القراءة

الوحدة غير الممكنة.. الحياة الاجتماعية للقراءة

20 سبتمبر 2024

مقتطف من كتاب "The Unpunished Vice: A Life of Reading"، لإدموند وايت (Bloomsbury, 2018)، نُشر في "باريس ريفيو"، ويتحدث فيه عن جانب من حياته مع القراءة وعمله في كتابة مراجعات الكتب. 

إدموند وايت مؤلف أميركي، نشر العديد من الروايات والسير الذاتية والمقالات الأدبية. يعيش في نيويورك.

ــــــــــــــــــ

تبدو القراءة فِعلًا وحيدًا واجتماعيًا جدًا في الوقت نفسه، إذ يصبح الكاتب رفيقك المثالي، مثيرًا للاهتمام، وعالميًا، ورحيمًا، ونشيطًا، لكن يحدث ذلك فقط إذا تمسكت به أو بها لفترة كافية حتى تتخلص من برودة العزلة وتسمع الصوت الذكي يهمس في أذنك. لا عجب أن الآباء الفيكتوريين اعتادوا القراءة بصوتٍ عالٍ لجميع أفراد الأسرة (فصل من ديكنز كل ليلة تحت ضوء الشمعة الثمين)، فلا شيء وحيد في الضحك أو البكاء أو حتى الارتعاد من الرعب معًا. وحتى إذا قرأ الشخص بمفرده، تجد أن الحوار الداخلي للقارئ مع الكاتب، بما يحتويه من تساؤلات، وموافقة، وتعجُّب، واعتراض، وشفقة؛ يملأ الغرفة الفارغة تحت ضوء المصباح بنقاش صامت وتعبير عن المشاعر.

مَن هم الكُتَّاب الأقدر على منح الرفقة والونس؟ مارسيل بروست وجورج إليوت هما الأكثر ذكاءً بكل تأكيد، فهما قادران على رؤية أعمق الآثار لأبسط الأفعال، كأنهما يعزفان لحنًا بسيطًا على عقولهما العظيمة: ناعم/عال، سريع/بطيء، معقد/بسيط، رنان/أوركسترالي. لكننا نُقدِّر كذلك تعاطف ليو تولستوي المذهل مع الناس المختلفة والحيوانات، وشعريّة ف. سكوت فيتزجيرالد، وحكمة كوليت العالمية، وذكاء جيمس ميريل، وشمولية والت ويتمان التوراتية وإن كانت لا دينية، بالإضافة إلى أوصاف آني ديلارد الرائعة للطبيعة. 

عندما كنت صغيرًا، أحببت قصص المغامرات التي يظهر فيها الخير واضحًا والشر واضحًا، مثل "the lost Dauphin"، و"the Scarlet Pimpernel"، و"the three musketeers".

إذا كنَّا كتّابًا، فإننا نقرأ لنتعلم حرفتنا. في الكلية، أتذكر قراءة أعمال كاتب منسي الآن يُدعى آر. ف. كاسيل، الذي أظهرت لي قصصه أن أي موضوع، بمجرد تناوله في الرواية، يمكن أن يُهمل لبضع صفحات ثم يظهر مرة أخرى، وأنه بهذه الطريقة يمكن نسج عناصر الحبكة معًا. يبدو ذلك بديهيًا الآن، لكنني كنت بحاجة إلى كاسيل ليعلمني أسرار تطوير أصوات سردية متعددة. 

في ملاحظاتها الموجزة جدًا عن الكتابة، علَّمتني إليزابيث بوين أنك لا تستطيع اختراع جسم أو وجه، بل يجب أن تبني وصفك على شخص حقيقي. كما كشفت بوين كيف يمكنك دفن سخريتك وأحكامك في سرد متدفق، وقالت إنه في الحوار إما يخدع الناس أنفسهم أو يحاولون خداع الآخرين، وأنهم نادرًا ما يتحدثون بالحقيقة البسيطة المُجرّدة. وأظهر لي هنري جيمس في روايته "دورة اللولب" كيف يمكن للسرد ذي الرواة المتعددين أن يزعزع القارئ بما يكفي حتى يصدق قصة عن الأشباح.

أحيانًا أقرأ الآن لأملأ بنوك عقلي بعملات جديدة من كلمات، وأفكار، وتعبيرات. تعلّمتُ من جويس كارول أوتس أن أتوقف عن الاستعانة بالخط المائل عند كتابة المقاطع المُعبِّرة عن التفكير المجنون، وأكتبها في جمل بخط روماني عادي لتروي وتصف بطريقة مباشرة. بالنسبة لي، يُظهِر النصف الأول من رواية "قوس قزح" لدي. هـ. لورنس إلى أي مدى يمكن أن يقترب النثر من الشعر من دون أن يفقد توازنه وينزلق في الشاعرية المُفِرطة.

كل كاتب كلاسيكي غريب الأطوار. صموئيل بيكيت يجمع بين الكآبة والكوميديا. كارل أوفه كناوسجارد ممل ومثير للاهتمام في الوقت نفسه. بروست طويل جدًا لدرجة أنه غالبًا ما يفقد خيط الحكاية، ولكن في الوقت ذاته يمكن أن تجعل الحبكات الفرعية الكثيرة القصة غير منطقية، وقد تجعلها مثيرة جدًا، إذا كان الراوي يمتلك ذكاءً خارقًا. 

كما تجمع رواية "The Enigma of Arrival" لـف. س. نيبول بين الصراحة والسرية السخيفة في الوقت ذاته. فمثلًا، لا يذكر أنه يعيش في الريف مع زوجته وأطفاله، ولا يخبرنا أن مالك العقار المجنون ستيفن تينانت هو أحد أغرب الشخصيات في إنجلترا. أعتقد أن كل هذه الأمثلة أظهرت لي أن أي إفراط يمكن أن يكون مثمرًا إذا استكشف حساسية الكاتب الفريدة وتَجَاوزَ الحدود. وفي رأيي، تتجلى أبعد حدود الخيال في رواية "Blinding" الضخمة لميرتشا كارتاريسكو" و"The Mad Man" لصموئيل ديلاني و"البوصلة" لماتياس إينار، فهذه أعمال لا تُنسى.

إذا شاهدتُ التلفاز في نهاية ساعتين أشعر بالخداع وسوء التغذية، على الرغم من أنني أسمع دائمًا عن مسلسلات تلفزيونية جديدة رائعة لم أكتشفها بعد، لكن في نهاية ساعتين من القراءة، يتسارع ذهني، وتتجدد روحي، إذا كان الكتاب جيدًا بالتأكيد.

دائمًا ما أعتمد على كتّاب آخرين وقُرَّاء ذوي خبرة لإرشادي إلى الكتب الجيدة. أخبرتني ييون لي أن أقرأ رواية "The Fountain Overflows" لريبيكا ويست، ومن أجل ذلك سأكون دائمًا ممتنًا لها. أعطاني شريكي، الكاتب مايكل كارول، رواية "The Easter Parade" لريتشارد ييتس بالإضافة إلى المجموعة القصصية "Honored Guest" لجوي ويليامز. أعطاني الروائي وكاتب المقالات إدوارد هاور، زوج أليسون لوري، نسخة من قصص إليزابيث تايلور التي أعادت طباعتها "نيويورك ريفيو بوكس" (ليست إليزابيث تايلور الممثلة، بالطبع). 

ولأنني عشت في باريس لمدة ستة عشر عامًا، اكتشفت العديد من الكتّاب الفرنسيين العظماء، بما في ذلك المعاصرين جان أشينوز وإيمانويل كارير، والروائية التاريخية الاستثنائية شانتال توماس، وتحدثت في مراسم تأبين بطل الرواية الجديدة ألان روب – جرييه، الذي كان صديقًا لي. كما يحتل جوليان جراك مكانة كبيرة في قائمة المفضلين لدي، بجانب الكاتب الأيرلندي جون ماكغرين.

لقد قرأت الكتب بهويات متعددة، قرأتها كباحث، وكمُعلِّم، وكحَكَم في المسابقات الأدبية، وأخيرًا كناقد.

منذ كتابة روايتي "Nocturnes for the King of Naples" – عنوان سرقته من هايدن، الذي ساهم كذلك في عنوان روايتي "The Farewell Symphony" – وأنا أبحث عن التفاصيل الغريبة. في تلك الرواية، أحببت الارتباك الباروكي بين الحب المقدس والحب الجسدي، وأدرجت فيها إشارات إلى العديد من الشعراء والصوفيين. كما أخفيت قصائد (زوجين من الأبيات، وسوناتة، وسيستينا) وكتبتها على هيئة نثر. 

في روايتي "Caracole"، استلهمت من حياة جيرمين دي ستايل، وكذلك من مذكرات فينيسية من القرن الثامن عشر اطلَّعت عليها في مكتبة قصر باربارو، حيث قضيت عدة فصول صيفية. ربما كانت أكبر مهمة بحثية لي عندما كنت أكتب السيرة الذاتية لجان جينيه، بالرغم من أنني تلقيت مساعدة يومية من الباحث ألبرت ديتشي المتخصص في تاريخ جينيه، إذ قرأنا نسخًا من مجلة "Detective" المثيرة التي ألهمت جينيه في عدة مراحل، ووجدت النسخ القديمة منها محفوظة في قبو دار نشر "غاليمار". 

قرأت الروايات شبه المثلية لحي مونمارتر، مثل "Jésus-la-Caille" لفرنسيس كاركو، التي تفوَّق عليها جينيه، واطلعنا على كل ما يمكننا العثور عليه مطبوعًا حول الفهود السود. وجدت متجرًا في أسفل برودواي يبيع ملصقات سياسية وغيرها من الأشياء الأثرية. ونظرًا لأنها كانت أول سيرة ذاتية كبيرة لجينيه، أجرينا مقابلات مع مئات الأشخاص الذين عَرَفَهُم، وكل هذا كان قبل "غوغل" أو الإنترنت. أما بالنسبة لسيري الذاتية الأخرى القصيرة عن بروست وآرثر رامبو، فلم أقم بأي بحث أصلي، وإنما أنجزت معظم عملي في المكتبة الرئيسية بجامعة برينستون، بالإضافة إلى اضطراري لقراءة كل ما كُتب عن كل كاتب وأعماله.

عند كتابة روايتي "Fanny" التي تدور حول الناشطة ضد العبودية فرانسيس رايت وفرانسيس ترولوب، الروائية وأم أنتوني ترولوب، كنت أعيش في لندن وأعمل كل يوم في مكتبة بريطانيا الجديدة آنذاك في سانت بانكراس في عام 2001. ومن أجل ذلك، قرأت كتبًا لا حصر لها عن الولايات المتحدة الأميركية في عشرينيات القرن التاسع عشر، من رحلات عبور الأطلسي، والعبودية، إلى جيفرسون، وما كان يرتديه الناس ويأكلونه، وبالطبع قرأت كل كتب سيداتي الاثنتين. أحببت طلب الكتب وانتظار وصولها إلى محطتي في نفس اليوم. أحببت قضاء وقت الشاي في مقهى المكتبة. لم أمتلك الشجاعة لأقول مرحبًا لأي شخص، لكن ذلك أيضًا كان جزءًا من الطابع الإنجليزي الذي شعرت به.

عندما كتبت رواية "Hotel de Dream" عن الكاتب ستيفن كرين، كنت زميلًا في مركز كولمان في موقع مكتبة نيويورك العامة بشارع 42. كان لدي ملايين الكتب تحت تصرفي، ومئات الصور لنيويورك في تسعينيات القرن التاسع عشر، وحتى مجموعة كاملة من قوائم الطعام لتلك الفترة. وكان مكتب البحوث في خدمتي، لدرجة أنني سألت وارن بلات، أحد الباحثين، أن يخبرني كم سيكلف تمثال رخامي بحجم طبيعي متوسط الجودة في تسعينيات القرن التاسع عشر، فدَرَسَ دليل النحات وكتالوجات المزادات في تلك الأيام. 

قرأت تقارير الصحف على الأفلام المصغرة عن غارة على أول حانة مثلية في نيويورك "The Slide" في شارع بليكر. قرأت سيرة جوزيبي بيكيريلي الذي نحت الأسود أمام المكتبة، ومن ثم جعلته شخصية في الرواية. وحتى في روايتي الأخيرة، كان لدي شخصية تزوِّر لوحات سلفادور دالي، ما جعلني أتعمق في دراسة التزوير الفني.

أحب البحث، وفي حياتي القادمة، أريد أن أكون أمين مكتبة.

منذ منتصف السبعينيات وأنا أدرِّس الكتابة الإبداعية، وأحيانًا دورات الأدب للكتّاب، في جامعات مثل ييل، وجونز هوبكنز، وكولومبيا، ونيويورك، وبراون، وبرينستون، وغيرهم. وحتى في ورش العمل، كنا نقرأ قصصًا منشورة لكتّاب أحياء معاصرين مثل ريتشارد فورد، وآن بيتي، وجوي ويليامز، وريتشارد بوش، بالإضافة إلى قصص ديبورا آيزنبرغ ولوري مور، وهي الأفضل بينهم، وعشرات الآخرين. يعتقد الناس أن طلاب الجامعات روادٌ في الأدب المعاصر، ولكن إذا كنت تريد أن تعرف ما يحدث حقًا، فاسأل شخصًا في الثلاثين من عمره وليس في العشرين، فالطلاب مشغولون جدًا بالقراءة عن فيزياء الكم، وإذا كانوا مُحبين للأدب فبالتأكيد مشغولون بقراءة "عوليس"، أو "إلى المنارة".

عندما درَّست دورات الأدب للكُتَّاب في عام 1990 في جامعة براون، حاولت تعريض الطلاب لجميع أنواع الكتابة الدولية المختلفة عن الواقعية الأميركية. قرأنا "مائة عام من العزلة"، و"طبل الصفيح"، و"Gravity’s Rainbow"، و"The Blood Oranges" لجون هوكز، و"ضجيج الجبل" لياسوناري كاواباتا، الفائز والمُستحِق لجائزة نوبل، بالإضافة إلى "The Sunday of Life" لرايمن كوينو، وغيرهم الكثير.

أحيانًا كنت أشعر أنني الوحيد في الفصل الذي قرأ تلك الكتب. ومع ذلك، كان لجامعة براون مهمة تقدمية حقيقية في كلٍ من الشعر والنثر، وخرج من البرنامج كتّاب مبدعون، مثل ألدن جونز، وأندرو شون غرير، وبن ماركوس مؤلف "The Age of Wire and String".

لقد شاركت في تحكيم العديد من المسابقات الأدبية. في عام 1989، عندما فاز كازو إيشيغورو بجائزة البوكر عن روايته "بقايا اليوم"، كان عليّ قراءة مائة وثلاثين كتابًا، لكن نظرًا لأنني عشت في فرنسا لسنوات عديدة، قرأتهم à la diagonale، أي بشكل سريع جدًا، أو على الأقل الثلث الأول من الكتب، أما الحُكام الآخرين ولأنهم إنجليزيون، فقد أخذوا المهمة بجدية أكبر بكثير. 

أتذكر زميلي في التحكيم ديفيد بروفومو الذي قال عن كتاب معين: "انتظر حتى تقرأه للمرة الثانية". أعتقد أن رواية إيشيغورو كانت مرشحة مثالية للجائزة لأنها كانت قصيرة وتناولت مفهوم كبير جدًا، وكانت الحبكة سهلة الفهم والتلخيص. كما كنت عضوًا في لجنة تحكيم جائزة "PEN / Diamonstein-Spielvogel" لفن المقالة. 

ولعدة سنوات، كنت عضوًا في لجنة الجائزة للأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب، ولما يقرُب من عقد من الزمان، كنت حكمًا لجائزة "Premio Gregor von Rezzori"، التي تُمنح لأفضل كتاب بأي لغة تُرجمت إلى الإيطالية في ذلك العام – ليس أفضل ترجمة ولكن أفضل كتاب – لكنني كنت أقرأ الكتب المُرشحة إما بالفرنسية أو الإنجليزية، وقادني هذا العمل إلى قراءة العديد من الكتب المكتوبة بالصينية، والعربية، والألمانية، والرومانية، وهكذا. ولكن أفضل رواية قرأتها من أجل المسابقة كانت "Blinding" لكارتاريسكو.

تقريبًا كل كتاب أدبي مثليّ الجنس كان يُرسل لي من أجل الحصول على ملاحظات، لدرجة أنني أصبحت مدمنًا على الملاحظات. الأمر يشبه كونك امرأة سهلة، يزدري الجميع تحررك، ولكنهم يريدون موعدًا غراميًا واحدًا على الأقل معك. أحب مساعدة الكُتّاب الجُدد، إذا أُعجبت بعملهم، لكن الكتّاب الجادين ليس من المفترض أن يكونوا بهذا السخاء باستحسانهم. والآن بعد أن كبرت، أرفض معظم المخطوطات، وأُذكِّر الناشرين دائمًا أنني قد لا أحب كتبهم الجديدة إذا قرأتها. الملاحظة الجيدة يفترض أن تكون موجزة، ومُصاغة بشكل لا يُنسى، ودقيقة في الوقت ذاته وتقدم بيانًا شاملًا للكتاب.

أما عن قراءة كتب الأصدقاء، فهذه مشكلة خاصة، إذ غالبًا ما يريدون مراجعة، وليس مجرد ملاحظة. وإذا كانت لدي مشاعر مختلطة حول كتاب صديق، أتصل به بدلًا من كتابة أي شيء، فعندما أتحدث معه أستطيع أن أعرف مدى الصدق الذي يريده مني، فإما سيصمت على الفور أو سيصر على الحصول على توضيح كامل. أحيانًا أعطي الكُتَّاب تقارير وأنا لا زلت أقرأ أعمالهم، فمعظم الكتَّاب لا يمكنهم الانتظار لأسبوع للحصول على تقرير كامل.

لقد كتبت المئات من مراجعات الكتب، ودائمًا ما أبالغ، إذ أشعر بأنني ملزم بقراءة عدة كتب أخرى لنفس الكاتب، إن لم يكن أعماله كلها. كما يجب أن تلخص المراجعة الموضوع إذا لم يكن الحبكة بأكملها، ويجب أن تعطي نموذجًا من النثر، وتربط هذا الكتاب بالكتب الأخرى ذات الصلة، والأهم من ذلك، يجب أن تقول ما إذا كان الكتاب جيدًا أو سيئًا.

وبالطبع، تتحول المراجعة الطويلة في "نيويورك ريفيو أوف بوكس" إلى مقال. تتطلب كل المراجعات ثلاث أضعاف الجهد الذي يتوقعه المرء، هذا صحيح على الأقل بالنسبة إلى الأميركيين، بطيئي الفهم، وثقال اللسان مثلنا، وغير المعتادين على وجود رأي حاد ولاذع. أذكر أنني قرأت في مذكرات جورج برنارد شو في شبابه شيئًا عن قضاء الصباح في المكتبة البريطانية من أجل كتابة مراجعاته على عجل، نعم مراجعات، بصيغة الجمع.

إن قراءة الكتب من أجل المتعة، هي بالطبع أعظم فرحة، فلا حاجة إلى التسطير، أو الإجهاد، أو محاولة تلخيص أو تقييم العبارات ذهنيًا. فهنا يمكن للمرء أن يقرأ بحرية كما يقرأ الطفل، من دون واجبات، أو أهداف، أو مسؤوليات، ومن دون ملاحقة عقارب الساعة، إنها سعادة خالصة. إن مقالة بروست "عن القراءة" تعد سردًا سحريًا لانغماس الطفل في كتاب، وندمه على ترك الصفحة للجلوس على مائدة العشاء، وحتى الجانب الإيروتيكي (يقرأ في المرحاض ويربطه برائحة ساق السَّوْسَن). 

ربما كانت متعتي في القراءة هي ما منعني من أن أكون قارئًا منهجيًا. لا أتمكن أبدًا من الوصول إلى المعنى العميق لأي شيء بل أقفز فقط من زهرة زنبق إلى أخرى. فاليري لاربو، المشرف الفرنسي على ترجمة "عوليس" لجيمس جويس، كان يقرأ بالعديد من اللغات، وكان يُغلِّف كتبه الإنجليزية كلها بلون واحد، وكتبه الألمانية بلون آخر، وهكذا. ورث فاليري ثروة، لكن ثروته أصبحت بلا معنى عندما أُصيب بشلل جعله عاجزًا عن الكلام والحركة آخر اثنين وعشرين عامًا من حياته.

حتى يحدث لي شيئًا خطيرًا، سأستمر في القراءة، وأحيانًا الكتابة. قال أحدهم إن الكاتب يجب أن يقرأ ثلاث مرات أكثر مما يكتب. أخشى أنني أقرأ أكثر بكثير مما أضعه على الورق. فلا توجد متعة أكبر من الاستلقاء بين أغطية نظيفة، والاستماع إلى الموسيقى، والقراءة تحت ضوء قوي. أكتب أيضًا على أنغام الموسيقى، إذ تُقلِّل الموسيقى من الوحدة وتُساعد شخصًا غير موسيقي مثلي على المقاومة والتركيز. أعتقد أن كل من يقرأ هذا قد شعر بالفرح السري لمعرفة أن كتابًا جيدًا ومثيرًا ينتظره نصف مقروءً بجانب وسادته. بالنسبة إلي الآن، هذا الكتاب هو "The Heart’s Invisible Furies" لجون بوي، المُهدى لجون إيرفينج، الذي أبقتني كتبه مستيقظًا لعقود.

الكلمات المفتاحية
الأكثر قراءة
1

أزمات أكثر أطفال أقل: كيف تشكل معدلات المواليد المنخفضة المستقبل؟

يهدِّد انخفاض معدلات المواليد مستقبل البشرية أكثر مما تفعل التغيّرات المناخية

2

رحلة الشاي الطويلة.. الأوراق المرة التي صنعت "كوب الإنسانية"

تجاوز الشاي كونه مشروبًا وصار رمزًا ثقافيًا وفلسفيًا في العديد من الحضارات، متحولًا إلى طقس يعكس روح الإنسانية والتناغم

3

تغيير الأبجدية العثمانية.. يوم حسم أتاتورك نقاشًا سبق ولادته

تضع هذه المقالة مسألة استبدال مصطفى كمال أتاتورك الأبجدية العثمانية بالحروف اللاتينية في سياقها التاريخي بعيدًا عن موضوع التقدّم والتأخر وصراع الهوية

4

أرشيف مصر على قارعة فيسبوك.. بروميثيوس يسرق الوثائق

يرتبط الطلب على الوثائق القديمة عبر فيسبوك بالأزمة الاقتصادية التي تدفع الناس لبيع مقتنياتهم، وأيضًا بصرامة الأرشيف الرسمي في منع الوصول للمعلومات

5

العربية في تشاد.. من لغة الدولة إلى صراع البقاء

المفارقة أن اللغة العربية التي كانت قبل الاستعمار الفرنسي محصورة في مؤسسات الدولة لا يتحدث بها الناس، أصبحت بعده لغة شائعة بين الناس لكن لا يُسمح لمن تعلّم بها العمل في مؤسساتها

اقرأ/ي أيضًا
مهنة الشاعر

إلياس كانيتي: مهنة الشاعر

إذا كانت كلمة الشاعر مسوّسة، فهذا لأنها كانت مشحونة بالتمظهر والعبث، بالتملص، كي لا ترهق النفوس

كاميران حوج

كيف ألهمت تونس كادينسكي
كيف ألهمت تونس كادينسكي

كيف ألهمت تونس كاندينسكي؟

أثناء إقامته في تونس عام 1904، وجد فاسيلي كاندينسكي إلهامًا عميقًا في الألوان والمشاهد التونسية، مما ساهم في تطور أسلوبه التجريدي

جمال جمعة

حنة آرنت

ما الذي نتحدث عنه عندما نتحدث عن الأصالة؟

قلبت آرنت فلسفة هايدغر رأسًا على عقب، واعتبرت أن فصله التفكير عن الإرادة هو تملص من المسؤولية الشخصية

آمنة بعلوشة

نساء في صمت الأرشيف

من السيدة أورويل إلى عنايات الزيات: نساء في صمت الأرشيف

"الزوجة" و"في أثر عنايات الزيات" كتابان فريدان من نوعهما لأنهما يبحثان في العلاقة ما بين الحقيقة التاريخية والصياغة الخيالية والموقف الشخصي من ذلك

كاصد محمد

التاريخ المظلم للموز

عنصرية ورأسمالية وانقلابات: التاريخ المظلم للموز

للموز تاريخ مظلم مرتبط بالاستعمار والعبودية والرأسمالية والانقلابات العسكرية وسياسات العنصرية البيئة والجنسانية والفقر والحياة الهشة والمحفوفة بالمخاطر للقرن الحادي والعشرين

آمنة بعلوشة

المزيد من الكاتب

فريق التحرير

فريق التحرير

الكارثة بوصفها فرصة: كيف يطلق الاحتباس الحراري سباق التسلح في العالم؟

لم تتعامل الدول الكبرى مع التغيرات المناخية في منطقة القطب الشمالي بوصفها "كارثة" وإنما "فرصة" تسعى إلى استغلالها بطريقة تجعل المنطقة ساحة صراع

خوسيه ساريّا: أنا شاعر أندلسي

يتحدث ساريا في هذا الحوار عن علاقته بالشعر، والتجارب المؤثرة في تشكيل توجهه الشعري، وحضور الإرث الثقافي للأندلس في تجربته الشعرية

ما الولايات المتأرجحة في الانتخابات الأميركية؟

الولايات المتأرجحة ولايات حاسمة في مسار الانتخابات الرئاسية الأميركية، وعادةً ما تكون "ساحة المعركة" الحقيقية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري

فرنسيس كومب: أكتب ضد ما يرعبني

يؤكد فرنسيس كومب في أعماله الشعرية ونشاطاته المختلفة على انتمائه للتغيير وللشعوب المقهورة، وأصدر مؤخرًا مختارات بالفرنسية عن غزة

التنين الأخضر: كيف أصبحت الموارد الأولية للتحول الأخضر ساحة صراع بين الصين والغرب؟

يشكّل الصراع على موارد الطاقة الجديدة والمعادن النادرة بين الصين والدول الغربية أحد أهم التحديات أمام تحقيق التحول الأخضر في العالم