في غرفة ضيقة لم يستطع شعاع ضوء اللمبة الصغيرة ذات اللون الأصفر التغلب على ظلمتها، تتجمع الأشولة (أكياس كبيرة) التي تحوي علب البلاستيك بأشكالها المختلفة، أو علب الصفيح، وغالبها من مخلفات الكانز، حيث اعتاد أطفال عائلة الحاجة "أم زياد" في منطقة الطالبية بحي الهرم الشهير، جمع كافة أنواع المخلفات. ومع نهاية كل شهر، تُقدِم أم زياد على بيع ما تم جمعه، وتخصيص عوائده للمساعدة بتوفير مستلزمات الدراسة لأحفادها الـ10، وذلك في ظل معاناة الآباء الأربعة مع توفير مستلزمات الأسرة نتيجة الضغوط المتزايدة للأزمة الاقتصادية التي تعيشها الأسر المصرية.
اللافت أن أم زياد لا تعمل في هذا المجال، بل إن أولادها الأربعة حاصلون على مؤهلات عليا ويعملون بها، سواء في التدريس أو الشركات الخاصة، ولكنها وجدت هذا النشاط لجمع المخلفات البلاستيكية والصفيح منتشر بقوة في قريتها التي ولدت بها، وذلك عند زيارتها لمحافظة سوهاج الصيف قبل الماضي. ورغم رفضها في البداية لتلك الفكرة الشبيهة بمهنة فرز القمامة، التي يُنظر إليها في المجتمع المصري بازدراء، إلا أن عوائدها وطريقة الجمع المختلفة دفعاها إلى تخصيص تلك الغرفة فوق منزلها الصغير للعمل في هذا المجال.
ولا شك في أن للأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر، منذ عدة سنوات، انعكاسات كبيرة ومؤثرة على المجتمع. ورغم التأثيرات السلبية الكثيرة للأزمة، إلا أن هناك بعض الأمور الإيجابية، خاصةً لناحية التحول الكبير في ملف الثقافة البيئية، حتى ولو كانت غير متعمدة، ولكنه واقع يستحق الرصد والعمل على تطويره.
المنظور الأشمل للنفايات.. رواج مبادرة كلينتون
نموذج أم زياد ليس حالة فردية، لكنه يعكس تغيرًا كبيرًا داخل المجتمع المصري في التعامل مع النفايات الصلبة، فالأمر لا يقتصر على نطاق ضيق، بل أصبح جزءًا من واقع المجتمع داخل العديد من الأحياء بغض النظر عن طبيعة الأسر بل وجنسيتها أيضًا. فاطمة شمس ربة منزل تعيش في منطقة أرض اللواء، وهي منطقة شعبية تجاور منطقة المهندسين في محافظة الجيزة، تقول إن مهنة إعادة تدوير النفايات الصلبة تشمل إعادة بيع الكتب والورق الدراسي بعد نهاية السنة الدراسية، وتجميع عبوات البلاستيك وعبوات الصاج، سواء كانز أو علب لبن أطفال أو علب سمنة، وإعادة بيع الزيت المستعمل.
لم يتوقف الأمر عند ذلك، إذ تقول فاطمة، وهي في العقد الرابع من عمرها، إن ذلك يشمل أيضًا المخلفات العضوية، حيث "يتم تجميع (العيش الناشف) وبيعه، والبيوت التي بها مساحة لتربية الطيور تستخدم مخلفات الأكل لإطعامها. أما الملابس، فأصبحت تتوارث بين الأطفال، سواء داخل الأسرة الواحدة أو بين الأقارب والجيران، أو أن تذهب إلى دار الأيتام، أو تُعاد خيطاتها لإنتاج القماش في ثوب جديد يناسب الأطفال".
وتضيف فاطمة، تعمل في مجال بيع الملابس ولها علاقات واسعة داخل الحي، أن "الأمر أصبح هو المعتاد داخل الحي، وحتى اللاجئين السودانيين عندما حضروا إلى المنطقة، وبكثافة كبيرة جدًا، بدأوا العمل بهذه المهنة". وأوضحت أن الدوافع لا تقتصر على الضغوط الاقتصادية، إذ من بين من يعمل في هذه المهنة: "أسر ميسورة، ولا يشربون إلا المياه المعدنية، ولكن يقومون بجمع القارورات الكبيرة الفارغة، ويعيدون بيعها". ولو أن فاطمة ومن قبلها أم زياد روت ما روته لنا في دوائر منظمات البيئة العالمية، فإنهم سيقولون على الفور إن ما تقومان به هو تطبيق مفهوم المنظومة الشاملة لإدارة النفايات الصلبة كأداة لحل العديد من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
أبرز الأصوات التي تحدثت عن تلك الرؤية هو الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، عندما قال في المؤتمر السنوي لـ"مبادرة كلينتون العالمية"، عام 2010، إنه "إذا أردتم محاربة التغير المناخي، تحسين الصحة العامة، إيجاد فرص عمل للفقراء، وخلق مناخ مناسب للرواد، فإن أفضل الطرق للوصول إلى هذا الشيء هو إغلاق مكبات النفايات، ويجب على السلطات أن تنظر إلى ملف إدارة النفايات الصلبة بمنظور أشمل بحيث يشمل تحسن عام في صحة الناس والبيئة".
وهكذا راجت مبادرة كلينتون، وكأنه حضر إلى أحياء القاهرة الفقيرة واجتمع مع أم زياد وربات بيوت المناطق الشعبية، وأقنعهن بأهمية تلك الثقافة، وأن إدارة النفايات الصلبة تحتاج إلى "خلطة سحرية" تمتزج فيها السياسة الإدارية والمسؤولية الاجتماعية والقطاع التجاري والمواطنين. ولكن من حضر بديلًا عن كلينتون هو الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها مصر، وتعاني منها العائلات المصرية.
القمامة كنز
"قمامة رجل كنز لرجل آخر" (One Man’s Trash Is Another Man’s Treasure). هكذا يقول المثل الشعبي الإنجليزي، وهو ما كان ينطبق في مصر على مهنة "فارزي القمامة"، وهي مهنة يعمل بها "الزبالون"، حيث كانوا يجمعون قمامة الحي، ويقومون بنبش الأكياس، ويفرزون كل ما له فائدة داخلها، وكانت مهنة رائجة لشريحة داخل كل مجتمع، وكانت غالبًا "منبوذة" مجتمعيًا، ويُنظر إليها نظرة دونية. يقول هاني سعيد، أحد جامعي القمامة في الشوارع، إن "هذا الانطباع كان لدينا، ولكن كنا ننظر إلى أكل العيش، ولم نكن نقف عليه، ولكن الآن تلاشى بداخلنا هذا الخجل من المهنة، فمعظم الأسر في الأحياء الشعبية أصبحت مثلنا".
وانتشر الآن في مصر مثل شعبي، يقول "القمامة كنز شخصي استفد به قبل أن تتخلص منه"، وهو ما يؤكده حديث هاني، صاحب العقد الثالث من العمر، قائلًا: "الآن نادرًا ما نجد أشياء قيمة داخل الزبالة، بل وتحول الكثير منا إلى مهنة شراء تلك المخلفات من الأسر، فالكتب القديمة والزيوت وعلب البلاستيك والساج، والعيش الناشف، كلها مواد تباع الآن، إذ نقوم بشراء كيلو الصفيح بأزيد من 60 جنيه، والبلاستيك بـ15 جنيه، والكتب القديمة بـ10 جنيه، والعيش بـ10 جنيه". ويضيف: "أصبحت الأسر تبحث عن الأسعار وتطورها على النت، وتفاصل معنا، والأمر أصبح مربحًا لهم، حتى الأطفال الآن لا يتركون تلك المخلفات في الشارع، بل ويجمعون ما في الشارع لزيادة الكم الموجود بالمنزل، خصوصًا أن كثيرًا من الأسر تترك تلك الأموال للأطفال كمصروف".
ويرى ناشطو البيئة حول العالم، وخصوصًا رواد مدرسة المنظور الشامل لإدارة القمامة الصلبة، أنه "من أجل التأثير على الطبقة العامة من الناس تجاه إعادة تدوير المخلفات، يجب عليهم أن يشعروا بصورة مباشرة بالفائدة التي تعود عليهم. لذلك، وكمرحلة أولى، يجب تغيير الصورة السيئة في مخيلاتهم في هذا المجال عن طريق حملات التوعية والمبادرات والدراسات التفصيلية لكي يشعروا بحجم الفرصة وفوائدها"، ولكن ما يرويه هاني يعكس كيف تأصل هذا المفهوم لدى المجتمع المصري.
كارثة النفايات الصلبة في 2050
تعد النفايات البشرية قنبلة موقوتة تزداد آثارها الكارثية يومًا بعد يوم. وبحسب آخر تقرير لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، في شباط/فبراير الفائت، فإنه من المتوقع أن يزداد معدل الإنتاج البشري للنفايات بحلول عام 2050، مما سيتسبب في خسائر تقدر بمئات المليارات من الدولارات نتيجة فقدان التنوع البيولوجي، وتغير المناخ، والتلوث الذي يشكل تهديدًا على الحياة. وبحلول عام 2050، من المتوقع أن يولّد العالم 3.40 مليار طن من النفايات الصلبة سنويًا بحسب البرنامج، الذي أشار إلى أن التكلفة قد تصل إلى 640 مليار دولار سنويًا بحلول منتصف القرن، وهو ما يمثل زيادة بأكثر من 75% مقارنةً بعام 2020، حينما بلغ إنتاج العالم من النفايات الصلبة المحلية نحو 2.1 مليار طن، دون أن يشمل ذلك النفايات الصناعية.
وجاء في التقرير أنه من إجمالي التكلفة، سيتم تخصيص 443 مليار دولار لمعالجة مشكلات أخرى، منها فقدان التنوع البيولوجي، والغازات المسببة لتغير المناخ الناتجة عن تحلل النفايات العضوية، والتلوث الذي يتسبب في وفاة ما يتراوح بين 400 ألف ومليون شخص سنويًا. وأضاف التقرير أنه إذا لم يتم اتخاذ تدابير عاجلة، فإن معدل إنتاج النفايات سيرتفع بشكل كبير على مستوى العالم بسبب الاقتصادات سريعة النمو ومن بينها آسيا ومنطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. حيث تواجه العديد من البلدان بالفعل تحديات في إدارة مستوى الإنتاج الحالي.
ونتيجة لتلك التوقعات الكارثية، فإن هناك محاولات عالمية للتوصل إلى اتفاق يحد من مشكلة التلوث البلاستيكي. ومن المنتظر أن تُعقد جولة أخيرة بهذا الشأن في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وهي الجولة الخامسة في مباحثات تشمل 175 دولة من المقرر أن يجتمعوا في كوريا الجنوبية، لبحث سبل معالجة التلوث البلاستيكي الذي يعد من المعضلات الكبيرة لأنه لا يتحلل بيولوجيًا، ويمكن أن يسبب تداعيات صحية خطيرة.
واختُتمت الجولة الرابعة، قبل الأخيرة، من المفاوضات التي تقودها الأمم المتحدة لحل مشكلة التلوث البلاستيكي العالمي في العاصمة الكندية أوتاوا في نيسان/أبريل الماضي، وتلوح في الأفق القريب إقرار تلك الاتفاقية، وذلك بعد أن توصل الأعضاء المشاركون إلى ضرورة وضع اتفاقية عالمية هي الأولى من نوعها بحلول هذا العام للتعامل مع أحد أكبر مشكلات العصر.
ولأول مرة، ناقش ممثلو 175 دولة حول العالم على طاولة الحوار مسودة من المقرر أن تكون معاهدة عالمية لإنهاء آفة المواد البلاستيكية التي باتت جليّة في كل ركن على كوكب الأرض، من قمم الجبال وحتى أعماق المحيطات. وقد شهدت الجلسات تغيرًا كبيرًا في النبرة والطاقة مقارنةً بالجولات السابقة. ومن المخطط، بحسب الاتفاق، إنهاء مشكلة التلوث البلاستيكي بحلول عام 2040.
وهناك حالة من الاتفاق العالمي بين المهتمين بالملف البيئي، على أنه لا يمكن معالجة تلك الأزمة إلا بالسير على مسارين بالتوازي، وهما التوسع في إعادة التدوير بشكل ممنهج، مع العمل على خفض الإنتاج. وهذا ما تسعى إليه الدول الـ175 في اتفاقية الحد من التلوث البلاستيكي المرتقبة. وبحسب، غراهام فوربس، وهو من منظمة السلام الأخضر، فإنه لا يمكن إنهاء التلوث البلاستيكي إذا لم تتضاءل كميّة إنتاج البلاستيك.
ووفقًا للمنظمات البيئية، تعد هذه النقطة هامة للغاية، إذ إن إنتاج البلاستيك السنوي تضاعف خلال 20 عامًا ليصل إلى 460 مليون طن في السنة. ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم 3 مرّات في غضون العقود الـ4 القادمة إذا استمر على الوتيرة نفسها. بل وتفيد هذه التوقعات بأن معيار نجاح هذه المعاهدة يتوقف على مدى مقدرتها على علاج وخفض إنتاج البلاستيك، وأي عوامل أخرى لن تكون فعالة البتة. والمقترح الأكثر رواجًا هو مقترح رواندا وبيرو الذي يدعو إلى خفض إنتاج البلاستيك بنسبة 40% خلال السنوات الـ15 المقبلة، بما يتماشى مع أهداف اتفاقية باريس للمناخ المنعقدة في 12 كانون الأول/ديسمبر 2015، إذ يعد إنتاج البلاستيك أحد أهم العوامل المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري بسبب الوقود الأحفوري المستخدم في عمليات التصنيع.
ومن المؤشرات الإيجابية حديث أمين المجلس الدولي للجمعيات الكيميائية كريس غان، الذي قال إنهم ملتزمون بأي اتفاقية تحد من مخاطر النفايات البلاستيكية، لكنه شدد على أهمية الحفاظ على المزايا التي يوفرها البلاستيك من أجل عالم أكثر صحة واستدامة، وهو ما يعني أهمية اتباع نهج متوازن يعالج المشكلة ويحافظ على تطبيقات المواد البلاستيكية المفيدة في مختلف القطاعات، مع منهجية إعادة التدوير المنظمة حتى لا تتفاقم الأزمة.
الثقافة يتم تأصيلها عبر الأجيال بالتعليم
وما قد يثير التفاؤل بهذا الشأن هو ما سردته لمياء المنتصر، مدرسة المرحلة الابتدائية والإعدادية في إحدى المدارس الحكومية في حي العمرانية بالجيزة، التي قالت إن هناك مساحة جيدة لنشر الثقافة البيئية بشكل عام، وإعادة التدوير بشكل خاص، داخل المناهج التعليمية. وينعكس ذلك على دورس مباشرة في الكتب الدراسية في الصفوف الابتدائية، وكذلك في دروس القراءة بمادة اللغة العربية. ولهذه المناهج، بحسب لمياء، تأثير فعلي على الأطفال الذين تفاعل كثيرون منهم معها، بل ويروي كل طفل منهم مواقف عنها داخل منزله، وهو ما يزيد الثقافة المجتمعية بهذا الشأن، ويؤصل لها عبر أجيال مختلفة، خصوصًا مع زيادة المساحة لتلك الموضوعات مع كل تطوير يحدث للمناهج التعليمية بمصر. وما ذكرته لمياء رصدته بنفسي في كتب الأولاد، سواء في الصف الرابع الابتدائي، أو الصف الثاني الإعدادي، وهو تغير يستحق أن نرصد له مساحة منفصلة لتحليل المناهج المصرية من المنظور البيئي.
ولعل الأزمة الاقتصادية، رغم معاناتنا معها، دفعت المصريين للتفكير في إعادة تدوير المخلفات الصلبة، وإعادة استغلال وهج هذا الحدث، والبناء عليه للوصول إلى الصورة الأكثر مثالية التي نبحث عنها جميعًا، والتي تتلخص في السعي إلى تقليل المخلفات الصلبة بشكل عام، سواء باستخدام الأدوات الأكثر استدامة، وبعد ذلك إعادة النظر في "كيس القمامة" قبل إلقائه، وأن يكون هناك تقسيم بيئي لتلك المخلفات، واستغلال ما يمكن استغلاله اقتصاديًا، سواء إعادة استخدام المخلفات العضوية في إطعام الطيور أو تسميد الأراضي، أو بيع المخلفات القابلة لذلك، ثم التخلص السليم من باقي المخلفات.
هل تتحول أم زياد لرائدة في مجال البيئة؟
"نحن نستطيع أن نؤجر مخزن، ونجمع من الجيران تلك المخلفات، ونسأل عن مكبس أو ماكينة لفرم المخلفات البلاستيكية".. هكذا تحدث أم زياد عن حلمها لتطوير فكرة الاستفادة من المخلفات، وزيادة المكسب المالي. وتقول أم زياد في حديثها مع أحفادها: "والله فكرة ممتازة، وأنا شاهدتها على مقطع فيديو على اليوتيوب، ولكن سأبحث على الإنترنت على تجميع تلك الأدوات، وأنتم ستكونون معي في هذا المشروع، بس أهم حاجة تفهموا أصحابكم أن يطلبوا من آبائهم عدم رمي المخلفات البلاستيكية أو الصاج في الزبالة، ولو أحضرنا لهم أكياس مخلفات كبير يجمعون فيه تلك الملفات".
ويبدو أن التحول الذي يشهده المجتمع المصري قد يحول أم زياد وأمثالها إلى نشطاء في مجال البيئة، وقد تكون تلك كرة الثلج التي بدأت أن تتحرك داخل مفاصل المجتمع، وأصبح الجميع الآن على استعداد لإحتواء جهود أم زياد وغيرها في مجال البيئة، ولو بدافع العوز المالي، ويكفي أن نسمع كلمات تلك السيدة العجوز وهي تقول لأحفاد في مقتبل العمر: "لا تكرروا أخطاءنا في إهدار الفرص للاستثمار في كل ما في أيدينا، فلا نعلم ما ينتظرنا في المستقبل، وعليك أن تعلم قيمة ما لديك قبل أن تفرط به".