لا شك أن أغلبنا قد سمع يومًا ما بـ"الحاوي"، وهو عبارة عن اصطلاح ارتبط في الوعي الجمعي لدى المصريين بخفة اليد والقدرة على التلاعب البصري. لكن المؤكد أن هذه الكلمة ارتبطت بمهنة معينة ظلت تُمارس في الشوارع المصرية حتى فترات زمنية بعيدة. وهنا كان لا بد من السؤال حول هذه الحِرفة وطبيعتها والظروف التي نشأت خلالها، وأبرز الأشخاص الذين زاولوها في الشوارع والميادين العامة.
اصطلاح أولي
في "موسوعة التراث الشعبي العربي" (2011) لصاحبها محمد الجوهري، نقلًا عن سليمان محمود، يُعرَّف الحواة بأنهم: "مجموعة من الرجال يقومون بأنواع من الأداء الذي يتسم بالإثارة والغرابة، فمنهم من يزعم أن باستطاعته معرفة وجود الثعابين في المنازل، وعن طريق إحداث صفير معين، مع النداءات والعزائم، يُخرج الحاوي الثعبان من أحد شقوق البيت، ويقوم فريق من (الرفاعية والسعدية) بهذه المهمة، وهم دراويش يشتهرون بهذه الأعمال. وغالبًا ما يؤدي الحاوي عروضه في الساحات حيث يلتف حوله المشاهدون، ثم يقوم بمجموعة من العروض كأن يتعمم بمجموعة من الثعابين حول رأسه أو يلفها حول عنقه، ومن عروض الحاوي أن يسحب مجموعة كبيرة من المناديل من فمه، ويطلق النار من فمه، ويقوم بأكل الجمرات. ويقوم أيضًا بما يُعرف بألعاب الخفة أو القوة، كأن يطلب من أحد المتفرجين تقييده بالحبال أو السلاسل بقوة ثم يتحرر منها الحاوي بكل خفة.. وهكذا".
يتضح لنا من التعريف السابق أن مهنة الحاوي قد ارتبطت بالقدرة العجيبة على مراوضة الثعابين ومعرفة أماكن اختبائها، بالإضافة إلى أعمال الخفة والقوة الخطيرة التي تبهر الحضور، مثل أكل الجمرات أو التقييد بالسلاسل أو سحب المناديل من الفم. وعلى الرغم من أن هذا التعريف مباشر، إلا أنه لا يشير بدقة إلى تفاصيل هذه المهنة والكواليس المرتبطة بها والغرائب التي تحيط بعالمها.
دروس الحواة
كانت أشهر جملة في عالم الحواة هي: "شطارة ونباهة وخفة يد يا بيه لكن مفيش بخت"! وهي الكلمات التي رددها علي عبد العال، ابن شيخ الحواة في حواره مع مجلة "الدنيا المصورة" بتاريخ 25 أيلول/سبتمبر 1929، الذي نتعرف من خلاله على والده شيخ الحواة عبد العال قاسم، صاحب الفضل الأكبر في تعليم حواة مصر كافة. فقد أقام في بيته مدرسة خاصة لتعليم الصبيان وتدريبهم بنفسه على حركات خفة اليد والشطارة. وقد ورث عنه نجله أدوات الحرفة، مثل السيوف والكيزان المسحورة والبيض المفرغ والبيض الصناعي المحشو بالمناديل ذات الألوان المختلفة. وذلك قبل أن يبدأ في مزاولة هذه المهنة لمدة تسعة أعوام، حيث شرع في تنفيذ عروضه أمام المتفرجين وهو في العاشرة من عمره.
وقسَّم علي هذه المهنة إلى مجموعة من الدروس الأساسية التي لا بد من تلقيها لإتمام احترافها. فالدروس الابتدائية هي "دروس الرواح"، وفيها تتم عملية إخفاء الكتكوت أو البيضة أو الفطير داخل الكوز المسحور، وهي أبسط ألعاب الخفة التي يتقنها الحواة في بداية مشوارهم الطويل نحو الاحتراف.
ثم تأتي الدروس الثانوية التي تُعرف باسم "المسكوكة"، وهي الألعاب التي تدور حول إخفاء الأشياء بخفة ومهارة داخل الأكمام وبين الأصابع. وهذه الدروس تحتاج إلى تدريب شاق ومرهق حتى يتمكن الحاوي من الوصول إلى المستوى المطلوب لتقديم هذه العروض أمام جمهور المتفرجين.
أما الدروس العالية والمعروفة باسم "المسانين"، فهي ألعاب السيوف والمسامير. وتعد هذه الدروس الأخطر على الإطلاق، حيث تحتاج إلى درجة عالية من الصبر والتحمل. ولنا أن نتخيل أن الحاوي يقوم بمحاولة إدخال المسمار إلى أنفه أو السيف إلى جوفه حتى يختفي تمامًا. وقد تسببت هذه المرحلة – على وجه الخصوص – في إصابات خطيرة لبعض الحواة حتى أواخر حياتهم.
ويبدو واضحًا من الدروس السابقة التي تحدث عنها ابن شيخ الحواة أن هذه المهنة، في بدايات القرن العشرين، كانت أكثر ارتباطًا بخفة اليد والقدرة على الخداع البصري عن طريق مجموعة من الأدوات المتوارثة من جيل إلى آخر، وأن مسألة مراوضة الثعابين تحديدًا اعتبرت نقطة تماس مشتركة مع جماعة الرفاعية والسعدية. ومهما يكن، فإن الحواة كانوا من الشخصيات المألوفة في الشارع المصري، وعروضهم كانت تحظى باهتمام واسع من قِبل العامة في الشوارع والميادين.
مشاهير الحواة
كشأن أية حرفة، ارتبط عالم الحواة بمجموعة من الأسماء التي نالت الكثير من الشهرة والمكانة، كان أبرزهم: دسوقي جلاجلا، جمعة السيماوي، عبد الحميد مصطفى ويوسف عثمان. ويبدو أن هذه الأسماء لم تكتسب شهرتها نتيجة لمهاراتها كحواة فقط، بل لغرابة حياتها والظروف الاجتماعية التي نشأوا خلالها.
وقد خصصت مجلة "الدنيا المصورة" للشخصية الأولى، دسوقي جلاجلا، في تاريخ 13 آذار/مارس، مقالة نعرف عبرها أنه بدأ حياته حاويًا يعرض مهاراته أمام المقاهي والحوانيت ولا يجمع سوى قروش معدودة تكاد تكفيه، قبل أن يعود إلى مسقط رأسه في الإسكندرية، حيث نشأ وكان يقدم عروضه الأولى التي يبدأها بكلمته العجيبة "جلاجلا"! وهي كلمة ظنها المتفرجون تعويذة خاصة يستحضر عن طريقها قوى خفية تساعده في أعمال الخفة والخداع البصري، حتى صارت لقبًا له.
وعندما ضاقت به القاهرة، قرر العودة مجددًا إلى الإسكندرية ليقدم عروضه فوق السفن والبواخر في الميناء. وذات يوم، أُعجب به بعض ضباط باخرة فرنسية وطلبوا منه أن يسليهم طوال الرحلة بألعابه ومهاراته. وهكذا وصل إلى ميناء مرسيليا في سنة 1920، حيث اعترضه ضباط الجمارك كونه لا يحمل جواز سفر أو أوراق رسمية. ولم يجد حينها مفرًا من إبهارهم بعروضه الخطيرة والشيقة حتى سمحوا له بدخول البلاد.
وهناك، بدأت شهرته تأخذ مسارًا جديدًا، فكان أول ما قام به هو تغيير كلمة "جلاجلا" إلى "جيلي جيلي" حتى تناسب ذائقة الفرنسيين. ومع الوقت، بدأت أموره المالية في التحسن، فانتقل من مرسيليا إلى باريس، وكانت أشهر عروضه: إخراج أعلام الدول من فمه، إخراج الكتكوت من البيضة والبيضة من الحجر، وابتلاع السيوف. وعندما طافت شهرته الآفاق، قرر التوقف عن عرض مهاراته بالشارع.
أما الحكومة الفرنسية، فكانت تحرص على دعوته لتقديم عروضه في الحفلات السياسية الرسمية أو عند استقبال أحد الملوك والأمراء في العاصمة، أو ضمن حفلات وسهرات الوزراء والأمراء الفرنسيين. وقد تكونت بينه وبين الملوك والأمراء صداقة متينة مع الوقت. وعندما أُقيمت الألعاب الأولمبية في باريس سنة 1925، دفعته فرحته بانتصارات الفريق المصري لتقديم عروض متنوعة أمام الآلاف الذين احتشدوا في المدرجات. وكان أحد أبرز المشاركين في معرض ويمبلي في لندن، الذي ربح عنه مبلغ 100 ألف جنيه، وذلك قبل أن يتعاقد معه مطعم تروكاديرو الشهير بباريس لتقديم عروضه الجذابة مقابل مبلغ 100 جنيه في الأسبوع.
أما جمعة السيماوي، فقد نزح إلى الهند في أواخر سنة 1917، حيث تم القبض عليه هناك بتهمة التجسس، ولم يُفرج عنه إلا بعد مكاتبات طويلة بين الحكومة الهندية والحكومة المصرية. وقد سافر بعدها إلى إنجلترا، فأقام هناك وتحسنت أحواله المعيشية.
وكذلك نال عبد الحميد مصطفى الكثير من الشهرة في ألمانيا التي أقام فيها لأكثر من ثلاثين عامًا، وقد تزوج من سيدة ألمانية وجنى ثروةً لا بأس بها إلى جانب حصوله على الجنسية. ولم يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة ليوسف عثمان، الذي رافق أحد السائحين الأميركان إلى بلاده. وهناك تزوج من ابنته التي ورثت عن أبيها العديد من المصابغ.
عالم الحواة
لم يكن الحواة فئة طارئة على المجتمع المصري، فقد تواجدوا في الشوارع والميادين العامة خلال القرن التاسع عشر الميلادي كما سبق وأشرنا، حيث ذكرهم المستشرق إدوارد وليام لين في كتابه الشهير "المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم" (ط 1950). فالحاوي، كما أوضح، هو شخص كان يعمل في الأماكن العامة ويرافقه ولدان للمساعدة وكثيرًا ما كانت تلتف حوله حلقة من المتفرجين الذين يمنحونه منحة صغيرة خلال اللعب وعقبه. وقد ارتبط ظهوره في الغالب بالأعياد العامة وكذلك حفلات الزواج. ولم تختلف كثيرًا الألعاب والحيل التي كان يقدمها عما وصفناه في فقرات سابقة من هذه المقالة.
ويبدو أن حِرفة الحاوي كانت من بين الحِرف التي ألهمت المستشرقين والرسامين الذين زاروا القاهرة منذ القرن التاسع عشر الميلادي. ففي كتابه المتميز "الحرف التراثية في مصر في ضوء فن الاستشراق التشكيلي"، يتناول ربيع أحمد سيد أحمد أهم اللوحات التشكيلية التي حاكت شخصية الحاوي في الثقافة المصرية، فنجده يتوقف عند لوحات الفرنسي جان ليون جيروم والألماني كارل وليام جينتز والنمساوي لودفيغ دويتش عبر القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، وذلك قبل أن يفرد مساحة خاصة لتحليل تلك اللوحات وأبرز ما جاء بها من عناصر جمالية وأنماط فنية ارتبطت بالواقع.
والحق أن عالم الحواة ارتبط كذلك بالأمثال الشعبية، حيث أورد العلامة أحمد تيمور باشا في كتابه "الأمثال العامية" (1949) المثل المعروف "يا ما في الجراب يا حاوي" وفسره بقوله: "الحاوي: الحوّاء المشعبذ، وهو عادة يخفي في جرابه أداوى شعبذته وما معه من الحيّات فيخرج منها ما يشاء وقت لعبه، أي ما أكثر في جرابك أيها الحوّاء وإن كان خافيًا عنا. يضرب لمن يحوز الكثير ويخفيه فلا يظهر منه إلا ما يريده في وقته، وقد يراد به العلم والاطلاع وحسن الرأي، أو المكر والخديعة تكون خافية في الشخص ثم يبدو منها ما يناسب مقتضى الحال". وإن دل ذلك المثل على شيء، فإنما يدل على تجذر هذه الحِرفة في الثقافة الشعبية المصرية.
الحواة بين الماضي والحاضر
مع الوقت، بدأت مهنة الحاوي في الاختفاء من المجتمع المصري تدريجيًا، كما بدأت أحوالهم في التدهور من حين لآخر، فكان من الطبيعي أن تطالب فئة من الحواة وصيادي الثعابين بنقابة عمالية خاصة بالمنيا للاهتمام بشؤونهم على اعتبار أنهم يزاولون مهنة شاقة تفيض بالمتاعب والمخاطر، حسبما أشار الكاتب الصحفي محمد حسين في جريدة "الأحرار" بتاريخ 25 آذار/مارس 2000.
ومن بين المعلومات المفيدة التي وردت بالمقالة، على لسان الشيخ عمر رمضان الذي يُعد أحد أشهر الحواة وصائدي الثعابين حينها، أن هذه المهنة وراثية بمعنى أن الأب يعطي تعاليمها إلى ابنه وفقًا لتعاليم الطرق الصوفية. كما أشار إلى أن الحاوي يقوم بأداء القسم في مشيخة عموم السادة الرفاعية، وعليه أن يكون ملتزمًا بالتعاليم الدينية السمحة وذلك حتى يتمكن في النهاية من السيطرة على أدوات حرفته.
وقد بات واضحًا أن مهنة الحاوي انتقلت من حيز الشارع والأماكن العامة إلى شاشة التلفزيون وبرامج اكتشاف المواهب الخاصة، بل وتصارعت القنوات والمنصات فيما بينها لعرضها وتقييمها من خلال لجان تحكيم مختصة. ولم يتوقف الأمر عند الأفكار المعروضة فقط، بل تطور إلى طبيعة الأدوات المستخدمة في العروض أيضًا وطبيعة الجمهور المشارك بها. وهنا يبقى السؤال المطروح: هل ارتبطت حرفة الحاوي بالمجتمع المصري فقط، أم أنها تواجد لفترات زمنية بعيدة في المجتمعات العربية؟