أرشيف مصر على قارعة فيسبوك

أرشيف مصر على قارعة فيسبوك.. بروميثيوس يسرق الوثائق

16 سبتمبر 2024

ماذا إذا توفرت لك الفرصة للقاء أحد أسلافك على حين غرة من الزمن؟ تبدو التجربة مثيرة وشيقة، أليس كذلك؟ هذا ما حدث معي عندما عرض عليّ أحد باعة الكتب والوثائق القديمة على صفحات فيسبوك، ملفًا اتضح أنه يعود إلى جد جدي، وبفارق زمني 140 عامًا.

يحكي الملف، عبر مكاتبات رسمية مع عدد من الوزارات، قصة خروجه من الجيش المصري بسبب تردي حالته الصحية. لا تندهش عزيزي القارئ، فمثل هذه الصدف تحدث لأن أرشيف مصر الوثائقي بات يعرض للبيع على قارعة وسائل التواصل الاجتماعي، ما يكشف الكثير عن وضع أكبر أرشيف في المنطقة العربية.

المصادفة السعيدة التي كشفت لي عن جزء من تاريخ عائلتي ووثقته تعد من الأمور المعتادة في مصر هذه الأيام، إذ تنشط على فيسبوك عشرات الصفحات المتخصصة في بيع الوثائق الأرشيفية التي تغطي القرنين التاسع عشر والعشرين، وأحيانًا تمتد إلى القرون السابقة عليهما، فكل شيء يباع تقريبًا على الفضاء الأزرق، ويتفاوت الإقبال بين مهتمين بكل ما هو قديم، وباحثين يلهثون لجمع مادة وثائقية تفيد أبحاثهم، لكن المحصلة النهائية هي أن أرشيف مصر يباع بالورقة والملف والوحدة الأرشيفية على قارعة فيسبوك، فكيف حدث هذا؟

مع سهولة البيع عبر فيسبوك، إذ لا يحتاج الأمر أكثر من عرض صور الوثائق المراد بيعها على صفحات متخصصة، اندفع الكثيرون للبحث في أوراقهم القديمة والعمل على بيعها، فضلًا عن ما يصل إلى تجار الكتب القديمة من أوراق مهمة تباع عادة مع مكتبات لأشخاص ماتوا ولم يعد لأي من ذويهم اهتمام بالكتب والأوراق القديمة، فيتخلصون منها بالبيع بـ"الكيلو"، أي بالوزن، دون اهتمام بما تحمله هذه الأوراق من ذكرى أو أهمية، لكن يظل المصدر الأكبر لسوق الوثائق القديمة هو الأرشيف الرسمي نفسه، الذي يبدو أنه يعاني من تسريب مستمر، خصوصًا أن الكثير من وحداته الأرشيفية غير مسجلة، كما أن بعض مخازن الوثائق لا يعلم ما فيها إلا مجموعة صغيرة من الموظفين!

بعيدًا عن السؤال الأخلاقي، يدفع الأمر كله المرء إلى التأمل في هذه الحالة التي تباع فيها الوثائق جهرًا، وبلا أي ضوابط، فالسؤال الأهم هنا هو: من أن أين تأتي هذه الوثائق التي يبدو أنها ذات مصدر لا ينضب؟ مكمن العجب والمفارقة هنا أن المؤسسات المعنية بالأرشيف المصري حريصة أشد الحرص على منع الباحثين والمهتمين من الاطلاع على الوثائق، فدار الوثائق القومية أكبر مخزن للأرشيف المصري، تتفنن في وضع العراقيل أمام المترددين عليها لحجب الوثائق، وكأن شعارها المنع لا الإتاحة.

الأزمة ليست في بيع وثائق الأرشيف المصري على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا في حالة واحدة بطبيعة الحال، وهي تسرب هذه الوثائق من مخازن دار الوثائق القومية بطرق غير شرعية. أقول إن الأزمة الحقيقية تكمن في عدم وجود تشريعات قانونية تقنن الاقتناء الشخصي للوثائق، وتعمل على الحفاظ عليها وأرشفتها داخل مصر، أي أن تتحول هذه التجارة إلى العلن وتحصل على ختم الشرعية، فحتى الآن لا تزال هذه التجارة مُجرَّمة بحكم القانون لا الممارسة.

لكن ما الذي يجعل تجارة وثائق الأرشيف المصري رائجة؟ بداية يمكن تبرير الأمر بالأزمة الاقتصادية التي تعصف بجميع المصريين، والتي أجبرتهم على بيع كل ما هو قديم لتحقيق دخل إضافي يساعدهم على مواجهة شظف العيش، فالكثير من هواة اقتناء الكتب القديمة والوثائق والعملات النادرة تحولوا من خانة الشراء إلى صفوف بائعي القديم، مع الأزمة الاقتصادية التي تعانيها أكبر دولة عربية سكانًا على مدار العشر سنوات الأخيرة، خصوصًا مع الانفتاح على البيع لمحبي القديم في دول الخليج النفطية وغيرها من بلدان العالم العربي والإسلامي.

السبب الرئيسي في الإقبال على شراء الوثائق عبر مواقع التواصل، كظاهرة باتت مستقرة في السنوات الأخيرة، يعود إلى أزمة الأرشيف المصري ذاته، فالإجراءات الأمنية المتبعة في دار الوثائق القومية باعتبارها الجهة الرسمية لحفظ وإتاحة الوثائق، تعرقل حق الاطلاع فتحولت إلى مركز حجب، أي أنها مؤسسة باتت تقوم على عرقلة جهود الباحثين والمهتمين للاطلاع على الوثائق، إذ وضعت بكل تصميم لمنع الباحث من الحصول على الوثائق التي يحتاجها لإعداد أبحاثه، فضلًا عن عدم وجود قانون لحرية الاطلاع على الأرشيف، فلا يتبقى للباحث سوى الذهاب إلى صفحات بيع الوثائق عله يحصل على بعض احتياجاته بأي ثمن.

تضم دار الوثائق نحو 100 مليون وثيقة، بعضها يعود إلى العصر المملوكي والعثماني، وأكثرها يغطي القرنين التاسع عشر والعشرين. لكن للأسف يواجه الباحثون الكثير من العراقيل التي تمنعهم من الوصول إلى هذه الوثائق، خصوصًا أن التصريح الأمني المطلوب لباحثي الدراسات العليا قد لا يصدر إلا بعد شهور عديدة قد تتجاوز السنة، وأحيانًا يأتي الرد برفض السماح للباحث بالاطلاع دون إبداء الأسباب، لذا ليس غريبًا أن تكون شكوى الباحثين الدائمة من إجراءات الدار العقيمة. ويعد الدكتور خالد فهمي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، الأشهر في توجيه النقد لآليات الحجب الرسمية للوثائق.

ولا يعرف أحد على وجه الدقة ما هي الإجراءات المتبعة مثلًا في الإفراج الدوري عن الوثائق في مصر، فلا تلتزم مؤسسات الدولة بقاعدة لنشر الوثائق كل فترة (سواء كانت 20 أو 30 أو 50 عامًا كما هو متبع في العديد من الدول)، فلك أن تتخيل أن وثائق حروب 1948 و1956 و1967 و1973، لا تزال محجوبة، بل إن محاضر مجلس قيادة ثورة 1952 لم يفرج عنها بعد، وقس على ذلك مختلف المحطات التاريخية المحجوب وثائقها، وهنا لا يجد الباحث المهتم بأي فترة تاريخية إلا اللجوء للأرشيف البريطاني والأميركي والإسرائيلي، رغم خطورة الاعتماد على هذه الأرشيفات المنحازة باعتبارها طرف صراع. وفي المحصلة نجد أنفسنا أمام صوت هذا الطرف بعدما قررت مصر حجب صوتها بإغلاق الأبواب دون أرشيفها.

في العشرية الأولى من الألفية الثالثة، أطلقت الحكومة المصرية المشروع القومي للتوثيق الرقمي لمقتنيات دار الوثائق القومية (مشروع الرقمنة). استبشر البعض خيرًا من هذه الخطوة، كونها تعني إتاحة مقتنيات الدار الضخمة وشبه المجهولة للعلن للأول مرة، لكن سرعان ما تبخر الحلم، فالمشروع اختفى كأن لم يكن، وقاعدة البيانات الإلكترونية التي كان يفترض أن توضع على موقع دار الوثائق الإلكتروني، لكن عقلية المنع والحجب انتصرت في النهاية، فالموقع الذي عمل لفترة قصيرة جدًا، غاب ولم يعد للعمل حتى تاريخه، وأصبح إجباريًا على الباحث أن يتوجه إلى دار الوثائق ليطلع على بيانات الوثائق داخل مكتبتها، ولكي يتمكن من الدخول عليه أن يحصل على التصريح أولًا!

لكن ما الذي يجعل دار الوثائق المصرية خاضعة للسلطة دومًا بعيدة عن المجتمع المدني وأهداف الإتاحة؟ لا بد هنا من العودة إلى الوراء، والتفتيش في تاريخ الدار، التي تعد أقدم أرشيف وطني في العالم العربي، إذ يعود تاريخها إلى عصر محمد علي باشا (حكم 1805- 1848م)، عندما قرر الأخير إنشاء الدفتر خانة العام 1828، لتكون مقرًا لسجلات الدولة الرسمية، أي أن فكرة الأرشيف جاءت هنا من أعلى ولم تكن نتيجة حراك مجتمعي، وهي ملاحظة يجب أن نأخذها في الاعتبار عند تتبع تطور هذه المؤسسة، التي تغير اسمها في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني (حكم 1892- 1914م)، إلى دار المحفوظات العمومية وظل مقرها بالقلعة، وحتى هذه الفترة لم تكن هذه الدار مهتمة بتقديم خدماتها للباحثين، إذ كانت مجرد مؤسسة لحفظ وثائق الدولة المالية والإدارية بعد انتهاء استخدامها، بحسب ما يقر الدكتور عماد أبو غازي في دراسته "الأرشيفات القومية وأنظمة الاطلاع على الوثائق: التجربة المصرية".

التحول اللافت نسجله هنا لعصر فؤاد الأول (حكم 1917- 1936م)، فبحسب أبو غازي، قرر الملك تأسيس قسم المحفوظات التاريخية بقصر عابدين، والذي يعرف باسم أرشيف عابدين التاريخي، وضم وثائق الأسرة الحاكمة من أكثر من مكان، وتم إتاحتها للباحثين بغرض كتابة تاريخ أسرة محمد علي تحت إشراف القصر الملكي، وهنا أيضًا نلاحظ التوجيه الرسمي والهيمنة على تكوين الأرشيف، وهو ما تكرر في العصر الجمهوري مع إنشاء دار الوثائق القومية في العام 1954، إذ توالت التشريعات التي ضيقت من مساحة الإتاحة، بما في ذلك السماح للوزارات المختلفة بالاحتفاظ بما ترى أنه يخضع لتصنيف "سري"، ما يعني زيادة القيود واتساع مساحة الحجب للوثائق عن الباحثين والجمهور العام.

نلاحظ من هذا العرض التاريخي السريع لظهور مؤسسة الأرشيف المصري، أنها وقعت منذ البداية في قبضة السلطة، تضع الأخيرة الشروط التي تراها مناسبة، ولما كانت معظم الأنظمة التي حكمت مصر على مدار القرنين الماضيين ذات نهج دكتاتوري لا يتشارك السلطة مع المجتمع المدني، كان طبيعيًا أن يتم غلق الأبواب على الوثائق، فما الحاجة لمعرفة عموم الناس بالحقائق التاريخية طالما أن السلطة تحتكر هذه المعرفة، ولا ترغب في أن تتشاركها؟ لذا وُضعت القواعد للحجب لا الإتاحة، ومن هنا ضرورة الحراك مجتمعيًا لإعادة انتزاع الحق في المعرفة الوثائقية من السلطة المحتكرة لها على مدار عقود.

وبدلًا من المواجهة، فضل المجتمع المدني هنا، وخصوصًا في قطاع الباحثين، أن يتحايل على آليات الحجب الحكومي المدعومة بالقدرة على البطش والعنف، عبر استغلال التكنولوجيا الحديثة لتفتح نافذة للحصول على الوثائق، حتى ولو بطريقة تعد مخالفة للقانون رسميًا، فما يجري الآن من شراء للوثائق المسربة من الأرشيف المصري على فيسبوك، هو في المحصلة أداة من أدوات المقاومة المجتمعية في تحدي آليات الحجب الرسمية، ولا يمكن أن نغفل عن هذه النقطة المهمة عندما نناقش هذه القضية من كل جوانبها، فبيع الوثائق وإتاحتها عبر صفحات بيع كل ما هو قديم، فتح الباب أمام توسيع دائرة المعرفة، وتوسيع مفهوم حرية تداول المعلومات، واقتناص مساحة كانت الدولة حريصة على غلقها أمام الباحثين والمهتمين من الجمهور. يمكن أن نقول إن إتاحة بيع الوثائق على فيسبوك يمثل قصة بروميثيوس مصري يسرق قبسًا من نار المعرفة من قدس أقداس السلطة. 

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

العقل الأعوج.. صعود الصحافة الذاتية

يتناول روبرت مور التحول الجمالي والفكري في الكتابة غير الخيالية الأميركية، من الصحافة الأدبية التقليدية إلى "الصحافة الذاتية". شكل هجين يجمع بين التحقيق الصحفي والسيرة الذاتية والتأمل الفلسفي

2

نور عسلية: الهشاشة كامنة في كل عمل فنيّ

تبدأ نور عسلية مما هو ضئيل وهش وحساس، تثبّته وتجمده في لحظات هي مزيج من الهدوء والقسوة، من التأمل الدافئ إلى الخشونة الحادة

3

الموسيقات الإيرانية وموسيقاتنا.. التقليد بين التحديات والمساءلة

هل يمكن أن نعرّف الموسيقى بالهوية؟ وهل يُمكن أن تكون هناك "موسيقى عربية" أو "إيرانية" أو "فارسية" كما نتحدث عن لغات وأمم؟

4

المذكرات ذاكرةً ثقافية.. جين مقدسي وكتابة التاريخ غير الرسمي

المذكرات بابًا إلى التاريخ غير الرسمي، من خلال كتاب جين سعيد مقدسي: جدتي وأمي وأنا

5

الصوابية السياسية.. الحدود بين العدالة والرقابة

عن مفهوم الصوابية السياسية وجذوره وآثاره على المجتمعات، بين تحقيق العدالة وتقييد الحريات

اقرأ/ي أيضًا

الأسيرات الفلسطينيات

الأسيرات الفلسطينيات قبل وبعد السابع من أكتوبر.. مشاهد من داخل المعتقل

تُظهر الوقائع أن خلق المعاناة للأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال ليس مجرد أحداث متفرقة أو حالات عرضية، بل سياسة ممنهجة تمارسها منظومة الاحتلال

زهرة خدرج

سبتمبر في اليمن بين ذاكرتين (ميغازين).
سبتمبر في اليمن بين ذاكرتين (ميغازين).

ذاكرة سبتمبر في اليمن: بين هيمنة الجماعة وتوق الشعب

سبتمبر في الذاكرة اليمنية بين 1962 و2014، صراع لم يعرف الحسم بعد

فوزي الغويدي

دمية لابوبو واستراتيجيات التسويق الخفية (ميغازين).

دمية لابوبو: كيف يمكن لاستراتيجيات التسويق أن تحطمنا؟

عن دمية لابوبو واستراتيجيات التسويق الخفية التي تخاطب لاوعي الإنسان ورغباته المكبوتة

مصطفى هشام

تتقاطع صور الحريم التي صوّرها الفنّانون المستشرقون مع خطابات التحرير المعاصرة

من الحريم إلى خطاب الإنقاذ.. تشريح الاستشراق الجنسي

انطلق الاستشراق الجنسي مع الحركة الرومانسية، وتجلّى في لوحات المستشرقين التي رسمت جسد المرأة الشرقية كرمز للفتنة والخضوع، ثم تحوّل التخيل إلى أداة استعمارية، عبر خطاب "إنقاذ المرأة المسلمة"

إسراء عرفات

ليبيا

حقوق الإنسان في ليبيا.. سنوات الإفلات من العقاب وجرائم بلا محاسبة

من سجون طرابلس السرية إلى مقابر ترهونة الجماعية، ومن مراكز احتجاز المهاجرين، نسجت ليبيا، خلال السنوات الخمس الماضية، واحدة من أكثر سرديات العنف والإفلات من العقاب قتامة في العالم المعاصر

خالد الورتاني

المزيد من الكاتب

حسن حافظ

كاتب وصحافي مصري

استراتيجية هدم حكومية.. مستقبل مظلم ينتظر جبانات القاهرة التراثية

مع استمرار عمليات هدم الجبانات التاريخية، تقترب القاهرة من فقدان جزءٍ من هويتها لصالح مشاريع تجارية واستهلاكية تشوّه ثقافة المكان وتطمس معالمه

جذور العشوائية في القاهرة.. أنانية الناس ومزاج السلطة

العشوائية في القاهرة ليست نتاج العصر الحديث، بل هي ظاهرة تاريخية بدأت مع بناء مدينة الفسطاط، وتطوّرت في العصرين الفاطمي والأيوبي، وما زالت مستمرة حتى اليوم

فانوس رمضان.. أسطورة المعز واحتفالات الميلاد والمماليك

قصّة الفانوس والفاطميين، تعود تحديدًا إلى رمضان سنة 362هـ/ 973م، عندما خرج أهالي العاصمة المصرية لاستقبال الخليفة الفاطمي المعزّ لدين الله

ثلاثية الصعيد.. النيل والسكك الحديدية والموالد

الاحتفاء والاحتفال بموالد الأولياء، لا يقف عند المظهر الديني أو التدين الشعبي، بل يعكس حوارًا عابرًا للحضارات والثقافات

أساطير مصر القديمة.. حياة ممتدة في ممارسات شعبية معاصرة

أساطير مصرية قديمة بقيَت حية في الثقافة الشعبية، وغيرَت جِلدَها لترتدي ثيابًا مسيحية وإسلامية تُوائم التحولات الدينية

تيك توك.. كيف أصبح تلفزيون البسطاء والمهمشين في مصر؟

تحوّل تيك توك من مجرد تطبيق على الهواتف إلى ما يشبه "تلفزيون البسطاء" ومنصة لكل شيء. لكن السؤال الأهم يبقى: كيف حدث هذا التحوّل؟