لا تندهش إن سألك أحدٌ يومًا: ما رائحة صوتك؟ لأن الصوت له رائحة. فإذا كان صوتك ناعمًا ستكون رائحته زهرية، وإن كان منخفضًا قد تكون خشبية. هذا ما استوقفني خلال قراءة كتاب "العطر والصوت: لقاء غير متوقع"، لمؤلفته المؤرخة الفرنسية وعالمة الأنثروبولوجيا المتخصصة في الروائح والعطور، آنيك جرير.
يكشف الكتاب عن توافق بين النوتات الشمية والموسيقية، وهو اكتشاف وصل إليه علم الأعصاب الحديث، وتصفه جرير في مقابلة صحفية بأنه "عالم جديد ينفتح ويُطلق العنان لخيال جديد"، حيث إن الصوت والموسيقى هما من مصادر الإبداع لدى صانعي العطور، الذين يبدعون عطورًا تلهم بدورها مؤلفي الموسيقى. فالصوت، مثل العطر، ينتشر في الهواء و"ينقل النغمات الموسيقية والرائحة ويجلبها إلى القلب"، كما تقول المؤرخة الفرنسية.
وفقًا لهذا الحديث، أخذت العطور العلاجية في استعادة مكانتها مجددًا، إذ بدا من الملاحظ مؤخرًا عودة الإقبال على التداوي بالروائح والأعشاب، واعتمادها في العديد من المستشفيات لعلاج الأمراض الجلدية وغيرها، حتى إن العطور قد تُستخدم في غرف العمليات، وهذا ما أشار إليه قبل قرون كتاب "طِيب العروس وريحان النفوس في صناعة العطور" لأبي عبد الله التميمي (المتوفى عام 1000 للميلاد).
يعد هذا الكتاب من أبرز المصادر في الصناعات الكيميائية لدى العرب، وواحدًا من أهم المؤلفات في مجال العلاج بالعطور، ما يبرز معرفة علماء الحضارة العربية والإسلامية بهذا النوع من التداوي، وأنهم كانوا مثلًا يصفون الاستحمام بماء الورد لمن لديه صداع مزمن، وزيت الريحان لإراحة العضلات وتهدئة الأعصاب، فيما كان المسك يستخدم في تقوية القلب والأعصاب، كما رأى أطباء ذلك العصر.
العطر عند العرب
بعد قراءة كتاب "العطر عند العرب" لمؤلفه قيس كاظم الجنابي، نستنتج أن العرب كانت تعد الطيب جزءًا من حالة الفرح، وتربط التخلي عنه بحالة الحزن. كما أن العربي في العصر الجاهلي كان يحلف بألا يمسّ طيبًا حتى يأخذ بثأره، كمثل قسم دُريد بن الصمة القشيري بـ"ألا يكتحل ولا يدهن ولا يمسّ طيبًا، ولا يأكل لحمًا، ولا يشرب خمرًا، حتى يدرك ثأره".
وتقرن العرب الطيب بالتجارة، فسمّوا الطيب "لطيمة"، بحيث أصبح له تاريخه ورموزه المتعددة التي تجعل منه مادة ثمينة. وفي كتابه "حانوت عطار"، فرّق ابن شهيد الأندلسي بين عدد من أصناف العطر، من بينها: المسك، والعود، والعنبر، والصندل، والسنبل، والقرنفل، والقسط، والغوالي، والندود، والرامك، والأدهان. ذلك أن الملوك في الماضي كانوا يُضمّخون أجسادهم ورؤوسهم بالطيب حتى كان يقطر منها، ولم يكن غريبًا إطلاق اسم "الغالية" على نوع من العطور، وهو يحتوي على تركيبة نَفيسة ونادرة من الأطياب، وهي العود والمسك والعنبر والدهن. حتى إن عائشة رضي الله عنها قالت "كنت أغلّف لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغالية".
واشتُهر الخلفاء الأمويون، كما أورد الجنابي في كتابه، بالاهتمام بالعطر منذ عهد معاوية بن أبي سفيان، الذي قال "وأما الطِيب فقد دخل خياشيمي منه حتى ما أدري أيه أطيب". وعُرف الخليفة عمر بن عبد العزيز بكثرة التطيب، حتى روى بعض الرواة حكاية تقول "كنا نعطي الغسّال الدراهم الكثيرة حتى يَغسل ثيابنا، في أثر ثياب عمر بن عبد العزيز من كثرة الطِيب فيها، أي المسك".
وألقت حالة الترف ونزعة التأنق بظلالها في ذلك العهد، حتى إن هشام بن عبد الملك لما تولّى الخلافة كان بين يديه صفحة من ذهب مملوءة بمسك مذابٍ بماء ورد، وكان يقلّبه بيده فتفوح رائحته، وله نوع من الغالية سمي باسمه، واهتم مؤرخو العطر بتركيبتها.
وفي ذلك العصر أيضًا، ظهرت الكتابة عن أصناف العطر، لكنها أصبحت أكثر انتشارًا في زمن العباسيين، مع انتشار النقوش والكتابات على الملابس. وقد اشتملت الكتابة بالعطر على شعر الغزل وأسماء الأشخاص والعبارات الرقيقة، لاستمالة القلوب ولفت الأنظار. وبمعنى آخر، أصبحت الكتابة بالعطر تعبيرًا عن ثقافة مجتمع، وحضارة مضمّخة بالطيب وأنواع العطور. وظهرت في ذلك العصر مهنة العطار، وعُرف في بغداد سوق العطارين، وأصبح الخلفاء يكلّفون صُناع العطر بطلبات خاصة، حتى شَاع ضرب من الحلي يُصاغ مجوفًا ليُحشى بالطيب، تضعه المرأة في القلائد ويسمى "الكبيسي".
وجئتك من سبأ بنبأ يقين
ربما من النادر أن نصادف في أيامنا هذه عطرًا عربيًا مرتبطًا بالتاريخ، وينطلق من مشروع توثيقي في جوهره، ثم ما لبث أن تحوّل إلى علامة تجارية عالمية "غنية بالمعاني" كما وصفه أحد المواقع الغربية، بعد أن حقق نجاحات لافتة.
كانت تلك المرة الأولى التي أسمع فيها عن عطر مستوحى من اليمن وتاريخه، ويحمل اسم "سبأ"، ويرتبط بقصة الملكة بلقيس والنبي سليمان، وتعاون على صنعه 30 من كبار العطارين الأجانب، إضافةً إلى ثلاثة عرب معروفين، أحدهم صاحب العلامة التجارية نفسها، حبيب السويدي، عملوا على أن ينتج كل منهم عطرًا يمثل رؤيته، معتمدًا على مواد عطرية أساسية متصلة بروح البيئة اليمنية.
تخيلت نفسي شاهدًا على اللقاء بين ملكة سبأ والنبي سليمان، وقد ألهمني ذلك لخلق حوار فاخر بين الأخشاب والتوابل.
العطار Bruno Jovanovic
في لقائي بالعطار اليمني وصانع "سبأ"، حبيب السويدي، بدأ حديثنا حول ما تتطلبه مهنة العطار، فقال: "إنها تستوجب من صاحبها بالدرجة الأولى أن يكون لديه موهبة شميّة، ويتميز بحساسية مرهفة في أنفه، وأن يدرس الكيمياء، بحيث يستطيع التمييز بين المواد، تحديدًا المركبات الكيميائية العطرية المتعددة، لأن الأمر يتعدى التمييز بين روائح الفل والياسمين والورد". وأشار إلى أنه ثمة معاهد متخصصة في هذا المجال، خاصةً في فرنسا، لكن حتى بعد التخرج منها، فإن ذلك لا يضمن للمرء أن يصبح عطارًا.
قبل انطلاق المشروع، كان السويدي على اطلاع محدود فيما يتعلق برحلة صناعة البخور واستخراج المواد العطرية الصمغية كاللبان والمر، التي كانت منتشرة في مملكة سبأ، والتي امتدت لباقي الجزيرة العربية، لليمن وعُمان وأجزاء كبيرة من السعودية وقطر والإمارات، حيث منابع استخراج المواد الأولية العطرية. في البداية، لم يكن بحوزة السويدي أي وثائق للرحلة التي انطلقت قبل آلاف السنين من سبأ لتقديم الهدايا للنبي سليمان.
ومن الواضح أن شغف حبيب السويدي بحضارة سبأ هو ما دفعه إلى بذل هذه الجهود لإنتاج "عطر سبأ"، وكذلك دهشته من حكمة الملكة بلقيس، التي فضلت مهاداة النبي سليمان بمواد عطرية تفوق قيمة ذهب وألماس ذلك العصر، وهو ما صرّح به مبتسمًا: "كنت أعتقد أن الهدايا التي قدمتها ملكة سبأ تتمثل في الجواري والعبيد والمجوهرات، لكن تبيّن أن هداياها اعتمدت على العطور، وهذه رسالة السلام وحب الحياة، وقد تناولت الكتب اليهودية هذا الجانب لاحقًا".
وأضاف: "رجاحة عقل ملكة سبأ هي التي ألهمتنا، وقرأنا في الكتاب الكريم قصتها، وما كانت عليه من عظمة وازدهار اقتصادي، لقد كانت سيدة البخور والعطور، وعندما أرسلت الطيوب والبخور لنبي الله سليمان في بداية الألف الأول قبل الميلاد، تجلّت حكمتها لتكون رسالة سلام ومحبة، تحولّت فيما بعد إلى إيمان وتصديق بسيدنا سليمان ورسالته. وبهذا، جنّبت قومها وأرضها الحرب والهلاك".
ولم يكن دافع العطارين الدوليين الذين شاركوا في صناعة "سبأ"، وفق السويدي، الربح وإنما الرغبة في إبراز دور مملكة سبأ في السلام، إدراكًا منهم بأنها مهد صناعة العطور والحكمة، ما يفسر رغبة عدد من العطارين الآخرين في الانضمام إلى المشروع، إذ إن "جُلّ المواطنين البسطاء في أوروبا، بخلاف السياسيين، يتوقون للغة السلام"، هكذا يختصر السويدي فلسفة عطره.
وحتى اللحظة، تنافس جميع المشاركين في صنع "سبأ" من أجل إخراج 21 عطرًا إلى السوق، كلٌ منها يختلف تمامًا عن الآخر، بالرغم من أنها تعتمد في أغلبها على نفس التركيبة العطرية، فقد وظّف كل عطار منهم مهاراته حتى يصنع باقة مبهجة على ذوق أنفه.
والمفارقة أنه قبل فترة ليست ببعيدة، دعت جهات رسمية في الغرب إلى حذف مصطلح "العطور الشرقية"، وهنا برز موقف المؤرخة الفرنسية آنيك جرير، وهي بالمناسبة مستشارة في مشروع "عطر سبأ"، إذ حسمت الأمر بقولها "إذا انتقدنا "المصطلح الشرقي" فقد لا نتحدث بعد الآن عن العطور، هذا انتقاد لا معنى له، صناعة العطور ولدت في الشرق الأوسط، وبتر المصطلح الشرقي بمثابة عار".
في المقابل، حسب ما يؤكد حبيب السويدي، فإنه "لدى الأوروبيين اليوم اهتمام بالغ بالنكهة الشرقية التي فرضت نفسها على مجتمعهم، حتى أنهم جميعًا يتسابقون لابتداع عطور شرقية، وما زال هذا (الترند) قائمًا، ما لم يتغير في مرحلة لاحقة". مضيفًا أن "العادة تفرض حدوث عملية تغيير كل عشر سنوات ، لكن الابتعاد عن رائحة الشرق حاليًا ليس واردًا".
اليمن، جنّة العطور!
وقبل البدء في مشروعه، كان السويدي يعتقد أن المواد العطرية في اليمن تقتصر على عدد من الزهور، مثل الفلّ والليمون، لكنه ذُهل حين عَرف أن بلده تزخر بنحو 3500 نبتة عطرية أو دوائية، وفق ما ذكره الدكتور عبد الرحمن الدبعي في كتاب "النباتات العطرية والطبية في اليمن".
لكن في هذه النقطة، ثمة هاجس ما يؤرق العطار اليمني، وهو أن هذه العطور تعتمد في عدد كبير منها على الزراعة، وأن المُزارع في اليمن، بحكم أولوية الدخل، أصبح يعرض عن زراعة هذه النباتات العطرية، ويتجه نحو الدخل السريع الذي توفره له "آفة القات". ما جعل الشعب اليمني، بحسب السويدي "متأخرًا لفترة طويلة عن المجتمعات الأخرى". ويضيف: "بينما المزارع في تهامة الذي يزرع الفل، لو أُعطي ألف نوع من القات حتى يزرعه سيرفض، لأن دخله من الفل أفضل، كما أنه تعوّد عليه".
ومن وجهة نظره، فإن العطر هو نوع من أنواع الفنون، تمامًا كعزف الموسيقى والشَعر، وهذا ما دعاه إلى التعاون مع الفنان محمد عبده في إطلاق أغنيات تتخذ أسماء عطوره السابقة، مثل "مذهلة". وهو ما يوضحه بالقول: "التركيبة العطرية تخاطب حاسة الشم، والموسيقى تخاطب حاسة السمع، وكلاهما طريقة للتعبير عن المشاعر".
تتجسد الإثارة والجمال والقوة في سحابة من البخور تكريمًا لنبل المواد الخام في تلك الفترة، البخور هو عماد عالم الملكة السحري الفخم، ببعده الغامض والروحي.
العطارة Honorine Blanc
يخبرني السويدي أن أغلى وأجود مادتين عطريتين في العالم هما جذور زهرة السوسن في الأردن، والورد الطائفي في السعودية، علمًا أن عطر سبأ احتوى على السوسن، والورد العماني وليس الطائفي، لأن الأخير يناسب الطبيعة التاريخية أكثر كما يقول. واعتمد عطر سبأ في الأساس على المواد العطرية الأولية الموجودة في اليمن وعُمان، كما دخلت في تركيبته عطور أخرى جُلبت من الحبشة، وجزر القمر، ومصر، وتونس، والمغرب.
وبالبحث في الشق التاريخي، كانت حضارة سبأ، وفق السويدي، واحدة من خمس حضارات يمنية قديمة، بلغت أوج ازدهارها في الألف الأول قبل الميلاد، ولعبت دورًا مشرقًا في التاريخ العربي القديم. وقد تحدّث اليونانيون والرومان قديمًا بإعجاب عن بخور وطيوب سبأ، لدرجة أنهم وصفوا سكانها بأنهم من أثرى شعوب العالم، وأنهم يأكلون في أوعية من الذهب، ويسكنون بيوت فارهة، ولهذا حاولت روما السيطرة على تلك البلاد، وتوجهت بحملة كبيرة للسيطرة عليها، لكنها انتهت بالفشل.
وقد عُرف عن اليمنيين قديمًا، من سكان سبأ ومعين وقتبان وحضرموت وأوسان، وهي مناطق مشهورة بأشجار البخور والطيوب إلى يومنا هذا، أنهم تجار عملوا على نقل طيوبهم ولِبانهم إلى العوالم الأخرى في شرق الجزيرة العربية وشمالها، وصولًا لبلاد الرافدين والشام ومصر واليونان وقبرص وغيرها. وأوضحت حفريات أثرية حديثة في بلاد الحبشة، أن السبئيين أقاموا هناك حضارة راقية لعوامل عدة، أهمها اتخاذهم تلك الأرض كقاعدة لإطلاق صادراتهم من عطور نحو مصر وإفريقيا.
وكانت رحلة البخور اليمنية تمر بمحطات عدة، إذ تبدأ من حضرموت مرورًا بأرض قتبان، ثم أرض سبأ، وواحة مأرب ثم إلى نجران، ومنها ينقسم الطريق إلى فرعين، يتجه الزول إلى شرق الجزيرة العربية، ونجد ثم العراق، وبلاد فارس. فيما يتجه الآخر إلى شمال غرب الجزيرة العربية، ثم مدينة البتراء في الأردن، ومن بعدها إلى بلاد الشام وتحديدًا مدينة غزة على البحر المتوسط. وهكذا، كان ذلك الطريق التجاري العظيم، وما ينقله السبئيون بواسطته من عطور وبخور ولبان وتوابل، عصب التجارة العربية القديمة نحو العالم.
حفظت الآثار والنقوش السبئية قصصًا عن تلك الطيوب ورحلات البخور، كما عُثر في اليمن على وثائق نقشية مهمة تؤرخ لتلك الرحلات، إضافةً إلى مجامر وقوارير لأنواع البخور والطيوب، إلا أنه لم يُعثر على شيء ملموس بخصوص عملية تحويل المواد الصلبة إلى سائلة أو مذابة لتُستخدم في العطور.
ومن أهم ما عُثر عليه أخيرًا في مدن وادي الجوف باليمن، نقش سبئي مدون على لوح من البرونز، كتبه قائد وتاجر، يقول فيه إنه خرج في حملات تجارية عدة، ومن أبرزها رحلاته صوب شمال الجزيرة العربية، إلى بلاد الشام والعراق واليونان ومصر في القرن السادس قبل الميلاد، بهدف تصدير مختلف الروائح العطرية التي كانت تحظى بأهمية وطلب كبير لدى رجال الدولة والكّهان، حيث كان يُحرق ويُقدم الكثير منها للمعبودات القديمة.
كما أن كثيرًا من الشواهد تثبت أن السبئيين والمعينيين كانت لهم جاليات تجارية، في بلدان العالم القديم، تقيم فيها بهدف تصدير البخور والطيوب السبئية لشعوب تلك الحضارات، ومنها الجالية المعينية في بلاد مصر التي كان يرأسها التاجر المعيني الشهير "زيد إيل"، الذي ورّد تلك البضائع إلى معابد مصر وملوكها في القرن الثالث قبل الميلاد، ودُفن عندما تُوفي في مقابر ملوك مصر، وعلى طريقة دفنهم؛ أي بتحنيطه في تابوت وكتابة نقوش تخلّد تاريخ التاجر الحافل وما كان يورده من طيوب وبخور.
وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ
سورة النمل.
وفي خضم عملي على هذا المقال، كان لا بد ألا أفوّت الحديث مع د. محمد الحاج، الباحث اليمني المختص في الكتابات العربية القديمة، والذي كان ركنًا أساسيًا في المشروع التوثيقي لعطر سبأ. وحين عرف أنني من غزة، ألقى في جعبتي المعلومة الأولى، وهي أن غزة كانت منتهى رحلات تجار سبأ المحملين بعطور اليمن وبخورها، وقد ذكروها في نقوشهم باسم "غ ز ت".
ويعتبر الحاج أن بعض مناطق جنوب الجزيرة العربية كانت محظوظة بالمواد العطرية، والمتمثلة في أشجار اللبان والبخور. وهذه المناطق تحديدًا تمتعت بالبيئة النباتية، حيث أشجار الفل والكادي والريحان والزهور، وأشجار أخرى ذات روائح زكية. وقد أدرك سكان اليمن القديم أهمية هذه النباتات، فتزينوا بها، وتاجروا ببعضٍ منها، وصدّروا مختلف أنواع البخور والطيوب إلى حضارات الشرق الأدنى القديم، وحتى لبلاد اليونان والرومان.
ووفق كلامه، أتت نقوش سبئية وقتبانية ومعينية وحضرمية عدة، على ذكر أسماء عدد من أنواع البخور والمواد العطرية، التي كانت تُستخلص من أشجار حضرموت وسقطرى وعُمان، واستخدمها سكان اليمن القديم. وقد دُوّنت تلك الأسماء على أنواع مختلفة من المجامر الحجرية، ومنها: الحذك، واللادن، والقسط، والقليمة، والطيب، وغيرها. وكان اليمني ينظر إلى تلك المواد العطرية نظرة مقدسة، وهي بالمناسبة نظرة عمّت مجمل حضارات العالم آنذاك، بحسب حديث الحاج، لما لها من أهمية في تقديم النذور والقرابين للمعابد، والأماكن المقدسة التي تسكنها المعبودات. وقد لفتت تلك النباتات العطرية والطبية انتباه المؤرخين اليونان والرومان قديمًا، فتحدثوا عنها، ووصفوا مناطق نموها وطرق جمعها.
وإلى الآن، لم تفصح النقوش اليمنية القديمة عن طريقة تصنيع الطيوب وتحضيرها ومزجها، لكن عُثر على عدد من القوارير الزجاجية الشفافة التي اُستخدمت في حفظ العطور، وصُنعت بتقنية فذة تعكس اهتمام اليمنيين القدماء وسكان الجزيرة العربية بحفظ تلك المواد. وقد فطنوا أيضًا إلى أهميتها في التداوي، فاستخدموها لأغراض علاجية مختلفة.
كما أن الدلائل الأثرية تشير إلى أن اليمنيين القدماء استخدموا تلك المواد العطرية إلى جانب مواد أخرى، مثل شجر الأكاسيا والراء في التحنيط لحفظ جثث المتوفي، بدليل ما عثر عليه في المومياوات في مناطق مختلفة من اليمن، والموجود بعضها في قسم الآثار في جامعة صنعاء.
وبالعودة إلى عطر "سبأ"، بدا محمد سعيدًا بالتعاون مع حبيب السويدي لسنوات من أجل إنجاز ذلك المشروع، وإحياء الذاكرة اليمنية القديمة فيما يتعلّق بتاريخ العطور والبخور، وقد تَرجم بدوره بعض النصوص التي تطلّب وضعها على منتجاته العطرية إلى اللغة السبئية.
ولاحقًا، اقترح الحاج على السويدي تأصيل فكرة العطور السبئية، وجعلها جزءًا من هوية محله في باريس، بكتابة أسماء العطور والروائح التي وردت في النقوش السبئية والقتبانية والمعينية والحضرمية في لوحات تزيّن المحل، ووضع صور لمختلف القطع الأثرية والنقشية "الحجرية والبرونزية" التي تحكي عن تاريخ العصور السبئية منذ عصور ما قبل الميلاد.
وهكذا، قدر المستطاع، حاول المشاركون في هذا العطر أن يجسدوا ما وصفه العطار موريس روسيل بالقول "تحكي الأسطورة أن ملكة كانت تترك رائحة رائعة في أعقابها أينما ذهبت، وكانت مشرقة وذكية وغامضة وقوية، هذه هي هالتها التي اُلتقطت في زجاجة".