ترجمة لمقال منشور في العدد التاسع من مجلة "Oxford Political Review"، تتناول فيه كاتبته يائيل إسحاقس كيف اعتمدت الصهيونية على الملصقات والرموز البصرية لتشجيع اليهود على الهجرة والاستيطان في فلسطين، ومن ثم الترويج لهوية يهودية واحدة بعد قيام دولة إسرائيل على أنقاض المجتمع الفلسطيني، وقمع أي أثر للوجود العربي في البلاد.
ــــــــــــــــــــ
يُدرك معظمنا سهولة استغلال الأطراف الفاعلة، من القطاعين الخاص والعام، للصور البصرية لصالحهم في العصر الرقمي. ومع ذلك، فإن الرموز السياسية التي تحركها دوافع معينة لا تمثل مفهومًا حديثًا، إذ تسبق جذورها حقبة ما بعد الحداثة.
وفي الفترة ما بين العشرينيات والأربعينيات، استخدمت الحركات الصهيونية، بالإضافة إلى الحكومة الإسرائيلية في السنوات اللاحقة، الملصقات ووسائل بصرية أخرى لتعزيز فكرة إنشاء الدولة الوطنية، وتقوية الشعور بالهوية الإسرائيلية المشتركة، وتقديم روايتهم الخاصة عن التاريخ إلى الجمهور. ومن خلال الاعتماد على سرد محوري تم تشكيله من خلال عملية انتقائية من الإدراج والاستبعاد، أصبحت هذه الملصقات جزءًا لا يتجزأ من جهود بناء الأسطورة الوطنية الإسرائيلية.
قبل ظهور الصهيونية السياسية في أواخر القرن التاسع عشر، كان اليهود في فلسطين العثمانية يشكلون حوالي 5% من إجمالي السكان. تألفت هذه المجموعة بشكل رئيسي من اليهود السفارديم واليهود المشرقيين العثمانيين أو المزراحيين، إلى جانب بعض المستوطنين واللاجئين اليهود الذين قَدِموا بدافع ديني.
نشأ اليهود السفارديم في شبه الجزيرة الإيبيرية، واستقروا لاحقًا في مناطق أخرى من أوروبا، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأميركا الجنوبية، إثر طردهم من إيبيريا. أما المجتمعات اليهودية المشرقية، فهي موجودة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منذ العصور القديمة.
في عشرينيات القرن العشرين، بدأت المنظمات اليهودية في فلسطين تحت الانتداب البريطاني بإنتاج الملصقات وغيرها من المنشورات الرسومية لتعزيز صورة الهوية اليهودية الفلسطينية الموحدة. وقد أشار الباحث أيليت كوهين والجغرافي كوبي كوهين حطاب إلى أن هذه الملصقات تعكس مشاعر الفنانين الذين صمموها. كما وتُظهر آمال الفنانين في العودة إلى إسرائيل وبناء أمة يهودية مُتجذِّرة في الثقافة الأوروبية. والأهم من ذلك، أن هذه الملصقات تجسد تحولًا في النموذج الفكري: فقد كانت الرحلة والحركة نحو فلسطين تُعتبر ذات دوافع ثقافية وسياسية، وليست دينية.
في تاريخ اليهود، كانت العودة إلى صهيون تُعتبر ممكنة فقط مع مجيء المسيح. ولذلك، فإن أي مستوطنة يهودية في فلسطين قبل ظهور الصهيونية كانت مبنية على معتقدات دينية، اعتمادًا على تفسيرات فردية للنصوص المقدسة. وقد وُلدت الصهيونية السياسية، التي دعت إلى إنشاء دولة قومية على الطراز الأوروبي يكون فيها اليهود هم الأغلبية، كرد فعل على تزايد معاداة السامية في أوروبا، رغم الوعود بالتسامح التي قدمها عصر التنوير، حيث اقترح المفكرون الصهيونيون في ذلك الحين إقامة وطن يهودي وحكم ذاتي لضمان عدم تعرضهم لاضطهاد الأغلبية غير اليهودية العنيفة.
سعت الحركة إلى بناء هذا الوطن استنادًا إلى فكرة الأصل اليهودي المشترك. ويُشير كوهين وكوهين حطاب إلى أنه في العقود الأولى من القرن العشرين، أصبح من الشائع اعتبار الانتقال إلى فلسطين عملًا وطنيًا للتوطين والنهضة. وفي كثير من النواحي، كانت ملصقات السياحة تعكس الرغبة المتزايدة في الاستيطان اليهودي، وتعبّر عن تزايد الاهتمام اليهودي بفلسطين.
انتشرت الملصقات الدعائية الصهيونية على نحو واسع في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. وبالإضافة إلى هدفها في تجنيد العمال اليهود لبناء فلسطين اليهودية، كانت تهدف أيضًا إلى تعزيز السياحة غير الدينية. بعض الملصقات الدعائية المبكرة صورت رجالًا يهود ذوي ملامح ألمانية قوية يؤدّون أعمالًا زراعية. بينما احتوت ملصقات أخرى على زخارف شرقية مثل المناظر الصحراوية، وأشجار الليمون، وشخصيات نمطية يُفترض أنها تمثل السكان الأصليين، مما يصوّر استيطانًا يهوديًا أوروبيًا في أرض غريبة. يشير كوهين وكوهين حطاب إلى أن الفنانين الذين صمّموا هذه الملصقات كانوا غالبًا من المهاجرين الجدد إلى فلسطين من ألمانيا والنمسا، وقد تأثروا بالفن الأيديولوجي الألماني والروسي.
تشير الصور الموجودة على هذه الملصقات إلى أن العمل الزراعي الجاد في مجتمع متساوٍ يمكن أن يُساهم في بناء دولة قوية. كما ويُشير كل من كوهين وكوهين حطاب إلى أن العديد من الملصقات في هذه الفترة تجمع بين الاتجاهات الفنية السائدة والرموز الصهيونية، مثل رمز الأرض المقدسة، مع رسائل تروّج للقومية الأوروبية، والحداثة، والاستهلاكية. وبهذه الطريقة، كانت هذه الملصقات تُعزِّز السبل والرُؤى التي يمكن من خلالها تحقيق الدولة الإسرائيلية. وقد دمجت هذه الصورة المثالية للدولة بين الاشتراكية، والرأسمالية، والماضي المجيد لليهود القدماء، وأوجه الحداثة والثقافة الأوروبية العلمانية.
تختلف الأيديولوجيا الكامنة وراء نوعي الملصقات بشكل كبير، سواء تلك التي تستهدف تجنيد العمال أو التي تشجع على السياحة، حيث كانت ملصقات التجنيد تعكس رؤية عالمية اشتراكية، وقد تأثرت بأسلوب الدعاية الثورية السوفيتي المعاصر. كما تُظهر اللوحات التي تصوِّر اليهود وهم يعملون في الحقول، أو يقودون الجرارات، أو يعيشون ببساطة على ما تقدمه الأرض؛ ارتباطًا وثيقًا بالواقعية الاشتراكية التي يتم فيها تمجيد البروليتاريا. وعدا عن ذلك، لا توجد في الصور التي يظهر فيها اليهود وهم يعملون أو يتناولون الطعام معًا، أي تفاوتات هرمية واضحة؛ فالجميع يعملون بتناغم من أجل الخير الاجتماعي، دون أن تكون هناك رقابة من أي وكيل إمبراطوري.
على النقيض من ذلك، كما يكتب كوهين وكوهين حطاب، كانت الملصقات السياحية التي تحتوي على شخصيات "شرقية" ومناظر من بلاد الشام تشير إلى أن أفضل طريقة لبناء دولة هي عبر المشاريع الرأسمالية، ولا سيما السياحة. إن الرغبة في إقامة دولة اشتراكية، جنبًا إلى جنب مع التركيز على رأس المال الخاص، تعتبر سمة بارزة للصهيونية على مر السنين. وحتى التحول النيوليبرالي في إسرائيل خلال الثمانينيات، كان هناك، ظاهريًا، جهدًا للمساواة لا يتماشى في الواقع مع الفجوات الواضحة في المساواة، خصوصًا بين السكان غير الأشكناز، وغير اليهود في إسرائيل.
في العقود الثلاثة التي تلت قيام دولة إسرائيل، كانت الوسائط البصرية والأدبية تهدف إلى تشكيل هوية إسرائيلية متماسكة من خلال تعزيز الوطنية ومفهوم الوحدة الإسرائيلية، وقد تجسد خلال هذه العقود، نوع "البطل الوطني"، كما وصفته إيلا شحات، الشخصيات الرئيسية كرواد أبطال، بينما كانت الشخصيات العربية تكتفي بالوجود الهامشي، ومستفيدة من الوجود اليهودي فقط.
وبينما تتركز تحليلات إيلا شحات على السينما الإسرائيلية، يتّضح أن الصور والرموز السائدة في الأفلام تظهر أيضًا في الملصقات. ووفقًا لستيفن شارو، كانت الوسائط البصرية تمثل اليهود المشرقيين والسفارديم كأشخاص بدائيين وأدنى مرتبة مقارنةً باليهود من أصل أوروبي، إلا أنه كان بالإمكان استيعابهم. وعادت هذه الأفلام إلى دور السينما الإسرائيلية بحماس متجدد بعد حرب 1967، وقامت الملصقات الإسرائيلية بتقليد هذه الاتجاهات دون أدنى شك.
ووفقًا لخبيرة تاريخ الفن إنبال بن آشر غيتلر، يُعتبر تمثيل الفروقات العرقية بين اليهود في إسرائيل جانبًا أساسيًا من الملصقات الإسرائيلية المبكرة. الملصق الموجود في الأعلى يُخلِّد عيد الشفوعوت وهو مهرجان للحصاد، ويعرض مستوطنة زراعية جماعية، مما يعكس المثال الذي وضعه القادة الصهيونيون الأوائل. أحد الأطفال يظهر ببشرة داكنة ويرتدي قبعة مع "peyot" وهي خصلات جانبية من الشعر، مما يدل على أنه مهاجر من أصول شرقية.
وكما يجادل كل من غيتلر وشحات، فإن تمثيل الفروقات العرقية في الخمسينيات يتجسد في فكرة "كيبوتس غاليوت"، أو تجمع الشتات اليهودي المتنوع في إسرائيل. يُعد كيبوتس غاليوت جزءًا من الأسطورة الإسرائيلية التي تعتبر الحياة في الشتات قبل تأسيس إسرائيل وكأنها وُجدت خارج سياق الزمن، مما يجعل تلك الفترات التاريخية غير مهمة.
بالنسبة لغيتلر، تظهر هذه الاستراتيجية من خلال تجانس ألوان الملابس في الملصق، الذي يُعبر عن الوحدة الوطنية. كما تحتوى ملصقات أخرى من تلك الفترة على تمثيلات لمجموعات من الأفراد بملامح وأزياء متجانسة. وغالبًآ ما يقلل الفنانون من أهمية الفروقات العرقية بين الإسرائيليين، كما يتضح من التنوع البسيط في ظلال ألوان بشرتهم وعدم وجود تفاصيل في ملامحهم.
تتميز الصور الشرقية لبعض الشخصيات في هذه الملصقات بالغموض، حيث يتعذر تحديد ما إذا كانت تمثل الفلسطينيين العرب أم اليهود المشرقيين، إذ إن كلا المجموعتين اعتُبرت "الآخر" في سياق الهوية الإسرائيلية، رغم أن اليهود المشرقيين فقط هم الذين كان يُعتقد أنهم قابلون للاستيعاب. على هذا النحو، بينما عرضت بعض الملصقات الشخصيات اليهودية المشرقية وغير اليهودية من الشرق الأوسط كشخصيات غير متوائمة مع السياق الثقافي، متماشية مع الصور النمطية التقليدية؛ تجاهلت ملصقات أخرى الفروقات العرقية تمامًا لتعزيز الصورة الموحدة للهوية الإسرائيلية.
ساهمت كلتا الاستراتيجيتين في محو التراث المشرقي والعربي، حيث عملت الاستراتيجية الأولى على تعزيز الهياكل العرقية من خلال تصوير اليهود المشرقيين بصورة طفولية، بينما تجاهلت الاستراتيجية الثانية الفروقات الثقافية وصوّرت جميع اليهود في إسرائيل كما لو كانوا يتبنون نفس القيم والممارسات الثقافية. ويعكس الغياب الملحوظ للشخصيات التي تمثل الفلسطينيين، مع اقتصار التأثير الإسلامي على المناظر الطبيعية والعمارة، الإقصاء السياسي والاجتماعي لهم من المجتمع الإسرائيلي. كما تشير غيتلر إلى أن الملصقات "تصوّر الآخرين في إسرائيل بشكل نمطي وعام"، مما يبرز غياب التفرد في تجاربهم وثقافاتهم.
أخيرًا، تُعتبر أهمية القوة العسكرية في تأمين الوطن التاريخي والمحافظة عليه ركنًا أساسيًا من أركان الأسطورة الوطنية الإسرائيلية، إذ تدمج العديد من الملصقات بين صور الجيش الإسرائيلي والرموز اليهودية، مما يسلط الضوء على الدور المحوري للقوة العسكرية في الحفاظ على الدولة اليهودية. كما تصور ملصقات أخرى تفاعلات ودية بين الجنود الإسرائيليين والأرض، مثل الجنود الذين يرقصون في المهرجانات، مما يعكس الفكرة القائلة بأن القوة العسكرية ليست فقط ضرورية لبناء الوطن، بل أيضًا لتحقيق السلام.
يؤكد كل من الأنثروبولوجيين ريبيكا شتاين وتيد سويدنبورغ على أهمية دراسة العلاقة بين الثقافة الشعبية وهيمنة السلطة في سياق إسرائيل وفلسطين. خلال فترة الانتداب البريطاني، استُخدمت الملصقات الصهيونية لجذب المستوطنين اليهود إلى فلسطين باعتبارها وطنًا تاريخيًا ووطنًا محتملاً لليهود. في الواقع، كانت هذه الملصقات تلغي وجود الفلسطينيين العرب الذين عاشوا في تلك الأرض لقرون. وفي المقابل، تروج الملصقات التي ظهرت بعد الاستقلال لهوية موحدة، وتدعو إلى أن تكون إسرائيل "بوتقة انصهار" لليهود، بينما تواصل قمع في البلاد.
في نهاية المطاف، تم تخفيف الضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي تعرض لها اليهود السفارديم والمشرقيون. ورغم ذلك، لا تزال الفجوة الاجتماعية العميقة تفصلهم عن نظرائهم الأشكناز، بينما يستمر اليهود السود والعرب الإسرائيليون في مواجهة حواجز كبيرة تعرقل حركتهم الاجتماعية والثقافية.
وتظل هذه التفاوتات غير مرئية، حيث تستمر الثقافة الشعبية الإسرائيلية في الالتفاف حول مفهوم الوحدة الإسرائيلية، بينما تحتفظ حركة الاستيطان الحديثة بفكرة استعادة الأراضي. كما لا تزال العديد من الأساطير المروّجة في الملصقات المبكرة تشكل جزءًا أساسيًا من الأيديولوجيا الوطنية الإسرائيلية. ومع ميل هذه الأساطير إلى تهميش وتعميم واستبعاد اليهود المشرقيين والفلسطينيين العرب، فإنها تعزز الفجوات القائمة التي لا تزال تعاني منها إسرائيل حتى اليوم.