هذه ترجمة لمقال الباحثة والناقدة الإيطالية جورجا تولفو، التي تعمل في مجال العلوم الإنسانية الرقمية، وتكتب في العديد من المجلات وتتعاون في مشاريع ثقافية دولية.
ــــــــــــــــــ
ذات يوم من أواخر صيف 2017، كانت الكاتبة والصحفية الأسترالية آنا فوندر مرهقة بفعل إضاعتها نهارًا بأكمله، ككثير من النهارات، في انشغالها بالمهام المنزلية. وبينما كانت تغادر المركز التجاري، الذي ابتاعت منه احتياجات الأسرة، قررت المضي بسيارتها نحو مكتبتها المفضلة للكتب المستعملة "Sappho Books"، بدل العودة إلى البيت.
تلج المكتبة، تنظر من حولها دون غاية للبحث عن شيء بعينه، ترتقي السلم إلى الطابق العلوي، حيث تُحفظ كتب المقالة، وتشرع في تصفح الطبعة الأولى من "The Collected Essays, Journalism, and Letters" لجورج أورويل.
لطالما أحبت فوندر كتابات أورويل وانشغلت في تفكيك آلية السلطة. وقد صدر، بنجاح كبير، كتابها "stasiland" عام 2003، وتتناول فيه الحياة في ألمانيا الشرقية إبان سلطة جهاز شتازي (جهاز أمن الدولة). ولما وجدت نفسها، في تلك اللحظة من الإرهاق، تطالع كتاب "?Why I write"، الذي يبين فيه الكاتب كيف أن الكتابة بالنسبة إليه طريقةٌ لكشف "العقائد الصغرى المتعفنة" في زمنه، تتخذ فوندر قرارها: إعادة قراءة أعمال أورويل واستخدامها من أجل التحرر من الاستبداد المسيطر عليها. ستكتب لتعثر على نفسها، بعيدًا عن دورها كزوجة.
ولما حزمت أمرها على الانطلاق في مشروعها وانغمست في قراءاتها، وقعت عينها على عبارة غريبة يقول فيها أورويل: "وحين نَتزوجُ النساء فإننا نكتشف حقيقتيْن عنهن، تتعارضان والصورة التي يُشعنها عن أنفسهن في العالم". الأولى هي: "قذارتهن وإهمالهن اللتان لا سبيل إلى تقويمهما"، والثانية هي: "غريزتهن الجنسية الرهيبة والشرسة". إن اعتبار أورويل باغض للبشر وثقيل الدم ليس بالأمر الجديد، ولكن إلى من تشير هذه العبارة، وما فحواها؟ تتعمق فوندر في بحثها وتستنتج بأن العبارة تشير إلى علاقته بـ"إيلين أوشونيسي"، زوجته الأولى التي رحلت عام 1945، عن عمر لم يتجاوز الأربعين، أثناء عملية جراحية. على أن اكتشافها لمْ ينتهِ هنا.
وبعد مواصلة البحث، اكتشفت فوندر أن إيلين لعبتْ دورًا مفصليًا في تحول إريك بلير إلى جورج أورويل، ليس فقط عن طريق تحملها كافة المسؤوليات المنزلية، تاركةً له كفايته من الوقت من أجل ممارسة الكتابة، ولكنها كانت أيضًا محررة عالية التركيز لأعمال زوجها، وقد كانتْ هي صاحبة فكرة "مزرعة الحيوان"، التي ساهمت في كتابتها مع زوجها فيما بعد. ولا ذكر لأي من هذا في كتابات أورويل، ولا من جانب الذين تناولوا سيرته الذاتية.
والبراهين الوحيدة التي بقيت هي شهادات شفاهية لبعض المعارف، وست رسائل، عُثر عليها عام 2005، أرسلتها إيلين إلى صديقتها "Norah Symes"، من ضمنها الرسالة التي كتبتها قبل خضوعها للعملية الجراحية التي فقدت على إثرها حياتها. وتتضح من هذه الرسائل، بنحو جلي، التضحيات الفكرية والعاطفية والجسدية والاقتصادية التي بذلتها من أجل زوجها.
لهذا السبب تغير مشروع إيلين: لمْ تعدْ تحاول رؤية نفسها بعيدًا عن "العقائد الصغرى المتعفنة"، بل أنْ تفعل عن طريق وضع حياة إيلين تحت الأضواء، وإعادة خلقها من النصوص نفسها التي أمعنت في إخفائها. وبعد مضي ست سنوات من وقوفها تطالع كتابًا في مكتبة "Sappoh Books"، ست سنوات انصرفتْ فيها إلى البحث والسفر والاختلاف على الأرشيفات وإجراء حوارات مع معارف أورويل وإيلين، صدر كتابها "Wifedom: Mrs. Orwell’s Invisible Life" (الزوجة: الحياة اللامرئية للسيدة أورويل).
في عام 1993، دخلت الشاعرة والأكاديمية المصرية إيمان مرسال إلى مكتبة للكتب المستعملة في القاهرة، تبحث عن نسخة من "كرامات الأولياء" للنبهاني. وبينما هي تفتش بين الرفوف، يقع بين يديْها كتاب "الحب والصمت" لعنايات الزيات، الصادر عام 1967، والذي لم يعد متوفرًا في المكتبات. يبيعها المكتبي الكتاب بأقل من يورو. ومن مقدمة الكتاب تدرك أن "الحب والصمت" هو الرواية الأولى والأخيرة للكاتبة الموهوبة عنايات الزيات، وقد أنجزته قبل رحيلها وهي لمْ تبلغ الثلاثين من عمرها. ولم يكن في المقدمة إشارة إلى سبب الوفاة، لكنها توحي أن ثمة سر وراء الأسى على رحيلها.
مرت عشرون سنة، وكانت مرسال في الأثناء قد انتقلت للعيش في كندا حيث تدرس الأدب العربي. وذات يوم، استقلت سيارة أجرة في القاهرة واتجهت إلى مقبرة البساتين للبحث عن شخص ما اسمه رشيد باشا، وقد قرأت سطورًا في صفحة الوفيات سنة 1967 يشير إلى أن عنايات مدفونة في مقبرته. وكان ثمة أكثر من رشيد باشا، فعن أيهم تبحث؟ وما الذي يربطه بعنايات؟ والأهم من هذا كله، ماذا حدث لعنايات؟
ومن أجل إيجاد أجوبة لهذه التساؤلات، تبدأ مرسال رحلة بحث ما بين الأرشيفات والشهادات الشفاهية وقصاصات الصحف وممثلات السينما. كل ذلك من أجل إعادة اكتشاف عنايات عن طريق الآثار القليلة وغير المرئية التي بقيت منها. وقد كانتِ النتيجة النهائية كتابًا صدر عام 2021 بالعربية، وعام 2023 بالإنكليزية، تحت عنوان "في أثر عنايات الزيات".
"الزوجة" و"في أثر عنايات الزيات" هما كتابان فريدان من نوعهما، بالنسبة للمهتم بالشأن الأدبي، والبحث في الأرشيفات، وعلى الأخص بالنسبة للمعني بالطرائق الجديدة للكتابة التي تتجاوز حدود الأجناس: فهي إعادة بناء للتاريخ، وهي كتابة اعترافية، وهي نقد اجتماعي ثقافي، وهي سرد، وهي أكثر من ذلك. وهما كتابان فريدان لأنهما يبحثان في العلاقة ما بين الحقيقة التاريخية والصياغة الخيالية والموقف الشخصي من ذلك، ويبحثان في الكيفية التي يتحول فيها القلق، الناشئ عن هذه الأقطاب الثلاثة، إلى كتابة، من خلال الخيارات الأسلوبية والبنية الفنية ووجهة النظر.
هذان العملان خيرُ مثالٍ على طريقة في السرد والبحث أخذت تفرض وجودها على النقد منذ أكثر من عقديْن، وقد تمثلت من الجانب النظري في مقالات وأعمال الكاتبة والأكاديمية الأمريكية سيديا هارتمان (Saidiya Hartman). وقد حمل هذا النوع من الدراسة اسم "الخيال النقدي" (critical fabulation)، ومن البارزين في هذا المضمار أيضًا الباحثة هازل كاربي (Hazelc Carby).
ولقد ظهر هذا المصطلح في مقال هام للغاية بعنوان "Venus in Two Acts" (ڤينوس في فصليْن)، للناقدة هارتمان عام 2008. وتطرح هارتمان تساؤلاتها في هذا المقال عن غياب تمثيل النسوة في الأرشيفات المتعلقة بالاتجار بالعبيد عبر المحيط الأطلسي، وعن استخدام رمزية ڤينوس من أجل وصف تلك النسوة اللاتي يُنظر إليهن بنظرة ما بين الرعب وبين الإغراء الإروتيكي. وفي سبيل ردم هذا الفراغ فمن الضروري، برأي هارتمان، التعمق في دراسة السياق التاريخي، والانطلاق من الآثار التي بقيت من هؤلاء النسوة في الأرشيفات (وقد تكون تسجيلًا في سجلات السفن، أو روايات على ألسن الآخرين، أو تواريخ ولادة ووفاة، وكذلك الأماكن التي مررن فيها). ثم نحاول أنْ نتخيل ونستل حيواتهن من هذا كله. والغاية هي تغيير التاريخ الذي نقلته لنا الأرشيفات، وإرجاع النسوة إلى إنسانيتهن المسلوبة، إذ كُن يُعتبرن مجرد أرقامٍ لا غير.
ومن أجل الاطلاع على هذه النظرية وهي في محل التطبيق، فتكفي قراءة "Lose Your Mother". في هذا الكتاب، تسعى هارتمان إلى المزج بين أدب الرحلات والمقالة التاريخية والمذكرات، وتروي فيه الاتجار بالعبيد ما بين ساحل الذهب (غانا حاليًا) والقارة الأميركية، وهي تسعى للبحث عن جذورها في غانا. وقد باءت مساعيها بالفشل، لذا فإن "فقد الأم يعني فقد الجذور، وفقد الأرض والهوية. فقدان الأم يعني نسيان الماضي".
بينما تُقدِم في عملها "Wayward Live, Beautiful Experiment" على قص حيوات النساء المتمردات وحياتهن البديلة في نيويورك القرن التاسع عشر، إذ عملت على التنقيب في أرشيفات مراكز الشرطة، وجمع صور متناثرة في متاجر الأغراض القديمة، وتحليل القوانين الجنائية الجارية في نيويورك ما بين 1890 و1935. تبين هارتمان كيف أن المرأة السوداء، آنذاك، ساهمت في التحرر الجنسي الذي نُسب إلى مرحلة تاريخية متقدمة، مع أن أحدًا لمْ يعترف تاريخيًا بإنجازها.
وفي أثناء عملها البحثي، تلجأ هارتمان إلى البحث في الأرشيفات بدقة المؤرخة، وفطنة الباحثة، وحساسية وإبداع الكاتبة. فتتجاوز بذلك الأجناس والمألوفات التاريخية وتخلق فسيفيساء كورالية عن حقبتيْن زمنيتيْن مختلفتيْن، وتنجز تمثيلًا دقيقًا للحالة الاجتماعية. وفي هذا المضمار، وبفضل الخيال السردي، فإنها تنجز مهمتيْن: من جانب، تسعى جهدها من أجل الربط ما بين ما حصل حقيقةً (وهو ما لا نعرفه) وبين ما يحتمل حصوله، وهو ما يمكن إعادة تشكيله من خلال الآثار القليلة المتبقية ومن المعرفة الدقيقة بتلك الحقبة. ومن جانب آخر، فهي تحقق عدالة اجتماعية للأصوات التي كتمتها الأرشيفات.
فوندر ومرسال تتبعان المنهج ذاته الذي استخدمته هارتمان "الخيال النقدي"، على أنهما يسخرانه كل حسب ما تتطلبه ضرورة عملها. كلاهما تنطلقان من نقاط متماثلة، كلاهما تنطلقان من نص أو جملة توحي بحضور صمتٍ ما. ومن خلال العمل البحثي الذي يقود إلى نصوص أخرى وشهادات، يحاولان إعادة تشكيل الحقائق. وهكذا تقوم فوندر بقراءة كل منتج أورويل، من خلال عدسة كتاب سيرته الذاتية، ومراسلاته والشهادات التي يتقدم بها الأصدقاء والمعارف، بغية العثور على النصوص التي حُذف منها ذكر أيلين. أما مرسال، فإنها تتنقل بين شوارع القاهرة من أجل البحث عن قبر الكاتبة التي انشغلت بها، المرأة التي نُسيت في الحياة كما في الموت.
ما تحاول فعله كل من مرسال وفوندر وهارتمان، من خلال بحوثهن وكتاباتهن، هو خلق فضاء للذاكرة من أجل أولئك النسوة المنسيات. وإذا كان هدف هذين الكتابيْن هو منح صوت لكل من إيلين وعنايات، فثمة أمر آخر لا يمكن اعتباره ثانويًا بأي حال، وهو المسار الذي اتخذته هذه العملية الكتابية ومآلاته. وبصرف النظر عن البحث المتأني، فإن النتيجة النهائية تخضع دائمًا إلى الزاوية التي يُنظر منها والكيفية التي تُشكل فيها الأجزاء. ولهذا فإن إيلين هي إيلين فوندر، كما إن عنايات هي عنايات مرسال، لذا يصبح من الصعب تخيل هاتيْن الشخصيتيْن بعيدًا عن نظرة الكاتبتيْن. وفضًلا عن إعادة البناء التاريخي في الكتابيْن، فإن المؤلفتيْن تتساءلان دون مواربة عن الأسلوب، وتبرّران الخيارات الأسلوبية والشكلية التي يؤثرنها أثناء السرد.
على أن ما يثير اهتمامي في هذه الكتب وفي نوع التفكير الرحب الذي تنجزه هارتمان هو تأمل الدور السياسي والمعارض للخيال، وكيف بإمكانه أنْ يمثل أداة لتحقيق نوع من العدالة. والحقيقة فإنني أعمل في أرشيف حكومي، وكل يوم يتصل بنا أشخاص يبحثون عن معلوماتٍ تخص أقرباء لهم، حصلوا على أخبار عنهم من أحاديث عائلية أو من صور في ألبوم ما. أحيانًا يكون لديهم اسم وتاريخ ولادة، وأحيانًا يعرفون اسم السفينة التي أبحروا على متنها للوصول إلى إنكلترا. يجلبون هذه المعلومات ويتواصلون مع الأرشيف ويرجون المساعدة من أجل تشكيل حيواتهم. ويحدث أنْ يؤكد الأرشيف ما لديهم من معلومات، ويحدث أنْ يزيد معلومة صغيرة، كعنوان سكن أو وظيفة ما.
وهؤلاء الأشخاص قد وجدوا في الحياة يومًا ما. ربما كانوا سعداء أو تعساء، ربما أحبوا وضحوا، والتقوا بأشخاصٍ آخرين. ولعلهم جلسوا ذات يوم على النهر وتساءلوا عما إذا كان ثمة معنى للعيش، كما فعلت على الأرجح عنايات الزيات، بينما كانت تسير نحو بيتها ذات عصر صيفي. ولعلهم استقلوا حافلة واتجهوا إلى نيوكاسل من أجل إجراء عملية روتينية، وهم يظنون أنهم سيعودون قريبًا إلى لندن، كما فعلت إيلين. على أن هذه المعلومات لا يمكن إيجادها في الأرشيف. ما نعثر عليه في الأرشيف هو بعض التفاصيل، إذا ما كنا محظوظين، مثل رسالة تعيين من المتحف المصري، أو ست رسائل لصديقة ما، أو صورة أو عبارة في مذكرات أحد الأصدقاء.
وإذا ما أردنا إعادة تشكيل هذه الحيوات، إذا ما أردنا لها أنْ تكون جزءًا من شجرتنا الإنسانية أو أنْ تصبح كائنات تثير اهتمامنا، لأننا نجد فيها معنى ما يساعدنا على فهم حياتنا، فعلينا أنْ نلجأ إلى الخيال، علينا التوغل في صمت الأرشيفات، علينا أنْ نفجرها ونفتحها مثل صندوق باندورا. ثم نجمع الأجزاء إلى بعضها، نلصقها بنحو معقول ونقدي، استنادًا إلى دراسات ومعارف توصلنا إليها من البحث في الأرشيفات نفسها.
لقد لاحظت، مؤخرًا، تفشي السجالات، العنيفة في بعض الأحيان، عن ضآلة الخيال في عصرنا، وعن أزمة الرواية والاهتمام بالقصص "الحقيقية" أو المستندة إلى تجارب واقعية. على أنني أرى وجوب التفكير، قبل كل شيء، بالسبب الذي يدفعنا إلى التخيل، وبالأشياء التي نسخر الخيال من أجلها. علينا أنْ نفكر إذا ما كان للخيال هدف سياسي، مثل رسم عالمٍ ممكن وطوباوي، أو من أجل تأمل النقص في عالمنا، أو أنْ نتوخى الحذر من وقوع كوارث مستقبلية. فماذا يهم إذا ما كتبنا قصةً تنظر إلى العالم لا بعين إنسان، بل بعين حيوان أو نبتة، وإذا ما ولجنا في صمت الأرشيف وجلسنا جنب كاتبة مصرية شابة تقص شعرها قبل أنْ تتناول علبة من الباربتيورات، لننظر إليها ونحاول فهم ما دفعها إلى هذا الفعل.
ثم هناك الشكل. إذا كان من المهم تحرير الكتابة التاريخية من النظرة الكولونيالية، فليس بأقل أهمية إدراك الطريقة التي تُذوبُ فيها الحدود ما بين السرد السيري والسيرة الذاتية المتخيلة والمقالة الاجتماعية والشعر. أحسبُ أن الخيال حي أبدًا، وأنه في حاجة للاندفاع بعيدًا، فضلًا عن وجوب دخوله في نسيج التاريخ، والتركيز على الشخوص تارة، وعلى الأسلوب تارةً أخرى. فلننصت إلى النص إذًا، ولنترك له اختيار ما يناسبه من الأساليب والأجناس: المذكرات، الديستوبية، الشعر، أو غير ذلك.