قد يحدث في الديمقراطيات أن توافق الفصائل اليسارية على دعم حكومات يسار الوسط مقابل الحصول على منصب سياسي أو وزاري والمشاركة في الحكم. بيد أنه في الولايات المتحدة (أمّ الديمقراطية التي "تتطوع" دائمًا لنشرها في العالم الثالث ولو بالقوة)، يدعم اليسار يسارَ الوسط دون الحصول على أي تنازلات، بل لمجرّد تجنب وصول اليمين إلى الحكم في بلاد يتعاقب على حكمها حزبان فقط هما "الجمهوري" بجناحيه الوسط واليمين، و"الديمقراطي" بجناحيه الوسطي واليساري. ولكن هل يوجد فعلًا في الحزب الديمقراطي يسار بالمعنى الأيديولوجي للكلمة؟
الجواب السهل: نعم، يوجد يسار أميركي، ومن أبرز وجوهه السيناتور الديمقراطي بيرني ساندرز وأليكساندريا كورتيز وغيرهما. ولكن الجواب الأكثر دقة هو أن الموجود ليس يسارًا وإنما "ليس يمينًا". وفي العدوان الإسرائيلي على غزة ثمة الكثير من الشواهد التي فتحت هذا السؤال من جديد أمام الأميركيين أنفسهم، والناشطين اليساريين الشباب الذين دعموا هذا اليسار في حملاته الانتخابية.
بدأ تشكل اليسار في أميركا في نهايات القرن التاسع عشر. وعلى مدى العقدين الأولين من القرن العشرين، كان اليسار، ممثلًا بالحزب الاشتراكي، متجذرًا بعمق في السياسة الأميركية، حيث حصل في عام 1912 على 900 ألف صوت في الانتخابات الرئاسية، وفاز الاشتراكيون بمقاعد في مجالس المدن، واحتلوا مناصب نقابية عالية في المصانع والشركات والمناجم. كما كانت الدوريات الاشتراكية، مثل مجلة "مناشدة العقل"، من بين المنشورات الأكثر قراءة في البلاد، قبل أن تتسبب عدة عوامل بانهيار اليسارية الأميركية واحتوائها داخل تيار محجّم في الحزب الديمقراطي، هدفه دعم تيار الوسط في سبيل عدم وصول الجمهوريين إلى الحكم.
العوامل الداخلية التي لعبت دورًا في تحجيم اليسار الأميركي، هي نفسها التي ساهمت في انتشارها. فكما نتج عن اندماج منظمتين اشتراكيتين بقيادة كل من يوجين دبس (أقصى اليسار) وفيكتور بيرجر (الذي سيمثّل يسارًا عصريًا لاحقًا)، نتج كذلك عن الفصيلين صراعات بين تيار ماركسي متشدد يدعو لثورة، وآخر يريد تكريس التعاون بين العمال والإدارات وتجميل النظام الاجتماعي الاستغلالي من أجل تحقيق مكاسب، وتيار ثالث منبثق عن مجموعة الاشتراكيين التابعة لموريس هيلكيت.
ثم أتت العوامل الخارجية كضربة قاسمة للاشتراكية الأميركية، فلعبت الثورة البلشفية دورًا حاسمًا في تمزق اليسار الأميركي بين مؤيد لاستنساخ التجربة ومعارض لها، وصولًا إلى الحرب العالمية الأولى والخلاف على المشاركة في الحرب من عدمه.
وفي رسالة إلى يوجين دبس، الذي كان في السجن الفيدرالي بسبب خطاباته المناهضة للحرب، اعترف أحد أعضاء الحزب بأنه أضعف من أي وقت مضى في التاريخ، وقال: "نحن نفتقر تمامًا إلى الشجاعة أو الاعتماد على الذات".
هكذا انتهى اليسار بشكله الأيديولوجي المناهض للكولونيالية. وبحلول منتصف العشرينيات، انخفضت قوائم عضوية الحزب الاشتراكي إلى بضعة آلاف، وتزايد تركيزه على إقامة تحالفات مع إصلاحيين في الحزب الديمقراطي للحفاظ على بعض النفوذ السياسي، ومن حينها واليسار سجين هذه العلاقة.
بالعودة إلى يسار اليوم، نجد في آراء ومواقف أكبر ممثليه، السيناتور بيرني ساندرز، الكثير من الأجوبة عن ماهيّة اليسار الأميركي المتبقّي. فالرجل الذي نشأ في "كيبوتس" اشتراكي صهيوني بالقرب من حيفا في ستينيات القرن المنصرم، وصف تجربته هذه بأنها كانت فرصة ليكتشف ويجرّب بنفسه "القيم التقدميّة التي تقوم عليها دولة إسرائيل"، مضيفًا: "أعتقد أنه من المهم جدًا للجميع، وبشكل خاص للتقدميين، الاعتراف بالإنجاز الهائل المتمثل في إنشاء وطن ديمقراطي للشعب اليهودي بعد قرون من التهجير والاضطهاد".
السيناتور الذي يُتهم عادةً بمعاداة السامية، ويوصف تارةً أخرى بأنه ماركسي، دعا بالفعل إلى وضع حد للقصف العشوائي على غزة وقتل الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، وحذّر من مغبّة الاجتياح البري، وأصر على المزيد من المساعدات الإنسانية. ولكن الأهم هو موقفه الرافض بشكل قاطع لأي دعوة لوقف إطلاق النار، على عكس موقف ناشطي اليسار من الجيل الجديد مثل جمال بومان، والشباب اليساريين المنظمين في مجموعات تحت لواء الاشتراكيين الديمقراطيين، أو كما تُعرف اختصارًا "دي إس إيه". فمنذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية على غزة، كان ساندرز واضحًا في أن هذا هو موقفه: "إن إسرائيل تعرضت لهجوم كبير، ولها، كما هو الحال مع جميع الدول الأخرى التي تمر بظروف مماثلة، الحق المطلق في الدفاع عن نفسها".
يرتكز موقف ساندرز على عدة عوامل. فعلى الرغم من أنه يقف إلى يسار زملائه في مجلس الشيوخ، وقد أعرب باستمرار عن دعمه لحقوق الإنسان الأساسية للفلسطينيين، وانتقد اللوبي الإسرائيلي؛ إلا أنه في الكثير من النواحي نتاج للتقاليد الصهيونية الليبرالية.
ومن ناحية أخرى، فهو يرى أن اليساريين المطالبين بوقف إطلاق النار متطرفون ولا عقلانيين وينظرون إلى القضية ضمن سياق: "مشروع استعماري يتّهم إسرائيل بكونها المعتدية في الأساس"، وهو ما يعدّه تضليلًا! ذلك أن هؤلاء الشباب ينتمون لخلفيات متنوّعة من طلاب الجامعات وأعضاء هيئة التدريس، وناشطين في حركة "حياة السود مهمة"، و"الاشتراكيون الديمقراطيون"، وهم شباب يصغرونه بعقود ويفتقرون إلى الارتباط المباشر بالصدمة الشخصية التي يشعر بها العديد من اليهود الأميركيين من جيله، حيث سبق أن ركّز في حملته الانتخابية عام 2020 على خلفيته اليهودية وحقيقة أن والده، وهو مهاجر من بولندا، فقد معظم عائلته في المحرقة.
يروّج الكثير من رفاق ساندرز والمقربون من أفكاره "اليسارية" إلى أن اليسار الجديد "المتطرف" جرّد الإسرائيليين من إنسانيتهم، وروّج لإسرائيل بصفتها قوة استعمارية إمبريالية، وأن الإسرائيليين مستعمرون استيطانيون، وأن للفلسطينيين الحق في القضاء على مضطهديهم البيض. كما يدّعون بأن هذه الأيديولوجيا هي مزيج سام وغير منطقي تاريخيًا من النظرية الماركسية والدعاية السوفييتية ومعاداة السامية التقليدية من العصور الوسطى والقرن التاسع عشر، وما كان لها أن تظهر على السطح لولا حراكات الشباب اليساري الجديد الذي يرى التاريخ من خلال مفهوم عرقي مستمد من التجربة الأميركية.
من هذه الأرضية ينطلق موريس إيسرمان، أستاذ التاريخ في كلية هاملتون، وهو عضو مؤسس في "الاشتراكيون الديمقراطيون" في أميركا، والذي نشر مقالًا (أقرب إلى بيان استقالة) في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 في مجلة "ذا نيشن" أعلن من خلاله استقالته من المجموعة الاشتراكية "دي إس إيه" بعد أكثر من أربعة عقود، مشيرًا إلى أنه مغادر "بحزن وغضب" احتجاجًا على رد فعل قيادة "الاشتراكيون الديمقراطيون" المفلس: "سياسيًا وأخلاقيًا على المذبحة المروعة التي ارتكبتها حماس في 7 أكتوبر ضد اليهود".
وروّج إيسرمان في مادته للدعاية الإسرائيلية عن ذبح حماس لـ1400 مدني بينهم أطفال ورضّع، قائلًا إن استقالته بمثابة إعلان براءة من بيان "دي إس إيه" الذي لم ينتقد أو يدين "حماس"، واعتبر أن بيان المنظمة اليسارية التي ناضل خلالها لعقود لا يمثّله ولا يمت لليسار بصلة، خصوصًا ما جاء فيه عن أن: "أحداث اليوم هي نتيجة مباشرة لنظام الفصل العنصري الإسرائيلي، وهو النظام الذي يتلقى تمويلًا بالمليارات من الولايات المتحدة".
إيسرمان وساندرز يساريان نظريًا، لكنهما عمليًا ترجمة ليسار أقرب إلى الصهيونية من كونه داعمًا للعدالة والحرية والمبادئ التي يقوم عليها اليسار في العالم؛ يسار لا يسمح بأي حراكات ضد الصهيونية والفاشية والرأسمالية والاستعمارية، كما أن كلاهما ينظر إلى الحراكات الشبابية المتحمّسة لإحداث تغيير فعلي بعين الريبة ويحذران من خطرها على أميركا وإرثها السياسي التقدمي. فكما هاجم ساندرز مجموعات اليسار، وجد موريس في مطالب "مجموعة العمل الوطنية للمقاطعة والتضامن مع فلسطين" بإنهاء كافة المساعدات الأميركية لإسرائيل وإنهاء الاستعمار من النهر إلى البحر؛ سببًا يحمله على الاستقالة من عضوية "الاشتراكيون الديمقراطيون".
يشير تبرؤ ساندرز من الخطاب اليساري الجديد، واستقالة موريس من "دي إس إيه"، ومواقف غيرهما من ممثلي هذا اليسار في الحزب الديمقراطي؛ إلى هزيمة هذا الجيل الذي كرّس العلاقة غير المتكافئة بين اليساريين والحزب الديمقراطي أمام تقدّم خطاب شبابي نشط وجذري لم يعد يقبل بالخضوع للحزب ضمن علاقة من طرف واحد. فموقف الاشتراكيين الديمقراطيين من أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر وما تلاها، والمسيرات الحاشدة التي نظمتها والحراكات الفاعلة التي تقودها – ليس فقط ضد الصهيونية بل ومنظومة الحكم الأميركية – توضّح بشكل فاعل أن أميركا ليست محصّنة ضد وجود يسار حقيقي يعمل على الحرية وتحرير الشعوب والعدالة الاجتماعية، فقد أصبح دعم حركة المقاطعة "بي دي إس" اختبارًا حقيقيًا داخل الحراكات الشبابية للتأكد من إيمان وجدية المنضمّين بقيم العدالة التي ينادون بها، وأصبحت المطالبة بالانفصال عن الحزب الديمقراطي أمر واقع وحراك له مؤيدون وجماهير، ولم يعد يجمع اللجنة السياسية الوطنية في "دي إس إيه" أي قواسم مع أبرز الاشتراكيين الديمقراطيين.
ويكفي أن يختم موريس استقالته بالقول إن: "المنظمة التي لا تستطيع اتخاذ موقف يدين جماعة إرهابية قتلت المدنيين اليهود بما في ذلك الأطفال والرضع، خسرت حقها في تسمية نفسها بالاشتراكية الديمقراطية"، للتمييز بين خطاب اليسار الأميركي التقليدي واليسار الناشئ من جديد في حراكات الشباب من الجيل الجديد.
من الطبيعي أن تواجه "دي إس إيه" هجومًا من شخصيات سياسية وإعلامية كبيرة، فمعارضتها الصريحة للفظائع التي ترتكبها إسرائيل في غزة عرّت المتنفّعين من اليسار التقليدي، وأعادت بناء الحركة الأميركية المناهضة للحرب، ما جعلها تُواجَه بسخط كبير حتّى من الديمقراطيين. فعمدة مانهاتن الديمقراطي، إريك آدامز، رفض مسيرة دعت لها المنظمة بحجة أنها: "لا تراعي مشاعر الحزن الإسرائيلي"، واتهم أعضاءها زورًا بحمل الصليب المعقوف والدعوة إلى إبادة الشعب اليهودي. فيما زعمت صحيفة "نيويورك بوست" أن الجماعة الاشتراكية شجعت قتل واختطاف الإسرائيليين، وطالب السيناتور الجمهوري مايك لولر من الكونغرس بإدانة المنظمة بتهمة تنظيم: "مسيرات ابتهاج بالإرهاب الذي تقوم به حماس في جميع أنحاء إسرائيل".
يمكن استشعار هذا الخطر بشكل ملموس عندما تبدأ وسائل الإعلام الغربية حراكًا مكثفًا لمواجهة مجموعات الضغط الناشئة. ففي مقالته في صحيفة "هآرتس"، يشير الكاتب بن صامويل إلى جدية حملة "ارفض أيباك" لمكافحة مشروع "الديمقراطية المتحدة" التابع للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك) وجهودها لتعزيز الدعم لإسرائيل في حربها ضد "حماس". ونقلت الصحيفة أن هذه الحملة المناهضة للوبيات الصهيونية، والتي يقودها ائتلاف من قوى تقدمية أميركية على رأسها "الاشتراكيون الديمقراطيون"، تخطط بالفعل لإطلاق حملات ضد "المال الأسود" الذي تحصل عليه "أيباك" من مصادر مجهولة للتأثير في الانتخابات.
اجتذبت المسيرات التي تنظمها مجموعات شريكة لـ "دي إس إيه"، مثل "IfNotNow"، عشرات الآلاف من المناصرين، واكتسبت زخمًا غير مسبوق. ولهذا السبب، تكثف "أيباك" جهودها ضد أعضاء الحركات اليسارية مثل جمال بومان وسمر لي، وتحاول استهدافهم إعلاميًا قبيل الانتخابات. فاستطلاعات الرأي تشير إلى أن اللجنة الإسرائيلية - وعلى غير العادة - بدأت تخسر معركة العلاقات العامة التي لطالما رجّحت كفّة مرشحيها من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، إذ يؤيد ما يقرب من 70% من أنصار الحزب الديمقراطي، و50% من أنصار الحزب الجمهوري، وقف إطلاق النار، بينما صوّت 98% من أعضاء الكونغرس لإرسال المزيد من المساعدات إلى إسرائيل.
هذه الفجوة بين آراء الشارع الذي بدأ يسمع خطابًا مغايرًا لما تريده "أيباك"، وبين المنظومة الأميركية الحاكمة، قد تؤدي في المستقبل إلى انقلاب في السياسة الأميركية إذا ما أفضت إلى إيصال مرشحين مختلفين لمبنى الكونغرس، أو البيت الأبيض. لمَ لا؟