في حي رشدي بالإسكندرية، كان لي موعد مع الشاعر والروائي علاء خالد في جاليري "فراديس". يعكس هذا المكان تنوع الثقافة المصرية، حيث جمع الكاتب وزوجته، المصورة والتشكيلية سلوى رشاد، قطعًا من الفخار والتحف البسيطة والمشغولات اليدوية من أماكن متعددة زاروها في مصر. وما يميز هذه الأعمال أنها صناعة يدوية تكاد أن تندثر، إلى جانب الصور المعلقة التي التقطتها السيدة سلوى، مما يضيف بعدًا جماليًا وثقافيًا للمكان.
علاء خالد، صاحب المشوار الأدبي الطويل، يُعرف برواياته المتميزة مثل "ألم خفيف كريشة طائر ينتقل بهدوء من مكان لآخر"، وهو أحد الأسماء البارزة في تاريخ قصيدة النثر.
نحاوره اليوم بمناسبة كتابه الجديد "كرنفال القاهرة"، الصادر عن "دار مرايا"، حيث يقدم الكاتب والشاعر علاء خالد تأريخًا لمجموعة من الشعراء والأدباء الذين بدأوا رحلتهم الإبداعية في العقد الأخير من القرن العشرين. والكتاب لا يقتصر على سيرة ذاتية أو تأريخ لمرحلة زمنية معينة، بل يسلط الضوء على عمران المدينة وعماراتها، ومخيّلتها الجمعية، وجماعاتها الفنية، وتجمعاتها الأدبية. كما يتناول اليوتيوبيا المهزومة التي تلامس التاريخ الشخصي، مما يمنح القارئ نظرة عميقة لفترة التسعينيات الغنية بالاعترافات الحميمة وسرد تفاصيل الحياة اليومية، مثل البيوت والعائلة والأصدقاء والجيران وغرف العمل.
يُعيد خالد رسم صورة لقاهرة جيل التسعينيات، حيث تبرز ذكرياته من أماكن مثل "دار شرقيات"، التي كانت منصة لجيل كامل، ومقهى البستان، بالإضافة إلى شقق الأصدقاء التي احتضنتهم. يعتمد الكتاب على الالتماس بين أربعة أجيال: الستينيات، والسبعينيات، والثمانينيات، والتسعينيات.
ــــــــــــــــــــــــــ
- عادةً ما يشعر كُتّاب المدن الأخرى بالحقد والحنق على القاهرة، بسبب مركزية العاصمة الموجودة منذ القدم في مصر. في كتابك، يختفي هذا ويظهر الجانب الحميم. هل من الممكن أن تحدثنا عن هذه الفكرة؟
في البداية، لم تكن علاقتي بالقاهرة كما هي الآن. تعرفت عليها في سن مبكر، مما أتاح لي رؤية جوانبها المتعددة ومقارنتها بالإسكندرية.
شعرت أن هناك ترابطًا قائمًا بين المدينتين، لكنه مختلف تمامًا. في القاهرة هناك جرأة في صنع الناس للمغامرات مختلف عما هو في الإسكندرية، وهذا يعود لأسباب عدة. قبل ثورة تموز/يوليو 1952، كانت المدينة تستضيف تنوعًا كبيرًا من الجنسيات، واحتكاكًا مع الأجانب المقيمين فيها، مما جعل تجربة العيش فيها أكثر ثراءً. بعد الثورة، ازدادت مركزية القاهرة، وأصبحت مركزًا تمثيليًا للحراك الاجتماعي والثوري، مما أعطى المدينة جوهرًا خاصًا.
بالإضافة إلى الأماكن التاريخية مثل القاهرة الفاطمية والخديوية، حيث تعكس حالة من الغنى والتشبع؛ فنحن في القاهرة نعيش المكان ليس كأثر بل كجزء من الحاضر مدمج بالماضي. على عكس الإسكندرية، حيث الماضي مفصول. إذا أردت رؤية الآثار القديمة، تذهب إلى منطقة المقابر الرومانية "الكاتا كومب"، فالماضي هنا مفصول عن الحاضر. لذلك، الحنين في القاهرة إلى الماضي ليس كما هو في الإسكندرية؛ أنت لا تحن لماضٍ قد اختفى، بل الماضي يعيش مع الحاضر. وكل هذا له ثمنه: الزحام، والعلاقات الإنسانية المبتورة، واختفاء فكرة الفردية، أي الإحساس بذاتية أكثر. في الإسكندرية أشعر بتوحد مع مكاني وذاتي، بينما في القاهرة، المجتمع سيفصل بينك وبين ذاتك. فالتحدي هو إنتاج فكرة وتجربة شخصية تكون عصامية تثبت بها ذاتك وسط هذا التعدد الموجود.
- متى بدأت فكرة الكتابة عن القاهرة؟ هل كنت تدون الأفكار وتحفظ الأماكن في وقتها، خصوصًا أن هناك أماكن لم تعد موجودة؟
بدأ "كرنفال القاهرة" من 12 مقالًا نُشرت في موقع "التحرير" المصري عام 2018، حيث استكشفت فيها تسعينيات القاهرة من منظور شخصي. تناولت في هذه المقالات الفنادق التي كنت أقيم بها، والمقاهي التي شهدت لقاءاتي مع الأصدقاء، وتجمع شلة من الشعراء والكتاب والمثقفين في شقة د. عبد الحكم سليمان، أو الحديث عن ظواهر فكرية في التسعينيات كأفول النموذج، أو بوصفه عقدًا للاعترافات الحميمة، بالإضافة إلى ثيمات مشابهة جُمعت في إطار واحد.
مع مرور الوقت، بدأت أشعر بأن هناك شيئًا يتشكل، ربما كان تأريخًا من هذه المداخل المتنوعة، مما جعلني أكتب عن علاقتي بالقاهرة بشكل أعمق، مستعرضًا تجاربي التي كانت جزءًا من السياق العام آنذاك، مع الإشارة إلى شخصيات مثل أروى صالح، وغالب هلسا، وإبراهيم أصلان، ومجدي الجابري، وعلاء الديب، ليس بهدف النشر في كتاب آنذاك، بل بدافع تكوين فكرة شاملة حول هذه الفترة الانتقالية والحساسة في التاريخ الحديث. وامتدت حتى تجاوزت الثلاثين فصلًا، مما دفعني بعدها بخمس سنوات إلى التفكير في جمعها داخل كتاب.
- في الكتاب، تحدثت عن جيلين من الكتاب هما الستينيات والتسعينيات وتشابكهما. ما هو تصورك عن فكرة الجيل؟
بالنسبة لي، الجيل هو الذي يأتي بعد لحظة تحول كحدث سياسي كبير يعد كلحظة نضج أو التوحيد في الرموز والافكار بين كتلة كبيرة من المجتمع. على سبيل المثال، جيل الأربعينيات جاء بعد ثورة 1919 ودستور 1923، وبدأ يتكون في المخيلة صورة مجتمع لاطبقي من المثقفين والكتاب والعمال، أقرب إلى مجتمع مساواة.
خلال بحثي أثناء الكتابة عن جيل التسعينيات، شعرت أن أغلب الأسماء التي تعرضت لها، وكانت بمثابة المرجع لعقد التسعينيات، تنتمي إلى جيل الستينيات، فقد كان لهم حضور كبير، وما زالوا يكتبون وحاضرين بأفكارهم، وبأجسادهم، ونعيش معهم على ذكرياتهم. وكان أيضًا جيل السبعينيات حاضرًا كجيل وسط. أما الستينيات، فهو جيل يسار مشروع ثورة يوليو، وأكثر ما جمعهم وكون مخيلتهم الجمعية هو هزيمة حزيران/يونيو 1967، ربما الذي جمع بين جيلي الستينيات والتسعينيات الهزيمة، لكن هزيمة التسعينيات كانت هزيمة أجتماعية بجدارة، طغيان حالة اللاسياسة ومجافاة المجتمع للثقافة؛ لم يكن هناك أفكار أبوية تنظم جيلًا، بل نشأت حالة من الضدية لأي فكرة جماعية.
- ترى أن أروى صالح يتم تصورها الدائم هي وجيلها في صورة رومانسية، وساعد انتحارها في ذلك. هل من الممكن أن تحدثنا عن ذلك؟ من أين جاءت فكرة مقارنة جيل يناير نفسه بجيل الحركة الطلابية في السبعينيات؟
الفكرة الرومانسية تعيد إحياء ذكرى لحظة مختلفة، لكن هناك اختلاف بينهما. جيل يناير عاش لحظة جماعية، بينما جيل الحركة الطلابية، الذي تنتمي له أروي صالح، لم يعشها، لذا كانت هزيمته حتمية. كانت فكرته تخص الناس وتسعى لتحريرهم، لكن دون وجود وعي جمعي. في ثورة يناير، كان هناك وعي جمعي. فمن كان يرى نفسه في نموذج أروى وجيلها فقد فصل نفسه عن الجموع التي عايشها في الشارع ومظاهراته، وربط فقط بينه وبين الهزيمة. كما أن للهزيمة والموت وقع بطولي، ولا تولد وعيًا نقديًا بل وعي منكفئ على الذات. لو أن جيلًا جديدًا يعيد نموذجًا ليعيش داخل قضية، فإن الهزيمة لن تصنع قضية. كما أن ثورة يناير لم تصنع نماذج تمثلها من داخلها، لذا تحولت أروى إلى رمز وضحية في آن. ولابد من قراءة هذه النماذج الإنسانية حتى لا نقع في نفس الأخطاء.
- باعتبارك أحد أبرز شعراء جيل التسعينيات، هل من الممكن، بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا على تجربة هذا الجيل، أن تحدثنا عن أهم سماته، وأبرز التغيرات التي أدخلها على القصيدة العربية بشكل عام، والمصرية بشكل خاص؟
لا أظن أن هذا الجيل أدخل التغيرات في الافكار، ولكن أظن أن به زخمًا أكثر من حيث فكرة كتابة الحياة اليومية أو تفاصيل الحياة، مثل البيت والأسرة، والحبيبة، كجزء من القصيدة، ولكن ليست الحبيبة التي تناولها الشعراء، بل هي المرأة المشاركة له في الفضاء العام. من الممكن أن نسميها البحث عن الأصالة في اللحظة الراهنة، وتحديدًا في المكان، بعيدًا عن حياة برجوازية مصطنعة. داخل هذه اللحظة، هناك تأريخ لها ومن ثم إعادة صناعة الواقع بشكل جديد، في الوقت ذاته البحث عن فردانية، خصوصًا في غياب السياسة. الجميع يريد أن يجرب كل شيء بنفسه، وصنع تجربة شخصية طبقا للمقاييس الخاصة للفرد، لا المجتمع والجماعة.
- في شهادتك عن جيل التسعينيات في ملف أخبار الأدب بعنوان "حول ماذا تبقى من جيل التسعينيات الشعري"، ذكرت أنه لم يتبق من هذا الجيل الشعري سوى بعض الأشياء، من بينها أصداء البحث عن الفردانية/التجربة الشخصية، غير المسيسة. كيف تنظر الآن إلى فكرة الفردانية في الشعر والابتعاد عن المُسَيس بعد ما مرت به المنطقة العربية من أحداث سياسية فارقة؟
أصبحت الفكرة المُسَيسة بعيدة، خصوصًا أن أقرب لحظة سياسية كانت في 2011.
كانت الفردانية في التسعينيات تتشكل من خلال مجتمع تريد أن تأخذ حقك منه، وكان المجتمع لا يزال قويًا في بداية تداعي ركائزه ونماذجه، كالنموذج الأبوي على سبيل المثال، بسبب سيطرة فكرة الاستهلاك والمجتمع الرأسمالي. الآن أشعر أن المجتمع غير موجود، حيث هناك جماعات وليس مجتمعًا. الاستهلاك بات أقوى من أي شيء، نحن جميعًا تحت ضغط. فلا يوجد جدل يمكن أن يُبنى عليه الضدية التي تُبلور جيلًا مَنْ ضد مَن؟ على سبيل المثال، كان جيل الستينيات ضد الإمبريالية، وجيل التسعينيات ضد المجتمع المُسَيس. لماذا اختفت فكرة الجيل؟ لأن المجتمع تحلل وتفسخ. يمكن أن نطلق على اللحظة الراهنة "ما بعد المجتمع". يوجد جموع متناثرة، وليس مجتمعًا، فكيف يمكن أن تتحقق الذاتية في غياب المجتمع؟ ما سيتحقق هو الوحدة. لا توجد ندية في الصراعات التي تخلق حيوات مختلفة. الفرد الآن يعيش في خوف ووحدة وضآلة في الخريطة الإنسانية، يكتفي بتأمين قوته لكنه لا يستطيع تأمين وعيه، وما زال التحول والتحلل مستمرين ومتغيرين.
- في الكتاب، تشير إلى غياب الروابط المشتركة بين الأجيال الجديدة. كيف ترى تأثير هذا الفارق على المشهد الثقافي اليوم؟
"كرنفال القاهرة" عبارة عن سيرة اجتماعية – ثقافية لعقد التسعينيات في القاهرة، يغلب عليها الحس الروائي في السرد، بسبب حضور الكاتب/ الراوي كشاهد على هذه التحولات العميقة التي حدثت بعد تحطم سور برلين، وكذلك حرب الخليج الأولى، وهما الحدثان اللذان وضعا المجتمع الثقافي داخل مصطلح السيولة. كانت السيولة في هذا العقد لحظة تشظٍ بلا نهاية، بسبب تلك الانفجارات الهيكلية للأفكار والحكايات الاجتماعية والسياسية الكبرى، التي تسببت بها هذه الأحداث المتلاحقة، والتي وصل تأثيرها إلى قاع الثقافة والسياسة واللاوعي الجمعي، سببت هذا اللامشترك في الأفكار، وظهرت مجموعة من الرموز الطافية على سطح الحياة اليومية وفي ممارسات الجماعة الثقافية.
كان هناك صراع بين أشكال وصور ونماذج عصر قديم، مع مثيلاتها لعصر جديد. بينهما كانت هناك حالة من التداخل والأقنعة الكرنفالية، كما وصفها الناقد الروسي باختين، والسيولة التي تجمع القديم بالحديث. كما كانت لحظة نزاع بين جيلين، جديد وقديم، عبر مفاهيم وظواهر في ممارسات الأدب والفن والسياسة. فقد كانت هناك أوضاع واهتمامات وممارسات من جيل جديد ظهر أثناء هذا التحول، وسيكون له حضور مستقبلي داخل ثورة يناير، كأن هذه المرحلة كانت بمثابة تدريب على السياسة، بينما كان الجيل القديم ونماذجه قد انسحبت وانعزلت بعيدًا عن الأضواء، معلنة فشل المشروع السياسي اليساري. إلى جانب رصد مجموعة من النماذج والرموز الثقافية التي قابلها الكاتب/الشاهد، والتي كانت عابرة لهذا التحول، بسبب طبيعة تكوينها الثقافي، الذي اعتمد على نوع ذاتي من التمرد، وإيمانها بأهمية الثقافة والفن كوسيلة للتغيير والتعبير. كان المجتمع الثقافي الذي يركز عليه الكتاب قريبًا جدًا من المجتمع السياسي ويعكس مشاكله ومشاكل ممثليه، لذا كان هناك تداخل في الوظيفة والأدوار وتبادل الأقنعة بين المجتمعين الثقافي والسياسي في تلك الفترة، وكان ذلك معكوسًا داخل هذا التحول.
- هل تعتبر "كرنفال القاهرة" سيرة ذاتية وشيئًا منها أم سيرة ثقافية؟ وكيف تحاول من خلاله توثيق الأحداث والشخصيات؟
أعتبر "كرنفال القاهرة" مزيجًا بين السيرة الثقافية والذاتية. ربما الجزء الذاتي له طابع شبحي، نظرًا لطبيعة المكان المتأمل وغير المتداخل غالبًا في سير الأحداث، الذي يتخذه راوي الكتاب. يتنقل الراوي/الشاهد بين عدة مستويات وطبقات ورموز، منها الأشخاص الذين قابلهم ويعتبرون جزءًا من تجربته مع القاهرة الثقافية. بجانب الواقع الثقافي الذي كان شاهدًا عليه، بجانب الكتابات والأفكار التي شكلت الفضاء الثقافي الذي تحركت داخله تجربة الراوي/الشاهد في القاهرة وأصبحت جزءًا من حاضر الثقافة والأفكار المستمرة التي تحركه. بجانب المكان، وتاريخه وأثره النفسي عليه، والمتناثر داخل كل هذه السياقات، ويشكل الخلفية لكل التفاعلات. ربما يعتبر الكتاب رحلة في الزمان والمكان، حيث الزمان ليس الماضي، والمكان هو الحاضر. هناك زمن ومكان شخصيان احتويا التجربة الفكرية ومساراتها.
- هل قصدت في فصل "أفق جديد لليسار" تحوله من مشروع جماعي إلى مشروع فردي متمثل في ترجمات أحمد حسان وبشير السباعي؟
قصدت في "أفق التجربة اليسارية" أنه بجانب تحويل المشروع الجماعي إلى مشروع فردي، فإنه يرتبط بجوهر التجربة السياسية، وهو تغيير العالم للأفضل سواء بالثورة أو العلم أو الثقافة. فالشخص الذي يتحرك بهذا الحس لم يتخلّ عن المشروع الجماعي، بل أصبح هو نفسه مشروعًا جماعيًا بغزارة إنتاجه ودقة اختياراته، كما في نموذجي المترجمين أحمد حسان وبشير السباعي. الأفراد قادرون على تغيير وتطوير الأفكار السياسية بأدائهم الشخصي وإدخال المشروع السياسي في دائرة الممكن عبر هذا التحول المتبادل بين الفرد والجماعة، لكن المهم أن يكون هذا التحول من المشروع الجمعي إلى الفردي ليس تخليًا أو يأسًا أو إعلانًا للهزيمة، بل هو إعادة صياغة، وجهد مشترك بين الفرد وعلاقته بالأيديولوجيا السياسية، وتحويلها إلى تجربة وجودية بلا إطار محدد، وبلا تحديد لشكل سريانها في المستقبل. أهمية التجربة الفردية هنا تكمن في مرونة ارتجالها للمستقبل دون أفكار مسلطة تحكم الوعي أو تدينه.
- التجريب الأدبي: كيف ترى تجربتك في الكتابة بين النصوص النثرية والشعر؟ هل تعتقد أن هناك تداخلاً بين الأشكال الأدبية المختلفة؟
التداخل بين الشعر والنثر في تجربتي ربما وصل إلى نقطة اتزان بينهما، وأيضًا نقطة اتزان للأشكال وألانواع التي تفرعت منهما، كالقصيدة أو الرواية أو المقال أو التحقيق الأدبي، وجميعها أكتبها. ربما هذه الأشكال تشكل نصًا جديدًا بالنسبة لي، ولا تفقد قوامها الخاص إذا عاشت في شكلها الأصلي ومادتها الأساسية، كشعر أو نثر. السبب في ذلك هو أن هناك روحًا واحدة/تجربة واحدة تخلقت منها هذه الأشكال، وهي التي صاغت التحول للأشكال والأفكار، من الشعر إلى النثر، في اتجاهين، فسمحت بالاتصال فيما بينها دون جور نوع على آخر، وأيضًا الانفصال دون فقد، تمامًا كعلاقة الجزء بالكل، حيث إن الاثنين ينبنيان على بعضهما البعض.
- هل من الممكن أن تذكر لمن لم تسمح لهم الفرصة للاطلاع على مجلة "أمكنة" التي كنت تحررها مع كُتّاب آخرين، فكرة اهتمامكم بالتاريخ الشفاهي والتجارب الشخصية وثقافة المكان، وأبرز الملفات التي جرى تناولها في أعداد المجلة؟
كانت مجلة "أمكنة" تسعى لرصد وتوثيق وتحليل لحظة التحول الاجتماعي والثقافي في مصر خلال العقود من السبعينيات حتى الألفية الجديدة، والتي لم ينتبه لها التوثيق العلمي وأكاديمي والمؤرخون في قراءة تحولاتها الجذرية. جاءت المجلة كحلقة ربط لتملأ هذا الفراغ بين حلقتين تاريخيتين ما قبل وما بعد، عن طريق اهتمامها بمفهوم التوثيق الشفاهي المتمثل في الحكاية/الخبرة الشخصية، والحوار مع الناس العادية.
كل عدد له تيمة واحدة، تندرج تحتها العديد من المقالات التي تغطي هذه التيمة من عدة جوانب، وتعكس علاقة كتابها بالفكرة المختارة للعدد. لذا، كان للمجلة منهج بحثي يقوم على الخبرة الشخصية والمعايشة، بالإضافة إلى الملاحظة، سواء بالتدوين أو الشفاهة، وهي أدوات أنثروبولوجية. وقد قمنا في إعداد المجلة كسِمات لها بعمل حوارات مع الناس العاديين بلغة الحياة اليومية العامية، محاولين استخراج التاريخ الشفاهي لحياتهم وخبراتهم غير المدونة والتي يحتفظون بها. كما كان في بعض الأعداد مثل العدد السابع الذي تناول الإسكندرية وتعددها، وكان هناك اطلاع موسع على الأرشيف المكتوب للمحاكم المختلطة ووثائقها للإسكندرية زمن الاحلال الإنجليزي.
العدد العاشر كان عن "سنوات الجامعة"، والحادي عشر "مسارات الثورة"، والرابع عن "الفلاح". وجميعها تحاول أن تشخص هذه العناوين كأنها لإنسان له سيرة ذاتية، عبر مقالات صغيرة حكائية وفكرية. بجانب استخدام الصورة الفوتوغراافية كسياق جنالي وخبري مستقل عن الكتاب، أو مرتبط به.
- الإسكندرية مدينة تمسح نفسها كل فترة، مع الأسف. كيف تتعامل مع هذا الأمر؟
الإسكندرية لا تُمحى بإرادتها. كل مدينة قديمة يُعاد إنتاجها الآن بشكل استهلاكي وترفيهي لخدمة طبقات محددة، وفي سبيل ذلك تتغير معالمها وتمحى، ويتم استغلال كل أماكنها المميزة لشخصيتها، لصالح المتعة وجني الأموال من المستثمرين، وليس للعيش فيها، فأصبح هناك اغتراب بين المواطن ومدينته. القاهرة يحدث فيها أيضًا تغيير في هويتها.
- هل التعددية في الإسكندرية كانت حقيقية؟ هناك أصوات تنفي هذا الأمر برمته لأن كل جالية كانت تعيش في جيتو خاص بها؟
أعتقد أن التعدد كان حقيقة في تاريخ المدينة، ظاهر في الكتابات التي كُتبت عنها، من كتّاب أجانب لهم جنسيات مختلفة، ويظهر التعدد أيضًا في حكايات الآباء عن إسكندريتهم. يتجلى في البقايا المتناثرة في المدينة، التي تحمل طبقاتها وتعددها، سواء في المحلات، والمقاهي، والشوارع، واللغة، وغيرها، وهي الأشياء التي تحولت إلى آثار بالمعنى المجازي، التي يبحث عنها من يريد أن يعيد اكتشاف الإسكندرية. لكن السؤال دومًا: ما نصيبنا، كمصريين، من هذا التعدد؟ ربما يحتاج هذا لإجابة وبحث، وليس فقط الاستسلام للإجابات النمطية، سواء لمن يرفض أو يقبل بالتعدد.
- ما هو الفرق في الكتابة عن مدينتك الأم والقاهرة؟ أيهما أخذت منها مسافة لتستطيع الحديث عنها؟
في كتابتي عن الإسكندرية أو القاهرة كانت هناك مسافة. في الإسكندرية كانت المسافة تتلخص في تلك الكتابات التي كُتبت عن المدينة وشكلت صورة عنها، وكان عليَّ قراءة هذه الصورة جيدًا ومقارنتها دومًا بحياتي فيها وبالصور الأخرى الشفاهية، التي رسمها الناس عبر ذاكرتهم، فكانت الكتابة تأتي عبر علاقة وجدلية مع عدة صور أخرى لا ترفضها أو تقبلها ولكن تتفاعل معها. ومن هنا نشأت مسافة التحليل، لأن المفهوم كان مدفونًا في الوعي بدون تحديد واضح له، حتى بدأت في إدراكه عبر هذه المسافة اللاأمومية.
أما في كتابتي عن القاهرة، فكانت التجربة، أولًا، والعيش فيها، هي المسافة، لأعيد إنتاجها داخل الوعي والحس، ثم جاءت الكتابة عابرة بكل هذه الحواجز والانطباعات التي أوجدتها التجربة. التجربة هنا هي عدم الاستسلام للوجه الصارم أو القاسي أو المزدحم أو النمطي بشكل عام، الذي تبديه المدينة أو الثقافة. تجنب أي إحساس سريع أو حكم متعجل عليها، كان يعني أنني أؤجل دومًا الانفصال عنها لتبقى حاضرة كروح ورمز. ربما حضور القاهرة كروح ورمز مهم لأي مصري، لأنهما يجاوزان المكان، ويرتبطان بروح أشمل، تمامًا كما أرى الصعيد أو مصر العليا تعبر عن هذه الروح الشاملة. كذلك أرى في الإسكندرية أحيانًا أنها معبرة عن هذه الروح، ولكن القاهرة تمتلك نسبة وتمثيل أكبر لهذه الروح الشاملة المصرية إذا جاز التعبير.
- كيف حدث التحول في تجربتك من الشعر إلى الرواية؟
أعتقد أن التحول في تجربتي بين الشعر والرواية حدث عندما تحولت حياتي الشخصية، بعد استقالتي من وظيفتي ككيميائي، عبر عدة قفزات، من متمرد جذري يقف على هامش الحياة إلى لحظة القبول والمساومة بيني وبين الحياة والمجتمع، لأن لي حاجة فيها وفي المجتمع. عندها انفتحت أدوات جديدة، وأفكار جديدة، لرأب هذه الصدوع الوجودية. بالطبع، داخل كتلة الشعر في داخلي، التي انفتحت فيها ثقوب وشروخ عديدة، تفتتت هذه الكتلة الشعرية وتناثرت على مساحة أوسع من نسيج الحياة. ولكن لا يعني هذا أن الكتلة الشعرية تبددت، بل عادت مرة أخرى للتماسك، وكتبت بعد كتابة الروايات عدة دواوين شعرية، ولكن ربما هناك روح جديدة صرت أكتب بها، تتجاوز ما اكتسبته من أشياء وإمكانات جديدة في رحلتها المتبادلة بين الشعر والنثر، بين الآنا والآخر، وأنواعهما الكتابية، بالإضافة لتجربة الحياة نفسها وتحولاتها بالنسبة لي.
- يُلاحظ أن كثيرين من الشعراء الشباب الآن في مصر يتجهون إلى كتابة القصيدة العمودية، على عكس جيل التسعينيات الذي واصل وطوّر في كتابة قصيدة النثر. فهل ترى أن مسابقات الشعر في الخليج لها دور في ذلك، وما هي الأسباب الأخرى من وجهة نظرك؟
ربما عنيت في ردي حول قصيدة النثر أن السرد بمعناه الروائي ابتلع قصيدة النثر بمعنى ندرة الانفرادات الخاصة للشاعر داخل مفهوم السرد وإيقاعاته الممتدة. تأثرت معها الأسلوبية المميزة التي تخص كل شاعر، فهي في النهاية حصيلة ترددات علاقة الشاعر بالزمن وبنفسه وبوعيه وبالثقافة التي تحيط به. لكن خلال المطروح الآن من قصيدة النثر المصرية، أرى تميّزًا نسبيًا لقصيدة المرأة، ربما لأنها تملك مخزونًا شعوريًا أوسع من الاعتراف السردي، لذا هناك خطوط واضحة لمفهوم الأسلوب الشعري وخصوصيته.
لكن هناك تخوف من تنميط هذه الخصوصية وهذا المخزون، وأن تتقولب ضمن ثقافة عامة لا تطرح مكانًا للتساؤل الفردي، ولا تسمح بالتجربة طويلة الأجل، لأنها تبحث عن إجابات وأدوار آنية واضحة.
- أخيرًا، ذكرتَ في أحد حواراتك السابقة أن الاهتمام بقصيدة النثر صار أضعف مما سبق، وأن الاهتمام بالشكل السردي، وليس شرطًا أن يكون الرواية، هو السائد الآن. فهل تظن أن الشعر ما زال له مكانة في عالمنا الجديد؟
سيظل الشعر له مكان دائمًا في طريق تلقي أي شعب، لأنه يملك نظرة لا تحققها حتى الآن إلا أنواع معينة من التفلسف الوجودي، وهو نادر للغاية. حتى وإن لم يوجد مؤمنون بالشعر، فإن استمراره ينضح على ممارسات فنية أخرى كالسّينما أو التشكيل أو الموسيقى، أو حتى ما يتصل بالنفس والفلسفة. وعبر هذه العلوم والممارسات، يحتفظ بوجوده خلالها، كمومياء قابلة للبعث دائمًا، إلى أن تعاد له مكانته القديمة، وهذا أمر شديد الصعوبة، إن لم يكن مستحيلًا وسط ما نعيشه من سطحية واستهلاك في عالمنا الحالي.