لا نكاد نفتح كتابًا حول الضحك والنكتة إلا ونجد كاتبه يقول في تقديمه إن هذا الموضوع لا يزال يفتقر إلى دراسات معمقة، وإن القليل من الدارسين والمفكرين تطرّقوا إليه مسبقًا، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عن السبب، وعما إذا كان الإنسان قد راكم فعلًا النكات والنوادر والمسلسلات الهزلية، بينما فاته أن يدرسها بالاهتمام نفسه الذي أولاه لظواهر نفسية واجتماعية أخرى، وعما إذا كان السبب يكمن في مقولة أن التفكير في النكتة يؤدي إلى قتلها.
تشغل الفكرة النظرية والعملية مجالين مختلفين. فكما أن المعرفة التشريحية بالأمعاء الغليظة لا تشكل أي عائق أمام الاستمتاع بالوجبة، وكما يعيش أطباء النساء حياة زوجية طبيعية، ويشعر أطباء التوليد بالدهشة أمام الأطفال الرضّع، يواجه علماء الفلك أيضًا، كل يوم، حقيقة أن الأرض لا تشكّل سوى جزءًا ضئيلًا من الكون، ولا يؤدي هذا إلى وقوعهم في براثن الاكتئاب ولا يقفزون من أعلى جرف، أو على الأقل لا يقومون بهذه الأفعال لهذا السبب (تيري إيغلتون، كتاب "فلسفة الفكاهة").
إذن، لا يمكن اعتبار فكرة نقص الدراسات عن الضحك والفكاهة دقيقة تمامًا، إذ إن كمًا محترمًا منها ظهر على مدى تطور تاريخ الأفكار، وما زال يظهر كل فترة، غير أن ما يُعاب على هذه البحوث تحديدًا هو النوع وليس الكم، الأمر الذي يمكن إعادته إلى مسألة تفتت جوهر الضحك وضياعه بين التخصصات، العلمي منها وشبه العلمي والأدبي، إذ من الممكن أن تكون كثرة الزوايا التي تناول منها الباحثون الموضوع قد أدت إلى تحميله أكثر من طاقته.
ما معنى أن نضحك، وكيف تنشأ النكتة؟
تناول الفلاسفة القدامى الضحك والكوميديا من منظور أخلاقي، فثمنوه أو قللوا من شأنه كلٌ حسب مشروعه الفكري والسياسي. فالضحك والإضحاك عند أفلاطون هو فعل هدام من شأنه أن يضر بالدولة، إذ إنه في اعتقاده قادر على: "تخريب الوضع الراهن وإفساده بكفاءة عالية وتحويل خطوط الدفاع القوية للسلطة إلى مجرد أبنية هشة من القش" (شاكر عبد الحميد، كتاب "الفكاهة والضحك رؤية جديدة").
أما عند أرسطو، فتحتل الكوميديا مرتبة هامة في سلّم الفنون، إلى جانب التراجيديا والرسم. بينما يعبّر الضحك عند ديوجين الكلبي عن أسلوب حياة مضاد للتعقيدات والقوانين المزيفة، وفعل انعتاقٍ وتماهٍ مع الطبيعة.
ولعل أكثر نظريات الضحك التي تبناها الفلاسفة هي نظرية "التوقع" (يختلف الاسم طبعًا من فيلسوف إلى آخر، لكنها تظل في الإطار العام نفسه)، والمقصود منها أن الضحك يأتي كنتيجة لتوقّعنا حصول شيء أو صدور قول عن أحدهم، ثم نفاجأ بعدم وقوع ذلك. وقد عُرف إيمانويل كانط أكثر من غيره بنظرية "اللاشيء" (nothing theory) أو الرجاء الخائب، حيث يحل اللاشيء محل انتظارنا لمسار الحكاية، ثم جاءت نظرية شوبنهاور للمفارقة المنتجة للضحك بمثابة تفصيل لرؤية كانط .
وكل بحث في الضحك والكوميديا لا بد أن يتضمن إشارة ما إلى كتاب الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون "الضحك: في معنى الهزل"، الذي يدرس عن كثب ظاهرة التصلب (mechanization) في الفكر والجسد والطبع بوصفه خطرًا يؤدي إلى الجنون أو عدم التأقلم والشقاء والجريمة، كما يدعو من ناحية أخرى على الضحك والفكاهة (أي التعامل الميكانيكي مع حالات مختلفة بنفس الأسلوب)، فيرى برغسون أن المجتمع: "يتشكك من كل الميول الخاصة التي تسير في اتجاه التصلب والجمود، ومن أجله ابتكرت المجتمعات تلك العلامات الاجتماعية الخاصة المسماة الضحك، كي تخدمه بوصفها أداته التصحيحية الخاصة لكل أنواع الانحرافات المضادة للمجتمع" (الفكاهة والضحك رؤية جديدة).
ولننتقل إلى مستوى آخر من القضية. نحن الآن في مدرسة للبنات تابعة لإرسالية تبشيرية ببلدة كيشاشا في تنزانيا، والتاريخ هو كانون الثاني/يناير 1962. كانت هنالك ثلاث طالبات يتمشين سوية في الفسحة، ويضحكن بصوت عال، ولهذا قام بعض الإداريين بتوبيخهن لسلوكهن غير المقبول. غير أن الحالة انتقلت إلى بنات أخريات في الصف والمدرسة. وما هي إلا ساعات حتى صار المئات من الطالبات يضحكن باستمرار بلا توقف، بينما وقف المدرسون وموظفو المدرسة مشدوهين متسائلين عن سبب ضحك الطالبات. استمرت نوبات الضحك لساعات طويلة، واضطرت إدارة المدرسة في النهاية إلى إغلاق أبوابها لمدة أسبوعين.
كانت النتيجة النهائية أن 14 مدرسة في بلدات متقاربة أصيبت بالوباء ذاته، وأكثر من ألف طالبة تأثرن بهذه الهستيريا التي تراوحت أعراضها بين الضحك لساعات طويلة والانتقال إلى البكاء أو الصراخ غير المفهومين. واشتُهِرت هذه الحادثة في العالم إلى حد أن الصحافة الدولية تطرّقت لها. لكن هل من تفسير لهذه الحادثة التي تبقى غريبة حتى وإن كان كل واحد منا قد وجد نفسه، ولو مرة واحدة، في موقف مشابه من عدم القدرة على التوقف عن الضحك؟
لعلماء النفس العديد من الاتجاهات في تحليل النزوع الإنساني نحو الضحك والهزل، إذ يرى التطوّريون منهم يرون أن الفكاهة واحدة من الأدوات الاتصالية التي طوّرها الإنسان لغايات تزاوجية، حيث تميل الإناث مثلًا إلى اختيار شريك ذي حس فكاهي عال كدليل على مورثات جيدة (أي مؤشر لياقة) تدل على الإبداع وعلى تميّز مهارات معرفية (دافيد باس كتاب "علم النفس التطوري"). ويرى جيمس سيلي، عالم النفس البريطاني دارويني التوجه، أن الضحك مرتبط باللعب، وعرفت نظريته بمزاج اللعب (Mood play)، التي يفسر بها انطلاق الأطفال والحيوانات الصغيرة إلى اللعب بحيوية وحماس بعد عتقهم من قيد ما.
في المقابل، وعلى العكس منه، أنكر مواطنه وليم ماكدوغال أن يكون الضحك تعبيرًا عن اللذة، بل اعتبر أن كل المواقف المثيرة للضحك هي مواقف غير سارّة، لكنها ستتسبب بدرجات متزايدة من الضيق والضرر لو لم يتم الضحك منها. ولعل هذا التفسير هو الأقرب إلى فهم ظاهرة المدرسة التبشيرية التنزانية، إذ خلص العديد من الباحثين الذين تناولوا هذه الحادثة إلى أنها كانت من الحالات المتأثرة بوجود حث جماعي يدفعها. فقد حصلت تنزانيا على استقلالها عام 1962، وكان يُتوقع من الطالبات تحقيق إنجازات عالية، سواء من قبل الأهالي أو من قبل أساتذتهن، ولهذا فقد كن تحت مظلة شد نسبي جماعي التأثير (هيرلي ودانيت وأدامز، كتاب "في جوف النكتة").
الضحك بوصفه فعلًا سياسيًا
لنبدأ الفصل بنكتة تليق به: "ما الذي يجمع بين السياسيين وحفاظات الأطفال؟ كلاهما ينبغي تغييره بصفة منتظمة، للسبب نفسه". لهذا، فإن الهزل والفكاهة من أكثر الأنشطة الإنسانية تماسًا مع السياسة، بل قد تكون الفكاهة أصلًا فعلًا سياسيًا في جوهرها، حيث تُشير الكثير من الدراسات إلى أننا حين نضحك، فنحن نعتق أنفسنا من سلطة ما، سواء كانت سلطة المواقف الجادة للحياة اليومية، أو كآلة دفاعية ضد الضغط العصبي المستمر الذي تمارسه علينا حواسنا.
الضحك إذن لحظة انفلات من سطوة يقظتنا ووعينا الجاد سواء بالناس أو حتى بالعالم أيضًا، وقد أطلق عالم النفس النمساوي إرنست كريس (من مطوري نظريات فرويد) على عملية الضحك مفهوم "النكوص في خدمة الأنا" (regression in the service of the ego). ومن أبرز الأمثلة على هذه العملية عندما نقول أشياء لا معنى لها أو لا معقولة أو عبثية، فنحن نعود إلى سعادة الطفولة ونتعامل مع الكلمات كما كنا نتعامل معها في تلك المرحلة، بحريّة تامة وبدون ضوابط لغوية أو منطقية.
يقول الروائي التشيكي - الفرنسي ميلان كونديرا في روايته "حفلة التفاهة": "أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام. لم يكن ثمة سوى مقاومة وحيدة ممكنة: ألّا نأخذه على محمل الجد".
ونقرأ أيضًا في "كتاب الأوهام" لبول أوستر: "كانت المرة الأولى التي أضحك فيها على أي شيء منذ شهر حزيران، وعندما شعرت بتلك النوبة غير المتوقعة تجيش في صدري وتبدأ تضج في أرجاء رئتي، فهمت أنني لم أصل إلى الدرك الأسفل بعد، وأنه لا زال هناك جزء مني أراد أن يستمر في العيش".
وبالتالي، أي نوع من العمل السياسي الذي ينطوي عليه فعل الضحك؟ هل هو مقاومة سلبية، منسحبة ومتخلية عن طموح الإنسان وتوقه إلى تغيير قدره، كما نفهم من مانيفاستو كونديرا؟ أم أن الضحك، على العكس، هو مقياسنا الذي نعتمده لمعرفة كم بقي من الحياة فينا، كما نفهم مما قاله أوستر؟
يصعب العثور على ما يدعم أيًا من هاتين النظريتين بصورة صريحة. فالكوميديا والضحك، كغيرهما من أنشطة الإبداع الإنساني، مرّا بمراحل الانحطاط والنهضة والتسليع. فالمهرجون والمغفلون والأقزام ومحدودبو الظهور في القرون الوسطى الأوروبية كانوا ينتمون إلى طبقة وضيعة من المجتمع تقترب من المتسوّلين، بينما نرى اليوم ممثلين هزليين ومحترفي الـ"ستاند أب" يعيشون الترف، ويترشحون كنواب برلمانات وقادة دول.
وقد لا يكون منصفًا الحديث عن دور محدد لنشاط الضحك في العلاقة مع السلطة السياسية والدينية، واختزالها إما في فكرة المقاومة لهذه السلطة، أو الاستكانة لها وتوفير ذريعة للخضوع والانسحاب من المجال العام. فالرفض اللاهوتي المسيحي تجاه الضحك عبر العصور كان سببه الخشية من طابع تحقيري من شأنه أن يسلب الكنيسة قوتها ويحد من هيبتها.
لكن هذا التضييق سار بالتوازي مع مظاهر شعبية للتنفيس عن طاقات المجتمع المكبوتة، وذلك عبر دورات من التسامح الكبير مع الطرافة والضحك، حيث كان الناس يجدون تعويضًا لوظائف الضحك: "ضمن الكرنفالات الحاشدة، والعروض وأعياد الحمقى، التي كانت تترافق مع العديد من مظاهر السخرية من الطقوس الكنسية المبالغ فيها (قداس الحمير، وتشتيت البراز بدلا من البخور، واختيار الحمقى لتمثيل دور رعاة الأبرشية ضمن الطقوس)" (في جوف النكتة).
المهرجون يسقطون الأنظمة
في التاريخ الحديث، لعب الكوميديون دورًا في هذا الاتجاه أو ذاك، في مجالس صنع القرار واللحظات الثورية، ولنا أن نذكر على سبيل المثال ما يمكن أن نطلق عليه روحًا ومزاجًا عامًا للنضال الجنوب إفريقي ضد نظام الفصل العنصري. ففي الخامس من آب/أغسطس سنة 1992، دعا نيلسون مانديلا إلى مسيرة شعبية للمطالبة بحكم الأغلبية للمواطنين السود، فلبى النداء ما يقرب من 100 ألف متظاهر في مسيرة هي الأكبر في تاريخ عاصمة البلاد، حيث اصطف الآلاف من الأشخاص على طول الشارع الرئيسي في كيب تاون للتعبير عن فرحتهم بالمتظاهرين المتجهين نحو مباني الاتحاد، التي تضم مكتب الرئيس فريدريك دي كليرك.
على رأس هذا العرض التاريخي الذي قاد الجماهير إلى المكان الذي سيلقي فيه مانديلا خطابه، كان هناك مهرج. وعبر سلسلة من الاستعراضات الجسدية والشقلبة وألعاب الخفة، والتمويه بإطلاق النار من سلاحه الخشبي المزيف، كان هذا الرجل، الذي هو في الأصل أحد المتطوّعين الموكل إليهم تنظيم سير المظاهرة، يوجه جملة من الرسائل إلى الخصوم والمندسّين داخل المسيرة بغية إفسادها: كان الهدف من تمثيلية إطلاق النار الوهمي هو ضمان عدم إطلاق أي رصاص حقيقي في ذلك اليوم، وقد نجحت الاستراتيجية، إذ لم تقع إصابات خلال التظاهرة، ما يعتبر إنجازًا ملحوظًا في ظل المناخ المتقلب الذي كانت تعيشه البلاد.
ولم يقلل الاعتراف بأن جنديًا مهرجًا كان يتقدم موجة التحرر، حيث كان حضوره مجرد مظهر مرئي للمعنى الضمني الهزلي، الذي صبغ دائمًا حوار الأمة المستمر حول الديمقراطية (فيكي ك. يانيك، كتاب "الحمقى والمهرجون في الأدب والفن والتاريخ").
لم يقتصر المزاج العام الهزلي والساخر لمسيرة جنوب إفريقيا التحررية على هذا النوع من المبادرات الشخصية، على الرغم من أنها صارت تمثل تقليدًا واستطاعت أن تحظى بمكانة هامة في الذاكرة الجمعية للبلد، بل إن الضحك والسخرية تفشيا تدريجيًا ليشملا أغلب جوانب الحياة، حيث صار الخاص والعام يرددون الأغاني الساخرة التي تبتدعها جمهرة المتظاهرين في الساحات العامة ويراكمون عليها إضافات جديدة، وكان العمال المضربون في المخيمات العشوائية: "ينظمون مسيراتهم أمام أكواخ الصفيح حيث الأطفال العراة وأمهاتهم يضحكون ويعزفون إيقاع أغاني الحرية على دلاء الغسيل البلاستيكية في الشارع" (الحمقى والمهرجون في الأدب والفن والتاريخ).
وكخلاصة، كانت السخرية الشعبية الواسعة، بالإضافة إلى الأعمال الفنية، كمسرحية "ووزا ألبيرت"، والشخصية الخيالية الهزلية الخالدة تاني إيفيتا، هي من حكمت بالموت على مبادرة "جنوب إفريقيا الجديدة" التي أطلقها "نظام الأبارتهايد، من خلال فضح مواطن النفاق وعدم النية في تغيير وضع السود، اللهم بعض الإصلاحات التي لا معنى لها.
إنها مجرد نكتة أيها الرفيق
يمكن اعتبار النكتة الساخرة في الاتحاد السوفيتي من الصنف الآخر، النقيض لما أطلقنا عليه المزاج العام لمعركة جنوب إفريقيا التحررية. فتأليف النكات وتناقلها والسخرية من شعارات النظام جاءت لتؤدي غرضًا تأقلميًا، إذا ما أردنا أن نتجنب إطلاق الأحكام ووصفها بالانهزامية. فقد عمد المواطنون السوفييت خلق لغة موازية متكونة من مصطلحات لا تنضب من اللعب بالكلمات وتحوير أسماء المسؤولين والوزراء وتداول مقولات شعبية وحكم، لتحيل إلى عكس ما كانت تأدّيه في السابق.
وقد صارت حروف الاختصار تمثل أزمة في حد ذاتها من كثرة ما طالها العبث والسخرية، مثل تحول "MTS" (Machine Tractor Station) إلى "قبر الرفيق ستالين" (بالروسية Mogila Tovarišča Stalina)، وحتى الحروف الأولى للاتحاد السوفييتي "USSR" إلى "موت ستالين سينقذ روسيا" (بالروسية Smert’ Stalina Spaset Rossiju).
قام الباحث جوناثان واترلو بدراسة كم كبير من أرشيف الشرطة والأجهزة السرية السوفييتية ما قبل الحرب العالمية الثانية، فوجد أنها تذكر كل نكتة ألقيت وصاحبها والمكان الذي قيلت فيه والحكم الذي تلقاه صاحبها، ويخلص فيها إلى أن المقاومة للسرديات الرسمية عبر إطلاق النكات والضحك لم يكن غائبًا تمامًا، لكن دوافع أخرى كانت وراء هذا التوجه عند الفرد السوفييتي.
وقد كان إلقاء النكات في كثير من النواحي معنيًا بالأمور اليومية وليس بالاكتساح الكبير للسياسة، وكان يشارك فيه أشخاص لم يتصرفوا أو يُظهِروا أنهم يعتبرون أنفسهم معارضين للنظام. هذا لا يعني أنهم لم يتحدوا سلطة النظام، بل إنهم فعلوا ذلك بطرق محددة وغير مباشرة: من خلال إعادة تكييف اللغة الرسمية وإضفاء معانٍ مختلفة على جوانب أخرى من الحياة التي ادعت الدولة الهيمنة على تفسيرها.
هكذا أصبح المواطنون قادرين على إعادة صياغة اللغة الرسمية، وبإمكانهم استعادة الإحساس بالقوة وبالتالي التخفي وراء الخوف والعجز الذي قد يطغى عليهم لولا ما قاموا به. كانت التفاعلات بين القيم والخطابات الرسمية وغير الرسمية، في التقائها المعقد، بالنسبة للعديد من المواطنين بمثابة التطبيع، وتمكين التكيف مع الظروف الثابتة. وكان هذا في أقصى تقدير إذعانًا متناقضًا، لكنه كان أيضًا تصرفًا مستقرًا على نحو متزايد (شور ونوهيل، كتاب "الفكاهة والضحك في التاريخ").
كوميديا الـ"ستاند أب" أو الالتحام بقضايا الشارع
لا يجانب لويس سي. كاي، في افتتاحية عرضه، الصواب حين يتعمد مساءلة العلاقة التي تربطه بالجمهور الجاثم أمامه، فالفن الذي هو مقدم عليه يتسم حين نفكر مليًا، كونه الأكثر بدائية وبساطة والتزامًا بأصوله منذ ظهوره. وترجع نشأة فن كوميديا الـ"ستاند أب" إلى أواسط القرن التاسع عشر، حيث ظهرت في الولايات المتحدة عروض شبيهة بالمحاضرات والقصص يلقيها بطريقة هزلية رواد أمثال تشارلز. ف. براون، وصامويل كليمنس، وهو نفسه مارك توين الروائي، الذي لا يعرف كثير من قرائه أنه لجأ إلى إلقاء الحكايات الهزلية في نيوزيلندا وأستراليا والهند وجنوب إفريقيا، حتى يخلص نفسه من ديونه كأديب وناشر.
ولم يتغير المبدأ العام لهذا الفن كثيرًا رغم موجات التجديد التكنولوجي التي شملت كل الفنون، من السينما إلى المسرح وغيرهما.
ولأن قول الأمور كما هي، بدون بذل جهد لتلطيفها، وتعمد إحراج الجمهور ومفاجأتهم يوقعك بالضرورة في السياسة، فإن فناني الـ"ستاند أب" لطالما كانوا موضوعًا لمسائلات قانونية ورقابية. وفي عصر الإنترنت والمحاكمات الشعبية على تويتر في سياق ما يعرف بالـ"Cancel culture"، وهي حملات المقاطعة والعزل، بسبب تأويلات إيديولوجية للمحتوى الفكاهي؛ نذكر حملات مثل "Me too" التي نالت من فكاهيين من بينهم لويس سي كاي، وكريس ديليا، وحملة مجتمع المتحولين جنسيًا على دايف شابال، التي وصلت إلى حد الاستقالات الجماعية من شركة "نتفليكس" المتكفلة بإنتاج محتوى شابال.
وسرعان ما صارت الرقابة الجديدة موضوعًا للتندر عن الكثير من الكوميديين، حيث يقطع بيل بور أحد عروضه في منتصفه ليصيح: "بإمكاني رؤيتكم في الصفوف الأولى، بحواسيبكم وجوالاتكم بصدد كتابة أنني أروج لخطاب الكراهية. أرى ذلك في وجوهكم، وجوهكم الغاضبة غير القادرة على الاستمتاع بنكتة وحسب".
وتعرض دايف شابال إلى اعتداء وهو على الخشبة من قبل شخص مناصر لقضايا المثليين، لكنه بعد خروجه من المستشفى أكد أنه لن يتأثر بمثل هذه الحوادث من أناس لا يدركون جوهر الفكاهة كشيء ضروري وغير عنيف، وبأن شخصًا (يقصد نفسه) رفض عرضًا من شركة "HBO" بملايين الدولارات كان من شأنه تغيير حياته للأبد، فقط لأنهم طلبوا الاستغناء عن بعض المفردات التي اعتبرت وقتها بذيئة، لا يمكن أن يذعن لموجة أيديولوجية غير قادرة على التمييز بين موقف سياسي، وبين مجرد نكتة.
وتلتحم صناعة الكوميديا في دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا مع قضايا الناس السياسية والاجتماعية وتتفاعل معها، فلكل حقبة في تاريخ هذه الدول أعمال كوميدية تناقش الأفكار المطروحة وتسخر من سياسييها، وتوثّق مخاوفها وآمالها.
ففي فترة العبودية مثلًا، برزت العروض الغنائية "Minstrel shows" القائمة بأكملها على تحقير السود، وبرع فيها أكثر من غيرها مجموعة "ويليام وولكر"، كما لا يزال المجتمع الأميركي يتذكر الأثر الذي تركه فيلم "صباح الخير فيتنام" (1987)، والنجاح الذي عرفته عروض ستاند أب جورج كارلين التي لا تزال مرجعًا في نقد التهافت الاستهلاكي المتفشي في الطبقة العاملة الأميركية.
تكمن قوة كوميديا الـ"ستاند أب" في البلدان الأنجلوساكسونية في ما يمكن اعتباره دورة حياة النكتة. فوجود نوادي مثل الـ"Improv"، و"comedy celular"، و"comedy store"؛ يوفر حاضنة للكوميديين الشبان، وتمكن المواهب الصاعدة من اعتلاء الخشبة لدقائق معدودة كل ليلة، حيث يجربون النكت التي يكتبونها ويرصدون تفاعل الجمهور معها.
وبعد أن يشتد عود الكوميدي بامتلاكه ساعة من النكت الناجحة، تبدأ حملات الترويج له، حيث يجوب عدة ولايات لعرض مادته، ويقوم الكبار، من بينهم بيل بور، ودايف شابال، وكيفين هارت، ريكي جيرفاي؛ بتصوير أحد العروض من أجل بيعها لمنصات البث مثل "نتفليكس" أو "HBO".
إن سبب عدم وجود مشهد كوميدي قادر على تجديد نفسه باستمرار في بلدان كثيرة ومنها العالم العربي، باستثناء بعض المواهب التي تظهر كل فترة ويتم استنزافها في الصحافة وفي برامج الـ"Talk show" التي تحولهم إلى مجرد معلقين (Chroniqueurs)؛ يعود إلى غياب هيكلة اقتصادية للميدان وعدم وجود عقلية التدرب وشحذ الموهبة، واللهث وراء الشهرة السريعة التي أثبتت التجارب أنها سرعان ما تخبو، ذلك أن جمهور الضحك هو الأصعب والأقل صبرًا، فإما أن تكون مضحكًا باستمرار، وإما فأنت لم تكن يومًا كذلك.
الميمز: دمقرطة الضحك في الفضاء الافتراضي!
لم تتطرق الكثير من البحوث لظاهرة الـ"ميمز" (Memes) التي تملأ الإنترنت اليوم، ذلك بحكم جدتها بالمقارنة مع أشكال التواصل الأخرى، لكن البعض بدأ يبدي اهتمامًا بدراسة كيفية ظهورها وتطورها والآثار التي تتركها علينا، وهو ما تطرّقت له صحيفة "نيويورك تايمز".
وبحسب المقال، تعود تسمية الـ"Meme" إلى عالم البيولوجيا التطوري الشهير ريتشارد داوكينز، حيث قام بنحت المصطلح في كتابه "الجين الأناني" الصادر سنة 1976 للدلالة على قطعة من المعلومات ذاتية التكرار، مدفوعة بغريزة حب التكرار لدى البشر. لكن التسمية تم استعارتها فيما بعد من مستخدمي الإنترنت للدلالة على نمط من الصور والفيديوهات المضحكة مع تعليقات ساخرة عليها، هدفها خلق تجربة مشتركة حول مواقف في الحياة اليومية أو قضايا سياسية.
فكل مستخدم للإنترنت قام بالضرورة بالتفاعل أو بمشاركة أحد الميمزات، حتى وإن لم يعِ أنها تسمى كذلك. لكن الانتشار الواسع لهذا النوع من التواصل الطريف صار يخلق فرصًا للشغل والإبداع، فظهرت صفحات على منصات التواصل محترفة في ابتكارها، حتى أن شركة "إنستغرام" قامت بإبرام عقد مع صانع الميمزات المعروف ساينت هوكس (Saint Hoax) لتغطية مهرجان الأزياء الشهير Met Gala، وذلك وعيًا منها بأن المحتوى الطريف الذي سيتم إنتاجه وتداوله سيزيد من شهرة الحدث على منصات التواصل الاجتماعي.
ويعرّف سانت هوكس الميمزات على أنها رسوم الكرتون للصحف (Editorial cartoons) بالنسبة لعصر الإنترنت، وأن قوة الميم: "تكمن في قابليته للانتقال وعبقرتيه الفريدة في كونه عابرًا للثقافات".
توفر الميمزات فهمًا مشتركًا لقضايانا المختلفة، وتساهم في تعزيز الفهم والتسامح ونبذ التعصب للأفكار، كما أن من شأنها رفع درجة حساسيتنا ووعينا بتصرفات لم نكن نولي بالًا أنها مزعجة لغيرنا أو متكلفة، وخلق علاقات تتجاوز الإطار الرسمي، إذ إنه بتوسع شعبية هذا النمط من التواصل صرنا نسمع في مكاتبنا وأماكن العمل مثلًا محاورات مثل: "هل فتحت الميم الذي أرسلته لك منذ قليل"، أو "فلان يتصرف مثل الميم الذي نشرته البارحة".
حتى لا نغتال النكتة
"حين سمع الملاك ضحكة الشيطان للمرة الأولى أصابه الذهول. حدث ذلك خلال حفل. كانت القاعة تغص بالحاضرين وكانوا يقعون الواحد تلو الآخر في إسار ضحكة الشيطان المعدية بشكل رهيب. فهم الملاك أن ذلك الضحك موجه ضد الإله وضد خلقه، وكان عليه أن يتصرف بطريقة ما وبسرعة، لكنه شعر بالضعف والعجز عن الرد. ولمّا أعيته الحيلة لجأ لتقليد غريمه، ففتح فمه وراح يصدر أصواتًا متقطعة، في فواصل عالية من طبقته الصوتية، ولكنه منحها معنىً مناقضًا: ففي حين يدل ضحك الشياطين على عبثية الأشياء، أراد الملاك على العكس أن يعبر عن خضوع الأشياء في هذا العالم لنظام محكم، لأنها خلقت بعناية، خيّرة ومليئة بالمعنى" (كونديرا، كتاب "كتاب الضحك والنسيان").
يشير كونديرا ضمنيًا في "كتاب الضحك والنسيان" إلى وجود نوعين متعارضين تمامًا من الضحك، لكننا نفتقر إلى كلمات تميّز بينهما. غير أن عددًا كبيرًا من المفردات في معظم اللغات يحمل دلالات متعددة وأحيانًا متناقضة، مثل مفردة "ثقافة" التي تعني ثقافة وعادات شعب ما، وتعني أيضًا الإنتاج الأدبي والفني، كما تعني كذلك الاطلاع على الحضارات الأخرى، عدا عن المعاني الحرفية أو اليدوية كتثقيف الأرض والمشاتل (تتكون لفظة الفلاحة من Agri – Culture). فاكتفاء اللغة بلفظة واحدة للدلالة على أكثر من نوع للضحك لا يمثل شذوذًا، أما خطر سوء الفهم الذي يطرحه ذلك، فلعله يصب في صالح الضحك لا العكس، إذ أي معنى لأن نضحك وسط الآخرين إن كنا لا نحتفظ بالحد الأدنى لتبرير ضحكنا، وتقرير إن كان ضحكًا إلهيًا مقدسًا أم شيطانيًا دنسًا؟
لقد سعت الاختصاصات العلمية الحديثة كل من جهتها إلى تفكيك فعل الضحك بأدواتها الخاصة، كما لم يسلم هذا النشاط الإنساني البسيط المتمثل في اهتزازات جسدية بسيطة وإحساس بالترويح وبخلو البال، من تصنيفات أخلاقية وإدانات سياسية ولاهوتية، لكن يبقى الضحك دائمًا عصيًا عن الإحاطة به من جوانبه كلها: فأن يضحك الإنسان يعني، قبل كل شيء آخر، الانفلات اللحظي من سلطة المنطق واللغة وجهود التأويل.