كثيرًا ما تساءل الناس عن سبب عدم إكمال إسرائيل لمهمتها عام 1948 وإبادة كل من حولها والانفراد في دولة يهودية خالصة نقية تمتد حدودها من الفرات إلى النيل، بدلًا من تقسيط هذه الإبادة على حروب عدّة عاصرتها أجيال كثيرة كل منها أورث للجيل الذي بعده العداء للمشروع الصهيوني. واللافت خروج أصوات إسرائيلية رسمية خلال الحرب على غزة تلوم "الآباء المؤسسين على هذا الخطأ"، الذي يمكن "تبرئتهم" منه عندما نعرف أن حاييم وايزمان وديفيد بن غوريون قدّما في مؤتمر باريس للسلام عام 1919، الذي أنهى الحرب العالمية الأولى، خريطة تضم الحدود المأمولة لدولتهما اليهودية، تضمنت نهر الليطاني في لبنان الحالي وصولًا إلى سيناء جنوبًا.
أصبح وايزمان أول رئيس لإسرائيل، كما أصبح بن غوريون أول رئيس وزراء لها عندما تأسست الدولة عام 1948 على أنقاض المجتمع الفلسطيني. ورغم نجاحهما في احتلال فلسطين وتهجير أهلها، إلا أنهما فشلا في ضم نهر الليطاني لإسرائيل بسبب معاهدة سايكس – بيكو التي حددت فيها بريطانيا وفرنسا الحدود بين لبنان وفلسطين مسبقًا، وأصرت فرنسا على مضمون المعاهدة في مؤتمر باريس، وذهب الليطاني إلى لبنان.
وتظهر أهمية لبنان في المخيال السياسي الصهيوني بإطلاقها على غزوها لجنوبه في 1978 اسم "عملية الليطاني"، بهدف معلن هو تطهير قواعد "منظمة التحرير الفلسطينية"، جنوب نهر الليطاني، لضمان أمان شمال إسرائيل. أما غزوها للبنان عام 1982، فقد كان الهدف الإضافي منه الوصول إلى مياه نهر الليطاني. وبعد 22 عامًا من صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 425، الذي ينص على انسحاب إسرائيل من لبنان، فإنها ما زالت تحتل مزارع شبعا وتشن حروبًا متتالية هدفها الوصول إلى الليطاني بأي طريقة، وآخرها العملية العسكرية الجارية التي اختار الإسرائيليون من إعادة "حزب الله" إلى ما وراء وراء الليطاني هدفًا لها.
خلال اجتماعه بـ"الكابينت" يوم الاثنين، أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن الهدف الرئيسي للعملية العسكرية الإسرائيلية في لبنان هو فك الارتباط الذي تشكل في 8 تشرين الأول/أكتوبر بين الجبهة اللبنانية وجبهة قطاع غزة، إضافةً إلى الضغط العسكري على "حزب الله" بهدف إحراز تقدم في صفقة تبادل الأسرى مع حركة حماس. لكن ماذا لو لم تحقق العملية العسكرية أي من الهدفين على غرار فشل الحرب على غزة باستعادة المحتجزين والقضاء على حماس؟ هنا يمكن أن يكون السؤال الأكثر دقة: هل العملية العسكرية على لبنان وليدة 7 تشرين الأول/أكتوبر أصلاً؟
وعلى غرار استراتيجيتها في قطاع غزة، وصفت إسرائيل هجماتها على لبنان بأنها "واسعة" ضد "حزب الله"، كما تفاخر نتنياهو بأن "إسرائيل وجهت لحزب الله ضربات لم يكن يتوقعها"، متجاهلًا أن عملية "البيجر" كانت مجزرة بحق المدنيين بكافة المقاييس والأعراف الدولية والحقوقية، مكررًا بذلك منطقه "الإباداوي" الذي ينفي وجود مدنيين في لبنان كما نفى وجودهم في فلسطين سابقًا. فـ"حزب الله"، كما حماس، حزب سياسي لديه مقاعد في البرلمان، وليس كل عضو فيه هو مقاتل.
وهذا يعني أن استهدافهم كأهداف عسكرية أمر مشروع، على الرغم من أن التقارير تشير إلى أن الأجهزة المستخدمة في التفجيرات كانت تعود في معظمها لعاملين مدنيين في مؤسسات تابعة لـ"حزب الله"، ومستخدمة من قبل شريحة واسعة من الناس بما في ذلك الإداريين والعاملين في المجال الطبي، وانفجرت أثناء وجودهم في مناطق تعجّ بالمدنيين. وبمعنى أدق، وكما أشارت "نيويورك تايمز"، فالانفجارات لم يكن لها هدف استراتيجي، حيث إن إسرائيل لن تُجبر قادة "حزب الله" على التخلي عن قضيتهم عبر تفجير أجهزة بسيطة، بل كان الهدف هو تعزيز الخوف لدى المدنيين من الأجهزة الإلكترونية المحيطة بحياتهم اليومية.
وفي ظل دراسة الحكومة الإسرائيلية فرض ضرائب على البنوك بهدف تخفيف العبء المالي الناتج عن الحرب على لبنان، والتي قدرت بنحو 20 مليار شيكل (حوالي 6 مليارات دولار)، إلى جانب النفقات والخسائر التي تتكبدها جراء حربها منذ 7 أكتوبر 2023 على غزة، فإنه كلما طالت فترة الحرب وزادت العمليات البرية في عمق لبنان زادت النفقات بشكل ملحوظ، ما يفرض أعباء مالية أكبر على الاقتصاد الإسرائيلي. وتؤكد هذه المعطيات أن أي تمديد في العمليات العسكرية أو تحولها إلى مواجهة طويلة الأمد سيفاقم التكاليف الاقتصادية، مما يستدعي تدابير استثنائية لتمويل هذه النفقات المتزايدة، مثل فرض الضرائب على المؤسسات المالية. وتضع هذه التحديات الحكومة في موقف حساس، حيث يتعين عليها الموازنة بين استمرار الحرب وتحمل تبعاتها الاقتصادية، أي أن الثمن الذي يتم تقديمه الآن لهذه الحروب لا يمكن أن يكون مقابل هدف إعادة الهدوء إلى الجبهة الشمالية، أو استعادة المحتجزين في غزة.
من هنا، وبالعودة إلى تاريخ الحركة الصهيونية، يمكن النظر إلى أن حروب إسرائيل وعملياتها العسكرية في المنطقة، وتحديدًا في لبنان، تحمل وراءها أهدافًا أوسع لا علاقة لها بوجود "حزب الله" أو مقاومة ما. ففي عام 1937، أشار ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني، في تقريره أمام المجلس العالمي لعمال صهيون، إلى "الخطة الاستراتيجية للجيش الإسرائيلي" التي نُشرت في كتاب "خنجر إسرائيل" للسياسي الهندي ر. ك. كرانجيا، حيث أكد على ضرورة الاستيلاء على الأراضي الحيوية ذات الأهمية الاستراتيجية خلال الحروب، وتلبية احتياجات إسرائيل من الأراضي. وفي هذا السياق، اعتبرت الخطة أن المناطق المجاورة لقناة السويس ونهر الليطاني والخليج العربي هي من الأهداف الأساسية.
تَعتبر إسرائيل تاريخيًا الدول المحيطة بها هدفًا استراتيجيًا، وقد سعت المؤسسة العسكرية والأمنية إلى تفكيك وتطويع تلك الدول والسيطرة على الأراضي ومصادر المياه تباعًا، وهي عوامل تعطي لبنان مكانة بارزة في الاستراتيجية الصهيونية. ففي الخمسينيات، حُدّدت أهداف العمليات الهجومية في القطاع الشمالي بإنشاء خط دفاعي على طول نهر الليطاني لحماية الجليل وحيفا، وليس من الصدفة أن تطالب إسرائيل "حزب الله" بالتراجع لما وراء الليطاني تحديدًا، وهي حقائق يمكن أن نراها بوضوح قبل 18 عامًا من دخول "حزب الله" على خط المواجهة إبان "طوفان الأقصى"، وتحديدًا في تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت بعد قرار وقف العمليات الحربية على لبنان عقب حرب تموز/يوليو 2006، عندما أكد على: "ضرورة التحضير للجولة القادمة والاستعداد دائمًا لها"، ما يعني أن الجولة القادمة تلك حُدّدت مسبقًا بغض النظر عن دور "حزب الله" الحالي.
ويمكن ملاحظة نمط آخر من الوحشية الصهيونية يفنّد ذرائع إسرائيل في عمليتها العسكرية الجارية بكونها تستهدف منع "حزب الله" من مهاجمتها. فخلال الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، حاصرت قواته مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت وسهلت وسنادت عمليات ذبح فصائل لبنانية يمينية للآلاف من اللاجئين الفلسطينيين العزل بدم بارد. وقد حدثت تلك المجزرة رغم استسلام المخيم للقوات الإسرائيلية، ورحيل مقاتلي "منظمة التحرير الفلسطينية" عن بيروت، وعدم وجود أي مقاتل من "حزب الله"، وهو ما يطرح سؤال ما إذا كان تسليم "حزب الله" أو المقاومة الفلسطينية لسلاحهما سيمنع إسرائيل من إبادة المدنيين وغزو الأراضي المحيطة فعلًا.
ومهما حاولت إسرائيل تبرير عملياتها وإعطائها غطاء "الدفاع عن النفس"، فإنها سرعان ما تدين نفسها بكونها العامل الرئيسي في زعزعة الاستقرار والأمن في المنطقة. وهو ما يشير إليه تاريخها الأسود القائم على احتلال الأراضي والتهجير والقتل الممنهج والإبادة الجماعية، يضاف إليه تصريحات مسؤوليها التي تنفي لوجود مدنيين أو استسهال فكرة استخدام أسلحة دمار شامل، أو التلويح وتهديد دول المنطقة بشن حروب تعيدها للعصور الحجرية، والمحاولات المستمرة لدفع المنطقة لحرب شاملة مستندة على ثقتها بأهميتها الاستراتيجية لأميركا التي ستجرها إلى مساندتها أو حتى المشاركة معها في أي حرب إقليمية قادمة مهما حاولت واشنطن تجنب ذلك مستخدمة قنواتها الدبلوماسية وحلفاءها في الشرق الأوسط للضغط على إيران و"حزب الله" ليتوخيا الحذر في ردودهما، محذرة من أن أي رد فعل واسع سيؤدي إلى تصعيد أكبر ومواجهة مباشرة مع إسرائيل، التي ستقاتل بدعم واشنطن.
جميع المؤشرات والحقائق التاريخية تثبت أن لبنان في منظور إسرائيل هدف حيوي سواء كانت هنالك مقاومة أم لا، بوجود سلاح بيد "حزب الله" أو عدمه، بدعمه للمقاومة الفلسطينية أو انسحابه من الصراع. ومن الواضح في حديث نتنياهو للكابينت أن أهداف عمليته العسكرية على لبنان هي ذاتها أهداف حربه على غزة، ولا يمكن لسياسي مخضرم بثقله أن يكون ساذجًا ليحدد أهدافًا ثبت له أنه لا يمكن تحقيقها عسكريًا خلال الأشهر العشر السابقة، ومن غير المعقول أنه لم ينتبه ولا لحظة إلى أن الحل "السحري" لاستعادة المحتجزين وعودة الإسرائيليين إلى بيوتهم وتحقيق سلام لهم يكون بالوصول إلى صفقة مقبولة مع المقاومة لا من خلال شن الحروب التي لم تغيّر الواقع على الأرض، حيث لا يزال سكان الشمال ومن بقي حيًا من المحتجزين بعيدين عن منازلهم، ويتكبد المجتمع الإسرائيلي مزيدًا من الأضرار الكبيرة في مجالات الاقتصاد والصحة والتعليم والعلاقات الخارجية.
تسعى إسرائيل بوضوح إلى إشعال حرب إقليمية، مسلحة بإمدادات غير محدودة من الأسلحة الأميركية، وتوسيع حربها إلى لبنان بهدف التصعيد الذي قد يجر الولايات المتحدة مباشرة إلى الصراع، وقد أرسلت وزارة الدفاع الأميركية قوات إضافية إلى المنطقة تحسبًا لتفاقم الصراع، وجاء هذا التصعيد بعد تصريحات وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الداعمة "لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد هجمات حزب الله اللبناني".
وبحسب مركز مدار للدراسات، ومنذ أكتوبر 2023 وحتى قبل بداية العملية العسكرية الجارية على لبنان، استهدفت إسرائيل جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت بـ7633 صاروخًا ومسيرة، متسببة باستشهاد 479 لبنانيًا وإجلاء أكثر من 110 آخرين، يضاف لهم 558 شهيدًا في 48 ساعة فقط منذ إطلاق عملية "سهام الشمال" التي كلفت حتى الآن مليار دولار أميركي باحتساب تكلفة صواريخ الهجوم والاعتراض فقط، بعيدًا عن الحسابات الاقتصادية غير المباشرة للعملية.
لكن تحقيق الاستقرار في المنطقة يكلف ثمنًا أقل من هذا بكثير بمنح الفلسطينيين حقوقهم بداية من وقف كامل لإطلاق النار، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة، ووقف العدوان على دول الجوار، بالإضافة إلى تقديم مساعدات إنسانية للفلسطينيين واللبنانيين، وإرادة سياسية بعيدة عن المصالح الشخصية تصرّ على عقد سلام عادل ودائم. فوقف إرسال الأسلحة لإسرائيل لإجراء حروب الإبادة أسهل من إجلاء كل أميركي في لبنان كما قالت النائبة في الكونغرس رشيدة طليب، لكن صوت العقل هذا لا يبدو أنه وازن في الوقت الذي يرى فيه الإسرائيليون في معظمهم أن نتنياهو بطل قومي ويتنافس ترامب مع كامالا خلاله على إثبات الدعم المطلق لحكومة إسرائيلية هي الأكثر هستيرية منذ 1948.