الأبجدية العثمانية

تغيير الأبجدية العثمانية.. يوم حسم أتاتورك نقاشًا سبق ولادته

19 سبتمبر 2024

كثيرًا ما تغيب النقاشات الجادة حول القضايا المتعلقة بتاريخ الجمهورية التركية الحديث وسط الصراعات الأيديولوجية والاستقطابات السياسية. ومن أبرز هذه القضايا التي نوقشت في ظل هذه الأجواء هي "الثورة" أو الإصلاحات التي قام بها مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية، وعلى رأسها استبدال الأبجدية العثمانية/العربية بالحروف اللاتينية عام 1928، ضمن سلسلة من القرارات الأخرى التي يراها مؤيدوه "ثورة" من أجل الالتحاق بركب "الحضارة"، بينما يراها معارضوه مجرد محاولة لقطع علاقة الجمهورية التركية الوليدة بماضيها الشرقي والإسلامي.

ورغم غياب الكثير من هذه الموضوعات عن ساحة النقاش في تركيا اليوم، إلا أن موضوع الأبجدية ما زال حاضرًا، سواء في النقاشات الأكاديمية أو بين الكُتَّاب والمثقفين خارج أسوار الجامعة، بل وفي خطابات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي تحدث في أكثر من مناسبة عن أهمية تعلُّم الأجيال الجديدة للغة العثمانية، مُعبّرًا عن رأي قطاع كبير من التيار المحافظ في تركيا، لأن هذه الأجيال لم تعد قادرة على قراءة تراثها أو حتى شواهد قبور أجدادهم.

في المقابل، يرى التيار العلماني الكمالي أن دعوة أردوغان هي جزء من مشروع "العثمانية الجديدة"، وقد ربط أبناء هذا التيار الحروف العثمانية بـ"الرجعية"، ورأوا أن الأتراك لو استمروا في استخدام الأبجدية العربية لكانت تركيا أكثر "تخلفًا".

تحاول هذه المقالة أن تضع مسألة استبدال الأبجدية العثمانية بالحروف اللاتينية في سياقها التاريخي، بعيدًا عن موضوع "التقدُّم" و"التأخُّر".

ومن يقرأ السياق التاريخي الذي ظهر فيه مصطفى كمال أتاتورك، الضابط العثماني الذي شهد بعينيه انهيار الدولة العثمانية وخساراتها في معارك كثيرة وتفككها، ويتابع الأفكار التي تأثر بها مؤسس الجمهورية التركية والمناخ العام للمثقفين العثمانيين في تلك المرحلة؛ فلن يكون بحاجة إلى التفكير طويلًا في أن أحد أهم دوافع تبنِّي أتاتورك لمشروع تغيير الأبجدية، كانت أيديولوجية بلا شك.

الأبجدية العثمانية

وفي الأساس، لم يخف الرجل إعجابه بالغرب أو محاولات بنائه للجمهورية بعيدًا عن تركة الإمبراطورية العثمانية المهزومة. وقد سبق أن اتخذ قرارات عديدة في سبيل توجيه المجتمع التركي نحو الغرب. ولكن هل يمكن اختزال قضية استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية في هذا الدافع فقط؟ 

الأبجديات التي استخدمها الأتراك قبل العربية

من المعروف أن الأتراك انتشروا في أماكن جغرافية شاسعة، واستخدموا أبجديات عديدة عبر التاريخ حسب موقعهم ودينهم. وبحسب كثير من علماء اللغة الأتراك، فإن هناك 17 أبجدية استخدمها الأتراك خلال تاريخهم، وكانت أبجدية جوكتورك هي أول أبجدية يستخدمها الأتراك، ومن بعدها التَبتيَّة والمانوية والأويغوريَّة وغيرها من الأبجديات المتعددة، حتى تخلَّت الدولة القرخانية التي جاءت بعد الأويغور عن الأبجدية الأويغورية واستبدلوها بالعربية بعد اعتناقهم للإسلام عام 960م. 

وقد انتقل الأتراك إلى الحروف العربية دون عناء، نظرًا لوجود عوامل مشتركة بينها وبين الأبجدية الأويغورية، فهي تُكتب أيضًا من اليمين إلى اليسار مثل العربية، ويمكن أن تلتصق حروفها ببعضها البعض في الكلمة الواحدة.

ظلَّت الأويغورية تُستخدم إلى جانب الأبجدية العربية. ولكن بعد التأثير الكبير لحضارة الإسلام على الأتراك، وقع الأتراك تحت هيمنة الثقافتين الإسلاميتين الكبيرتين: العربية والفارسية، واكتفوا باستخدام الحروف العربية، وحاولوا تكييفها مع اللغة التركية بإضافة أربعة حروف فارسية، وهي الـ"پ"، والـ"چ"، والـ"ژ"، والـ"گ"، وحرفين تركيين وهما الكاف النونية والكاف اليائية.

وقد تبنى الأتراك هذه الأبجدية لمدة 10 قرون تقريبًا. وكانت التركية، بحروفها العربية، هي لغة الطبقة السلجوقية الحاكمة وفي الجيش وبين الأهالي، وكان التقليد السائد هو استخدام العربية والفارسية في المراسلات الرسمية والكتب العلمية والأدبية.

هل كانت العثمانية لغة الشارع؟

تبنت الدولة العثمانية الأبجدية العربية منذ تأسيسها عام 1299 ميلادية وحتى انهيارها، واعتمد العثمانيون الكثير من الكلمات والتعابير والمصطلحات العربية والفارسية في العثمانية. ويرى كثير من المؤرخين الأتراك أن اللغة العثمانية، ومنذ مراحل مبكرة من عمر الدولة، لم تكن لغة حيَّة يستخدمها الأهالي، من بينهم الباحث والمؤرخ التركي أكمل الدين إحسان أوغلو، إذ يقول في كتابه "الدولة العثمانية تاريخ وحضارة": "تحولت اللغة العثمانية بعد فتح إسطنبول إلى لغة كلاسيكية (منذ القرن الثالث عشر حتى القرن الخامس عشر الميلادي) في محيط البلاط العثماني، وبحلول القرن السادس عشر تركت أغلب المفردات التركية الخالصة مكانها لمرادفاتها من العربية والفارسية. بقيت العثمانية الكلاسيكية هكذا حتى القرن التاسع عشر، وابتعدت عن لغة الأهالي، وأصبحت تعج بالتراكيب والجمل الطويلة المحلاة بالسجع والفنون اللفظية المختلفة حتى أصبحت لغة يقتصر فهمها على فئة بعينها".

وهذا ما تؤكده الباحثة واللغوية التركية سيفجي أوزال، رئيسة "جمعية اللغة التركية"، إذ ترى أن: "اللغة العثمانية لم تكن لغة الشارع في العهد العثماني، بل لغة النخبة دائمًا. ولم يكن العثمانيون يتحدثون أو يكتبون بها. وقبل الجمهورية، كان الذين يعرفون هذه اللغة هم ستة في المئة فقط تقريبًا من الرجال، وصفر في المئة من النساء. ولم يكن لديهم أي علاقة بهذه اللغة". ويظهر ذلك بوضوح في انقسام الأدب العثماني إلى "أدب الديوان" وهو أدب القصر والنخبة الذي يعتمد بشكل كبير على اللغتين العربية والفارسية، و"الأدب الشعبي" وهو أدب الشعراء الجوَّالين الذي يعتمد على اللهجات التركية.

"عصر التنظيمات" ومحاولات إصلاح الأبجدية

بدأت النقاشات بين النخبة العثمانية حول إمكانية القيام بإصلاحات لنظام الأبجدية في الفترة المعروفة بـ"عصر التنظيمات 1839-1876"، الذي يُمثّل نقطة تحوُّل مهمّة في تاريخ الدولة العثمانية في مراحلها الأخيرة. وتقوم هذه الإصلاحات على فكرة تبنِّي مؤسّسات الدولة للحداثة الغربية. ولا يمكن فهم طبيعة عصر التنظيمات إذا نُظر إليه من النواحي السياسية فقط، فهو ثورة ثقافية، بمعنى ما، قادها بعض المثقّفين آنذاك.

وفي هذا السياق، طالب معظم الأدباء بضرورة تبسيط اللغة العثمانية، وتم تأسيس جمعية علمية من أجل القيام بهذه المهمة، وقد ذكرت هذه الجمعية في ميثاقها أنها ستعمل على تبسيط اللغة التركية حتى تصل الأعمال المكتوبة بالعثمانية إلى الجمهور. 

وكان منيف أفندي العنتبلي، الذي تولى وزارة التربية والتعليم لثلاث مرات، أول من طرح مسألة صعوبة قراءة وكتابة الحروف العربية وعدم قدرتها على التوافق الكامل مع أصوات اللغة التركية، التي تحتوي على ثمانية أحرف صوتية يقابلها ثلاثة أحرف علّة فقط في العربية. وأن اللغة التركية التي تنتمي إلى عائلة اللغات الألطية لا تتوافق مع حروف العربية التي تنتمي إلى عائلة اللغات السامية. ووافقه في ذلك عالم الاجتماع العثماني الشهير ضياء جوك ألب، وإسماعيل حقي بلطجي أوغلو، وهو أحد أبرز ممثلي حركة إصلاح التعليم في الدولة العثمانية. 

وفي كلمته التي ألقاها في "الجمعية العلمية العثمانية" عام 1862، قارن منيف أفندي اللغة العثمانية بكتابات الأمم الأخرى، ونتيجة لهذه المقارنة بيَّن قصور العثمانية بالأمثلة. كما أظهر أيضًا بالأمثلة أنه يمكن قراءة الكلمة بأشكال مختلفة إذا لم يتم إضافة أي حركة لها. كما أعرب عن صعوبة كتابة الأسماء الصحيحة باللغة التركية العثمانية، وذكر أنه من الأصعب كتابة الكلمات العربية والفارسية بشكل صحيح باللغة التركية العثمانية. وذكر أنه بسبب هذه الصعوبات، كان عدد المتعلمين في البلاد منخفضًا، وأنه لا توجد مثل هذه الصعوبات في الكتابة لدى الأوروبيين، وأن الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و8 سنوات في أوروبا يتعلمون القراءة والكتابة بسهولة ودون أي صعوبة.

وفي ظل محاولات إصلاح الأبجدية، كتب أيضًا الشاعر والفيلسوف الأذربيجاني ميرزا فتالي أخوندوف، في عام 1857، عن ضرورة إصلاح الأبجدية العربية من خلال إيجاد بعض الحركات الجديدة لكي تُنطق الكلمات بشكل صحيح، كما هو الحال في كتابات الأمم الأجنبية. ورغم أنه ذكر، على سبيل المثال، أنه ينبغي كتابتها على شكل الأبجدية اللاتينية، إلا أنه أدرك فيما بعد أنه ليس من الممكن إصلاح الأبجدية العربية، وبدأ يدعو إلى التخلي تمامًا عن الأبجدية العربية وقبول الحروف اللاتينية. وفي رسالة أرسلها أخوندوف إلى الصدر الأعظم علي باشا، أوصى باعتماد الحروف اللاتينية. 

كما أكد الأديب والمؤرخ واللغوي أحمد جودت أفندي، في تلك المرحلة أيضًا، على ضرورة وجود طريقة لكتابة الأصوات الموجودة باللغة التركية، ولكن لا يمكن تمثيلها بالحروف العربية. ومن بين أهم الأصوات العثمانية التي دعت إلى ضرورة إصلاح الأبجدية العثمانية، هو الأديب واللغوي الألباني شمس الدين سامي فراشري، صاحب "قاموس الأعلام"، والمعروف بجهوده الكبيرة في المجال اللغوي. 

ويمكننا أن نفهم من مطالبات أسماء كبيرة من المثقفين العثمانيين، من أمثال هؤلاء، حجم الإشكالية التي كان يعيشها المثقفون ورجال الدولة في تلك المرحلة، حتى أن الباحث والمؤرخ التركي إرهان أفيونجو يذكر في مقالة له حول تغيير الأبجدية أن السلطان عبد الحميد الثاني أمر ذات يوم أعضاء اللجنة التي تم تشكيلها للتحقيق في موضوع ما، لكنها طالبت بتأجيل كتابة التقرير بحجة عدم القدرة على قراءة دفاتر المهمة.

نقاشات "الأبجدية" في ظلال الاتجاهات الفكرية المتصارعة

حتى ذلك الوقت، ظلَّت النقاشات حول ضرورة إصلاح الأبجدية العثمانية تتعلق فقط بعدم قدرة الحروف العربية على التوافق الكامل مع الأصوات التركية، ولم يكن لهذه النقاشات أي أبعاد سياسية أو أيديولوجية. ولكن بعد إعلان الدستور الثاني من جديد عام 1908، ظهرت اتجاهات فكرية وسياسية متصارعة في ظل صعود القوميات المختلفة في الدولة العثمانية. حيث ظهر أصحاب التوجه العثماني، والتوجه الإسلامي، والاتجاه القومي الطوراني. ونتجت عنها ثلاثة آراء حول مسألة اعتماد الحروف اللاتينية، فمنهم من رأى ضرورة الاحتفاظ بالحروف العربية مع الاكتفاء بإصلاحها لتتوافق مع الصوتيات التركية بشكل كامل، وذهب آخرون إلى اعتماد الحروف اللاتينية دون الخوض في محاولات الإصلاح التي لم تنجح من قبل، أما الفريق الأخير فرأى ضرورة العودة إلى الأبجدية الأيغورية القديمة التي كان يستخدمها الأتراك قديمًا. 

 ألبانيا أول بلد مسلم يعتمد الحروف اللاتينية 

وأثناء النقاشات حول إصلاح الأبجدية في الإمبراطورية العثمانية، قرر القوميون الألبان، في مؤتمر إلباسان الذي انعقد في عام 1909، أن تكون اللغة الألبانية هي لغة التعليم وطالبوا أن تَحلَّ الحروف اللاتينية محلَّ الحروف العثمانية. ولكن شيخ الإسلام أفتى في العام التالي بعدم قبول الانتقال إلى الحروف اللاتينية لأنه من غير الممكن أن يُكتب القرآن بهذه الأحرف، وبالتالي لا يجوز استخدام الحروف اللاتينية في أي دولة إسلامية.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن ألبانيا قد اعتمدت الحروف اللاتينية لكتابة اللغة الألبانية على يد أحمد زوغو، وزير الداخلية ورئيس الحكومة في ألبانيا بعد ذلك، الذي برزت ميوله للتخلّص من التركة العثمانية و"نقل ألبانيا من الشرق إلى الغرب"، وسبق بذلك مصطفى كمال أتاتورك، بتعبير المؤرخ الكوسوفي السوري محمد م. الأرناؤوط.

اتخذت نقاشات الأبجدية بُعدًا أيديولوجيًا منذ تلك المرحلة، فقد رأى أصحاب الاتجاه المحافظ أن تغيير الأبجدية العربية هو تغيير ديني سوف يفصل الأتراك عن الثقافة الشرقية ويُعرقل الوحدة الإسلامية. بينما دافع فريق آخر عن الحروف اللاتينية وطالب بعدم إعطاء الحروف العربية معنى دينيًا. واستمرت محاولات إصلاح الأبجدية حتى قبل الحرب العالمية الأولى، حيث قام أنور باشا، أحد قادة جمعية الاتحاد والترقي، بعدما أصبح ناظرًا للحربية، بتقديم نظام للجيش عُرف بـ"الحروف المنفصلة" لتسهيل القراءة والكتابة والتواصل بين الجنود، لكنه لم ينجح ولم يُستخدم إلا في الأمور العسكرية فقط.

أتاتورك يحسم الجدل 

كان أول طرح رسمي لمسألة استبدال الأبجدية بعد تأسيس الجمهورية التركية في مؤتمر إزمير الاقتصادي الشهير عام 1923، وقد اعترض على هذا المقترح أحد رموز حرب الاستقلال التركية، وهو السياسي كاظم كرابكير، وبالفعل لم يقبل أتاتورك هذا المقترح، لأنه رأى أن المجتمع التركي لم يكن مؤهلًا لقرار مثل هذا. إلا أن موضوع تغيير الأبجدية ظلَّ على قائمة أولويات أتاتورك، وبدأ في تشكيل رأي عام يقبل مثل هذا القرار. وخلال تلك المرحلة، قامت الجمهورية التركية باعتماد التقويم الأوروبي والقانون المدني السويسري والجنائي الإيطالي. وفي 23 من أيار/مايو 1928، وبتوجيهات من أتاتورك، أنشئت لجنة اللغات التابعة لوزارة التربية الوطنية.

الأبجدية العثمانية

كان هدف اللجنة هو إجراء دراسات حول الحروف اللاتينية من أجل ضمان الانتقال إلى الحروف التركية الجديدة، وإنشاء أبجدية ملائمة ومناسبة للغة التركية، استنادًا إلى لهجة إسطنبول المنطوقة. ورغم أن هذه اللجنة قد ذكرت أن هذا المشروع سيستغرق تنفيذه من 5 إلى 15 عامًا، كما يذكر الكاتب التركي فالح رفق أطاي في كتابه عن أتاتورك، إلا أن أتاتورك غضب من إجابة أطاي حول مدة تنفيذ مشروع الأبجدية الجديدة، قائلًا: "إما أن يحدث هذا المشروع خلال ثلاثة أشهر أو لا يحدث أبدًا". وبعد ستة أسابيع من العمل المكثف تم الانتهاء من المشروع، وقبل الإعلان عن قرار تغيير الأبجدية، ألقى أتاتورك خطابًا شهيرًا في سراي بورنو، ومما ورد فيه:

"أيها الأصدقاء، سوف تكشف لغتنا المتناغمة والغنية عن نفسها بأحرف تركية جديدة. لقد تم إنجاز الكثير من العمل في هذا المشروع. ولكن هناك عمل آخر يتعين علينا القيام به اليوم، وهو ليس الأخير، ولكنه ضروري للغاية: يجب أن نتعلم الحروف التركية الجديدة بسرعة. علِّموها لكلِّ مواطن، للمرأة والرجل وللحمَّال والمراكبي. واعتبروا هذا واجبًا وطنيًا وقوميًا. من العار أن يكون 10 أو 20 بالمئة من أمة أو مجتمع لا يعرفون القراءة والكتابة. لقد حان الوقت الآن للقضاء على أخطاء الماضي".

أمر أتاتورك بعد ذلك بضرورة تعليم الحروف الجديدة للأتراك في كل المدن التركية، وكان يتجول بين المدن ليُشرف بنفسه على الأمر، وهناك صور شهيرة له أمام سبورة كُتبت عليها الحروف اللاتينية الجديدة، وعُلِّقت لوحات بالأحرف الجديدة في الشوارع التركية.

كما بدأت عربات الكارو التي تحمل لوحات للأحرف الجديدة تجوب البلاد. ومن الصور الشهيرة في هذا السياق كلمة "كل" بالعثمانية، مع رسومات توضح ثلاثة معان لها بالتركية الحديثة، وهي: كلمة "kel أصلع"، والفعل "gel تعال"، وكلمة "gül وردة". وبعد الانتهاء من الأعمال التمهيدية اللازمة للانتقال إلى الأبجدية الجديدة في غضون شهر أو شهرين، تمت الموافقة عليه من قبل البرلمان التركي، وصدر قرار تغيير الأبجدية بتاريخ 1 تشرين الثاني/نوفمبر 1928 ودخل حيز التنفيذ.

مصير التراث العثماني 

لعل أول ما يتبادر إلى الذهن أثناء الحديث عن تغيير الأبجدية العثمانية، بعد مرور حوالي مائة عام على هذا القرار، هو مصير التراث العثماني الكبير الذي كُتب على مدار 9 قرون. ويجب الاعتراف بأنه رغم الجهود الكبيرة للمختصين في نقل هذا التراث إلى التركية الحديثة، فإن كثيرًا من الكتب لم تُنقل إلى الحروف اللاتينية التي يستخدمها الأتراك اليوم. إلا أن المبالغة في مسألة عدم قدرة الأتراك اليوم على قراءة تراثهم، فهي جزء من الدعاية السياسية وصراع الهوية في تركيا، لأن أغلب الكتب الرئيسية في مجالات عديدة قد نُقلت بالفعل إلى التركية الحديثة. 

وأخيرًا، كما رأينا، لم يأت أتاتورك بهذه الفكرة من الفراغ، فقد بدأت النقاشات حول إصلاح الأبجدية في الدولة العثمانية أو اعتماد الحروف اللاتينية منذ منتصف القرن التاسع عشر، أي قبل ميلاد مصطفى كمال. وبعيدًا عن صحة أو خطأ القرار الذي اتخذه أتاتورك آنذاك، فإن محاولة اختزال موضوع الانتقال من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية في النزعة الغربية لمؤسس الجمهورية التركية، هي محاولة لقطع الموضوع عن سياقه. وهو يشبه تمامًا الذين تركوا النقاش اللغوي الذي يجب أن يُطرح حول هذا الموضوع، وربطوا الحروف العربية بمسألة "تقدُّم" تركيا أو "تأخُّرها".

الكلمات المفتاحية
الأكثر قراءة
1

أزمات أكثر أطفال أقل: كيف تشكل معدلات المواليد المنخفضة المستقبل؟

يهدِّد انخفاض معدلات المواليد مستقبل البشرية أكثر مما تفعل التغيّرات المناخية

2

رحلة الشاي الطويلة.. الأوراق المرة التي صنعت "كوب الإنسانية"

تجاوز الشاي كونه مشروبًا وصار رمزًا ثقافيًا وفلسفيًا في العديد من الحضارات، متحولًا إلى طقس يعكس روح الإنسانية والتناغم

3

أرشيف مصر على قارعة فيسبوك.. بروميثيوس يسرق الوثائق

يرتبط الطلب على الوثائق القديمة عبر فيسبوك بالأزمة الاقتصادية التي تدفع الناس لبيع مقتنياتهم، وأيضًا بصرامة الأرشيف الرسمي في منع الوصول للمعلومات

4

العربية في تشاد.. من لغة الدولة إلى صراع البقاء

المفارقة أن اللغة العربية التي كانت قبل الاستعمار الفرنسي محصورة في مؤسسات الدولة لا يتحدث بها الناس، أصبحت بعده لغة شائعة بين الناس لكن لا يُسمح لمن تعلّم بها العمل في مؤسساتها

5

حلمي التوني: طموح أن تصبح مطربًا تشكيليًا!

قدّم حلمي التوني لوحات تنبض بعناصر التراث الشعبي ومفرداته، وكان صاحب أثر ملموس في عالم صناعة الكتب والنشر عبر ما قدّمه من أغلفة متميّزة لعل أشهرها أغلفة روايات نجيب محفوظ

اقرأ/ي أيضًا
رحلة الشاي الطويلة

رحلة الشاي الطويلة.. الأوراق المرة التي صنعت "كوب الإنسانية"

تجاوز الشاي كونه مشروبًا وصار رمزًا ثقافيًا وفلسفيًا في العديد من الحضارات، متحولًا إلى طقس يعكس روح الإنسانية والتناغم

سلمان عز الدين

اللغة العربية في تشاد
اللغة العربية في تشاد

العربية في تشاد.. من لغة الدولة إلى صراع البقاء

المفارقة أن اللغة العربية التي كانت قبل الاستعمار الفرنسي محصورة في مؤسسات الدولة لا يتحدث بها الناس، أصبحت بعده لغة شائعة بين الناس لكن لا يُسمح لمن تعلّم بها العمل في مؤسساتها

محمد جدي حسن

التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للملل

شيء ما مفقود لا نعرفه.. التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للملل

الكائن البشري هو في صراع دائم مع طرفي معادلة الملل: التغلب عليه أو الاستسلام له

محمد يحيى حسني

تاريخ الانتخابات الرئاسية في تونس

الانتخابات الرئاسية في تونس.. ماضٍ من التشكيك وحب الكرسي

تأتي الانتخابات الرئاسية لسنة 2024 في سياق يُذكر بماضي الانتخابات الرئاسية في تونس بين المرشح الوحيد أو الترشحات الصورية وفي ظل انتقادات حادة من المعارضة، وهو ما يطرح تساؤلات عدة بخصوص نزاهتها ومقبوليتها.

نائلة الحامي

الحايك الجزائري

الحايك الجزائري: نسيج التراث والحرية

ارتبط الحايك بسردية تاريخية تخص النضال الجزائري في مواجهة الاستعمار الفرنسي في جميع مراحله، وكان واحدًا من أبرز وجوه التصدي لسياسة فرنسا التغريبية

كريمة سماعلي

المزيد من الكاتب

أحمد زكريا

شاعر ومترجم مصري

محمد جمال باروت: المؤرخون العرب والأتراك لا يعرفون بعضهم بعضًا

يستفيض هذا الحوار في الكثير من التفاصيل والخفايا عن العلاقات العربية - التركية خارج كل ما هو سائد عنها

تتريك الأذان.. الجذور التاريخية وردود الأفعال

تعود الجذور التاريخية لمسألة رفع الأذان باللغة التركية إلى النقاشات التي دارت بين فقهاء القرن الخامس عشر، ثم بين مثقفي القرن التاسع عشر، حول نقل لغة العبادات إلى اللغة التركية