يمتد تاريخ تكنولوجيا الطائرات بدون طيار إلى ما يقارب القرن، حيث يتداخل فيه الخيال العلمي مع الأبحاث العسكرية. يتناول هذا المقال المترجم للكاتب والمخرج الألماني رودولف هيرتسوغ هذه القصة الشائكة التي يبدو أنها ستظل مستمرة.
يذكر أن هيرتسوغ صاحب كتابي: "تاريخ موجز للجنون النووي"، و"ضحك مميت: الفكاهة في ألمانيا هتلر".
ـــــــ
في عام 2003، عندما غزت الولايات المتحدة العراق، كان هناك عدد قليل جدًا من الطائرات المُسيَّرة ضمن القوات الغازية.
وبحلول عام 2010، كان لدى البنتاغون ما يقارب 7500 طائرة مسيرة في ترسانته. اليوم، يُوجد ما يقارب طائرة مُسيَّرة واحدة من بين ثلاث طائرات عسكرية أمريكية.
قادت الطائرات الأمريكية المُعَدَّة للاستخدام العسكري هذه الثورة التكنولوجية، لا سيما طائرات "بريداتور" و"ريبر". ولتوضيح مدى تأثير هذه الأسلحة الجديدة: فلقد أسفرت حملات الطائرات المسيرة في باكستان، وهي دولة ليست في حالة حرب مع الولايات المتحدة، عن مقتل أشخاص يبلغ عددهم أكثر من الذين لقوا حتفهم خلال الحرب التي قادها حلف الناتو ضد يوغوسلافيا في عام 1999.
على الرغم من المفهوم المستقبلي لحرب الطائرات المُسيَّرة، إلا أن تاريخ تكنولوجيا الطائرات بدون طيار يعود إلى مئة عام. حيث وُضعت الأسس التكنولوجية لأول مرة بواسطة المخترع العبقري نيكولا تسلا، الذي قدَّم تكنولوجيا التحكم عن بُعد في ميدان ماديسون سكوير عام 1898. أدرك تسلا على الفور الإمكانيات العسكرية التي من الممكن أن يقدمها اختراعه، مشيرًا إلى قدرة هذه التكنولوجيا على إفساح المجال للإنسان لبناء أسلحة مدمرة بعيدة المدى وستكون رادعًا غير إنساني، ومدمرًا لدرجة يخال إليه أنها ستؤدي إلى "سلام دائم بين الأمم".
مدفوعًا بنفس الحماس في نهاية القرن التاسع عشر، أدرك أرشيبالد مونتغمري لو الإمكانات الكبيرة لدمج الطائرات مع تقنية الإرسال اللاسلكي. في بداية الحرب العالمية الأولى، حصل على تفويض لبناء سلاح يتم التحكم فيه عن بُعد لتدمير المناطيد الألمانية (Zeppelins). قام بتجربة العديد من التصاميم، لكنه لم يحقق سوى نجاح ضئيل، حيث تحطمت نماذج أولية مختلفة. وعلى الرغم من أن لو تمكّن من إثبات أنه يمكن توجيه الطائرات باستخدام موجات الراديو التي اكتشفها تسلا، إلا أن سلاحه المضاد للمناطيد لم يقترب أبدًا من مرحلة الإنتاج. نظرًا لأن الأجهزة كانت مصممة لتدمير نفسها، كان المفهوم في العديد من الجوانب أقرب إلى الصواريخ الحديثة أو صواريخ كروز. ومع ذلك، يمكن اعتبار آلات لوّ أقدم النماذج الأولية للطائرات القتالية بدون طيار.
في قارة أخرى، كان مخترع آخر يعمل أيضًا على ضمان بقاء الطائرات بدون طيار في الجو بشكل آمن. ذات مرة، وُصِف إلمر سبيري بأنه "نموذج المخترع الأمريكي"، حيث كانت له اهتمامات واسعة تتراوح بين إعادة تدوير الصفيح من المعدن الخردة وتطوير كشافات للبحرية الأمريكية. كان مفتونًا بفكرة الطائرات التي يمكن توجيهها عن بُعد، وحتى الطائرات المستقلة تمامًا، وأدرك الحاجة إلى آلية تثبيت فعالة. بدعم من البحرية، بدأ سبيري بتجربة الجيروسكوبات. أظهرت الاختبارات الأولية نتائج واعدة في عام 1915، وشارك سبيري مع المهندس بيتر كوبر هيويت لتطوير "طوربيد جوي"، وهو طائرة صغيرة بدون طيار مليئة بالمتفجرات.
بعد أقل من عام، كانوا جاهزين لعرض نموذج أولي على تي. إس. ويلكينسون (T.S. Wilkinson) من هيئة الذخائر البحرية. كان الجهاز عبارة عن إطار مجنح يتم إطلاقه بواسطة منجنيق. وبمساعدة بارومتر دقيق، ارتفع إلى ارتفاع محدد مسبقًا. وبمجرد وصوله إلى الارتفاع النهائي، قام عدّاد ميكانيكي بحساب المسافة التي يجب أن يطيرها الطوربيد الجوي للوصول إلى هدفه. بعد ذلك، كان يمكن ضبط الجهاز لإسقاط قنبلة أو التحطم والانفجار عند الاصطدام.
ورغم أن ميزة عدم تعريض حياة الطيارين للخطر أثناء المهمات كانت هامة، إلا أن البحرية لم تكن متأكدة من دقة اختراع سبيري. ومع اقتراب الولايات المتحدة من الانضمام إلى الحرب العالمية الأولى، استطاع سبيري إقناع الحكومة الأمريكية باستثمار عدة آلاف من الدولارات في تطوير نظام يمكنه الطيران بنظام التحكم الآلي أو التوجيه عن بُعد. وقد رأت البحرية إمكانياته في الهجمات على قواعد الغواصات المحصنة بشدة، مثل القاعدة الألمانية في جزيرة هيلغولاند.
أقام سبيري معسكرًا في ميدان طيران في كوباياج، نيويورك، لكن مشروعه لبناء الطائرات بدون طيار واجه صعوبات كبيرة. تعلقت إحدى المشاكل بجهاز الإطلاق. حيث استُخدمت المنجنيقات ومسارات السكك الحديدية، لكنها أثبتت أنها غير فعالة. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك صعوبات في جعل الآلات تطير، الأمر الذي كشف عن مشكلة أخرى: كانت الجودة الديناميكية الهوائية لإطار الطائرة غير كافية. بعد عدة محاولات فاشلة للإطلاق أدرك سبيري أنه بحاجة للتركيز أكثر على تصميم الطائرة. كان لديه نموذج أولي يعتمد على الطائرة البحرية كورتيس (N-9H) مزود بمقعد للطيار ووحدة تحكم بعصا.
وفي تصرف خطير وجريء، قام ابن المخترع باختبار التصميم. وخلال تجربة الإقلاع الأول، انقلب لورانس سبيري بإطار الطائرة ودمره. ولحسن الحظ، نجا من الحادث دون إصابات فيما تطوع لإجراء تجربة ثانية.
تمكن سبيري من جعل إطار بديل يطير، لكنه عندما قام بتحويل الطائرة إلى نظام التحكم الآلي، انحرفت وانقلبت مرتين. استطاع استعادة السيطرة على الآلة، الأمر الذي مكنه من ضبط وضعها وهبوطها دون إصابات.
ومع ذلك، على الرغم من مزيج سبيري من البراعة والشجاعة، انتهى مشروعه في النهاية بتكاليف مالية كبيرة. كانت هناك لحظة انتصار واحدة وهي في 6 آذار/مارس 1918، حين طارت إحدى طائرات سبيري بدون طيار إذ تمت برمجتها بدقة ليصل ارتفاعها إلى ثلاثة آلاف قدم، ثم هبطت بسلاسة في الماء. كانت هذه أول رحلة مسجلة لطائرة تعمل بنظام التحكم الآلي، على الرغم من أن محاولات تكرار هذا الاختبار الناجح باءت بالفشل.
بينما لم يساهم الطوربيد الجوي في جهود الحرب بشكل فعلي، كان هناك نظام منافس على وشك أن يُستخدم في الخطوط الأمامية. كذلك، بدأت القوات الجوية الأمريكية في إبداء اهتمام بتكنولوجيا الطائرات بدون طيار. تم تكليف تشارلز كيتيرينغ لبناء مركبة ذات أجنحة مستقلة مزودة برأس حربي، عُرفت لاحقًا باسم "بغ كيتيرينغ" (Kettering Bug).
صُنعت النماذج الأولية الأولى من الجهاز من مادة تشبه الورق المقوَّى، بينما صُنّعت النماذج اللاحقة من الخشب. كما هو الحال مع آلات سبيري، كانت تلك المركبات مدعومة بواسطة جيروسكوب. وكان نظام التحكم الآلي يتكون من أدوات طيران متصلة بعجلات وأكياس هوائية مُستخرجة من بيانو آلي. كانت هذه الآلة قادرة على التخلص من أجنحتها للانقضاض على الهدف. وقد انضم إلى المشروع أيضًا المهندسان إلمر سبيري وأورفيل رايت.
مع تقدم الاختبارات والتجارب، أدركت القوات الجوية أنه ليس باستطاعة مهندسيها تقديم حلول للمشكلات التي تعيق تطوير الطوربيد الجوي. إذ وفي عرض تجريبي، نجا فريق كيتيرينغ من كارثة عندما خرجت طائرة "البغ" عن السيطرة وتجاوزت منصات العرض بفارق ضئيل. وبعد إصلاح المشكلات التي أدت إلى عدم استقرار النماذج الأولية، شعر المهندسون أخيرًا بالثقة الكافية لإرسال دفعة من الطائرات بدون طيار إلى الخطوط الأمامية. أرسل كيتيرينغ أحد أفضل رجاله، هنري أرنولد، إلى أوروبا لإقناع القادة باستخدام "البغ". لكن أرنولد بالكاد بدأ رحلته قبل أن يصاب بالإنفلونزا الإسبانية، وهذا ما جعله غير قادر على العمل لمدة شهر. وبعد وصوله المتأخر إلى الجبهة الغربية، دخلت الهدنة حيز التنفيذ. ولم تُستخدم "بغ كيتيرينغ" في أي مهمة.
بعد الحرب، استمر تطوير الطوربيد الجوي الذي ابتكره سبيري لبعض الوقت، ثم تلاشى في النهاية. تُظهر لقطات الفيلم التحديات الكثيرة التي أعاقت تقدم المشروع. كما لم تُسجل سوى عملية إطلاق واحدة من بين العشرات كعملية ناجحة، حيث تظهر اللقطات الضبابية الطائرة وهي تتأرجح في الهواء، محتفظة بتوازن هش. في النهاية، ثبت أن التكنولوجيا في ذلك الوقت كانت طموحة جدًا بالنسبة لعصرها.
إن عودة الطائرات بدون طيار إلى ترسانة الجيش الأمريكي تعود بشكل كبير إلى براعة مُصنِّع أسلحة غير متوقع: الممثل البريطاني ريجنالد ديني، أحد نجوم عصر السينما الصامتة في هوليوود. بفضل شاربه الرفيع وابتسامته العريضة وبنيته الجسمانية، ظهر في الكوميديات الخفيفة، وكان غالبًا ما يُصنَّف في أدوار البريطاني المرح ولكن قليل الذكاء.
ديني، الذي كان عضوًا سابقًا في سلاح الطيران الملكي خلال الحرب العالمية الأولى، مُحبّ للطائرات، ومهتم بشدة بالطائرات اللعبة. تطور اهتمامه بهذه الألعاب، كما روى لاحقًا، نتيجة لقاء عابر مع صبي كان يحاول جعل طائرته اللعبة تطير. وعندما عرض ديني عليه المساعدة، تحطمت الطائرة عن طريق الخطأ وتعرضت للتلف. أثناء بحثه عن بديل مناسب للصبي، أصبح الممثل مولعًا بالطائرات النموذجية.
في الثلاثينيات، كانت الطائرات اللعبة تُصنع من خشب البلسا، وغالبًا ما تُدار بواسطة أربطة مطاطية، ولم تكن تطير لمسافات بعيدة. بدأ ديني في إجراء التجارب وأصبح مفتونًا بالتكنولوجيا، التي كان يشاركها معه زملاؤه الممثلون جيمس ستيوارت وهنري فوندا. قام ديني بتأسيس شركته الخاصة، "شركة ديني راديوبلان"، ومن متجره في بوليفارد هوليوود، كان يبيع نماذج تبدو وكأنها طائرات مصغرة. كانت النماذج الأكثر تميزًا مزودة بمحرك صغير صممه المهندس والتر رايتر، الذي حصل ديني على حقوق براءته. وفي نهاية المطاف، ابتكر الممثل فكرة تصنيع طائرات نموذجية تعمل بالتحكم عن بُعد، والتي يمكن استخدامها كأهداف لتدريب مدافعي الدفاع الجوي. وقد قدم هذه الفكرة للجيش الأمريكي، لكن الاستجابة كانت غير حماسية. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، طُلب منه إنتاج هذه الطائرات بكميات كبيرة. في السنوات التي تلت ذلك، تحولت شركة ديني إلى عمل تجاري يحقق ملايين الدولارات، حيث أنتجت آلاف الأهداف الطائرة. كانت تُطلق بواسطة منجنيق، وتُدار عن بُعد من قبل مشغل يقوم بتوجيهها نحو مدافع الدفاع الجوي. وكانت تحتوي على ميزة جديدة تمامًا: نظرًا لأنها كانت مزودة بمظلة، فقد كانت قابلة لإعادة الاستخدام.
لهذا السبب، كانت طائرة (دينيOQ 2) الراديوية هي أول طائرة مسيرة تُنتَج على نطاق واسع بالشكل الذي نعرفه اليوم. جميع الأجهزة المشابهة الأخرى، حتى ذلك الحين، كانت مصممة للتدمير الذاتي. مع ازدهار شركة الطائرات الراديوية، زادت الحاجة إلى موظفين إضافيين. ومع تجنيد الرجال للقتال، تم توظيف النساء للعمل في خطوط الإنتاج. في عام 1944، بدأت نورما جين دوغرتي، التي ستصبح فيما بعد مارلين مونرو، العمل في مناوبات في موقع ديني بالقرب من مطار بوربانك. ومن المثير للصدفة أن مصورًا لمجلة الجيش "يانك" أُرسل إلى مصنع الطائرات الراديوية بتوجيه من قائده، رونالد ريغان. وعندما رآها المصور، طلب منها أن تتصور بجوار مروحة إحدى الطائرات. وسرعان ما أقنعها بالتقاط المزيد من الصور، وكانت هذه الصور بمثابة بداية مسيرتها كممثلة.
كان برنامج الطائرات المسيرة المنفصل والذي أُطلق خلال الحرب العالمية الثانية متبوعًا بالتهديدات الجسيمة التي نشأت من ألمانيا النازية. ففي منتصف عام 1940، بدأ المهندسون النازيون في تطوير أسلحة مدفعية بعيدة المدى كانت جديدة وسرية لدرجة أنه لم يُطلق عليها سوى اسم "Vergeltungswaffen"، أي أسلحة الانتقام. كانت المواقع التي بُنيت فيها هذه الذخائر محمية بشكل كبير، وكان ينجم عن الهجوم عليها بواسطة القاذفات خطر مميت. وفي أيلول/سبتمبر 1943، وصلت صور جوية إلى القيادة العليا للحلفاء تُظهر أن النازيين قد بدأوا في إنشاء هيكل معقد بالقرب من قرية ميمويك في منطقة باه دو كاليه. شارك أكثر من ألف عامل في حفر نظام متاهة من الأنفاق، كان الكثير منهم من الأسرى. وعلى السطح، كانت الشاحنات العسكرية تصل محملة بأنابيب غريبة وسكك حديدية معدنية.
استنتج المحللون من الحلفاء أن الموقع مُعد ليكون منصة إطلاق لصاروخ V1. لكن في الواقع، كانت الآلة شيئًا أكثر دمارًا. أُطلق عليها الاسم الرمزي "Fleissiges Lieschen" أو "Busy Lizzie"، وكانت تهدف لأن تكون أقوى مدفع في العالم، مُصممة لقصف لندن بقصف مستمر من المتفجرات. فبدلًا من إرسال القاذفات إلى العاصمة البريطانية، خطط هتلر لقصف المدينة بمئات القذائف في الساعة.
بعد أكثر من اثني عشر هجومًا على الموقع، تكبد الحلفاء خسائر فادحة دفعتهم إلى اتخاذ قرار نشر سلاح جديد مبتكر. كان مشروع "أنفيل" يعد بتحقيق شيء يبدو مستحيلًا: تنفيذ هجمات انتحارية على العدو دون فقدان الطيار. تضمن هذا المفهوم تفكيك قاذفات "PB4Y-1 ليبراتور" و"فورتريس" التي أصابها التعب من المعارك، وتزويدها بنظام من البكرات والمحركات يمكّن طاقمًا في طائرة مُرافقة لها من التحكم فيها عن بُعد عبر اتصال لاسلكي. كان العنصر الأكثر ابتكارًا في هذا النوع من الطائرات بدون طيار هو الكاميرا التلفزيونية التي كانت تنقل الصور المباشرة من مقدمة الطائرة إلى القائمين على التشغيل في الطائرة المرافقة. كانت التلفزيونات اختراعًا جديدًا، لم تكن متاحة على نطاق واسع في السوق الاستهلاكية بعد. استخدمت الكاميرات في مشروع "أنفيل" لتوجيه الطائرات نحو الأهداف المعادية، حيث كانت تُصنع لتصطدم، فتسبب في تفجير كميات كبيرة من "توربيكس"، وهو متفجر قوي مُخزَّن بداخلها. وعلى الرغم من إمكانياتها الفتاكة، كان لهذه الطائرات الطائرة غير المأهولة عيب واحد: لم تكن قادرة على الإقلاع بمفردها. حيث كان من الضروري وجود طيارين داخل الطائرات لجعلها تقلع وتوجهها في المسار الصحيح. وبمجرد توجيهها نحو هدفها، كان الطيارون يقومون بتنشيط نظام التوجيه عن بُعد ثم يقفزون بالمظلات. وفيما يتعلق بقصف ميمويك، اختارت البحرية الأمريكية رجلًا مؤهلًا بشكل استثنائي لهذه المهمة.
وُلِد جوزيف "جو" كينيدي في عام 1915، وكان الأخ الأكبر لجون ف. كينيدي. تطوع لأداء مهام خطرة في بريطانيا، حيث ساعد في تطهير بحر الشمال من الغواصات الألمانية. ورغم أنه كان مؤهلًا للحصول على إجازة، إلا أنه اختار التطوع للمشاركة في الهجوم بالطائرات بدون طيار على موقع المدفعية الثقيلة النازي. في 12 آب/أغسطس 1944، صعد كينيدي مع ضابط الأسلحة المتمرس ويلفورد جون ويلي على متن طائرة مسيرة من طراز ليبراتور، وقادا الطائرة على مدرج الإقلاع. وكانت حجرة الشحن محملة بشحنة قاتلة تزن 10.6 أطنان من "توربيكس". بينما أقلعوا، انضمت إليهم ثماني طائرات: أربع طائرات موستانغ مسلحة كحراسة، وطائرتان من طراز موسكيتو تحملان مراقبين، وطائرتان من طراز فينتورا، كل واحدة مزودة بمجموعة من أجهزة التحكم عن بُعد لتوجيه الطائرة المسيرة في حال حدوث عطل في أي من الأجهزة.
وعند اقترابهم من الساحل البريطاني، بدأ الملازم ويلي في تجهيز الشحنات. كما قام بتنشيط "البلوك"، وهو الاسم الرمزي للكاميرا التلفزيونية. وبمجرد أن أنهى دورته، استعد الطياران للقفز بالمظلات. قام كينيدي برفع الطائرة المسيرة إلى ارتفاع 600 متر. وعندما وصلت الطائرة إلى ارتفاعها المحدد، أرسل عبر الاتصال اللاسلكي كلمة "zoot suit"، وهو رمز يعني أن كل شيء جاهز. بعد دقيقتين، انفجرت الطائرة المسيرة. كانت الانفجار قويًا لدرجة أن الحطام تشتت عبر منطقة تمتد لأكثر من حوالي 3.21868 كيلومترًا. هطلت معظم الأجزاء على غابة نيو ديلايت وود، وهي غابة إنجليزية كثيفة اشتعلت فيها النيران على الفور. تسبب اللهب في أضرار لـ 147 ممتلكًا. قُتل كينيدي ورفيقه في الطيران على الفور. وخلص الخبراء إلى أن السبب الأكثر احتمالًا للحادث هو أن نبضة كهربائية من وحدة الكاميرا التلفزيونية تسببت في إشعال فتيل أحد الشحنات. وبغض النظر عن السبب، تم تعليق مشروع "أنفيل".
أثبت برنامج منافس للبحرية الأمريكية في المحيط الهادئ نجاحًا أكبر. تم تكليف مصنع شركة Interstate Aircraft and Engineering Corporation لإنشاء خط من الطائرات الهجومية، بشرط أن تُصنع تقريبًا بدون مكونات حيوية للحرب. فبدلًا من المعدن، تم تشكيل هياكل وأجنحة هذه الأجهزة من الخشب المعالج والمقوس بشكل احترافي من قبل خبراء في شركة وورليزر للآلات الموسيقية.
وعلى الرغم من أن المواد المستخدمة جعلت طائرة Torpedo Drone TDR-1 تبدو تقليدية، إلا أن أنظمتها الداخلية كانت متطورة للغاية، بما في ذلك نظام التحكم عن بُعد، والكاميرا التلفزيونية، وجهاز التتبع بالرادار. "ما ترك انطباعًا قويًا علينا جميعًا"، كما قال أحد المشغلين لاحقًا، "كان هذا الأمر سريًا للغاية. لم يُسمح لنا بمناقشته، حتى بين أنفسنا".
نُشرت الوحدة في جزر رسل، وسرعان ما بدأت في تنفيذ هجمات على مواقع الدفاع الجوي اليابانية. بعد إطلاقها من قبل طاقم أرضي، تم تسليم طائرات TDR-1 إلى طيار التحكم الذي كان يستخدم عصا للتحكم وهو مُختبئ تحت غطاء طائرة TBM المرافِقة، يتأمل الصور الخضراء الباهتة التي تُنقل إليه عبر كاميرا الطائرة المسيرة. بعد ذلك، كان هذا المشغل يقوم بتوجيه الطائرة المسلحة غير المأهولة نحو الهدف بينما كانت طائرة TBM تحلق على مسافة آمنة بعيدًا عن نيران العدو. وسرعان ما حققت القوة الضاربة إصابات ضد السفن الراسية في الماء، والتي كانت تعمل كنقاط انطلاق للمدافع المضادة للطائرات اليابانية. كانت الأهداف الواضحة المعالم في السماء هي الأفضل، لكن العثور على الأهداف المموهة في خلفية الغابة على شاشة التلفزيون أحادية اللون كان تحديًا مختلفًا تمامًا. ورغم هذه الصعوبات، أثبتت السجلات الحربية لطائرة TDR-1 أنها مرضية، حيث حققت الوحدة واحدًا وعشرين إصابة مباشرة. والأهم من ذلك، أنه لم يُقتل أي أمريكي خلال هذه الغارات، مما أبرز الإمكانيات الكبيرة لهذا السلاح.
مع بزوغ فجر القاذفات بعيدة المدى والصواريخ الباليستية، تضاءل اهتمام المخططين العسكريين بالطائرات المسيرة المسلحة. في الوقت الذي كانت فيه شهية الجيش للطائرات المسيرة تتقلص، كانت الثقافة الشعبية تغمرها آلات القتل. في فيلم "روبوت مونستر" لعام 1953، يسعى أندرويد لتدمير آخر عائلة حية على كوكب الأرض.
في فيلم "Target Earth" (1954)، تغزو الروبوتات القادمة من كوكب الزهرة كوكب الأرض، وفي فيلم "كرونوس" (1957)، يرسل الفضائيون روبوتًا عملاقًا إلى الأرض لامتصاص موارد طاقتها. بينما كان رواد السينما يغمرون أنفسهم في هذه التخيلات الكارثية، كان هناك رجل واحد يتأمل بعمق في السؤال: ماذا سيحدث إذا أصبحت فكرة صعود الآلات واقعًا ملموسًا؟ الكاتب الروائي إسحاق أسيموف، الذي صاغ مصطلحي الروبوتات والبوزيترونيك في عام 1942، نشر قصة قصيرة تحتوي على "قوانين الروبوت الثلاثة"، والتي يمكن اعتبارها أول تأمل فلسفي في أخلاقيات الأسلحة الروبوتية. تنص القاعدة الأولى لأسيموف على أن الروبوت لا يجوز له إيذاء إنسان؛ أما الثانية فتشترط عليه إطاعة البشر ما لم يتعارض ذلك مع القاعدة الأولى؛ والثالثة تفرض على الروبوت حماية وجوده الخاص، شريطة ألا تتعارض هذه الحماية مع القوانين الأخرى.
ولا تزال قوانين أسيموف للروبوتات يُستشهد بها حتى يومنا هذا. بينما يجادل البعض بأن الطائرات المسيرة الحديثة ليست روبوتات، لأنها تُدار عن بُعد ولا تستطيع التفكير أو التصرف بشكل مستقل، فإن التطورات السريعة في تكنولوجيا الطائرات المسيرة قد تجعل قوانين أسيموف ذات فائدة عملية قريبًا.
على الرغم من أن تكنولوجيا الخمسينيات لم تكن قادرة على الاقتراب مما تخيله صانعو الأفلام وكتّاب القصص الشعبية، إلا أن حقبة الستينيات شهدت تحولًا جذريًا في مسار التكنولوجيا العسكرية، خاصة بعد إسقاط عدة طائرات تجسس من طراز U2 وB-47 على يد السوفييت. فقد أدت هذه الأحداث إلى إدراك الجيش الأمريكي ووكالة الاستخبارات المركزية أن العمليات الاستطلاعية المأهولة أصبحت تحمل مخاطر متزايدة. لقد تم تحديث نظام الدفاعات الصاروخية المضادة للطائرات في الاتحاد السوفيتي بشكل كبير لدرجة أنه لم يعد من الآمن انتهاك مجاله الجوي. لذلك، استجابت الولايات المتحدة بوتيرة ملحوظة لتطوير طائرات مسيرة جديدة، أسفرت عن تطوير طائرة Lightning Bug، وهي طائرة مسيرة صممت لكشف مواقع الصواريخ النووية السوفيتية. شهدت حرب فيتنام أول استخدام واسع النطاق للطائرات المسيرة في ساحات القتال، حيث كانت تُنفذ مهمة واحدة في المتوسط كل يوم. في تلك الأثناء، كانت البحرية تختبر طائرة هليكوبتر مسيرة تُعرف باسم DASH QH-50، التي أُرسلت إلى فيتنام لتحديد أهداف المدفعية وملاحقة الغواصات. كما تم تصور تصميم يتيح للطائرة المسيرة إمكانية إيصال قنبلة نووية تكتيكية، على الرغم من أنه لم يتم السعي لتجربة ذلك. خلال العقود القليلة الأولى من خدمتها، أثبتت الطائرة المسيرة أنها جهاز مزاجي، حيث فقد منها 441 طائرة، معظمها نتيجة أعطال تقنية.
مع تكاثف حدة التوترات في الحرب الباردة، أصبحت مهمات التجسس هدفًا، وبلغت ذروتها في تطوير طائرات الاستطلاع فوق الصوتية. ومن بين هذه الآلات، كانت الطائرة السوفيتية العملاقة "توبوليف تو-123" الأكثر غموضًا، وهي صاروخ كروز معدّل مزود بالكاميرات وأجهزة استشعار إلكترونية. كان هذا النظام مكلفًا للغاية لأنه لم يكن قابلًا لإعادة الاستخدام وكان يتعين التخلص منه بعد كل مهمة. وحتى يومنا هذا، لا يُعرف ما هي مهام الاستطلاع التي أُجريت باستخدام هذه الطائرة، ومن حسن الحظ أنها لم تُكتشف أبدًا، حيث كان من المحتمل أن يُفسر خط الإنذار المبكر في الغرب هيكلها ونمط طيرانها على أنه صاروخ نووي سوفييتي قادم.
بعد ثلاثين عامًا، أصبحت الطائرات المسيرة ظاهرة سائدة في عالمنا المعاصر. ويعزى ذلك إلى الابتكارات التي قدمها المهندس الإسرائيلي أبراهام كارم، الذي صمم الهيكل الجوي المتين الذي أصبح يُعرف بالطائرة المخيفة "بريداتور". وقد لبت هذه الطائرات المُحدثة الطلب المتزايد والمُلِحّ على هذه التقنية. يرى مؤيدو تكنولوجيا الطائرات المسيرة، لاسيما في الولايات المتحدة وإسرائيل، أنفسهم تحت تهديد "الاقتحامات غير المتكافئة"، خصوصًا الهجمات الإرهابية. في مثل هذه النزاعات، يُعتبر جمع المعلومات الاستخبارية بشكل فوري بنفس أهمية القوة العسكرية للدبابات والمدافع.
وفي ذات الوقت، جعلت أنظمة تحديد المواقع العالمية، التي تم تطويرها كتكنولوجيا عسكرية في السبعينيات، الطائرات المسيرة أكثر دقة بشكل ملحوظ. بفضل شبكة محطات الإرسال عبر الأقمار الصناعية، مثل القاعدة الأمريكية في رامشتاين، ألمانيا، يمكن توجيه الطائرات المسيرة من قواعد تقع على بُعد نصف الكرة الأرضية. كما أن الكاميرات عالية الدقة وتقنيات جمع المعلومات الحديثة قد عززت قدرات هذه الطائرات، حيث أصبحت قادرة على تتبع واستهداف هواتف معينة حتى بعد إيقاف تشغيلها وإزالة البطارية. اليوم، تقوم الطائرات المسيرة بالتنصت على كل شيء، من محادثات الهاتف إلى رسائل البريد الإلكتروني، وتؤدي مهام "الصائد القاتل".
بينما يتصارع الجمهور مع التداعيات الأخلاقية للحملات الجوية التي تُدار عن بُعد باستخدام الطائرات المسيرة، تلوح في الأفق تحديات جديدة. مع تقدم التكنولوجيا، من المرجح أن تصبح الطائرات المسيرة أكثر استقلالية. حتى قرار القتل قد يتم تفويضه للروبوتات، وهو ما أدانته مؤخرًا مقرر خاص من الأمم المتحدة بوصفه "موتًا بواسطة الخوارزمية". ومع اكتساب دول أخرى غير الولايات المتحدة للطائرات المسيرة ونشرها، تبرز أيضًا إمكانية حدوث معارك جوية بين طائرات مقاتلة مسيرة تسير بسرعات مذهلة، مما يتطلب مناورات بسرعة تجعل رد فعل الطيار البشري غير ممكن.
ثبت أن الطائرات الأمريكية "ريبر" و"بريداتور" بعيدة عن أن تكون أسلحة دقيقة كما كان يُشاع عنها سابقًا. إذ كانت الوفيات بين المدنيين في باكستان وأفغانستان كبيرة. وفقًا لمجموعة من الملفات الحكومية التي تم تسريبها مؤخرًا، فإن 90 % من الوفيات في إحدى العمليات الأمريكية في أفغانستان خلال فترة خمسة أشهر بين عامي 2012 و2013 لم تكن من الأهداف المقصودة. ووفقًا للوثائق المسربة، يُشار إلى الأهداف باسم "المهام"، بينما يُطلق على عمليات القتل اسم "الجوائز الكبرى". أما الأشخاص الذين قُتلوا دون أن يكونوا الهدف المحدد، فيُطلق عليهم "EKIA"، أي "عدو قتل في المعركة"، حتى لو لم يكن هناك أي ارتباط بالهدف المحدد.
أفادت دراسة أجراها فريق عمل تابع للبنتاغون بأن الحملات الأمريكية المستمرة في اليمن والصومال تواجه تحديات ملحوظة، حيث تعاني الطائرات المسيرة من قيود تتعلق بالوقود وقواعد الانطلاق المتاحة، مما يجعلها تقضي أحيانًا نصف وقتها في التنقل نحو أهداف الاستطلاع. هذا الأمر يجعل الحرب بالطائرات المسيرة باهظة التكلفة وغير فعالة. وقد وصف مؤلفو التقرير هذا الوضع بأنه نتيجة لـ "طغيان المسافة" الناجم عن خوض الحروب من قواعد نائية. إضافةً إلى ذلك، هناك شكوى أخرى مفادها أنه بالرغم من قدرة الطائرات المسيرة على التحليق فوق الأعداء -التقاط الاتصالات الإلكترونية وتتبع حركة الأهداف- إلا أن الأعداء أصبحوا أكثر مراوغة. في المقابل، يمكن للجيش الذي يتواجد على الأرض استجواب المقاتلين الأسرى وجمع معلومات استخباراتية بشرية قيمة. أما متابعة العدو من الجو فقط، فإنها تمنح القادة معلومات ضئيلة عن الوضع الحقيقي على الأرض.