أزمة النفايات الصلبة في غزة

حرب أخرى يواجهها الغزيون.. النفايات الصلبة قاتل صامت يتربص بغزة

6 أكتوبر 2024

تجاوزت الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل في قطاع غزة، منذ عام، حدود استهداف البشر إلى جميع مظاهر الحياة بهدف جعل القطاع غير صالح للعيش، ومن بينها استهداف كل ما يتعلق بالجانب البيئي، لا سيما قطاع النفايات الصلبة.

ويواجه أكثر من مليوني فلسطيني في غزة، منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، قاتلًا يهدِّد حياتهم بصمت: تلال النفايات الصلبة المنتشرة بين مخيمات النازحين ومراكز الإيواء والشوارع، إضافةً إلى بِرَك الصرف الصحي غير المعالجة، وكميات المخلّفات المتفجرة وركام المنازل المدمرة الذي يزداد يومًا بعد يوم على مساحة صغيرة لا تتجاوز 378 كيلومترًا مربعًا.

قبل الحرب

ليست أزمة قطاع النفايات الصلبة في غزة وليدة اللحظة، إذ تعود جذورها إلى ما قبل 17 عامًا، أي منذ بداية حصار الاحتلال الإسرائيلي للقطاع الذي كان يبلغ إنتاجه اليومي من النفايات خلال سنوات الحصار، لا سيما المنزلية، 1.700 طن يتم تصريفها عبر مكبين فقط يقعان على الحدود الشرقية من القطاع، على نقاط التماس مع قوات الاحتلال، أحدهما في جحر الديك وكان يخدم منطقة شمالي قطاع غزة سابقًا، حيث كان يتم التخلص من خلاله من 3.9 مليون طن من النفايات التي كانت تتراكم بمعدل 20-35 مترًا فوق سطح الأرض. بينما يقع الآخر في منطقة الفخاري، وكان يخدم منطقة وسط وجنوبي قطاع غزة. 

وخلال العامين 2017 – 2022، انخفض عدد مركبات جمع النفايات الصلبة في غزة من 112 مركبة إلى 73 نتيجة تعطلها لكونها قديمة وتحمل فوق طاقتها، إذ كانت كل مركبة جمع واحدة تخدم 21.000 نسمة، وعامل جمع واحد لكل 3.343 نسمة.

وتراجعت عملية جمع النفايات من 98% قبل الحرب إلى 20% بعدها، وذلك في وقت ازدادت فيه كميات النفايات الصلبة بشكل مهول، لا سيما في مناطق النزوح جنوب القطاع التي نزح إليها أكثر من مليون ونصف قسرًا استجابة لأوامر جيش الاحتلال بالإخلاء الفوري، وهربًا من القصف العشوائي ووابل القذائف التي كانت تسقط فوق رؤوسهم.

بعد الحرب 

وصل إنتاج كميات النفايات الصلبة في مناطق وسط وجنوب قطاع غزة، بعد الحرب، إلى 1.400 طن يوميًا مقابل 500 طن فقط قبل الحرب. كما تكدّست حوالي 500 ألف طن من النفايات في 40 مكبًا مؤقتًا، مع انتشار المكبات العشوائية.

وتراكمت في مدينة غزة وشمالها حوالي 210 آلاف طن من النفايات في 150 مكبًا عشوائيًا مؤقتًا تنتشر بين السكان ومخيمات النزوح والشوارع والساحات العامة، لعدم وجود بدائل وبسبب القيود المشددة التي يفرضها جيش الاحتلال وتمنع وصول شاحنات جمع النفايات إلى مناطق معينة، تحديدًا المكبات على الحدود الشرقية للقطاع، ما يعني فعليًا أن أهالي قطاع غزة يعيشون بين أكوام النفايات.

كما توقفت عمليات فرز النفايات الطبية التي تنتجها المستشفيات الحكومية في القطاع، والتي تقدر بما يقرب من 3471.5 كجم يوميًا من النفايات غير الخطرة، و33 كجم يوميًا من النفايات الخطرة.

ومع استمرار انتهاكات الاحتلال بحق قطاع النفايات الصلبة والفرق البشرية والآليات والمعدات الخاصة أيضًا، انهارت قدرة البلديات على التعامل مع الأوضاع البيئية الكارثية التي يواجهها قطاع غزة، حيث دمر القصف الإسرائيلي ما يقارب 12 مركبة لنقل النفايات في منطقتي الوسط والجنوب، و129 مركبة في شمال القطاع، بالإضافة إلى تدمير 385 عربة كارو، وحوالي 2.340 حاوية نفايات مختلفة الأحجام، وجهاز ميكرويف واحد للنفايات الطبية، و14 مستودعًا وورشة صيانة، و8 مرافق للنفايات الصلبة والطبية، بالإضافة إلى 23 سيارة نقل إدارية.

بات مشهد تراكم جبال النفايات المنتشرة في كل مكان بغزة أكثر تعقيدًا، وفاقمت أزمة عدم معالجتها والتخلص منها، من اختلاطها مع برك وتجمعات مياه الصرف الصحي غير المعالج، الأمر الذي ينذر بكارثة بيئية وصحية كونها تشكل مرتعًا خصبًا لجذب الحشرات والقوارض، ما يهدد حياة سكان غزة إلى جانب مخاطر أخرى كثيرة، فمن لم يمت من القصف العشوائي الإسرائيلي قد يموت بفعل انتشار الأمراض الناجمة عن انتشار القمامة الصلبة.

إذ يؤدي تحلل النفايات الصلبة إلى إطلاق غازي الميثان وثاني أكسيد الكربون السامين، مما يسهم في تلوث الهواء ويؤدي استنشاقهما إلى حدوث مشاكل في الجهاز التنفسي، خاصةً ممن يعاني من أمراض ضيق التنفس "الربو"، فيما يؤدي تسربها للمياه الجوفية بفعل تساقط الأمطار مع بداية فصل الشتاء إلى حدوث كارثة زراعية بفعل تسمم التربة، إلى جانب الكوارث الصحية.

الخطر يهدد حياة الغزيين

إلى جانب إحدى أكوام النفايات الصلبة في مخيم للنازحين بدير البلح وسط قطاع غزة، تقيم النازحة مريم سامح (55 عامًا) برفقة 8 أفراد من أبنائها في خيمة مهترئة تفتقد لأبسط مقومات الحياة البشرية أنشأتها بعد أن نزحت من مخيم جباليا شمال القطاع منذ 8 شهور.

تشرح مريم معاناتها مع النفايات: "نستيقظ وننام على الروائح الكريهة المنبعثة من نفايات المخيم بجانبنا، رغم أن أولادي يقومون بالتنظيف أول بأول بجانب الخيمة، إلا أن الأمر يتجاوز قدراتنا فنحن بحاجة لنقل تجمعات النفايات بشكل يومي عبر مركبات خاصة بها، إلا أن البلدية تأتي يومًا واحدًا كل شهر، مما يزيد من معاناتنا مع وجود القوارض والحشرات. ما نعيشه مريع جدًا ولا يوجد لدينا مكان آخر ننزح إليه، غالبية النازحين يتكدسون بالدير والخيم ملاصقة جدًا لبعضها البعض والقمامة بيننا".

تتحدث مريم بينما تضع كمامة على فمها لمنع استنشاق الروائح الكريهة بعدما أصيبت، هي واثنين من أبنائها، بأمراض جلدية تشبه الحروق طفت على سطح جلودهم وتسببت لهم بحكة شديدة والتهابات فطرية حتى بدأ جلدهم بالتآكل، في وقت يفتقدون فيه للرعاية الطبية في المشافي والعيادات التي تمنح الأولوية لعلاج المرضى والمصابين، إضافةً إلى عدم وجود مراهم وعقاقير طبية للأمراض الطارئة بغزة بسبب الحرب والحصار الذي يفرضه الاحتلال على غزة ويعاقب من خلاله المدنيين.

ومقابل مريم كانت تحاول النازحة سارة بلبل (30 عامًا) التربيت على رأس رضيعها ذي التسعة أشهر لعلّه ينام، بعد ليلة قاسية قضتها العائلة متوترة من صوت الانفجارات والقصف على رؤوسهم، إلى جانب تعرض الرضيع للدغة قوية من حشرة لم يقدروا على تحديد نوعها، بسبب انتشار الحشرات الكبير بينهم بأنواع وأشكال متنوعة. اللغة سببت له ألمًا كبيرًا.

نزحت سارة مع زوجها، وكانت في أشهر حملها الأخيرة على وشك الولادة، من مخيم الشاطئ غرب غزة إلى جنوب رفح ثم عادت إلى مخيمات دير البلح بعد سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على الأولى وإجبار النازحين والسكان على إخلائها.

تقول سارة: "منذ ولادتي أشعر برعب كبير على صحة طفلي، أتنقل من مكان لآخر خوفًا من القصف وبرك مياه الصرف الصحي المنتشرة في كل مكان، والذباب والديدان. أظل طوال الليل مستيقظة.. لا أنام خوفًا من أن يتعرض للدغة من الحشرات والقوارض لأنها تعيش بيننا، لكن يبدو أني غفيت للحظة مما تسبب له بلدغة، لا أجد لها علاج في المرافق الطبية حتى الآن وأخاف أن أفقد ابني بسببها".

تضيف: "نعيش في ظروف غير آدمية.. لا شيء صالح للحياة، لا مياه، ولا طعام، هواء ملوث وبيئة ملوثة بالأمراض والنفايات، الاحتلال الإسرائيلي يريد قتلنا بكل الأساليب، ما نعيشه في مخيمات النزوح يفوق الوصف، كيف ستكون حياتنا ونحن بين أكوام النفايات؟".

ليست أكوام النفايات الصلبة فحسب التي تهدد حياة النازحين، فتجمع مياه الصرف الصحي الناتجة عن إغلاق محطات معالجتها تهدد حياتهم، فهي كارثة أخرى تواجههم وأدت إلى وفاة عدة أطفال غرقًا فيها. ففي السابع من أيلول/سبتمبر الماضي، استيقظ النازحون بإحدى مخيمات النزوح بمنطقة الزوايدة على خبر وفاة طفلة غرقًا في بركة من مياه الصرف الصحي، مما أصابهم بصدمة وحزن شديدين.

وروى شهود العيان في المنطقة أن الطفلة آيلا عابد، ذات العام، وهي نازحة مع أمها من حي الشجاعية شرق غزة إلى الوسط، كانت تزحف على الأرض حتى اقتربت من حفرة فيها ماء صرف صحي بجانب خيمتها فغرقت فيها فورًا، وأخرجتها فرق الإنقاذ فاقدة للحياة. الطفلة التي نجت من صواريخ الاحتلال، فقدت حياتها بسبب انهيار نظام معالجة وإدارة النفايات ومياه الصرف الصحي بغزة.

وأوضحت بلدية غزة، عبر بيان أصدرته مؤخرًا، أن قطاع النفايات يواجه مشكلة كبيرة، بسبب استمرار الاحتلال منع طواقم البلدية من الوصول لمكب النفايات في منطقة جحر الديك شرق المدينة، ما يفاقم من الكارثة الصحية والبيئية ويزيد من معدلات انتشار الأمراض والأوبئة ويشكل خطورة بالغة على الخزان الجوفي بسبب تسرب عصارة النفايات للخزان.

وأشارت إلى أنه هناك نحو 160 ألف طن من النفايات ما زالت تتراكم في الشوارع ومكبي اليرموك وفراس المؤقتين في شمال قطاع غزة فقط، دونًا عن الوسط والجنوب.

ولفتت إلى أن عدم توفير حل سريع لهذه المشكلة يزيد من كمية النفايات بشكل مضطرد وقد يؤدي لإغلاق الشوارع وانجراف النفايات مع مياه الأمطار لمصارف مياه الأمطار وانسدادها وبالتالي حدوث تجمعات وغرق للشوارع وبيوت المواطنين ومراكز إيواء النازحين.

سيناريوهات متوقعة وضارة 

وأمام مأساة إدارة النفايات الصلبة، بدأت البلدية بهدف التخلص منها إلى طرق تفاقم الكارثة، وهي حرق أكوام النفايات الصلبة التي تضم مواد بلاستيكية عضوية وكيميائية بترولية في المكبات العشوائية المنتشرة، ما يزيد تلوث الهواء الملوث أصلًا ببارود ورذاذ أطنان الصواريخ الإسرائيلية، مسببة إنتاج انبعاثات خطرة تحتوي على مواد مسرطنة وغازات سامة الناتجة عن الحرق، أهما: كالدايوكسين، وأول أكسيد الكاربون، وأكاسيد النيتروجين، والكربون.

تلوث البيئة والهواء تفتك بصحة الإنسان. وهذا ما يريده الاحتلال الإسرائيلي بالضبط من سياسته الممنهجة بالتضييق على قطاع النفايات، وقتل البيئة والإنسان بغزة، وفي ذات الوقت لا أفق أخرى متاحة أمام الغزيين لإدارة النفايات الصلبة.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

2

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

تحدّث الرومان واليونانيون قديمًا بإعجاب عن بخور وطيوب سبأ، لدرجة أنهم وصفوا سكانها بأنهم من أثرى شعوب العالم، وأنهم يأكلون في أوعية من الذهب، ويسكنون بيوت فارهة

3

من يمتلك الإنترنت؟

تقول ولادة شبكة الإنترنت الكثير من ناحية تحولها إلى مجال للسيطرة والربح، خصوصًا حين نضع نصب أعيننا أنها استراتيجية اتصالية أميركية

4

"يا ما في الجراب يا حاوي".. الحواة من إبهار الشارع إلى شاشات التليفزيون

لم يكن الحواة فئة طارئة على المجتمع المصري، فقد تواجدوا في الشوارع والميادين العامة منذ القرن التاسع عشر الميلادي

5

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم

اقرأ/ي أيضًا

الحروب والبيئة

دماء لا مرئية.. البيئة في عالم الحروب

تمتد الآثار الكارثية البيئية للحروب إلى تدمير الطبيعة واستنزاف الموارد، وإلحاق أضرار جسيمة بالتنوع البيولوجي، مما يسهم في تسريع وتيرة التغير المناخي وتهديد مستقبل البشرية

زاهر هاشم

الصراع بين الصين والغرب على موارد التحول الأخضر
الصراع بين الصين والغرب على موارد التحول الأخضر

التنين الأخضر: كيف أصبحت الموارد الأولية للتحول الأخضر ساحة صراع بين الصين والغرب؟

يشكّل الصراع على موارد الطاقة الجديدة والمعادن النادرة بين الصين والدول الغربية أحد أهم التحديات أمام تحقيق التحول الأخضر في العالم

فريق التحرير

تغير المناخ

مفارقات الطبيعة: الاقتصاد الذي دمّر المناخ سيدمّره المناخ

تنتج البلدان ذات الدخل المنخفض عُشر الانبعاثات العالمية لكنها الأكثر تأثرًا بتغيّر المناخ، ويعاني سكانها من تداعيات مدمرة في مجالات الصحة والغذاء والمياه والتعليم

زاهر هاشم

الحاجة أم زياد وأزمة النفايات

الحاجة أم زياد وأزمة النفايات.. السيدة المصرية نجحت بما فشل به كلينتون

تعد النفايات البشرية قنبلة موقوتة تزداد آثارها الكارثية يومًا بعد يوم. وبحسب تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة، فإنه من المتوقع أن يزداد معدل الإنتاج البشري للنفايات بحلول عام 2050

معتز ودنان

العرب وأكل اللحوم.. عن علاقة الغذاء بالجنس والاستعمار والذكورة

استهلاك اللحوم في الوطن العربي.. الجنس والاستعمار والذكورة

تلبّي التفضيلات في مجال الغذاء أغراضًا اجتماعية وسياسية تتجاوز الغذاء نفسه إلى رهانات أخرى ذات صلة وطيدة بثلاثي: الجنس، والحرب، والاستعمار

محمد يحيى حسني