حنة آرنت

ما الذي نتحدث عنه عندما نتحدث عن الأصالة؟

20 سبتمبر 2024

ترجمة لمقالة سمانثا روز هيل "ما وراء الأصالة" المنشورة في مجلة "Aeon"، تتحدث فيها عن الأصالة لدى كل من حنة آرنت ومارتن هايدغر وكارل ياسبرز.

ــــــــــــــــــــــــ

وجهت حنة آرنت، من خلال عملها الأخير غير المكتمل، نقدًا لاذعًا لفكرة أننا نبحث عن ذواتنا الحقيقية.

 "عندما أتأمل يدي
كأن شيئًا غريبًا يتعلق بي
أقفُ بلا وطن
لستُ هنا ولا هناك
ولستُ على يقينٍ من أيِّ شيء".

هكذا بدأت حنة آرنت إحدى قصائدها التي كتبتها في صيف العام 1924، بعد عامها الدراسي الأول في جامعة ماربورغ في ألمانيا مع الفيلسوف مارتن هايدغر. تُجسد القصيدة مشاعر الاغتراب الذاتي تحت عنوان "ضائعة في ذاتي"، ذلك الشعور بالاغتراب الذاتي الذي لا يستطيع المرء التيقن فيه من أي شيء، حتى من ذاته.

منذ سن مبكرة، كانت آرنت تكافح التوتر الذي تشعر به بين حقيقتها ونظرة الآخرين لها. كانت شابة عبقرية وواضح أنها يهودية مقارنةً مع زملائها الألمان، الأمر الذي خلق لديها شعورًا ما بأنها مختلفة بينهم. وليس من الصعب رؤية الشابة آرنت وهي تعيش بمفردها، رافضةً حضور الدروس الصباحية، وتدرس هوميروس فترة ما بعد الظهيرة في سبيل الحصول على متعتها. في العلن، كانت كالنجمة، يعجبها الاهتمام الذي كانت تتلقاه من زملائها وأساتذتها بسبب جمالها وتألقها. وفي الخفاء، كانت خجولة، تشعر بالراحة وهي بمفردها مع نفسها.

توفي والد آرنت وهي في عمر السابعة، وقضت بعد وفاته الجزء الأكبر من طفولتها داخل مكتبته. وعندما أصبحت في عمر الرابعة عشرة كانت قد انتهت من قراءة الأعمال الفلسفية لإيمانويل كانت، وكتابات أستاذها المستقبلي كارل ياسبرز عن سيكولوجية النظر إلى العالم، كما تعلمت اليونانية واللاتينية بنفسها.

وفي سنّ الثامنة عشرة، أصبحت تدرس في الكلية، ولم يكن الاختباء داخل مكتبة والدها خيارًا متاحًا. كانت آرنت تصارع بجد لتصبح شخصًا مرئيًا في العالم، تصارع وحدتها وشعورها بوجود شيء ما أكبر بداخلها. فماذا يعني أن يصنع الإنسان شيئًا من نفسه؟ أن يصبح شخصًا ما بدلًا من لا أحد؟ "هل هو شخص أفضل مما أنا عليه الآن؟ وهل له قيمة أعلى؟". تسأل يدها، اليد التي ستواصل كتابة بعض أفضل أعمال النظرية السياسية في القرن العشرين.

 ما الذي يعنيه اكتشاف الذات الحقيقية الأصيلة؟ هل يعني تصرف الإنسان من نقطة معينة تنبع منها الأصالة؟ هل يمكن الكشف عن ذات أكثر صدقًا داخل الذات؟ ما الذي نريد أن نتحدث عنه حقًا عندما نتحدث عن الأصالة؟

بدَت الأصالة كمفهوم فلسفي في كتاب هايدغر "الكينونة والزمان" (1927)، الذي نُشِر في أعقاب الحرب العظمى. وحاول هايدغر استعادة الكينونة أو الوجود من عادية الحياة اليومية التي يمارسها الناس في العالم باستمرار مع الآخرين. بالنسبة لهايدغر، معظم وجودنا اليومي وجود غير أصيل، لأن الوجود المقترن مع الآخرين في العالم يبعدنا عن الوجود الفعلي مع ذواتنا الحقيقية، الذات التي لا تتأثر بالعالم على حد تعبيره.

بالنسبة لهايدغر، هناك فرق بين ما يُترجم على أنه "كينونة" (Being [بحرف كبير])، و"كينونة" (being [بحرف صغير]). ولا يشير هذا التمييز إلى كينونة متعالية كما يفعل كتابة حرف الـ"g" في كلمة "God" بحرف كبير ليُعنى بها الله، بل يشير إلى حقيقة أن الإنسان ليس مجرد كائن بين الكائنات دائمًا. أو بتعبير آخر، الكينونة تعني أن هناك نسخة أصدق من الذات، نسخة أكثر أصالة، لا يمكن للإنسان تجربتها إلا عندما يخرج من تيار الحياة اليومية، الذي أطلق عليه هايدغر مسمى "الحياة اليومية" أو "everydayness". وعندما نختبر هذه الكينونة، نحن لا نختبر حياتنا العادية فحسب، بل إننا نختبر كل ما يعنيه أن نكون أناسًا بما في ذلك موتنا الحتمي، ذلك الجزء من أنفسنا - عدم وجودنا - الذي يظل خفيًا ومخبوءًا عن وعينا.

 الذات الحقيقية هي الذات التي انفصلت عن القطيع؛ إنها الذات الموجودة من أجل الذات فقط

 تعبِّر كلمة "Alltäglichkeit" في اللغة الألمانية عن مفهوم الحياة اليومية، والتي تعني "الشيء العادي"، أو "المألوف" أو "التفاهة". في كلمة "Alltäglichkeit"، يُضفي مصطلح "der Alltag" أو "الحياة اليومية" شعورًا بالتكرار والروتين. وهو اسم مفرد يمنح إحساسًا بعدم القدرة على التمييز بين يوم وآخر، كالاستيقاظ، الذهاب إلى العمل، العودة إلى المنزل، مشاهدة التلفاز، والذهاب إلى النوم. يعتقد البعض أن هذا هو الواقع المتكرر، والممل على الأغلب، والذي يعيشه كثير منا يومًا بعد يوم. ولكن هذه الحياة اليومية جزءٌ لا مفر منه من الحياة بأكملها. جزء يختبره الجميع.

وبالنسبة لهايدغر، فإن هذا يعني أنه إن كنا نقضي معظم أوقاتنا في الحياة اليومية، حيث تنشأ روتينات بشكل كبير عن طريق المجتمع الذي نعيش فيه، وعادات الأشخاص الذين نقضي أوقاتنا معهم، والمؤسسات السياسية التي تحكم الحياة، فإن نسيان جزء من أنفسنا سيصبح أمرًا لا بد منه، إذ سيصبح من السهل الانغماس في طريقة روتينية في الوجود، ناسين أننا اخترنا العيش بطريقة معينة على أي حال. وبالإضافة إلى ذلك، بالنسبة لهايدغر، هذا يعني أنه لا يمكن للإنسان أن يفهم الطبيعة الكاملة للكينونة من خلال فحص الحياة اليومية وحدها. لذلك، طوَّر مفهوم الأصالة ضد الحياة اليومية في محاولة منه لالتقاط صورة كاملة للذات.

 إذًا، ما الأصالة؟

إذا كانت الذات غير الأصيلة هي الذات اليومية، والتي تعتبر واحدة من عدة ذوات، فإن الذات الأصيلة هي تلك التي انفصلت عن القطيع؛ إنها الذات التي توجد للذات نفسها. الخروج من تدفق الحياة اليومية هو حدث استثنائي. تقول الحكمة الشائعة: "نحن ما نفعله" أو "نحن مجموع أفعالنا". كل خيار يصنع المسار المستقبلي الذي نجد أنفسنا عليه، وأحيانًا، نتراجع كي نتمكن من رؤية الصورة الكاملة لأنفسنا، وكيف وصلنا لما نحن عليه الآن. ولكن بالنسبة لهايدغر، نحن نكون أنفسنا بشكل كامل في تلك اللحظات الاستثنائية فقط، عندما نُطهِّر الوجود تمامًا من ذلك المسار المبتذل الذي صنعه الروتين اليومي.

يستخدم هايدغر مفردة "Eigentlichkeit" للتعبير عن الأصالة، وهي كلمة ألمانية بمعنى "حقًا" أو "صدقًا". تعني "Eigen" (خاص)، أو (خاص بالشخص). ويمكن ترجمتها حرفيًا "أن توجد حقًا لنفسك". أو بالعامية، مثل أن نقول "أن تكون صادقًا مع نفسك". أي في تلك اللحظات الاستثنائية، عندما يختبر المرء حقيقة نفسه بالكامل، حين يكون منفصلًا عن القطيع، وحيدًا في كينونته. وبهذه الطريقة، فإن مفهوم هايدغر للأصالة مفهوم وحيد بشكل كبير، كونه يسمح للإنسان اختبار الوحدة المرعبة التي يفرضها عليه العدم - الموت - للحظة من الزمن بينما لا يزال على قيد الحياة.

وفي مواجهةْ ضد مفهوم الأصالة الوحيدة لدى هايدغر، والذي أصبح حجر الأساس للوجودية الألمانية، قدم ياسبرز مفهومًا آخر لما يعنيه أن تكون مشروطًا بعالم الحياة اليومية. كان ياسبرز أستاذًا في جامعة هايدلبرغ، انتقل من علم النفس إلى الفلسفة عندما اقترب من سن الأربعين. كان كلٌّ من هايدغر وياسبرز مهتمًا بمعنى الكينونة، لكنهما فسَّرا السؤال الأساسي للوجود البشري بشكل مختلف تمامًا عن بعضهما البعض. إذ أراد هايدغر أن يفهم كل ما يمكن معرفته عن الكينونة، بينما كان ياسبرز مهتمًا أكثر بما لا يمكن معرفته. وكما كتبت الباحثة كارمن ليا ديدجي في مجلة "سايكي" (Psyche) في عام 2020: "يعتبر ياسبرز أحد المفكرين الوجوديين القلائل الذين لم يسعوا إلى السيطرة، أو ترويض، أو القضاء على الحالة غير المعروفة والمحدودة للحياة البشرية".

 في العام 1932، وعلى مشارف الحرب العالمية الثانية، نشر ياسبرز كتابه "الفلسفة"، فقدّم فلسفته عن الوجود. ورغم أنه لم يعتبرها "وجودية"، إلا أنها كانت تعنى بالتساؤل عن معنى العيش بأصالة.

يرى هايدغر أن الأصالة تتحقق عندما نكون بمفردنا، بعيدًا عن تأثير الآخرين المفسد. لكن بالنسبة لياسبرز، فهو يرى أنه لا يمكننا أن نوجد في العالم إلا مع الآخرين، بمعنى أن أي مفهوم للحرية يجب أن يكون مشروطًا بمبدأ الوجود مع الآخرين في العالم. ولأن لا أحد يعيش بمفرده أبدًا، يجب أن نفهم ذاتنا الأصيلة دائمًا وهي في علاقة مع الآخرين والعالم الذي نعيش فيه فقط. كان تفسير ياسبرز في ذلك الوقت ذا أهمية بسبب الوضع السياسي المرعب الذي دعا فيه الناس لمواجهته، الواقع الذي تحولت فيه عبارة "لا تقتل" إلى "يجب أن تقتل" ليُترك الشخص مع بوصلته الداخلية فيكون صاحب قرار وقدرة على التصرف في أسوأ الظروف.
 اتجهت آرنت لمفهوم الإرادة للبحث في كيفية اتخاذ الشخص قرار التصرف في العالم

نشأت الوجودية الفرنسية من الوجودية الألمانية في خضم الحرب العالمية الثانية. وإذا كانت الأصالة مسألة كينونة بالنسبة إلى هايدغر، ومسألة حرية بالنسبة لياسبرز، فإنها بالنسبة لجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وألبير كامو مسألة أخلاقيات فردية. ليتحول السؤال الأساسي من "ما معنى الوجود؟" إلى "كيف ينبغي عليَّ أن أكون؟". إن العقيدة التي تدعم عمل سارتر - الوجود يسبق الجوهر - تعني أننا قد أُلقينا في العالم دون أي مادة ثابتة، وهذا يعني أننا نختار من نكون. بينما حاول فلاسفة مثل توماس هوبز وجان جاك روسو تصوُّر شكل الطبيعة البشرية من خلال تخيل شكل الحياة قبل المجتمع.

بالنسبة لسارتر، لا وجود للطبيعة البشرية. يجب علينا دائمًا أن نتخيل ونعيد تصور من نحن، وهذا يعني أننا دائمًا في طور التحول. بالنسبة لبوفوار، كانت ترى أن التحول، أو ما يسمى الصيرورة، مشروعًا إبداعيًا وعملًا فنيًا. وقالت إنه لا يكفي أن يُشكِّل الإنسان نفسه في ظل الظروف الحالية للعالم، بل يجب عليه تشكيل ظروف العالم نفسه أيضًا. لم تكن الأصالة بالنسبة للوجوديين الفرنسيين متعلقة بالكشف عن الذات الحقيقية الموجودة مسبقًا، بل اختيار الانخراط في عملية الصيرورة نفسها.

متأرجحة بين الوجودية الألمانية والفرنسية، قدمت آرنت نقدًا لمفهوم الأصالة في عملها الأخير غير المكتمل "حياة العقل". وبدلًا من الأصالة، لجأت آرنت إلى مفهوم آخر ألا وهو الإرادة في سبيل التفكير في طريقة يتوجب على الإنسان فيها اتخاذ قراراته بالتصرف في العالم. تلميذة هايدغر وياسبرز، ورفيقة درب كل من سارتر وكامو وبوفوار في الفترة من 1933 إلى 1941، أي خلال سنوات نفيها في باريس، رفضت فكرة وجود ذات حقيقية داخل الذات. لم تكن مُفكّرة متعالية، حيث لم يكن هناك، بالنسبة لها، (God) بحرف G كبير، ولم تكن هناك كينونة (Being) بحرف B كبير. وجادلت بأن الجزء الداخلي لاتخاذ القرار والذي يوجِّه أفعال الإنسان، هو الإرادة بدلًا من الذات الداخلية الأصيلة.

وباتِّباع أعمال القديس أوغسطين وياسبرز، قلبت آرنت فلسفة هايدغر رأسًا على عقب، وجادلت بأن كل تفكير، في العالم، ينطلق من التجربة وليس من الكينونة. وبزعمه أن التفكير هو وظيفة الكينونة، حاول هايدغر فصل التفكير عن الإرادة ليبرهن أن الكينونة الداخلية الحقيقية للفرد هي التي تحدد في النهاية من يصبح في العالم. لكن بالنسبة لآرنت، كان هذا تملصًا من المسؤولية الشخصية والاختيار. كان ذلك بمثابة تسليم لسلطة اتخاذ القرار. وفي نظرها، القرارات التي نتخذها في اللحظة الحاسمة عندما نواجه الخيارات هي التي تحدد من سنصبح، وبالتالي تحدد نوع العالم الذي سنساهم في تشكيله.

إذًا، ما هي الإرادة؟ وهل هي بديل مقنع للأصالة؟

على النقيض من "الأصالة"، فإن "الإرادة" كلمة غير مُحبَّبة كثيرًا. أولًا، هي شيء لا يمكن للإنسان امتلاكه، بل هي فعل على الإنسان القيام به. وعلى عكس الأصالة، في الإرادة لا يوجد شعور بالراحة. وبينما توصف الأصالة باليقين، توصف الإرادة بعدم اليقين. وفي أوقات الاختلال، من الطبيعي تفضيل الإنسان لكل ما يعِد بالقدرة على التنبؤ بالمجهول، إذ تظهر الإرادة ليلة رأس السنة الجديدة عندما يبدأ الناس الحديث عن قراراتهم ورغبتهم في تغيير حياتهم، لتصبح الإرادة مسألة "قوة الإرادة". وأسوأ ما قد يحدث أن تذكرنا الإرادة في تلك الأوقات الصعبة حين يسألنا أحدهم "هل أنت مستعد للتعاون؟"، "هل أنت مستعد للمحاولة؟"، "هل أنت مستعد لعمل كل ما يلزم لإنجاز المهمة؟". ولكن بالنسبة لآرنت، كانت الإرادة الوسيلة التي تقودنا إلى حريتنا، وكانت الوعد بقدرتنا المستمرة على أن نكون غير ما نحن عليه الآن، وهكذا بالنسبة للعالم. الإرادة هي مساحة التوتر الموجودة داخل الذات والتي تمكِّن الإنسان من الشعور بحجم الفرق بين مكانه الحالي والمكان الذي يرغب أن يكون فيه.

 الإرادة هي التدخل الوحيد الذي بحوزتنا ضد التكيف مع الوجود الدنيوي

 الإرادة نشاط عقلي يحدث بين التفكير والحُكم. وتتميز بقدرتها على تشكيلنا عن طريق جذبنا نحو صراع مع أنفسنا. وبدون الصراع الداخلي، لا يمكن أن نتقدم إلى الأمام. وهذه هي المبادئ الأساسية للإرادة:

  • تتسم الإرادة بحالة داخلية من عدم الانسجام.
  • تُختبر الإرادة كإحساس واضح بالتوتر داخل الجسم، حيث يكون العقل وكأنه في حالة حرب مع نفسه.
  • تجعل الإرادة الإنسان مدركًا للقرارات المحتملة، الأمر الذي يصنع شعورًا بالانجذاب نحو اتجاهات متعددة في نفس الوقت.
  • قد تتسبب الإرادة في الشعور بالوحدة الشديدة، حيث تتشكل قرارات واختيارات الأشخاص من خلال البيئة المحيطة به، ولكن في النهاية تقع مسؤولية اتخاذ القرار على عاتق الشخص نفسه.
  • تجعل الإرادة الإنسان مدركًا للتوتر الموجود بين نفسه كجزء من العالم، وبين نفسه كفرد وحيد في اتصال مع العالم.
  • الإرادة هي مبدأ التفرد الإنساني.
  • ترتبط الإرادة بالعالم من خلال الفعل.
  • الإرادة هي الجزء الداخلي للحرية.

يتخذ الجميع مئات القرارات يوميًا، ولكن في معظم الأحيان لا يكونون على دراية تامة بالقرارات المُتَّخذة، كون قراراتهم لا تخضع للإرادة. فهم ببساطة يتبعون روتينًا من الأنماط التي تشكلت مع مرور الوقت. ومن أجل إشراك الإرادة، يجب على الإنسان أن يكون مستعدًا للتوقف مؤقتًا. لأنه بينما ينتقل التفكير من التجربة الماضية للتركيز على تخيل ما سيحدث في المستقبل، فإن الماضي والمستقبل يصبحان خارج نطاق الإرادة. كون الإرادة هي ما يحدث قبل أن يتصرف الإنسان. أن تكون في حالة الإرادة يعني أن تكون في الوقت الحاضر.

الأصالة جذابة نوعًا ما لأنها تعِدنا بشعور من الانسجام، فهي الوعد بأننا إذا عرفنا من نحن، سنتمكن من التصرف بطريقة تتوافق فيها أفعالنا مع قيمنا. وتتميز الإرادة بقدرتها على صنع شعور بالصراع، كونها الجزء الداخلي الذي يخلق التوتر داخل الذات مما يجعل الشخص مدركًا للتناقضات بين من هو حقًا ومن يرغب أو يريد أن يكونه، وبين ما يمكنه الحصول عليه بالفعل. لكن يعتبر هذا التوتر عمليةً حيوية قادرة على جلب الوعي نحو القدرة على اتخاذ القرار.

 بالنسبة لآرنت، نحن لسنا بمفردنا أبدًا، حتى عندما نكون بمفردنا مع أنفسنا.

 اقتبست آرنت فكرة أن الشعور الداخلي بالصراع هو الإرادة نفسها من كتاب "الاعترافات" للقديس أوغسطين، الذي حاول من خلاله فهم سبب اختيار الناس للخطيئة. زعم أوغسطين بأن الاختيار يكون في النهاية مسألة عادات ورفقة. نحن نقلد سلوكيات أولئك الذين نقضي وقتًا معهم، وتصبح هذه السلوكيات عادات. والإرادة هي التدخل الوحيد الذي نملكه ضد التكيف مع الوجود الدنيوي. وهذا يعني أننا في كل مرة نختار فيها التصرف بطريقة ما، نختار أيضًا عدم التصرف بطريقة ما أخرى. ومقابل كل فعل ينجم عن إرادة، هناك فعل آخر سوف لن يقام به بسبب الإرادة ذاتها. ولهذا السبب، بالنسبة لآرنت، فإن الإرادة هي القوة الداخلية للاستقلالية والحرية، وليست الأصالة. والأصالة، بالمعنى الذي استخدمه هايدغر على الأقل، قريبة لأن تكون حالة إنسانية من نوع ما قبل أن يمنح الله الإنسان الإرادة الحرة.

 الإرادة هي هبة الاختيار والتي تعني أننا أحرار في اتخاذ القرار.

لا توجد ذات حقيقية داخل الذات. هناك فقط صراع الإرادة وطريقتنا في اتخاذ القرار لحله. من الطبيعي أن يسعى الإنسان للحصول على الأمان في زمن الجهل. ومن الطبيعي أن يشعر الإنسان بوجود من يوجهه في زمن عدم اليقين. وإن الحفاظ على هذا الوجود الداخلي للإرادة لهو الوسيلة نحو الحرية، مهما بدا الأمر غير مريح ومحبطًا في بعض الأحيان، وبغض النظر عن حاجتنا بين الحين والآخر لشخص يقرِّر نيابة عنا.

وترى آرنت أن مفهوم هايدغر الوحيد للأصالة كان فهمًا للكينونة ينكر العالم. فبالنسبة له، لا يمكن تجربة حرية الأصالة إلا بمفردنا، بعيدًا عن عالم الوجود مع الآخرين، بينما بالنسبة لآرنت لا يمكن أن نكون بمفردنا أبدًا، حتى عندما نكون بمفردنا مع أنفسنا.

في الصيف التالي، عادت آرنت إلى منزلها في كونغسبيرغ حيث كانت قد خطّت صورة ذاتية لها في شبابها بعنوان "الظلال". طبعت نسختين وأرسلت واحدة منها بالبريد إلى هايدغر. وهكذا وصفت نفسها:

"في الواقع، كانت استقلاليتها وشخصيتها الفريدة تعتمدان على شغف حقيقي كانت تتصوره في أي شيء غريب. وهكذا، اعتادت على رؤية شيء جدير بالملاحظة حتى في الأشياء التي تبدو طبيعية وعادية؛ في الواقع، عندما ضربتها بساطة الحياة وعاديتها في الصميم، لم تفكر ولو للحظة، أن أي شيء عاشته يمكن أن يكون عاديًا، أو بلا قيمة مثلما يراه بقية العالم على أنه أمر مُسلّمٌ به ولا يستحق التعليق عليه". 

رد هايدغر على آرنت وأخبرها أن ظلالها هي أساس روحها. وكتب لها:

"اعترافك المدهش لن يُضعف إيماني بالدوافع الحقيقية والغنية لوجودك. بل على العكس من ذلك، إنه بالنسبة لي دليل على أنك انتقلتِ إلى العلن، على الرغم من أن الطريق للخروج من هذه الالتواءات الوجودية، والتي ليست من صنع يديك، سيكون طويلًا".

وبعد بضعة أشهر، ذهبت آرنت للدراسة مع ياسبرز في جامعة هايدلبرغ. قصَّت شعرها وبدأت بالتدخين، ووجدت مجموعة من الأصدقاء. لاقت السكون في عزلتها، وشعرت بالانتماء الذاتي في هايدلبرغ، تعلمت مصاحبة نفسها في لحظات الهدوء. لقد كانت دائمًا مختلفة، وبدلًا من التعامل مع اختلافها كشيء يجعلها بمعزل عن الآخرين، أصبح الاختلاف أساسًا وطريقًا يجعلها مُحبةً لعالم التواجد مع الآخرين.

الكلمات المفتاحية
الأكثر قراءة
1

أزمات أكثر أطفال أقل: كيف تشكل معدلات المواليد المنخفضة المستقبل؟

يهدِّد انخفاض معدلات المواليد مستقبل البشرية أكثر مما تفعل التغيّرات المناخية

2

رحلة الشاي الطويلة.. الأوراق المرة التي صنعت "كوب الإنسانية"

تجاوز الشاي كونه مشروبًا وصار رمزًا ثقافيًا وفلسفيًا في العديد من الحضارات، متحولًا إلى طقس يعكس روح الإنسانية والتناغم

3

تغيير الأبجدية العثمانية.. يوم حسم أتاتورك نقاشًا سبق ولادته

تضع هذه المقالة مسألة استبدال مصطفى كمال أتاتورك الأبجدية العثمانية بالحروف اللاتينية في سياقها التاريخي بعيدًا عن موضوع التقدّم والتأخر وصراع الهوية

4

أرشيف مصر على قارعة فيسبوك.. بروميثيوس يسرق الوثائق

يرتبط الطلب على الوثائق القديمة عبر فيسبوك بالأزمة الاقتصادية التي تدفع الناس لبيع مقتنياتهم، وأيضًا بصرامة الأرشيف الرسمي في منع الوصول للمعلومات

5

العربية في تشاد.. من لغة الدولة إلى صراع البقاء

المفارقة أن اللغة العربية التي كانت قبل الاستعمار الفرنسي محصورة في مؤسسات الدولة لا يتحدث بها الناس، أصبحت بعده لغة شائعة بين الناس لكن لا يُسمح لمن تعلّم بها العمل في مؤسساتها

اقرأ/ي أيضًا
مهنة الشاعر

إلياس كانيتي: مهنة الشاعر

إذا كانت كلمة الشاعر مسوّسة، فهذا لأنها كانت مشحونة بالتمظهر والعبث، بالتملص، كي لا ترهق النفوس

كاميران حوج

كيف ألهمت تونس كادينسكي
كيف ألهمت تونس كادينسكي

كيف ألهمت تونس كاندينسكي؟

أثناء إقامته في تونس عام 1904، وجد فاسيلي كاندينسكي إلهامًا عميقًا في الألوان والمشاهد التونسية، مما ساهم في تطور أسلوبه التجريدي

جمال جمعة

القراءة

الوحدة غير الممكنة.. الحياة الاجتماعية للقراءة

يقول إدموند وايت إنه قرأ الكتب من عدة زوايا؛ كباحث، ومعلم، ومحكم، وناقد. وعلى الرغم من أنه يجد قراءة الكتب من أجل المتعة أعظم فرحة، إلا أنه في حالات النقد والمراجعة يشعر بأنه مقيد بالالتزام

فريق التحرير

نساء في صمت الأرشيف

من السيدة أورويل إلى عنايات الزيات: نساء في صمت الأرشيف

"الزوجة" و"في أثر عنايات الزيات" كتابان فريدان من نوعهما لأنهما يبحثان في العلاقة ما بين الحقيقة التاريخية والصياغة الخيالية والموقف الشخصي من ذلك

كاصد محمد

التاريخ المظلم للموز

عنصرية ورأسمالية وانقلابات: التاريخ المظلم للموز

للموز تاريخ مظلم مرتبط بالاستعمار والعبودية والرأسمالية والانقلابات العسكرية وسياسات العنصرية البيئة والجنسانية والفقر والحياة الهشة والمحفوفة بالمخاطر للقرن الحادي والعشرين

آمنة بعلوشة

المزيد من الكاتب

آمنة بعلوشة

كاتبة ومترجمة فلسطينية

عنصرية ورأسمالية وانقلابات: التاريخ المظلم للموز

للموز تاريخ مظلم مرتبط بالاستعمار والعبودية والرأسمالية والانقلابات العسكرية وسياسات العنصرية البيئة والجنسانية والفقر والحياة الهشة والمحفوفة بالمخاطر للقرن الحادي والعشرين