توقفت أمام صورة جميلة على صفحة المؤرخ وجامع الأرشيف السينمائي مكرم سلامة، بينما كنت أتصفح شبكات التواصل الاجتماعي بلا هدف. صورة بالأبيض والأسود، يقف في طرفها رجل بسيط يرتدي جلبابًا أبيض اللون ومعطفًا داكنًا ويعتمر طاقية من الصوف وهو يسند يديه على صندوق من الخشب المزخرف، وقد جلس أمام هذا الصندوق طفلان بالجلاليب "السادة" و"المقلمة"، بينما ينظران في شغف داخل إحدى الفتحات الزجاجية لهذا الصندوق العجيب، وهما يجلسان على "دكة" خشبية.
نعرف من صورة أخرى أن مساعدًا لهذا الرجل الغامض يحملها على كتفيه ويتجول معه. وقد عنون "سلامة" هذه المجموعة من الصور بـ"صندوق الدنيا". فما هو صندوق الدنيا، وكيف بدأ هذا الفن، ولماذا خفت وهجه وحضوره من حياتنا اليومية؟
في البدء كانت الصورة
على الرغم من تعدد تسميات هذا الفن، فإنها جميعًا تصب في نقطة واحدة، إذ ينتمي هذا الفن إلى فنون الفرجة الشعبية التي تعتمد على الدُمى والصور والأطياف في تكوينها. وصندوق الدنيا أو صندوق العجب أو السفيرة عزيزة هي مسميات متعددة للفن ذاته. فبحسب ما تقوله الباحثة أماني الجندي في كتابها "فنون الفرجة والطفل" (2021) فإن هذا الفن يعد أحد مظاهر الفرجة الشعبية التي من الممكن أن تتضمن بعض العناصر الدرامية والتي تعتمد على الراوي أو محرّك الدُمى والصور داخل الصندوق وذلك خلال شرحه للأحداث الواقعة بأداء منغم وطبقة صوت ثابتة أقرب ما تكون إلى الآلية أو الميكانيكية.
ويقول محمد مندور في كتابه "المسرح" (1959)، وتحديدًا في باب خيال – الأراجوز – صندوق الدنيا: "وأخيرًا يأتي صندوق الدنيا الذي كان يحملُه صاحبه على ظهره هو و"الدِّكَّة" التي يجلس عليها المشاهدون، ويطوف به الشوارع والحارات والقرى، وكلما لمح من قريب أو بعيد سربًا من الأطفال، أو أشباه الأطفال، وضع صندوقه على الحامل وأمامه "الدكة"، ونادى الأطفال وأشباههم لكي يسرعوا إلى رؤية "السفيرة عزيزة" وغيرها من عجائب الأرض، ويخِفُّ إليه المشاهدون بعد أن يدفعوا ملاليمهم، ويجلسون على الدكة، ويسدل على رءوسهم الستارة، حتى لا يختلس معهم أحد ممن لم يدفع الملاليم النظرَ إلى ما يُعرض من أعاجيب، ومن خلال فتحات زجاجية يرى المشاهدون عِدةَ صور ملونة تتعاقب أمام أبصارهم المشدوهة، وصاحب الصندوق يفسر ما يرَوْنه، ويعلِّق عليه تعليقاتٍ مثيرة، تستحث المتسكعين حول الصندوق؛ قائلًا: (شوف يا سيدي وادي السفيرة عزيزة اللي جمالها ما خطرشي وعينها اللي زي الفنجان وبقها اللي زي خاتم سليمان)، ثم (وادي يا سيدي كمان عنتر بن شداد اللي قتل الفرسان وأدهش الأنام وكل ده عشان عبلة ذات الدلال والجمال).. إلخ".
ويتضح من التعريف الذي أورده مندور أن هذا الفن كان منتشرًا ومألوفًا في مصر والعالم العربي خلال فترات بعيدة من الزمن، قبل أن يختفي من واقع الحياة تدريجيًا. كما أنه شكّل وسيلة أساسية من وسائل التسلية والترفيه عند قطاعات مختلفة من البشر.
خصائص وركائز
كعادة أي فن من الفنون الشعبية، يرتكز صندوق الدنيا على مجموعة من الأدوات والتكوينات التي شكّلت مادته الأساسية وطبيعته الفنية، إذ تشير أماني الجندي إلى أن صندوق الدنيا يتكون من صندوق مفرّغ من الخشب يتضمن عدة عدسات التي يصل عددها إلى خمس عدسات وبكرة تلتف عليها الصور وهي تُدار باليد فتحرك الصورة من خلال العدسات وذلك من عدسة إلى أخرى. وهذه العدسات تعمل على تكبير وتوضيح الصور المعروضة.
أما الراوي الذي يرافق العرض، فيحمل معه (زمارة) ينفخ فيها عند مروره في الحواري والأزقة، ليجذب حوله الأطفال قبل أن يلعب بالدُمى المرصوصة فوق الصندوق الخشبي ليلفت انتباههم. والصندوق يُعلّق على حامل من الخشب يمكن طيّه أو تثبيته وذلك للتحرك به، ويُطلق عليه أهل الصنعة (بينكا). وقد يكون لهذا الصندوق محل صغير لا يحتوي إلا على الصندوق ذاته ودكة صغيرة يجلس فوقها المتفرجون. ويضع الراوي ستارة فوق رؤوسهم لحجب النور الخارجي. ولإضاءة الصندوق من الداخل، فإن الراوي يستعين بمصباح غازي صغير. وعلى فتحة الصندوق من الخارج توجد دمية أو اثنتان أو ثلاث من البلاستيك ترتدي ملابس شعبية ويحركها الراوي عن طريق سلك يتصل بها، بينما ينفخ في آلة البروجي الموسيقية لجذبهم قبل بدء العرض.
قصص وعِبر
كانت عروض صندوق الدنيا تفيض بالقصص والمواعظ الاجتماعية، وتتناول أخبار وسيرة الأبطال الشعبيين ومنها سيرة أبي زيد الهلالي والزير سالم. وهذا ما ذكرته مجلة "الدنيا المصورة" في مقالة بتاريخ 27 تشرين الثاني/نوفمبر 1930 بقولها: "وأدار الرجل صورة أخرى فإذا بها تمثل فارسين من فوارس العرب يتقاتلان على النحو الذي يصفه (شعراء الرباب) إذ يقصون حوادث أبي زيد الهلالي وعنترة بن شداد والزير سالم وغيرهم. أما شرح الصورة الذي ذكره الرجل للأطفال فقد كان: شوف عندك يا سيدي كمان اللعين جساس بن مُرة ضرب كُليب خلى دمه على الأرض سايح، وعندك يا سلام الزير سالم، راكب السبع وجاي قايم، ياخد لأخوه الثأر، وينفي عنه العار، حلف الزير ألفين يمين، وعقد القول بالتمكين، ما يسيب تار أخوه لو ضاعت قبايل. ثم لابست صوت الرجل رنة محزونة وعاد يقول: ما ينام الليل إلا أبو قلب خالي، إحنا ولاد عم لكن الآسى بان".
وتتعدد القصص التي يعرضها الراوي في صندوق الدنيا ما بين الملاحم الشعبية والقصص المجتمعية التي يرغب من خلالها في توصيل عظة وعبرة للابتعاد عن العنف والجرائم مثل قصة "ريا وسكينة". وذلك قبل أن ينتقل إلى قصة جحا الذي يركب حماره معكوسًا، وسط قهقهة الحضور.
وفي المقالة ذاتها، ندرك أن تلك العروض لم تكن تخلو من الخلط التاريخي. ولكم أن تتخيلوا أن الراوي كان يعرض صورة لأحد قساوسة القرن الثامن عشر على أنه الخليفة هارون الرشيد! أو سان جورج وهو يحارب التنين على أنه البطل الشعبي مرعي بن سلامة الأسمر (أبو زيد الهلالي). ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل كان يعرض مجموعة من صور بنات أجنبيات بأسماء بنات عربيات: فهذه (وطفة) بنت دياب بن غانم، وتلك (شيحة) بنت أبي زيد الهلالي، والأخرى (رية) بنت سلامة، وهذه (خضرة الشريفة) أخت أبي علي، وأخرى هي غادة باريسية في ملابس الصيد، أطلق عليها (أم محمد) فاتنة العُربان. ولم تسلم أيضًا قصة عنترة بن شداد من الخلط التاريخي الذي كان ينتهجه هذا الراوي.
ومن بين القصص التي كان يعرضها الراوي قصة النبي إبراهيم ونجله إسماعيل (عليهما السلام) وحكاية الأضحية، وكذلك قصة الخلق الأول للنبي آدم (عليه السلام)، ما يعني أن البُعد الديني كان حاضرًا أيضًا في أشكال العروض. أما قصة "عزيزة ويونس" فكانت من الفقرات الأساسية التي يعرضها الراوي ضمن إطار المرويات الشعبية، وذلك قبل أن يلفت انتباه الحضور ويشوقهم لما سيعرض في الغد مثل: "العرسة التي تلعب الكوتشينة"، و"الفأر الذي يمص القصب"، وكذلك "العنزة التي تلف السجائر".
من المسرح إلى الشارع
يرى الباحث في تاريخ الفنون الشعبية فاروق خورشيد أن فنون المخايلة التي ينتمي صندوق الدنيا إليها، هي عبارة عن مظاهر متنوعة لفن واحد. وهو يقوم في الأساس على الاستعانة بالدُمية أو الشكل أو الصورة لتقديم أولى الأعمال المسرحية التي عرفتها المنطقة العربية. وهكذا يصبح البطل وراء هذه العروض هو الراوي أو الممثل الذي يقوم بتقليد الأصوات والحركات الخاصة بالشخصيات. وكأن هذه الفنون في النهاية هي تطوير لدور الحكواتي أو المغني الشعبي أو شاعر الربابة بمساعدة وسائل الإيضاح والمخايلة.
يقول خورشيد في كتابه "الموروث الشعبي" (1992): "وعلى الرغم من أن هذه الفنون عرفت البيوت المسرحية – إن صح هذا التعبير – إذ كانت تخصص لها أماكن ثابتة يدخلها الرواد، إلا أنها في نفس الوقت خرجت إلى الشارع، فهي مرحلة بين فن الشارع وبين فنون المسرح ذات المسارح المتخصصة.. فقد خرج صندوق الدنيا بدكته الوحيدة وصندوقه مقامًا على حوامل تثني حين رفعه ويحمله اللاعب فوق ظهره، وقد علت الصندوق دُمى ملونة ويمسك الدكة في يد، وبوقًا في يده الأخرى، ويمضي في الأزقة ينفخ في البوق حتى يجتمع عدد كافٍ من الصبية، فيختار باحة بين عدة حوارٍ، ينزل فيها حمله فيقيم الصندوق على الأرض، ويضع أمامه الدكة الخشبية الواطئة وينفخ في بوقه عدة مرات، فإذا ما جلس الصبية المتزاحمون إلى الدكة، ضرب بعصا في يده فوق الصندوق إيذانًا ببداية العرض، ثم مضى يدير اللولب الجانبي بعد أن يسدل الستار على رءوس المتفرجين، ومضى ينفخ في البوق من جديد".
تسميات عديدة للفن ذاته
قد تختلف تسمية صندوق الدنيا من بلد عربي لآخر، لكن في النهاية يظل المضمون واحدًا. فصندوق الدنيا أو "السفيرة عزيزة" (ابنة الزناتي خليفة أحد أبطال تغريبة بني هلال)، هو الاسم ذاته لصندوق الفُرجة في بلاد الشام. ففي دراسة شيقة للباحث فاروق سعد منشورة في مجلة "الآداب" اللبنانية (آذار/مارس 1987) تحت عنوان "المسرح في التراث الشعبي"، نلاحظ أن الرسوم التي كانت تُستخدم في العروض تم رسمها باليد ولم تكن مطبوعة في البدايات، الأمر الذي قاد الباحث إلى استناجين: أن العرب عرفوه قبل معرفتهم للطباعة، أو أن عارضي صندوق الدنيا لم يستعملوا الرسوم الشعبية المطبوعة إلا بعد اتساع رقعة انتشار الطباعة في الوطن العربي، أي منذ عشرينيات القرن الماضي تقريبًا.
كما أن صندوق الدنيا يختلف عن خيال الظل ومسرح الدُمى في أنه يؤدي مواقف قصصية تُروى على لسان شخص واحد أثناء إدارته شريط الصور في الصندوق. وتلك الفنون الثلاثة تجتمع في كونها تقدم موضوعات شعبية بوسيلة تعبيرية بصرية إما الظلال (كما في خيال الظل) أو الدُمى (كما في مسرح الدُمى) أو الصور (كما في صندوق الدنيا).
وقد انتقل الباحث في دراسته هذه إلى مساحة أخرى من الخيال المحلق المرتبط في الوقت ذاته بالقرائن والأدلة، حيث نوّه إلى أن صندوق الدنيا أو الفرجة ربما يعد بمثابة نواة تأسيسية فيما بعد لفن السينما. فنجده يقول: "وأعتقد أن ثمة علاقة بينما صندوق الفرجة والأشكال المتطورة للفانوس السحري Lanterne Magique بأشكاله المختلفة التي مهدت لظهور فن السينما إن لم نعتبره في الواقع بدايات هذا الفن. وهذه الصلة هي التي تشكل حلقة الاتصال بالحالكة Chambre Noire وأرجح أن تكون أوروبا قد عرفت صندوق الفرجة بعد العرب ولعل ذلك قد تم عن طريق الغجر. والغجر على ما ذكر غودور في مقال له في مجلة العالم المصري سنة 1922 التي كانت تصدر بالفرنسية أنهم كانوا يحترفون جملة صنائع من جملتها الطواف بصندوق الدنيا. ولعل هؤلاء نقلوه إلى أوروبا في ترحالهم، ولعل بعض الرحالة الأوروبيين قد شاهدوا الغجر يعرضونه فنقلوا أحد صناديقه معهم إلى بلادهم حيث انتشر وطُوّر حتى وصل إلى ما يُسمى بمسرح الصندوق Theatre à Boite في القرن الثامن عشر ثم إلى ما يُسمى الفانوس السحري".
ولا أدري لماذا تذكرت في هذه اللحظة لعبة كانت منتشرة بين أطفال حقبة التسعينيات في مصر. فهي عبارة عن تليفزيون من البلاستيك بأسفله زر عريض كلما ضغطت عليه ونظرت من ثقب خلف الشاشة يشبه العدسة، تقلبت أمامك صورًا شتى لأماكن ومناظر طبيعية خلابة. فهل كان صندوق الدنيا ملهمًا أيضًا لصانعي ألعاب الأطفال مثلما ألهم صناع السينما؟