة على إتمام الحرب في أوكرانيا عامها الأول، حطت طائرة الرئيس الصيني شي جين بينغ في مطار العاصمة الروسية في زيارة كانت مفعمة بالمشاعر الجياشة للحليفين والصديقين المقربين، شي وبوتين الذين لم يتوانيا عن إبراز تلك المودة، بقصد قرأ فيه عدة محللين محاولة جاهدة لنفي العزلة الدبلوماسية التي يعيشها الرئيس الروسي منذ حربه مع أوكرانيا.
ولم تنته تلك الزيارة دون أن يوقع الطرفان إعلانًا مشتركًا لتعميق: "الشراكة الاستراتيجية الشاملة للتنسيق في العصر الجديد والضغوط التي تسوي الأزمة الأوكرانية من خلال الحوار"، جاء فيه أن العلاقة بين الصين وروسيا: "ناضجة ومستقرة ومستقلة وراسخة"، وليست: "مماثلة للتحالف العسكري والسياسي خلال الحرب الباردة"، حيث يعتبر البلدان: "بعضهما البعض شريكين تعاونيًا ذا أولوية، ويحترمان بعضهما البعض ويعامل كل منهما الآخر على قدم المساواة".
لكن روح الوئام والأخوة قد تتغير حين نذهب من موسكو نحو أقصى الشرق، ومن العاصمة بكين إلى الشمال، حيث تقع مدينة فلاديفوستوك الساحلية، ملتقى التنافس الشرس بين الحليفين روسيا والصين. فالمدينة، بالنسبة إلى الروس، هي جزء لا يتجزأ من ترابهم الوطني، وهو الإحساس نفسه لدى الصينيين الذين يرونها جزءًا من الأراضي التاريخية لبلادهم استولت عليها روسيا خلال القرن الـ19.
اليوم، يزيد الاهتمام بفلاديفوستوك بدرجات أكبر من هذه المناكفات القومية والنزاعات الحدودية، ويتعداها إلى كونه حلقة من التنافس الدولي حول القطب الشمالي، إذ جعلت التغيرات المناخية ميناء المدينة الساحلية قابلًا للاستغلال بشكل أوسع ولمدُد أطول في العام نتيجة ارتفاع درجات الحرارة ونقص التساقطات واتساع فترة الأشهر الحارة التي تذوب فيها مياه البحر المتجمدة حول المدينة.
وتشير إلى ما سبق مقالة للباحث الأميركي في العلوم السياسية، ألكس ميركر، بعنوان "نهضة موانئ المياه الباردة الروسية"، يجادل فيها بأن التغيرات المناخية وتطور تكنولوجيا كسح الجليد دفعت روسيا إلى تغيير نظرتها إلى موانئها المطلة على المياه الباردة، حيث أصبحت هذه الموانئ، ومن بينها فلاديفوستوك، فرصة للوصول إلى مصادر المعادن وفتح طرق ملاحة جديدة يمكن أن تغني الروس عن سعيهم المضني وراء السيطرة على موانئ مياه دافئة مثل سيفاستوبول على البحر الأسود، وطرطوس على البحر الأبيض المتوسط.
وهي الإغراءات نفسها التي ترمي بالصين في مسار السعي للاستحواذ على امتيازات في ميناء فلاديفوستوك، وربما لعب ورقة استرجاعها إلى إقليم منشوريا شمال البلاد. ويرى محللون أن المدينة أصبحت قنبلة موقوتة يمكن أن تفجّر في أي لحظة علاقة "الصداقة غير المحدودة" بين موسكو وبكين.
وبرزت أولى مؤشرات هذا النزاع عندما احتفت السفارة الروسية في الصين بالذكرى الـ160 لتأسيس فلاديفوستوك، حيث أثار الأمر حينها حفيظة دبلوماسيين وإعلاميين صينيين مقربين من مركز القرار، وعلقوا عليه بالقول: "فلاديفوستوك كانت مدينة صينية تدعى هيشنواي، وستعود للأراضي الصينية".
من جانب آخر، تسعى الصين إلى لعب ورقة الدخول السلس والصامت إلى المدينة، ومنطقة سيبيريا، من باب الاستثمارات وتطوير البنى التحتية واستغلال الميناء المذكور، صاحب الطاقة الاستيعابية المقدرة بمليون حاوية في السنة. وهو ما تم تأكيده في شهر أيار/مايو 2023 حينما أعلنت الحكومة الروسية السماح بفتح ميناء فلاديفوستوك للناقلات الصينية، وإعفاء السلع التي تنقل إليه برًا من الضرائب، وهو ما سيخفض تكلفة تصدير السلع الصينية ويسهل وصولها نحو الوجهات في شمال المحيط الهادئ.
وتمثل الاستثمارات الصينية في إقليم بريمورسكي كراي (أقصى شرق روسيا) ما بين 70 إلى 80% من إجمالي الاستثمارات الخارجية هناك. كما يشهد الإقليم حركة توطين واسعة للصينيين. وبحسب تقديرات الباحث ياروسلاف زولوتاريوف، فإن عدد العمال المهاجرين الصينيين في الشرق الأقصى الروسي ارتفع بمقدار 400 ألف منذ كانون الثاني/يناير 2017، بينما فقد الإقليم الروسي مليوني شخص في الفترة نفسها نتيجة ارتفاع معدلات الوفيات والهجرة الخارجية.
وتثير هذه التحركات امتعاض عدد من الفاعلين الروسيين الذين يرون أن الصين تقتنص انشغال بلادهم بالحرب في أوكرانيا لإطباق سيطرتها على سيبيريا وفتح باب نحو بحر الشمال المتجمد. وكتب الصحفي الروسي ألكسندر سوتنيك: "الإغراء الاقتصادي على شكل مشروع أنابيب "قوة سيبيريا" ليس أكثر من طعم يتلقفه مسؤولونا اللصوص عن طيب خاطر. وفي الوقت ذاته، فلاديفوستوك أصبحت بالفعل (مدينة) صينية"، مضيفًا: "لم يعد التوسع الصيني قصة رعب خيالية، بل حقيقة قاسية".
"الناتو" ليس أقل انقسامًا
من ناحية أخرى، لا ينقص الحلفاء في "الناتو" مثل هذا التنافس الداخلي الشرس على المصالح في القطب الشمالي، وهو ما يبرز جليًا في جهود الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، عام 2019، للوصول إلى اتفاق مع الدنمارك من أجل شراء جزيرة غرينلاند، التي تتمتع بحكم ذاتي تحت سيادة العرش في كوبنهاغن. وخلال فترة حكمه، تحدث ترامب عدة مرات بين مستشاريه وعناصر إدارته، بدرجات متفاوتة من الجدية، بشأن شراء غرينلاند، مجادلًا بأن السيطرة على الجزيرة الدنماركية سيمنح الولايات المتحدة المزيد من الموارد، كما ستمنحه إرثًا مشابهًا لحصول الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور على ألاسكا.
وكان الرد الدنماركي على الرئيس الأميركي وقتها صريحًا بأن "غرينلاند ليست للبيع"، معتبرةً أن عرضه كان "سخيفًا"، وهو ما أثار امتعاض ترامب الذي اعتبر أن تصريحات الخارجية الدنماركية "بغيضة"، وألغى على إثرها زيارة كانت مبرمجة له إلى الدولة الأوروبية بدعوة من ملكتها مارغريت الثانية.
وبعد رحيل ترامب، أكدت إدارة الرئيس جو بايدن عدم رغبتها في شراء غرينلاند، حيث صرّح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، خلال زيارة إلى الجزيرة في أيار/مايو 2021، بأن بلاده لم تعد ترغب في شراء غرينلاند. وقال بلينكن في المنطقة المطلة على القطب الشمالي: "أنا في غرينلاند لأن الولايات المتحدة تقدر بشدة شراكتنا وتريد أن تجعلها أقوى"، مؤكدًا استبعاد خيار شراء الجزيرة.
لا يقف التنافس داخل "الناتو" حول البحر المتجمد الشمالي عند هذا المثال، إذ اندلع منتصف العام الفائت تنافس جديد بين النرويج والمملكة المتحدة عقب إعلان أرخبيل أوركني (شمال إسكتلندا) دراسته فكرة الانفصال عن بريطانيا والانضمام إلى النرويج. وفي 3 تموز/يوليو 2023، أشارت تقارير نشرتها "رويترز" إلى أن مجلس أوركني يريد الانفصال عن المملكة المتحدة والانضمام إلى النرويج. وتحفظت الخارجية النرويجية على التعليق على الأمر، واكتفى المتحدث باسمها بالقول: "هذا شأن داخلي بريطاني ومسألة دستورية محلية. ليس لدينا رأي بخصوص هذا الاقتراح".
ويتكوّن أرخبيل أوركني من نحو 67 جزيرة تمتد على بُعد 16 كيلومترًا من السواحل الشمالية الإسكتلندية. وكانت هذه الجزر تحت سيادة العرش النرويجي قبل أن تُهدى إلى المملكة المتحدة قبل 500 سنة. وما زال سكان أوركني يحافظون على ارتباطهم الثقافي بالنرويج. وفي 17 أيار/مايو 2020، احتفل مجلس الأرخبيل باليوم الوطني للنرويج برفع راية المملكة جنبًا إلى جنب مع راية الأرخبيل على المباني العامة.
وتعد أوركني وشتلاند موطئ القدم البريطاني في الحلقة القطبية، ما يعني أن انفصال الأرخبيل قد يحرمها شرعية المشاركة في التنافس الدولي حول المنطقة، عدا عن موارد الطاقة الأحفورية التي تزخر بها مياه الأرخبيل، إذ أنتجت أوركني خلال العقد الأخير فقط ما يناهز 28 مليون برميل من النفط، وذلك بالإضافة إلى تكاثر نشاط بناء محطات الطاقة الريحية وتوربينات إنتاج الكهرباء عبر حركة الأمواج. وفي شهر مارس/آذار 2023، صادق مجلس أوركني على تشييد ثلاث محطات طاقة ريحية من شأنها أن تزوّد 2.5 مليون منزل في إسكتلندا وبريطانيا بالكهرباء النظيفة.
الكارثة بوصفها فرصة
الغاية من سباق روسيا والصين والغرب على هذه البقعة الجغرافية هي استغلال الموارد الهائلة غير المستغلة أو المكتشفة التي بدأت تتكشف مؤخرًا، خاصةً بعد أن أصبحت فرصة العمل فيها ممكنة نتيجة الاحتباس الحراري، وبالتالي قدرة أكبر على استغلال المنطقة. ويُعتقد أن القطب الشمالي يحتوي على حوالي 13% من احتياطيات النفط غير المكتشفة في العالم، و30% من احتياطيات الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى رواسب ضخمة من المعادن مثل الزنك والحديد والمعادن الأرضية النادرة.
وتمتلك روسيا ما يعد أكبر احتياطي غاز طبيعي في العالم تحت شبه الجزيرة المتجمدة "يامال"، إذ يقدر حجمه بـ26.5 تريليون مكعب، أي 20% من احتياطي الغاز في البلاد. بالإضافة إلى احتياطي نفطي قُدِّر بـ300 مليون طن من الخام، و1.6 مليار طن من الخام المكثف. وخلال السنوات الأخيرة، شرعت روسيا في استغلال موارد الطاقة الأحفورية في يامال، وبلغت القدرة الإنتاجية لمحطات "غازبروم" في شبه الجزيرة 100 مليار متر مكعب من الغاز عام 2021، إضافةً إلى 16.5 مليون طن من الغاز المسال.
لماذا الآن؟
ساهم ذوبان الجليد في فتح الممرات البحرية بعيدة المدى، مثل طريق البحر الشمالي من شرق سيبيريا إلى شمال المحيط الأطلسي، ما جعل من الملاحة في المنطقة ممكنة، عدا عن أن الطريق من شمال أوروبا إلى الصين أصبح أقصر.
وستمكّن هذه التطورات روسيا والصين من السيطرة على البحر المتجمد الشمالي اقتصاديًا، حيث سيصبح لدى بكين طرق بحرية جديدة لصادراتها نحو أوروبا الشمالية والغربية والساحل الغربي للولايات المتحدة وكندا، وهي أقصر بنحو 40% مقارنةً بمرورها من قناة السويس، وفق ما سبق وأشارت إليه وكالة "روس أتوم" الروسية. ناهيك عن إنقاذها سلاسل التوريد الصينية من المشاكل البنيوية التي تشهدها قناة السويس المصرية، والتي اتضحت جلية عبر حوادث جنوح عدة سفن داخلها.
وتسعى الدول المذكورة سابقًا إلى تحويل الأزمة المناخية إلى ميزة قومية، مع وجود بُعد عسكري واستراتيجي هام. وسبق أن شدّد "البنتاغون"، في تقرير صادر في حزيران/يونيو 2021، على الحاجة إلى الحفاظ على "المزايا العسكرية التنافسية" للولايات المتحدة مقابل روسيا ودخول الصين إلى المنطقة، حيث أعلنت الأخيرة أنها "دولة قريبة من القطب الشمالي"، في إشارة إلى رغبتها في التنافس على المنطقة.
وترى الولايات المتحدة أنها "متأخرة في اللعبة" بالقطب الشمالي، وأن التعاون الصيني الروسي هناك يعكس "تهديدًا استراتيجيًا" لها. وذكر تقرير "البنتاغون" أن روسيا تعتبر نفسها "قوة قطبية عظمى"، وأشار إلى: "قواعد عسكرية جديدة على طول ساحلها وجهد منسق لإنشاء أنظمة دفاع جوي وصواريخ ساحلية".
والصراع على المنطقة مفتوح وبلا قواعد. وبموجب القانون الدولي، فإن القطب الشمالي والمحيط المتجمد الشمالي لا تمتلكه أي دولة. لكن جميع الدول الساحلية لديها 200 ميل بحري من المناطق الاقتصادية الخالصة.
وتشهد المنطقة نشاطًا عسكريًا ومدنيًا متزايدًا، حيث أعلنت روسيا، في نيسان/أبريل عام 2021، عن برنامج جديد لبناء موانئ القطب الشمالي والبنية التحتية الأخرى، وتوسيع أسطول كاسحات الجليد. كما تطوِّر الصين مع روسيا حقول الغاز الطبيعي، وكانت جهودها البحثية المدنية تُنذر بـ"الوجود العسكري الصيني المستقبلي المعزز" في القطب الشمالي، الذي يحتمل أن يشمل غواصات نووية.
وفي السياق نفسه، كانت البحرية الأميركية تخطط لعمليات "حرية الملاحة" في القطب الشمالي مماثلة لتلك الموجودة في بحر الصين الجنوبي، باستخدام الأسطول الأميركي.