آباء وأبناء ووطن بعيد.. نكبة تُعاش كل يوم

آباء وأبناء ووطن بعيد.. نكبة تُعاش كل يوم

1 نوفمبر 2024

يستعرض هذا المقال المترجم، والمنشور في "نيويورك ريفيو أوف بوكس"، قصة جيلين فلسطينيين عايشا آلام النكبة والنكسة وحصار بيروت عام 1982 وخروج منظمة التحرير منها، وصولًا إلى اتفاق أوسلو. تُروى هذه القصص بلسان الآباء حينًا، والأبناء في حين آخر. 

ـــــــ

في مذكراته "العودة إلى الديار" (2020)، يستعيد المحامي الفلسطيني رجا شحادة ذكريات سيره في شوارع رام الله ووقوفه أمام المنزل الذي قُتل فيه والده، عزيز شحادة، مخاطبًا إياه في خياله قائلاً: "في عامي السادس والستين، عدت لأزور المكان الذي كنتَ تعيش فيه لأخبرك كم أفتقد معرفتك وصداقتك".

لطالما اعتقدت أن اختلاف طباعنا كان كبيرًا لدرجة أننا لن نتمكن من التفاهم أبدًا. لكنني الآن أدرك مدى تشابهنا العميق.

وأنا أقف في الشارع أنظر إلى الشرفة الزجاجية، كم أود لو أستطيع تسلق الدرج والدخول معك لنجلس معًا تحت ضوء الشمس.

عاش الشخص الذي يخاطبه رجا مراحل النضال الفلسطيني البارزة في القرن العشرين. وُلد عزيز في بيت لحم عام 1912، قبل عشرة أعوام من موافقة عصبة الأمم على الانتداب البريطاني، الذي سهّل الهجرة الصهيونية إلى فلسطين بأعداد متزايدة. في العشرينيات والثلاثينيات، وصلت موجات متتابعة من المستوطنين اليهود، فاشتروا الأراضي وأسسوا مؤسسات مثل الهستدروت (وهو اتحاد عمال ينظّم ويوظّف عمالًا يهود فقط)، وتسلحوا وبدأوا تدريجيًا في تجريد الفلسطينيين، خاصةً في المناطق الريفية، من الأراضي التي عاشوا عليها وزرعوها لأجيال.

في العشرينيات من عمره، أسس عزيز، الذي تخرج من كلية الحقوق في القدس، مكتب محاماة خاص في مدينة يافا الساحلية. وإلى جانب عمله التجاري، قدم المكتب تمثيلًا قانونيًا مجانيًا، بما في ذلك للفلسطينيين المتمردين الذين اُتُهموا بالمشاركة في الثورة الكبرى ضد الانتداب والهجرة الصهيونية بين عامي 1936 و1939. في المراكز الحضرية مثل يافا، كان المثقفون الفلسطينيون يولون اهتمامًا كبيرًا لكتابات وخطابات قادة الحركة الصهيونية مثل ديفيد بن غوريون، الذي أكد في عام 1937 أن: "حقنا في فلسطين، بكاملها، حق أبدي ولا يمكن الطعن فيه". لكن أولئك الحضريين كانوا يثقون بأن القادة البريطانيين أو العرب سيتدخلون في النهاية للسماح بتقرير المصير للفلسطينيين.

لكن ذلك لم يتحقق. وفي عام 1948، أصبح عزيز واحدًا من أكثر من 750.000 فلسطيني تم تهجيرهم من وطنهم على يد الميليشيات الصهيونية، في حدث تاريخي دمر فلسطين وأصبح فيما بعد يُعرف بالنكبة. فرّ مع زوجته وابنته إلى منزل يعود لوالد زوجته في تلال رام الله، التي أصبحت تحت الحكم الأردني مع نهاية الحرب. هناك، سعى عزيز لاستعادة الأراضي والممتلكات الفلسطينية، حيث ضغط على السلطات الأردنية ونظم حملات لتنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم 194، الذي صدر في كانون الأول/ديسمبر 1948. وقد نص القرار على أن: "اللاجئين الذين يرغبون في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم يجب أن يُسمح لهم بذلك في أقرب وقت ممكن بشكل عملي".

في الخمسينيات، أي عندما كان رجا طفلًا، يقول إنه تمرد على والده عزيز وتحالف مع والدته وداد، المرأة الفاتنة والفخورة التي تنتمي إلى الطبقة العليا من يافا، والتي شعرت بأنها فقدت اهتمام عزيز بسبب انشغاله عنها بالسياسة. ومع ذلك، ظل عزيز محور عالم رجا. في عشريناته، انضم رجا إلى مكتب المحاماة الذي أسسه والده، وكان المكتب حينها يناضل نيابة عن عملائه الفلسطينيين ضد احتلال إسرائيل عام 1967 للضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة. في عام 1979، شارك رجا في تأسيس مؤسسة الحق، وهي منظمة بارزة في الدفاع عن حقوق الإنسان وتوثيق ومقاومة الانتهاكات المنهجية للقانون الإنساني الدولي من قبل إسرائيل. يتذكر رجا، حين كان في سن مبكرة، رؤيته لوالده كنموذج سياسي وتجسيد حقيقي للرجولة. وكما كتب في سيرته الذاتية السابقة، "غرباء في البيت" (2002): "أذكر كم شعرت بالذهول وأنا شاب حين كنت أقف بجانب المغسلة أراقبه وهو يحلق. كانت هذه الحالة ترمز إلى عالم الرجال وكنت أتمنى لو يأخذني معه. لكنني انتظرت عبثًا".

كان أفراد عائلة شحادة من بين مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم في عام 1948 ووقعوا تحت الحكم الأردني في الضفة الغربية. بينما انتهى المطاف بآخرين في قطاع غزة تحت السيطرة المصرية. لجأ الآلاف، مثل عائلتي، إلى لبنان؛ بينما توجه آخرون إلى الأردن، وغيرهم إلى سوريا، ووصل الكثير منهم إلى مناطق أبعد. في المقابل، نجح بعض الفلسطينيين في مقاومة التهجير والبقاء داخل الدولة التي قامت على أنقاض فلسطين وأطلقت على نفسها اسم إسرائيل، الذين أصبحوا يعرفون باسم "أهل الـ48".

حوالي ربع "أهل الـ48" تعرضوا للتهجير الداخلي خلال النكبة، حيث تم تسليم منازلهم للمستوطنين اليهود، أو تم تطويقها من قبل الجيش، أو تم تدميرها. هؤلاء الأشخاص صُنِّفوا كـ"حاضرين غائبين"، وهو تعبير يُستخدم لتضليل وشرعنة استحواذ الدولة على أراضيهم وممتلكاتهم. حتى في الحالات الاستثنائية التي سمحت فيها المحكمة العليا الإسرائيلية للفلسطينيين بالعودة إلى منازلهم، كان الجيش غالبًا ما يتولى عملية تدمير القرى. تروي الكاتبة فدى جريس أنه في إحدى الحالات استُخدمت الحجارة والأنقاض لرصف الطرق.

تنحدر جريس من عائلة بقيت في موطنها. في كتاب مذكراتها "غريبة في أرضي"، تصف كيف أن الفلسطينيين الذين بقوا في أرضهم وجدوا أنفسهم في مجتمع يهودي لم يكن واعيًا لمعاناتهم؛ كانوا غالبًا ما يُهمَّشون أو يُعتبرون أعداء غرباء. والدها، صبري جريس، كان يبلغ من العمر عشر سنوات عندما شاهد كيف أدرك أهله وأجداده أن القرى المجاورة في فسّوطة، وهي بلدة ذات أغلبية مسيحية في الجليل، كانت تسقط واحدة تلو الأخرى في أيدي الصهاينة الذين إما أطلقوا النار على سكانها أو هجّروهم إلى لبنان، ثم نهبوا منازلهم. سقطت فسّوطة في يد الجيش الإسرائيلي في تشرين الأول/أكتوبر 1948 مع معظم القرى المجاورة، ولكن كما تذكر جريس، "تدخل القدر"، ولذلك لم تُفرّغ من سكانها مثلما حدث مع جيرانها، دير القاسي وسحماتا.

بالنسبة لصبري جريس وعزيز شحادة، كانت تلك الحادثة الأولى من التطهير العرقي بمثابة الحدث الذي شكل مسار حياتهم ونشاطهم السياسي وعملهم الفكري. استخدم كلاهما القانون كنقطة انطلاق للانخراط في السياسة. في الفوضى التي أعقبت النكبة، بادر عزيز بالتحرك ساعيًا لتحقيق العدالة للفلسطينيين في الضفة الغربية. وبعد أكثر من عشرين عامًا، بدأ صبري عمله السياسي من داخل إسرائيل، متحديًا النظام العسكري الذي فُرض على الفلسطينيين الباقين. بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964 واحتلال غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، بعد ثلاث سنوات، واصل الرجلان عملهما السياسي، كلٌ منهما بطريقته الخاصة، مسهمَين في الثورة الفلسطينية ضد الهيمنة الإسرائيلية.
عاش كلاهما حالة من الحزن العميق مع استمرار النكبة في تدمير منازلهم. وقد أوضح الفلسطينيون لفترة طويلة بأن النكبة ليست مجرد حدث تاريخي محدود، بل هي عملية مستمرة من الإقصاء العنيف. منذ أن بدأ الصهاينة باستعمار فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر، تمزق نسيجنا الاجتماعي كفلسطينيين، واحتُلت أراضينا، وطُمست سجلاتنا وهويتنا الجماعية، وتعرض أحباؤنا للقتل أو النفي أو الاعتقال، بينما تشتت شعبنا بعيدًا عن وطنه.

هذا النوع من العنف هو جزء من الإرث العائلي، فهو يتسلل إلى حياة الأسرة ويفرض عليها حالة من الصمت داخل المنزل. نشأ رجا شحادة وهو يعيش غيابات طويلة، لكنه لم يعرف أبدًا تفاصيل عمل والده من أجل القضية، فقد رأى فقط العمل المستمر، والوجه الجاد، ولحظات الغضب، وسخرية لم يستطع فهمها. كما لم يكن قادرًا على التعامل حقًا مع عدم رضا والدته الدائم. كان عالمهم بالكامل نتاج للنكبة، واستمر هذا العنف غير المحسوم في جوانب حياتهم اليومية: "لفترة طويلة، اعتقدت أن سياسة والدي هي التي أبعدتني عنه"، يتأمل شحادة في مذكراته الأخيرة المعنونة بـ"كان بإمكاننا أن نكون أصدقاء، أبي وأنا": "الآن أدرك أن السبب الأكثر أهمية كان السياسة داخل الأسرة".

هل من الممكن فصل الأمرين عن بعضهما البعض؟ مع تقدمنا في العمر، نبدأ في رؤية ما وراء قناع الحياة الذي كانا يرتديه والدينا. عندما نكتشف الألم الذي كانا يعيشانه، نرغب في تخفيفه وأحيانًا الانتقام له؛ نريد أن نقاتل من أجل الشفاء. يكتب شحادة أن "روحًا عامة" أو "إحساسًا بالمسؤولية" قد ورثهما كانا يحفزان عمله في مؤسسة الحق: "كان لدي الوهم"، يخاطب والده الغائب في مذكراته "العودة إلى الديار"، "أنني أستطيع تحقيق العدالة الشخصية لك من خلال النضال الجماعي". كيف يمكن لصبي صغير يشاهد والده يحلق في أحد الصباحات أن يتحمل هذا العبء؟ شحادة ليس الفلسطيني الوحيد الذي نشأ مع هذا التحدي. نحن نرث مأساة خسارة قضية عادلة. نريد تصحيح تلك الخسارة، وإعادة ما هو لآبائنا، واستعادة ما هو لنا. هذه هي الطريقة التي نتعلم من خلالها الحب.

قُتل عزيز في عام 1985 على يد فلسطيني قد احتل أرضًا مملوكة للكنيسة الأنغليكانية بالقرب من الخليل، حين كان عزيز يقوم بإخلائه من الأرض نيابة عن موكله. فيما بعد، اكتشف شحادة أن الشرطة الإسرائيلية كانت تملك أدلة ضد الجاني لكنها لم تقم بالتحقيق معه. "هذا جعلني أشك"، كما كتب، "أن القاتل كان إما متعاونًا مع السلطات الإسرائيلية أو تحت حمايتها". كان رجا في الرابعة والثلاثين من عمره. ومنذ ذلك الحين، كتب كثيرًا عن علاقته بوالده، نادمًا على الصمت القديم الذي كان بينهما. بخلاف السفر، كان عزيز غالبًا ما يكون مشغولًا بأعبائه الخاصة. رغم أنهما عملا في نفس المكتب، يقول شحادة في هذه المذكرات إنه لم يفهم تمامًا حجم مساهمات والده السياسية.

ثم جاء يومٌ أعطى فيه صديق لشحادة نسخة مصورة من دليل الهاتف الفلسطيني لعام 1944 لمدينتي يافا وتل أبيب، والتي كانت تتضمن أسماء جده ومكتب والده للمحاماة. يقول: "فاضت بي المشاعر"، مضيفًا: "كل ذلك التاريخ من حياتهم في يافا تم إنكاره". الأمر الذي جعله يشعر بأنه مستعد لقراءة أرشيف والده.

توجد هذه المجلدات من الوثائق في قلب كتاب "كان بإمكاننا أن نكون أصدقاء، أبي وأنا"، الذي يعتبر سيرة ذاتية لمفكر فلسطيني بارز، بالإضافة إلى كونه سردًا لجهود شحادة في فهم رجل لم يتمكن من التواصل معه بشكل كامل في حياته. ما لم يستطع رجا الأصغر قوله لعزيز، يُعبّر عنه الآن من خلال تخيل المحادثات التي كان بإمكانهما إجراؤها، ويتشارك أفكاره حول قضايا والده، ويقارن بين نهجيهما في التعامل مع القانون، وهو جهد شاق ومتواضع لتوثيق إرث عزيز.

في رام الله، تحولت الأيام إلى سنوات بينما أدركت عائلة شحادة أنهم لن يتمكنوا من العودة إلى وطنهم. كتب شحادة: "غادر والدي يافا.. وهو واثق من أنه في أسوأ الحالات، حتى لو تم فقدان أجزاء أخرى من فلسطين لصالح الدولة اليهودية، فإن يافا ستعود إلى الأيادي العربية". فقد كانت، بعد كل شيء، مُعيّنة لتكون جزءًا من الدولة الفلسطينية وفقًا لخطة تقسيم الأمم المتحدة لعام 1947. لكن آماله تحطمت سريعًا عندما اتضحت أبعاد النكبة، حيث تآمرت الأردن وإسرائيل: "على تقاسم البلاد التي كانت فلسطين ومنع اللاجئين من العودة إلى منازلهم السابقة، مما أجبرهم على الاستقرار الدائم في الأردن الموسع بدلًا من ذلك". 

بدأ عزيز وآخرون في التخطيط لعودتهم. في عام 1949، وبعد ثلاثة أشهر من اعتماد قرار الأمم المتحدة رقم 194، أسس المؤتمر العربي للاجئين بمشاركة 800 مندوب تم انتخابهم من الضفة الغربية، يمثلون حوالي 300.000 لاجئ، باستثناء اللاجئين الموجودين في قطاع غزة. في البداية، كان التركيز على تقديم المساعدات الإنسانية الطارئة، لكن سرعان ما بدأ المؤتمر في مطالبة الأمم المتحدة بتوثيق حق الفلسطينيين المشردين في العودة إلى أراضيهم. ومع هذا التفويض الدولي، لم يكن بإمكان قادة المجموعة أن يقبلوا بفكرة نهائية طردهم. قُرئت إحدى رسائلهم الأولى إلى لجنة الأمم المتحدة لفلسطين: "كما تعلمون، يمتلك العرب حوالي 150.000 دونم مزروعة بأشجار الحمضيات، والجزء الأكبر منها تحت السيطرة اليهودية، ومن المحتمل أنها لم تُروَ في العام الماضي".
يرى شحادة أن هناك "فشلًا في التصور" في عدم قدرة والده على إدراك أن فلسطين قد أُفرغت تقريبًا من سكانها لإفساح المجال للغرباء، وهو واقع سياسي لا يمكن لأي قرار من الأمم المتحدة تغييره. ومع ذلك، يتساءل: "كيف يمكنني أن أتعجب من هذا الفشل في الجيل السابق"، مضيفًا: "في حين أنني، أنا الذي عايشت مشروع بناء المستوطنات، لم أتخيل أبدًا أن إسرائيل ستتمكن من تنفيذ هذا المخطط غير القانوني المنهجي". ويشير إلى أن النكبة: "لابد أنها بدت له بنفس القدر من الاستحالة.. كما بدت لي التغيرات التي كنت أشهدها تحت القانون الإسرائيلي".

أدى هذا الإدراك إلى تخفيف وقع الإحباطات السابقة. يتذكر شحادة أن عمله في مجال حقوق الإنسان، حتى بعد تأسيسه لمؤسسة "الحق"، لم يُلهم والده الحماس المطلوب، وقد عزا رجا ذلك في البداية إلى عدم رضا أبوي أو شعور بالتنافس. لكن خلال مراجعته لأوراق والده، أدرك رجا أن عزيز كان يشعر بخيبة أمل شديدة بسبب قيود عملهم. عندما كان شابًا، قضى رجا ساعات طويلة في كتابة وثائق تثبت الانتهاكات الإسرائيلية "كما لو أن كل شيء كان يعتمد عليها"، كما كتب، "لكن لم يكن لذلك أي أهمية، لا للوثائق ولا للقرارات. لم يقرأها أحد، وانتهت في النهاية لتجمع الغبار على رفوف الأمم المتحدة. كان والدي يعرف ذلك، لكنه لم يُخبرني بالحقيقة".

حققت بعض الحملات القانونية التي قام بها عزيز نجاحًا أكبر. بين عامي 1949 و1950، بدأت الدولة الإسرائيلية في الاستيلاء على الحسابات التي كان يحتفظ الفلسطينيون بها في فروع محلية للبنوك الأجنبية، الأمر الذي منع اللاجئين من الوصول إلى مدخراتهم. فيما حكمت المحاكم البريطانية، التي كانت تنظر في قضية تتعلق بالبنك البريطاني "باركليز"، لصالح إسرائيل. ومع ذلك، في عام 1954، تولى عزيز تمثيل عميلة فلسطينية كانت تبحث عن استعادة ودائعها في يافا، ورفع دعوى ضد "باركليز" في محكمة أردنية. كانت الأردن قد ضمت الضفة الغربية في ذلك الوقت، لكنها لم تعترف رسميًا بإسرائيل، كما فعلت بريطانيا، ووفقًا للقانون الأردني، كانت تُعتبر يافا أرضًا محتلة.

إلى "المحامي البريطاني المتعجرف والمتسلط" الخائب الذي يمثل البنك، يكتب شحادة، حكمت المحكمة الأردنية لصالح موكِّلة عزيز، الأمر الذي منح الشاب المحامي شهرة كبيرة. وبعد فترة وجيزة، بدأ النظام الأردني باستهدافه بسبب دعمه المعروف لحقوق الفلسطينيين. وبعد أربع سنوات، وفي أعقاب انقلاب في العراق أسقط الملك فيصل الثاني، الذي كان مرتبطًا بالعائلة الحاكمة في الأردن، قامت الحكومة الهاشمية باعتقال الوطنيين ومناهضي الملكية والناشطين السياسيين الآخرين، وتم احتجاز بعضهم، بما في ذلك عزيز، في سجن الجفر في صحراء الأردن لمدة شهرين.

بينما كان عزيز شحادة يدعو من رام الله إلى حق العودة، كان صبري جريس يعيش كمواطن من الدرجة الثانية في بلده. في عام 1945، أقر البريطانيون، الذين حكموا فلسطين منذ عام 1920، لوائح أطلقوا عليها "لوائح الدفاع (الطوارئ)"، والتي سمحت لهم بإنشاء محاكم عسكرية لمحاكمة واحتجاز المدنيين، وهدم المنازل، وفرض حظر التجوال، وبدء عمليات بحث ومصادرة شاملة. عندما وضعت الدولة الإسرائيلية الناشئة قوانينها، استمرت في استخدام العديد من هذه اللوائح لفرض نظام عسكري على جميع الفلسطينيين الذين أصبحوا مواطنين إسرائيليين. برر قادة البلاد هذا الإجراء كونه يحدث لاعتبارات أمنية. لكن شحادة يشير إلى أن وثيقة قديمة من تقرير لجنة عام 1956 توضح أن الحكومة العسكرية وُجدت لسبب آخر: "لضمان، بشكل مباشر وغير مباشر، عدم ضياع الأراضي الفلسطينية التي لم يحتلها المستوطنون اليهود بعد".

حتى مع منح إسرائيل الجنسية والحق الانتخابي الاسمي للفلسطينيين الذين بقوا في أرضهم بعد عام 1948، كان نظامها العسكري يعزل الفلسطينيين عن حقوقهم بشكل منهجي. لقد فرض عليهم قيودًا صارمة على التحرّك، والتوظيف، والتعليم، ومنعهم من مغادرة قراهم أو ممارسة الأنشطة اليومية دون تصاريح عسكرية. كانت النتيجة هي حصر الحياة الفلسطينية في المدن أو القرى، وهي حالة مبكرة تمثل تكتيكات الإغلاق التي ستستخدمها الدولة لاحقًا لوضع غزة تحت الحصار، وتحويل الضفة الغربية إلى أرخبيل من الجزر الفلسطينية في بحر من المستوطنات اليهودية.

في عام 1957، قرر جريس دراسة القانون، كما تذكُر ابنته، وأصبح واحدًا من أقل من خمسين فلسطينيًا تم قبولهم في الجامعة العبرية في القدس. بعد عامين، خلال دراسته القانونية، شارك في تأسيس مجموعة تُدعى "الأرض" مع بعض الأصدقاء، بما في ذلك معلم وشاعر من فسّوطة وتاجر من الناصرة. واجهت حركة "الأرض" تحديات صعبة، حيث كان عليها الدفاع عن حقوق الفلسطينيين داخل حدود الدولة الصهيونية، على الرغم من أنها كانت تدرك أن معاناة الفلسطينيين بشكل عام كانت تتمحور حول فقدانهم لدولتهم. في منشوراتها الأولى: "أكدت الحركة على حق الفلسطينيين في دولتهم الخاصة، وانتماء هذه الدولة إلى الأمة العربية"، كما كتب جريس. كما وطلبت من إسرائيل منح الفلسطينيين حقوقًا متساوية من خلال إنهاء الحكم العسكري والسماح للاجئين بالعودة.

لم تتجاوب السلطات الإسرائيلية بشكل إيجابي مع هذه المطالب. في البداية، لم تتلقَ طلبات المنظمة للحصول على ترخيص للنشر أي رد. وعندما قامت "الأرض" بطباعة منشورات رغم ذلك وبدأت في جذب القراء، تدخلت الدولة، حيث منعت النشر، وفرضت غرامات، وأصدرت أوامر اعتقال، كما وضعت المؤسسين تحت الإقامة الجبرية ومنعتهم من الحصول على تصاريح الحركة.

قدمت "الأرض" استئنافًا ضد هذه القرارات، ولكن طالما أنها تفتقر إلى ترخيص رسمي، ستُعتبر أنشطتها غير قانونية. ولم تُسفر محاولات الحركة لتسجيل أنشطتها بأشكال مختلفة، بما في ذلك كشركة ذات مسؤولية محدودة أو كحزب سياسي تحت اسم "القائمة الاشتراكية"، عن أي نتيجة. في ست مناسبات، وصلت النزاعات القانونية الناتجة إلى المحكمة العليا، حيث أشارت في أحد أحكامها إلى أن المنظمة كانت "إدانة مطلقة وكاملة لوجود دولة إسرائيل". أخيرًا، في عام 1965، زعمت المحكمة أنه رغم عدم وجود ما يبرر منع "الأرض" من تقديم مرشحين، فإن تفويضها يتطلب منها الانحراف عن القانون للحفاظ على "الديمقراطية الدفاعية". شبَّه أحد القضاة اقتراح المجموعة بـ"شخص يريد قذف قنبلة في الكنيست". في النهاية، تم احتجاز أكثر من 150 من أعضاء وداعمي الأرض في حبس إداري.

من خلال متابعة مثل هذه القضايا، سرعان ما أدرك الفلسطينيون في إسرائيل أن الديمقراطية والعدالة الإسرائيلية كانت مقتصرة على اليهود فقط، بينما حاول معظم الفلسطينيين التكيف مع واقعهم الجديد. ويشير جريس إلى أن بعضهم وصل بهم الأمر إلى التعاون مع النظام لملاحقة زملائهم النشطاء سياسيًا. كان صبري قلقًا من السفر من حيفا، حيث كان يقيم، لزيارة عائلته في فسوطة، لعلمه بأنه تحت المراقبة، ويخشى من أن يبلغ عنه جيرانه إذا سافر دون تصريح. وعندما طلب صبري يد حنّة للزواج، سألتها والدتها قائلة: "لماذا تريدينه؟ عمله يسبب المشاكل، فهو منخرط في السياسة ويدخل ويخرج من السجن! هل ترغبين حقًا في هذه الحياة؟".

أنهت إسرائيل حكمها العسكري الداخلي في عام 1966، إلا أن الفلسطينيين النشطين سياسيًا ظلوا تحت المراقبة الدائمة، وغالبًا ما وُضعوا تحت الإقامة الجبرية وفُرض عليهم حظر تجول، الأمر الذي قيدهم داخل مدنهم أو بلداتهم. كان من بينهم صبري، الذي كان قد نشر قبل أشهر كتابه الأول بعنوان "العرب في إسرائيل"، وهو دراسة حول آليات الاستعمار الداخلي والحكم العسكري في إسرائيل. وازدادت أهمية استنتاجاته بعد عام، عندما شرعت إسرائيل في تطبيق هياكل الهيمنة ذاتها على الأراضي المحتلة حديثًا.

بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية في حرب عام 1967، وجد عزيز شحادة نفسه لأول مرة تحت سيطرة النظام الذي كان يعارضه سابقًا من الخارج. في بداية الاحتلال، ومع شعوره بخيبة الأمل نتيجة لفشل الأنظمة العربية في دعم الفلسطينيين، قرر عزيز أنه: "لم يعد هناك مجال للتردد أو إخفاء للرغبات الحقيقية: يجب على الفلسطينيين أن يتخذوا زمام المبادرة". بدأ يعتقد أن الطريقة الوحيدة لضمان حقوق الفلسطينيين تكمن في الاعتراف بخسارة معظم فلسطين التاريخية، والاعتراف بدولة إسرائيل، والعمل على إقامة دولة فلسطينية.

كان هذا موقفًا مثيرًا للجدل، فقد عارض الفلسطينيون بشكل مستمر تقسيم أرضهم، بينما دعت منظمة التحرير الفلسطينية إلى المقاومة المسلحة لتحرير فلسطين بالكامل. لم يكن عزيز معارضًا تمامًا لمنظمة التحرير الفلسطينية، لكنه كان قلقًا من أن حكومات عربية مثل حكومة الأردن كانت خاضعة بشكل كبير للقوى الغربية ولا تضع مصالح الفلسطينيين في صدارة اهتماماتها. كما كان غير مقتنع بفعالية الحل العسكري، وكان متشككًا في إمكانية تفكيك إسرائيل. كان يخشى أنه بدون وجود دولة خاصة بهم، سيظل الفلسطينيون مقموعين في الساحة الدولية أو قد يتحدث الآخرون نيابةً عنهم: "كيف يمكن للعيش أن يكون كريمًا إذا حُرم الإنسان من حقه في التفكير والتعبير؟". استنادًا إلى خطة التقسيم عام 1947، بدأ عزيز بالدعوة إلى خطة تقبل بالتقسيم وتحقق تقرير المصير الفلسطيني في الأراضي المحتلة. قام بعرض اقتراحه على الإسرائيليين واليهود الأميركيين والفلسطينيين وأطراف أخرى مهتمة.

كانت ردود الفعل سريعة وغاضبة، إذ اعتبر القادة الفلسطينيون داخل منظمة التحرير الفلسطينية وغيرها في الأردن والشتات أن استعداد عزيز لتقسيم فلسطين يعد خيانة. ووصف ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، فكرة إنشاء دولة فلسطينية على جزء من أرضهم بأنها "نكتة". كما شعر النظام الأردني، الذي كان يرغب في الحفاظ على قدرته على تمثيل الفلسطينيين مع دفع أجندته الخاصة للسيطرة على الضفة الغربية، بأنه مهدد. وفي مؤتمر عُقد في الأردن عام 1970 لمناقشة مستقبل النضال، وصف إميل الغوري، الأمين العام للجنة العربية العليا، الدعوة إلى إنشاء "ما يسمى بالدولة الفلسطينية" بأنها: "مهزلة".

تم إسكات النقاش في وقت كان يجدر فيه استكشاف بدائل استراتيجية مختلفة. من وجهة نظر شحادة، فإن "المسؤولين المطيعين والأتباع" الذين عارضوا مقترحات عزيز خدموا - بوعي أو دون وعي - مصالح الأردن. وبعد عشرين عامًا، وافقت منظمة التحرير الفلسطينية بالفعل على تقديم تنازلات وقبول التقسيم. يتخيل شحادة نفسه يخبر والده أن التاريخ أثبت خطأه، حيث ظل الفلسطينيون بلا دولة ومحرومين حتى بعد التنازلات، وأن المحتل هو من انتصر. "هل تعتقد حقًا"، يتخيل رد والده قائلًا: "أنه كان من الضروري أن تجري الأحداث بهذا الشكل وأنه لم تكن هناك طريقة أخرى يمكن أن تسير بها الأمور؟".

إنه سؤال تستحيل إجابته، ولا يحاول شحادة الإجابة عليه. ومع ذلك، من غير المحتمل أن تكون رغبة عزيز في تحقيق السلام عن طريق التفاوض قد تحققت. فقد اعترف عزيز بنفسه أن إسرائيل كانت "تنتهج استراتيجية المماطلة أو التسويف بشكل متعمد" في الأراضي المحتلة حديثًا، وذلك لكسب الوقت لاستعمار الأرض دون ضمها رسميًا.

كان عزيز يطمح إلى استخدام التحدي الديموغرافي الذي تواجهه إسرائيل - بعد أن خضع ملايين الفلسطينيين لسيطرتها في عام 1967 - كورقة ضغط للتفاوض من أجل إقامة دولة فلسطينية. لكن الدولة الإسرائيلية لا تزال تدعم التفوق اليهودي، حتى بعدما بات الفلسطينيون يشكلون الأغلبية من الأشخاص الذين يعيشون تحت سيطرتها. ويتم ذلك من خلال عزل الفلسطينيين عن بعضهم البعض، وحصرهم في تجمعات سكنية مجزأة، وتقييد حقوقهم من خلال تأطيرهم داخل مجموعة من الفئات القانونية التي تضعهم في مرتبة أدنى مقارنة بما يُمنح لليهود الإسرائيليين. ويتم وعد الفلسطينيين بأنهم سيحصلون على دولتهم يومًا ما، وهو اليوم الذي لم يأت أبدًا.

وبحلول نهاية عام 1970، وبعد معاناة أكثر من عقد من الاضطهاد في وطنه وإدراكه لحدود عمله داخل النظام الإسرائيلي، انضم صبري جريس إلى الحركة الوطنية الفلسطينية فتح ونفى نفسه ذاتيًا إلى بيروت. هناك، وفي عام 1978، أصبح مديرًا لمركز الأبحاث الفلسطينية التابع للمنظمة. بعد انتقاله إلى لبنان، ومعايشته لمخيمات اللاجئين الكبيرة والتفاعل مع عالم الشتات الفلسطيني: "بدأ لأول مرة يدرك الأبعاد الحقيقية لتشتت الفلسطينيين"، كما تكتب ابنته. كانت تلك فترة من الحماس الثوري، وانضم صبري إلى شخصيات مثل الشاعر محمود درويش، والكاتب عماد شقور، والمؤرخ إلياس شوفاني، ليشكلوا النواة الفكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت.

تكتب جريس عن والدها: "من خلال دراسته للصهيونية ومعرفته بطريقة عمل إسرائيل الداخلية، كان يؤمن بأن الدولة لا ترغب في السلام ولا في المفاوضات من أجل تحقيقه". ومع ذلك، حافظ صبري، مثل عزيز، على الموقف البراغماتي الذي يقضي بأن الفلسطينيين قد يضطرون يومًا ما إلى الاعتراف بدولة إسرائيل وقبول التقسيم. حافظ على هذا الموقف من داخل منظمة التحرير الفلسطينية، معتقدًا بأن الضغط الثوري قد يغير توازن القوى ويدفع إسرائيل إلى الدخول في مفاوضات.

كان يسير على حافة الهاوية. كتب صبري في عام 1977، بعد فترة قصيرة من انفصال الرئيس المصري أنور السادات عن الحكومات العربية الأخرى وزيارته لإسرائيل: "قد تتطلب الواقعية الاعتراف بوجود دولة يهودية في فلسطين، وينبغي أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار عند البحث عن تسوية". ومع ذلك، أضاف: "لكن هذا لا يمكن أن يعني أبدًا الموافقة على التوجهات التوسعية والاستبعادية للصهيونية". ولكن كيف يمكن الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية دون أن يُشرع ذلك الصهيونية؟ من جهته، أصر شوفاني على أن التوسع الصهيوني لا يمكن السيطرة عليه وأنه سيتعارض مع أي نوع من التسوية. لقد واجه إصرار صبري على السلام التفاوضي انتقادات كثيرة، حيث أطلق عليه بعض رفاقه في منظمة التحرير الفلسطينية لقب "الإسرائيلي".

في السنوات الأخيرة من الستينيات، كانت منظمة التحرير الفلسطينية تعمل من الأردن. ثم، في عام 1970، خلال الأحداث المعروفة باسم "أيلول الأسود"، طردت الحكومة الهاشمية المقاتلين الفلسطينيين، وانتقلت منظمة التحرير الفلسطينية إلى بيروت. خلال السبعينيات، قامت فصائل متعددة من منظمة التحرير الفلسطينية بتوسيع أنشطتها المسلحة، مستهدفة الأهداف الإسرائيلية في الدولة وأيضًا في الأراضي المحتلة وخارجها. في عام 1982، ردت إسرائيل بغزو لبنان، حيث أرسلت أكثر من 40.000 جندي إلى البلاد بهدف مُعلن يتمثل في تفكيك منظمة التحرير الفلسطينية، وهدف غير معلن يتمثل في التعاون مع حزب الكتائب اللبنانية لتحويل لبنان إلى دولة تابعة.

تعرضت منطقة غرب بيروت لقصف جوي ساحق من قبل الجيش الإسرائيلي، وتم فرض حصار عليها دام 68 يومًا. كتب جريس: "تحولت بيروت إلى جحيم." في آب/أغسطس من تلك السنة، أُجبر مقاتلو منظمة التحرير الفلسطينية، الذين بلغ عددهم حوالي 14.000، على مغادرة العاصمة، تاركين وراءهم عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين. وبعد شهر، قُتل ما بين 800 و3 آلاف منهم في مخيمي صبرا وشاتيلا على يد حزب الكتائب اللبنانية تحت إشراف إسرائيلي وتواطؤ أميركي. يروي جريس أن مجلة الجيش الإسرائيلي "BaMahane" نقلت عن أحد أفراد حزب الكتائب قوله لضابط إسرائيلي: "السؤال الذي نطرحه على أنفسنا هو: كيف نبدأ، بالاغتصاب أم بالقتل؟". في الأسابيع العشرة الأولى من غزو لبنان، قُتل 19.000 شخص، معظمهم من المدنيين.

استهدف الجيش الإسرائيلي أيضًا التاريخ والثقافة والمعرفة الفلسطينية. عندما احتلت قواته مركز الأبحاث الفلسطيني في أيلول/سبتمبر "حمّلوا خمسة وثلاثين شاحنة" بالمحتويات الأرشيفية الخاصة به، كما يكتب جريس. خلال هذه العملية: "كسروا الأثاث والمعدات المتبقية، مزقوا الوثائق، تركوا عبارات بذيئة على الجدران، وتبولوا على الأرض". وبعد خمسة أشهر، فجرت مجموعة مسلحة مدعومة من إسرائيل سيارة مفخخة خارج مركز الأبحاث، مما أسفر عن مقتل أكثر من عشرة مدنيين، من بينهم حنة، والدة فدى جريس.

وُلدت فدى جريس في بيروت عام 1973، وقضت سنوات طفولتها في المنفى. وبعد فترة وجيزة من مقتل حنة، انتقل صبري مع أطفاله إلى قبرص، حيث عاشوا هناك لمدة عشر سنوات. وفي أعقاب اتفاقيات أوسلو عام 1993، سُمح لحوالي عشرة من المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل الذين انضموا إلى منظمة التحرير الفلسطينية بالعودة، بمن فيهم صبري ولحقته كل من فدى وشقيقها. تتذكر فدى قائلة: "عندما كنت في الثانية والعشرين من عمري، وضعت قدمي في بلدي للمرة الأولى". وتضيف: "كنت أتعجب أين كانت اللغة العربية، وأين كان الفلسطينيون". بدت سنوات المنفى: "وكأنها تتلاشى، بينما كانت ذكريات والدتي تعود بوضوح إلى ذهني". وعندما مشيت في شوارع فسوطة للمرة الأولى، شعرت بارتباطي بها مرة أخرى، وكأن والدتي بجواري، تمسك بيدي.

عند عودتها إلى وطنها، لاحظت جريس الحقائق المتعلقة بفقدان ملكيتها في كل مكان. في حيفا، حيث كانت تعمل في شارع "Ha’Atzmaut" أو (الاستقلال)، لم يتبقَ أقل من أربعة آلاف من أصل 70.000 فلسطيني كانوا يعيشون هناك قبل عام 1948. تكتب قائلة: "كان هذا الواقع يجثم على صدري كصخرة كل صباح وأنا أنزل من الحافلة". تُعبر جريس عن شعورها بالثقل والضغط اللذان كانا كان يرافقانها كل يوم عندما كانت تصل إلى مكان عملها. وكانت المشاعر التي تتحدث عن الفقدان موجودة في كل مكان من حولها، وكان الأمر كأنها: "تتواجد في مقبرة ضخمة بينما يتجاهل الجميع شواهد القبور".

لاحظت جريس أن الفلسطينيين بدأوا يتأقلمون مع فكرة العيش كغرباء في أماكن عملهم ومدارسهم والمناسبات الاجتماعية ومنازلهم. كان الفقر منتشرًا بشكل واسع، وكان الناس يعانون من أجل الحصول على تعليم جيد. فمعلموهم، الذين تم تعيينهم بموافقة جهاز المخابرات، لم يستطيعوا تعليمهم لغتهم أو تاريخهم، بما في ذلك تاريخ النكبة. كتب الكاتب الفلسطيني أنطون شمعاس، الذي ينحدر أيضًا من فسوطة، في عام 1983: "نظام التعليم العربي في إسرائيل، على الأقل في زماني، كان ينتج أشخاصًا بلا لسان.. بلا ماضٍ ثقافي وبلا مستقبل. هناك فقط حاضر مؤقت وشخصية مبتورة".

وبما أن معظم الفلسطينيين لا يخدمون في الجيش، وهو شرط ضروري للتقدم المهني في المجتمع الإسرائيلي، كان المتخرجون مقتصرين على العمل في الوظائف الخدمية البسيطة. تكتب جريس أن المصطلح العبري "avoda aravit"، والذي يعني العمل العربي، كان يُستخدم عادةً للإشارة إلى العمل ذي الجودة الرديئة أو العشوائية، رغم المفارقة المؤلمة أن معظم دولة إسرائيل بُنيت بأيدي فلسطينية.

تروي جريس أنها عندما كانت هي وزوجها يبحثان عن شقة آنذاك، كان المالكون يرفضون بوضوح تأجيرها لهما. وفي أحد الأحياء، كان هناك لافتة مكتوب عليها "لا للكلاب، لا للعرب". وفي العمل، وجدت نفسها مذهولة من العنصرية العادية: "أنت لست مثل العرب الآخرين، أليس كذلك؟ لقد حققت شيئًا من نفسك". وعندما دعت زميلتها لتناول العشاء في منزلها، كانت الأجواء متوترة: "اعتذرت لي ليزا، قالت إن زوجها اتخذ منصبًا رفيعًا في الجيش الإسرائيلي وكان غير مرتاح لزيارة منزل عربي".

يتعامل العديد من الفلسطينيين في إسرائيل مع هذه الإهانات من خلال الاستسلام للصمت الذي يحيط بهم. تكتب جريس: "كان الناس في فسوطة يتفاعلون إما بصمت مربك أو بعدم ارتياح شديد عندما كنت أذكر فلسطين". ومع ذلك، كانت هي قادرة على رؤية فلسطين في كل مكان من حولها. كانت آثار القرى المدمرة لا تزال واضحة. تكتب: "تم اختيار الأشجار دائمة الخضرة على حساب الأشجار المحلية، لأنها كانت تخفي الأنقاض على مدار السنة".

لا يزال الفلسطينيون يعيشون النكبة، التي تسارعت الآن لتصبح رعبًا لا يُصدق مع الإبادة الجماعية في غزة. تُعتبر نسبة قتل المدنيين واحدة من أعلى النسب في هذا القرن، حيث قُتل أكثر من 40.000 فلسطيني في عشرة أشهر. تسجّل الأمم المتحدة أن أكثر من 10.000 من الضحايا المعروفين من الأطفال، بينما تشير السلطات المحلية ووسائل الإعلام الإقليمية، مثل الجزيرة، إلى أن الرقم يتجاوز 16.500، مع وجود المزيد من الآلاف الذين لم يتم التعرف عليهم بعد. لقد تم تدمير المدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس والمقابر والجامعات والمكتبات والمؤسسات الثقافية والمخابز بالإضافة إلى نسف أحياء كاملة عن وجه الأرض.

في غزة، تتجلى وبشكل صارخ الجهود الصهيونية لمحو فلسطين. إنه لمن المؤلم أن نشاهد ذلك، حتى ونحن نعلم أن النكبة ليست محصورة في لحظات العنف المرعبة هذه، بل إنها تستمر في مطحنة الاستعمار المستمرة، وفي روتين حياتنا اليومية المملة، وفي الأشباح التي تطارد حياتنا داخل بيوتنا. يجد الكثير منا أنه يمكننا فقط الاستمرار من خلال مشاركة حزننا الجماعي، فتتحول فلسطين إلى قصة تُروى عبر الأجيال، أو حكاية لوقت النوم تُحكى، أو طبق خاص يتم تحضيره. نشعر بالعجز عن القيام بأي شيء سوى الحفاظ على ذكرى فلسطين حية. بينما يشعر البعض الآخر منا بدافع قوي للعمل، واحتياج لفعل شيء لا ينهي الظلم فحسب، بل يؤكد أيضًا على هويتنا العائلية والجماعية، لتأكيد وجود آبائنا وأجدادنا ولتأكيد وجود أنفسنا في المقابل. نبدأ في رؤية أنفسنا كجزء من نضال متعدد الأجيال من أجل الوطن، نضال يمتد إلى ما بعد حياتنا، لكنه لا يزال يشكل بحثنا عن الانتماء، وإحساسنا العميق بالذات.

توفي والدي فجأة في نهاية عام 2022، ووضعتني تلك الخسارة أمام حالة من الصدمة. في الأسابيع والأشهر التي تلت وفاته، تمسكت بفكرة أنني كنت في منتصف حديث معه حول الوطن والانتماء والعودة. لم أستطع استيعاب كيف يمكنه أن يرحل قبل أن ينتهي الحديث، عندما كان هناك الكثير من الأمور التي لم تُقال بعد. أخبرتني جدتي، والدته، أنها كانت تسافر أسبوعيًا من حيفا إلى بيروت، المدينة التي نُفيت إليها والتي توفيت فيها. عندما كان والدي يكبر في بيروت، كان وعد العودة إلى الوطن راسخًا في خياله وهو ينظر جنوبًا نحو المدينة التي هرب منها والديه، التي تقع على الساحل ولكنها كانت بعيدة المنال تمامًا.

نادراً ما كان يتحدث عن تلك الخسارة، لكنها كانت تؤثر بشكل عميق على حياته وعائلته. وفي يوم من الأيام، قبل عدة سنوات من وفاته، تركتُ لندن، حيث كنت أعيش، وانتقلت إلى فلسطين. كنت أسير خطوات كان يجب أن يسيرها هو، وأعيش أحلامًا لم تكن بالكامل أحلامي. وفي النهاية، مثل شحادة، فشلت في تحقيق العدالة لوالدي قبل أن ينفد الوقت.

بدون أرض ندعوها لنا، تظل جذورنا في الشتات مغروسة في روح فلسطين؛ فلسطين التي تعيش في ذكريات أجدادنا. ومع رحيل الناجين من النكبة الأولى وأبنائهم، نحن عرضة لفقدان الاتصال بتلك الروح العريقة. لكن هناك راحة يمكن العثور عليها في هذه الكتب، فهي تذكرنا بأننا نستطيع أن نسعى جاهدين لنكون أمناء على الإرث الثمين الذي تركه لنا أسلافنا، حتى يحين اليوم الذي سنتمكن فيه من المطالبة بالعدالة نيابةً عنهم.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

تحدّث الرومان واليونانيون قديمًا بإعجاب عن بخور وطيوب سبأ، لدرجة أنهم وصفوا سكانها بأنهم من أثرى شعوب العالم، وأنهم يأكلون في أوعية من الذهب، ويسكنون بيوت فارهة

2

من يمتلك الإنترنت؟

تقول ولادة شبكة الإنترنت الكثير من ناحية تحولها إلى مجال للسيطرة والربح، خصوصًا حين نضع نصب أعيننا أنها استراتيجية اتصالية أميركية

3

"يا ما في الجراب يا حاوي".. الحواة من إبهار الشارع إلى شاشات التليفزيون

لم يكن الحواة فئة طارئة على المجتمع المصري، فقد تواجدوا في الشوارع والميادين العامة منذ القرن التاسع عشر الميلادي

4

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم

5

ماذا يعني "بريكس" الشرق أوسطي؟

تتباين أجندات الدول المنضمة من المنطقة إلى بريكس بلس بشكل كبير يصل إلى حد التناقض، مقارنةً بأجندات الدول المؤسسة للمجموعة، التي تتسم هي الأخرى بالتباين

اقرأ/ي أيضًا

الجانب المظلم من الديمقراطية الأميركية

الإبادة الجماعية: الجانب المظلم من الديمقراطية الأميركية

ليس الغرب متواطئًا فقط في الإبادة الجماعية على فلسطين، بل إن الطبقة الحاكمة في الغرب تشعر بالخوف من مواطنيها لدرجة أنها أصبحت مستعدة لملاحقة مواطنيها دعمًا للإبادة الجماعية

آمنة بعلوشة

الأسطورة والهوية الوطنية في الملصقات الصهيونية والإسرائيلية
الأسطورة والهوية الوطنية في الملصقات الصهيونية والإسرائيلية

الملصقات الصهيونية والإسرائيلية.. أسطورة هوية

استُخدمت الملصقات خلال فترة الانتداب لجذب المستوطنين اليهود إلى فلسطين، ثم الترويج لهوية يهودية واحدة بعد قيام إسرائيل، مع تهميش متعمد للوجود العربي في الأراضي المحتلة

آمنة بعلوشة

كوبريك

كوبريك.. ملحمة اصطدام الكاميرا بالأحلام

تستعرض هذه المقالة السمات الفريدة لتجربة المخرج الأميركي ستانلي كوبريك، الذي قدّم أعمالًا سينمائية تُعد تحفًا فنية تتداخل فيها عناصر الإبداع والتجريب والتحليل النفسي العميق

آمنة بعلوشة

سيمون دي بوفوار

التمشي بصبحة دي بوفوار

تتحدث آنابيل آبس عن تجربتها في استكشاف الحرية من خلال المشي، كما كانت تفعل الفيلسوفة الفرنسية سيمون دي بوفوار، التي أعادت بناء نفسها كامرأة قوية ومستقلة من خلال المشي

يارا أبو زيد

تاريخ المسيرات.jpg

صعود الطائرات المسيّرة

من تاريخها الذي يمتد إلى قرن، وحتى التحديات التكنولوجية والأخلاقية الحالية، باتت الطائرات المسيرة أكثر استقلالية في قراراتها

آمنة بعلوشة

المزيد من الكاتب

آمنة بعلوشة

كاتبة ومترجمة فلسطينية

عنصرية ورأسمالية وانقلابات: التاريخ المظلم للموز

للموز تاريخ مظلم مرتبط بالاستعمار والعبودية والرأسمالية والانقلابات العسكرية وسياسات العنصرية البيئة والجنسانية والفقر والحياة الهشة والمحفوفة بالمخاطر للقرن الحادي والعشرين

ما الذي نتحدث عنه عندما نتحدث عن الأصالة؟

قلبت آرنت فلسفة هايدغر رأسًا على عقب، واعتبرت أن فصله التفكير عن الإرادة هو تملص من المسؤولية الشخصية

الوجه الإمبريالي لألعاب الأطفال

لم تكن ألعابنا بريئة دائمًا، إذ لعبت دورًا مؤثرًا في التعبير عن الإمبراطورية والاستعمار وإضفاء الشرعية عليها وتبرير العقليات القومية وتفوق العرق الأبيض

فلسطين والعدالة المناخية.. تقاطعات الاستعمار وتدمير الكوكب

النضال من أجل تحرير فلسطين لا يمكن أن يكون مجرد قضية أخلاقية أو حقوقية فحسب، بل هو في جذوره نضال ضد الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة والرأسمالية الأحفورية العالمية

صعود الطائرات المسيّرة

من تاريخها الذي يمتد إلى قرن، وحتى التحديات التكنولوجية والأخلاقية الحالية، باتت الطائرات المسيرة أكثر استقلالية في قراراتها

كوبريك.. ملحمة اصطدام الكاميرا بالأحلام

تستعرض هذه المقالة السمات الفريدة لتجربة المخرج الأميركي ستانلي كوبريك، الذي قدّم أعمالًا سينمائية تُعد تحفًا فنية تتداخل فيها عناصر الإبداع والتجريب والتحليل النفسي العميق