في مرحلة ما من التاريخ المغربي المعاصر، برزت محطة تُجسّد الارتباط الحقّ بين فاس وعمقها الإفريقي. لكن، في الواقع، لم يكن لهذا البلد، الذي يُشرع أبوابه باتجاه المتوسط وأوروبا، أن يدير ظهره يومًا لبلدان الساحل وجنوب الصحراء، على اعتبار أن "المغرب شجرة جذورها في إفريقيا" (مقولة شائعة للملك الراحل الحسن الثاني).
وبالفعل، استمرت سيرورة التأثير والتفاعل المتبادل هذه إلى يومنا هذا بين ما سُمي تاريخيًا بـ"بلاد المغرب الأقصى"، وبين "بلاد السودان الغربي" (تمتد من النيل حتى المحيط الأطلسي)، حيث ظلت المملكة المغربية "مرجعية عليا" لدى دول إفريقية عدة في تديّن مسلميها، وحارسًا للإسلام السني الصوفي على أراضيها.
في هذا الإطار، غالبًا ما تُقدَّم الزوايا (مكان يجتمع فيه شيخ مع أتباعه ومريديه وتلاميذه للعبادة والتعليم، أو للتعبئة والجهاد حين يقتضي الأمر ذلك) والطرق الصوفية على أنها الفاعل الرئيسي غير الحكومي، الذي ساهم ولا يزال يساهم في تشكيل وضمان استمرارية الوشائج الروحية والثقافية بين المغرب والدول الإفريقية.
سردية الإرثُ الروحي المشترك
أشار الباحث المغربي سليم حميمنات إلى أنه: "لا يمكن الحديث عن استراتيجية دينية مغربية واضحة تجاه إفريقيا قبل منتصف الثمانينيات. بينما حافظت الطرق الصوفية على دورها المحوري كفاعل وسيط لإحياء العلاقات الروحية التاريخية طويلة الأمد بين المغرب ودول غرب إفريقيا".
وأضاف في مقالة معنونة بـ"الإسلام المغربي في إفريقيا: التقاطعات المركبة بين السرديات التاريخية والأطروحات المعرفية" (مجلة "المناهل"، العدد 106) أن الدولة المغربية عملت: "على تقنين شبكة الطرق الصوفية في إطار سياسية دينية ومؤسسية تعتمد بشكل كبير على خطاب إيديولوجي يدور حول سردية (الإرث الروحي المشترك)".
ستعود هذه "السردية" التاريخية، كما يصفها حميمنات، إلى الانبعاث من جديد، وسيتردّد صداها بقوة أكبر ومعنى أعمق، في خضم الاضطرابات الإقليمية الناتجة عن سقوط نظام القذافي في ليبيا عام 2012، وما أعقب ذلك من اضطرابات سياسية وأمنية في مالي وأماكن أخرى، مما أتاح للمغرب فرصة سانحة لإعطاء دفعة لسياسته الدينية العابرة للحدود في إفريقيا.
وتُوِّج ذلك بإنشاء مؤسسة "محمد السادس للعلماء الأفارقة" عام 2015، وهي منظمة دينية عابرة للحدود يقع مقرها الرئيس في العاصمة الروحية للمغرب فاس، وتنشط في كافة ربوع القارة الإفريقية من خلال فروعها الـ34، إذ يطرح المغرب عبرها "نموذجًا دينيًا" مبنيًا على تلك السرديات التي ترتكز على الإرث التاريخي والثقافي طويل المدى، وتستنير بالمصالح الأمنية الروحية والرؤى السياسية المشتركة.
أُضيف عملُ هذه المؤسسة إلى جهود الدولة المغربية الرسمية السابقة في التعريف بالإسلام الوسطي في القارة الإفريقية، الذي بدأته منذ الثمانينيات، كما أشرنا سابقًا، عندما قامت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بتأسيس "رابطة علماء المغرب والسنغال" عام 1985، والتي تولت تنظيم أنشطة دينية وفكرية عبر إرسال بعثات من العلماء إلى بلدان جنوب الصحراء.
ولهذا، يُنظر اليوم إلى "الإسلام المغربي" في بلدان غرب إفريقيا، على الأقل، على أنه "إفريقي" في الأصل. كما يُنظر أيضًا إلى المغرب على أنه يقدم إسلامًا متجذرًا بعمق السياق الإفريقي، ومُتلائم مع النسيج الاجتماعي والثقافي المحلي، مع استحضار دائم لبدايات هذا التأثير والتأثر.
رباطات ابن ياسين وحركة المرابطين
عُرف في المغرب التأثير الكبير للزاوية وأثرها في العلاقات الخارجية، إذ مثلت جسورًا استُثمِرت في القوة الروحية لتاريخ البلاد، بدءًا من الدولة المرابطية التي امتدت إلى قلب جنوب الصحراء رغم اتساع مجاله، الذي لم يشكل عائقًا أمامها، بقدر ما مثل جسرًا مفتوحًا للتواصل بين المغرب وأقاليم "السودان الغربي".
يقول الباحث عبد العلي الودغيري: "المغاربة انحدروا جنوبًا إلى أدغال الصحراء ثم إلى ما وراءها، إلى أن وصلوا أرض السودان الغربي عبر البوّابات والمداخل المعروفة (...). وهنا يبرز دور عبد الله بن ياسين الجَزولي ذلك الفقيه المجاهد الذي أمضى سبع سنوات يطلب العلم في الأندلس، وسنوات أخرى في المغرب ورابَطَ بجانب شيخه الفقيد الزاهد الولي الصالح وجّاج بن زلّو اللّمطي (توفي 445 هـ)".
وتابع الباحث، في كتابه "اللغة العربية والثقافة الإسلامية بالغرب الأفريقي وملامح من التأثير المغربي"، أن بن ياسين (فقيه وسياسي ارتبط اسمه بنشأة دولة المرابطين، توفي 451 هـ)، انطلق: "من دار المرابطين هذه التي أسسها وجّاج بن زلّو اللّمطي، متجها نحو أقاصي الصحراء رفقة يحيى بن إبراهيم الجُدالي أمير قبيلة صنهاجة".
لم يكتف بن ياسين الجزولي بمهمته الدعوية في الصحراء، التي كلّفه بها شيخه وأستاذه وجّاج اللمطي، وإنما تطلّع إلى ما هو أعظم وأخطر، فكان المؤسّس الحقيقي للدولة المرابطية (حكمت حوالي 90 سنة) التي تحكّمت في إمبراطورية شاسعة موحدة تمتد أفقيًا من الحدود المصرية إلى البحر المحيط، وعموديًا من بلاد الأندلس إلى حدود النيجر ونهر السنغال جنوبًا.
وقد أعطى تثبيت المرابطين لقواعدهم ورباطاتهم في أعماق الصحراء لوجود الإسلام، بلا شك، دفعة جديدة وقوية كانت بمثابة موجة عالية حَملته إلى نقط بعيدة فيما وراء الصحراء، إذ كان هؤلاء: "يستهدفون نشر الإسلام في منطقة لم يكن الإسلام معروفًا لأهلها جميعًا في ذلك العهد، وهذا خلاف ما يزعمه بعض المؤرخين أن لعاب قادة المسلمين كان يسيل لدى ذكر ثروة غانا"، كما يؤكد عبد القادر محمد سيلا.
في كتابه "المسلمون في السنغال: معالم الحاضر وآفاق المستقبل"، كتب محمد سيلا، أنه: "فضلًا عن أن حركة عبد الله بن ياسين رابطت فترة من الزمن في جزيرة سنغالية قد تكون (أندر)، التي تقع في جزيرة من المحيط الأطلسي بشمال غرب السنغال، (...) نجح أبو بكر بن عمر، عندما تولى زعامة جيوش المرابطين في الصحراء، في الاستيلاء على (كومبي صالح) عام 1076 ميلادي".
ولم يدم الوجود المرابطي في غانا أكثر من 15 عامًا، بحسب المُؤلّف نفسه، لكنه: "حضور ترك أثرًا طيبًا للإسلام في المنطقة كلها لمساهمته في توصيل صدى الإسلام إلى نواح بعيدة من غربي إفريقيا لم يكن قد وصلها من قبل، خصوصًا أن حملة المرابطين لم يترتب عليها ترسيخ مباشر لدعائم الإسلام بقوة السلاح في تلك البلاد، إنما تمخّض عنها أن طائفة من سكان المدن الذين لم يسلموا قبل الحملة المرابطية اعتنقوا الإسلام".
مراكز انطلاق وقوافل تجارية
ولعل ما يكشف عدم استخدام قوة السلاح في ترسيخ الإسلام في بلاد "السودان الغربي"، هو وجود بيئة مُستقبِلة للدين الإسلامي، من خلال الاحتكاك السابق بين التجار المسلمين وسكان غربي إفريقيا، مع ما تضافر من جهود شيوخ سيّاح قادمين من الشمال الإفريقي رفقة القوافل التجارية.
ويرى بشار أكرم جميل الملاح، في كتابه "تاريخ الإسلام في أفريقيا"، أن: "دور التاجر المسلم القادم من المغرب قد بدا واضحًا في عملية نشر الإسلام في السودان الغربي كما في غيرها من المناطق الإفريقية. وشكّل هؤلاء بمرور الزمن جاليات إسلامية عملت على ربط المنطقة بمدن المغرب الإسلامي، من خلال وجودهم في المدن الواقعة على حدود بلاد السودان".
لهذا، احتفظ لنا التاريخ بأسماء مراكز تجارية مهمة تقع على الطرف الشمالي من الصحراء الكبرى، كانت منطلقًا لا محيد عنه لعدد من القوافل التجارية المحملة بأنواع مختلفة ومتنوعة من البضائع الأساسية، وبعضها كانت تحطُّه سفن أوروبية بموانئ المغرب المتوسطية والأطلسية.
ويلفت جميل الملاح أن: "مدينة سجلماسة (مغربية تجارية تاريخية)، لعبت الدور نفسه الذي لعبته أودغست (مدينة تاريخية مغربية)، لكونها حلقة وصل بين بلاد السودان وبلاد المغرب التي مرّ من خلالها التجار المسلمون إلى المنطقة. ومن الجدير بالذكر أن نشاط التجار المسلمين قد امتد إلى داخل بلاد السودان ليصل إلى السودان الغربي".
وأشار الإخباريون المغاربة، على غرار الناصري صاحب "الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى"، إلى أن هؤلاء التجار المسلمين المغاربة كانوا يَسيرون في قوافلهم إلى بلدان غرب إفريقيا، ويقطعون المسافة في ثلاثة أشهر ذهابًا، وفي شهر ونصف إيابًا. نتج عن ذلك احتكاك بين هؤلاء التجار وأهالي تلك البلاد والاختلاط بهم، وحدث تزاوج مع العديد من الأسر المحلية في المنطقة.
شكلت هذه التطورات، المُمهّدة حينها، آلية أساسية في التبادل الثقافي بين ضفتين تفصلهما فيافي وقفار. وقد تم بذلك إغناء الرصيد الروحي بينهما، بالنظر إلى أن العديد من الأسر الحاكمة في إفريقيا كانت لها علاقات وصلات وثيقة مع علماء وفقهاء وشيوخ الصوفية المغاربة، مما مكنها من القيام بدور بالغ الأهمية في المنطقة.
المالكية والأشعرية والتصوّف
يتضح أن المغاربة قاموا بدايةً بدور الوسيط الذي نقل رسالة الإسلام إلى أهل السودان الغربي، كما اضطلعوا بدور آخر تمثّل في رعاية الإسلام في تلك الديار بحكم القرب والجِوار وحماية ظهره والدفاع عن وجوده، والعمل على ترسيخ جذوره وتثبيت دعائمه وتصريح مسيرته باستمرار.
ويرى الباحث عبد العلي الودغيري أن: "مظاهر الحضور الدائم والتأثير المغربي القوي، تتجلى في الطابع المذهبي الذي انتشر في إفريقيا الغربية وظل قائمًا على حاله إلى يوم الناس هذا. فالإسلام في هذه المنطقة إسلام سني على مذهب الإمام مالك (...)، وعلى العقيدة التوحيدية السلفية إلى عصر المرابطين، والعقيدة الأشعرية ابتداء من عصر المُوَحّدين".
هذه العقيدة وهذا المذهب الفقهي، تمكّنا من الانتشار في دول غرب إفريقيا، لما يميزهما من اعتدال ومرونة وواقعية، إذ لم يصطدما مع التقاليد الروحية الأخرى في تلك البلدان، بل رُوعي في نقل هذا "التدين المغربي" الحرص الشديد على صون المعتقدات الشعبية والممارسات الثقافية المحلية.
ويشير الودغير، في مُؤلَّفِه المُشار إليه سابقًا، إلى أنه: "حتى الفرق والمذاهب الصوفية التي انتشرت هنالك كانت فرقا سُنية مُعتدلة كالسّنوسية والزرّوقية والقادرية والتيجانية"، مضيفًا أن تأثير هذه الطرق الصوفية: "قوي جدًا ما يزال فاعلًا وحاضرًا في كافة الطبقات والشرائح الاجتماعية على اختلافها".
يشير هذا الأمر إلى أن الإفريقي ينجذب بشدة للطرق الصوفية، إذ إن الالتفاف حول الشيخ والالتفاف حول حلقات الذكر يملأ الفراغ الروحي عند الإفريقي، ويحتل جزءًا مهمًا من وقت فراغهم، وخصوصًا في المساء، مع ما يرافق ذلك من إنشاد ديني وحركات إيقاعية في الذكر تستهوي سكان غرب إفريقيا الذين تعودوا التعبير بالرقص في أوجه حياتهم بما فيها الدينية.
التيجانية والقادرية والمريدية
وعلى أسس وخصوصيات الوسطية والاعتدال، وقبول الاختلاف، والتعايش، والتسامح، تمكن التصوّف المغربي: "من التغلغل بشكل سلس في مجتمعات السودان الغربي، مع تأثير هذا التصوف على جميع مناحي الحياة داخل بلاد السودان، حيث ظهرت عدد من الزوايا كان لها دور بارز في خدمة الدين والمجتمع"، وفق الباحث طارق بوكطب، في مقاله "التصوف المغربي في غرب إفريقيا: الامتداد والتأثير".
يقول الباحث إن: "هذا التأثير بلغ مداه لدرجة ارتبط فيها السودانيين بشكل وثيق بالزوايا داخل المغرب من خلال تبادل الزيارات الروحية والعلمية (...) ولنا في ضريح الشيخ أحمد التيجاني دفين فاس، مثالًا على عمق الارتباط الروحي بين المريدين السودانيين وأشياخهم بالمغرب".
وتبدو الطريقة القادرية وكأنها أم الطرق الصوفية في بلدان غرب إفريقيا، وهي تنسب إلى أبي صالح عبد القادر الجيلاني. فهذه الطريقة، وإن كان منشأها مشرقيًا، إلا أنها تكيّفت واصطبغت بالصبغة المغربية منذ أن دخلت إلى المغرب في القرن السادس الهجري (12 الميلادي) على يد الشيخ أبي مَدين شُعيب الغَوث في الجزائر، وأخذت بعض فروعها أسماء مغربية.
لكن القادرية عرفت تراجعًا في عدد الأتباع مع وصول التيجانية إلى غرب إفريقيا، إذ أثارت حماسًا دينيًا منقطع النظير في المنطقة، وهي تنسب إلى مؤسسها الشيخ أحمد التيجاني الذي توفي عام 1815 ميلادي في فاس ودُفن بزاويته في أحد دروب المدينة القديمة للعاصمة الروحية للمغرب.
ولم تشعّ هذه الطريقة كل الإشعاع بمنطقة السودان الغربي إلا حينما تقلّد زعامتها الحاج عمر الفونتي (توفي عام 1864 ميلادي)، الذي كان أبوه من المرابطين. يوضح الباحث عبد الله سالم بازينة أن الطريقة التيجانية: "قامت على أساليب القادرية في الدعوة، وساعدت كثرة مدارسها على نشر تعاليمهم التي كانت متأثرة بتعاليم القادرية والمرابطين الذين نشروا تعاليمهم بين القبائل الوثنية حول نهر النيجر الأعلى والسودان".
أضاف بازينة، في كتابه "انتشار الإسلام في إفريقيا جنوب الصحراء"، أنه: "عندما كثر أتباع الحاج عمر، نظر إليه الناس بوصفه مهديًا منتظرًا جديدًا، وفي سنة 1841م بلغ الحاج عمر جبال (فوتا جالون) وبدأ سلسلة من الحملات لنشر تعاليم التيجانية بين القبائل التي كانت لا تزال على الوثنية، والتي كانت تقيم حول النيجر الأعلى والسنغال".
وتطورت أيضًا في بلدان غرب إفريقيا، خصوصًا في السنغال حاليًا، الطريقة المريدية في القرن 20 (أسسها الشيخ أحمد بامبا توفي عام 1967 ميلادي)، ويعتقد البعض أنها امتداد للقادرية معتمدين على العلاقات الوثيقة التي ربطت بين الشيح بامبا والشيخ سيدي بابا. ويرى صاحب كتاب "المسلمون في السنغال"، أن هذه الطريقة الصوفية: "استهوت أخيرًا عددًا من الشباب الذي وجد فيها نوعًا من الوطنية باعتبار زعيمها ابنًا للسنغال، ولتساهلها في ممارسة شعائر الدين".