ليس من اليسير تجاوز التأثير الخطير الذي طبعته شخصية "الفِتِوَّةْ" على مخيلة الكُتَّاب والمخرجين والرسامين المصريين خلال قرنين من الزمان. فتلك الشخصية المثيرة للجدل بطباعها ومواقفها وحضورها، جعلت هؤلاء يتوقفون عندها بالتأمل والتشريح والعرض. ومن يقرأون بشكل منتظم للأديب العالمي نجيب محفوظ يستطيعون أن يجدوا بسهولة الحضور الطاغي لهؤلاء الفتوات بين صفحات رواياته وقصصه، سواء على نحوٍ مباشر أو فيما وراء السطور. وكذلك الحال بالنسبة لمخرجي السينما الذين عكست أفلامهم ظلالًا متوهجة للفتوات عبر الحارة المصرية من حقبةٍ لأخرى. وعلى الرغم من المُسمى الواحد للكلمة، فإن الصفات تغيّرت من زمن لآخر ومن سياق لغيره، حتى ارتبطت الكلمة – في أحيانٍ كثيرة – بهؤلاء الذين ينزعون ما يرغبون به عن طريق القوة! فالعصا قديمًا والتي كانت تُعرف باسم "النَبُوْتْ" تحوّلت إلى أشكالٍ أخرى أكثر فتكًا وعنفًا. وبعيدًا عن صيغة المبالغة التي التصقت بأفعالهم أحيانًا، فإن تفاصيل حياتهم ومعاركهم ووجودهم في الحياة المصرية، تحوّل عبر الزمن إلى مادةٍ خصبة تثير الفضول لدى الباحثين والكُتَّاب. والحق أن ما سنذكره هنا، ليس سوى خطوطٍ عريضةٍ لهذا العالم المُثير الذي سطّره هؤلاء بالعصا وصهيل الخيول!
أعلام فتوت المحروسة
امتلأت الصحف والمجلات بالكثير من أخبار الفتوات وتفاصيل حياتهم اليومية خلال النصف الأول من القرن العشرين. كما أن بعض الباحثين قد خصصوا كتبًا في وقتٍ لاحق حول الفتوات ومعاركهم مثل: سيد صديق عبد الفتاح صاحب كتاب "تاريخ فتوات مصر"، وكذلك د. ياسر ثابت صاحب كتاب "فتوات وأفندية" وغيرهم. أما الأديب أحمد أمين فيحكي في كتابه "قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية"، أن الفُتُوَةْ قديمًا عند العرب كانت تحمل معنى إنسانيًّا جميلًا ولكن مع الوقت طغت المدنية الحديثة وقضت على عوامل كثيرة من الكرم والسماحة لدى الأفراد. فانتقلت الفتوة من اسم معنى إلى اسم ذات. وتحولت أيضًا إلى معنى شكلي؛ يلبس فيه الشاب جلبابًا ويتعمم باللاسة (شال مزركش). ويحدث أن يترأس شابان حيًّا ما ويتفقا على الخروج إلى جبل الجيوشي ويتحاربان بالعصي والحجارة طويلًا. وكانت من عادة الأفراح حينها ألا تخرج دون وجود فتوة يحمي الزفة من بطش فتوات آخرين. كما توارث هؤلاء لغة ومفردات خاصة بهم عرفوها من جيل لآخر مثل: "التلاموذ" و"الجبا" ما إلى غير ذلك من الكلمات.
تدور الحكايات القديمة حول العداوة المتوارثة بين الفتوات من حي لآخر. ولعل أشهرها تلك التي نشأت بين فتوات حييّ الحسينية والقبيسي. فعندما مات أحد فتوات القبيسي واحتشد رفاقه في جمعٍ مهيب، لتشييع جنازته كان فتوات الحسينية – على الجانب الآخر – يدبرون لهم المكائد. فدارت معركة حامية الوطيس بين الطرفين، أسفرت في النهاية عن سقوط عشرات المصابين وتناثر الدماء في كل الأرجاء. واتسع نطاق تلك المعركة تدريجيًّا، فشمل حيي السكاكيني والظاهر. ولم يرغب فتوات القبيسي أن تمر هذه المعركة مرور الكرام، فحشدوا العتاد والأعداد وهاجموا حي الحسينية بعد أيام معدودات، فقاموا بتكسير المقاهي والمحلات وأوقعوا أعدادًا من الجرحى خلال معركة قاسية، تناقلتها الأجيال.
وتشير مجلة الدنيا المصورة (17 تموز/يوليو 1929) إلى أن فتوات الحسينية، شهدوا زعيمًا استثنائيًّا يُدعى أحمد عرابي. وهو رجل عُرف عنه القوة البدنية والاستهتار والجرأة. وامتد نفوذه وسلطانه على الحي، فخضع له باقي الفتوات. وراح يفرض الضرائب من تلقاء نفسه على المقاهي والمحلات التجارية. ولم يكن هناك من يجرأ على مناوأته أو الوقوف في وجهه. ومع الوقت، تحوّل المقهى الخاص به إلى محكمةٍ، لفض النزاع القائم بين الأفراد الذين يحتكمون إليه. وكانت أحكامه نافذة وتسري على الجميع دون نقاش، بما في ذلك القضايا التي شهدت صدور حكم من المحاكم الأهلية. لقد ورث عرابي الفتونة عن خاله إبراهيم عطية. والعجيب في الأمر أن عطية تاب عن الفتونة في أواخر أيامه وتفرغ للعبادة والابتعاد تمامًا عن عالم المعارك والشجارات. وعلى الرغم من القوة والقسوة اللتين تمتع بهما عرابي، فإنه – حسب الرواية – كان شخصًا مهذبًا لا يتردد في نجدة المستضعفين أو مساعدة كل من لحقت به نيران الغدر وألمت به الشدائد. وبما أن دوام الحال من المحال، فقد ظهر له على الساحة منافس شرس هو أحمد الأسيوطي. وهو شخص تمتع بقوة بدنية هائلة. وكان مدعومًا من فتوات القبيسي وعلى رأسهم جميعًا جمعة عمر.
وبحسب المجلة، فإن أول صدام مباشر وقع بين عرابي والأسيوطي كان بحي باب البركة. وذلك بعدما لجأ شخص يُدعى ونيس إلى الأسيوطي، طالبًا منه حمايته من بطش عرابي ورجاله الذين حطموا المقهى الذي يملكه، بعد أن وقعت في غرامه حبيبة عرابي السابقة. أما المعركة الثانية، فاندلعت عند المحافظة. كان الأسيوطي حينها، قد أقلع عن أفعال الفتوات وارتدى ملابس الأفندية، لينعم بعيشة هانئة. وعند باب المحافظة، انقض عليه عرابي ورفاقه وأمعنوا فيه الضرب بالنبابيت والعصي. وأثناء هذه المعركة، نجح الأسيوطي في القبض على عرابي من عنقه وهدد الذين يضربوه، إن لم يكوفوا فسيجهز على عنق زعيمهم. ولم ينقذ الموقف سوى وصول البوليس في اللحظة الأخيرة! وجاءت المعركة الفاصلة حينما قررت محكمة الأزبكية أن تؤجل القضية لجلسة أخرى، فما كان من عرابي إلا أن خرج مع أعوانه وجلسوا جميعًا عند ضفة النيل، وأخذوا يخططوا للهجوم على حي القبيسي والانتقام من الأسيوطي. فلم يتصدَ لهم من فتوات الحارة سوى جمعة عمر (الشهير بجحا) وعيد عمر. فالأسيوطي في ذلك اليوم، كان خارج الحارة وعندما وصل نبأ المعركة الدامية إلى البوليس، اندفع على الفور مأمور القسم والملازم محمد وصفي والماستر هانون نائب المفتش إلى الساحة. وهناك قاموا بمطاردة الفارين إلى الشوارع المجاورة. وذلك بعد أن أتلفوا الممتلكات والمقاهي والمحلات واعتدوا بالضرب على الأفراد. فوصل عدد المقبوض عليهم إلى تسعة، بينهم زعيمهم عرابي.
وعادت أخبار عرابي الفتوة للظهور في الصحافة مرة أخرى، لكن هذه المرة خلال حقبة الخمسينيات، حيث نشرت مجلة آخر ساعة (5 آذار/مارس 1952) مقالة مثيرة حول تاريخ الفتوات وأبرز زعمائهم مع مقدمة تمهيدية لتاريخ الفتونة. وكانت المفاجأة هي نشر صورة للفتوة أحمد عرابي مع فقرة تعريفية، نقرأ منها: "في ميدان فاروق.. مقهى بلدي نظيف لا يجلس فيه سوى الأعيان وكبار المعلمين والأفندية.. يدخنون الشيشة في هدوء.. فلا تسمع جلبة ولا ضوضاء ولا راديو! ولا يوجد سوى ماسح أحذية واحد؛ يجلس بعيدًا عن المقهى.. ولا يزعج زبونًا إلا إذا ناداه الزبون! ويدير هذا المقهى رجل متقدم في السن، يلبس الجلباب البلدي الأنيق، ويقوم على خدمة زبائنه بنفسه. فيتلقى الطلب همسًا، ثم يذهب إلى القهوجي ويهمس في أذنه بالقهوة أو الشاي أو القِرفة. إن هذا الرجل الهادئ يقول إنه من باب الشعرية، ولكنّه احتل الحسينية منذ خمسة وخمسين عامًا إلى الآن. ولم يستطع واحد من الفتوات الذين ظهروا في هذه المنطقة أن يسحب منه اللقب الذي يعتز به وهو: فتوة الحسينية!". قبل أن تُختتم الفقرة بالقول: "وأحمد عرابي أغلق – في سنة 1928 – حي الأزبكية وحطم المقاهي والمحال. إن عمره الآن 65 سنة، وهو متزوج وله أولاد. ويعمل في هذا المقهى بمرتب 15 جنيهًا في الشهر، وفي الانتخابات يقف دائمًا بجوار المرشح السعدي!".
وإذا كنا قد تحدثنا عن عرابي وصولاته، فلا بد من الحديث عن إبراهيم كروم فهو واحد من أشهر الفتوات الذين عرفتهم شوارع القاهرة، للدرجة التي جعلت منه أقصوصة يرويها بائعو الكتب القديمة ومنشدو السير الشعبية. وقد بسط سيطرته على بولاق والسبتية. فقد كانت أولى معاركه في سنة 1926 أثناء تأمينه لزفة عروس من روض الفرج إلى درب نصر ببولاق، حيث طلب فتوة آخر يُدعى إبراهيم طرطور أن تقف الزفة. فلم يعبأ كروم بالأمر وطلب من هذا الركب مواصلة المسير، ليهاجمه في النهاية 40 فتوة، لكنّه تولى الأمر وهزمهم جميعًا شر هزيمة. وكما حدث مع آخرين، فقد تاب الرجل عن عالم الفتونة في نهاية حياته وأدى فريضة الحج مرتين. وأخذ يساعد الفقراء والمحتاجين في مطلع رمضان من كل عام.
وقد يحدث أحيانًا أن ينساق أحدهم إلى عالم الفتونة رغمًا عنه، تمامًا كما حدث مع علي الحسيني وهو بطل مصر في الجري وشد الحبل. فالرجل كان جالسًا مع بعض زملائه من الطلبة سنة 1914، يلعبون الطاولة والشطرنج في المقهى. وعندها دخل إلى المكان أحد الفتوات وفي يده سكين، فطلب من الجميع الوقوف ومغادرة المكان! وعندها رفض الحسيني الامتثال لأوامره وركله بقدمه فتدحرج الفتوة خارج المقهى. وذلك قبل أن ينقض على باقي أعوانه ويسوقهم صوب المذبح ويغلق عليهم الباب. لقد كان الفتوة الوحيد الذي لم يُحرر محضر ضده وكان بيته في حي السيدة زينب مفتوحًا للجميع. واعتاد أن يرتدي زي الأفندية ويعتمر الطربوش. وعندما تم الصُلح بينه وبين الجزارين، أنشأ لهم ناديًا في حي السيدة وحبب إليهم رياضة كرة القدم. أما أغلب مغامراته فكانت بين في قلعة الكبش وطولون. وكان يقف في الانتخابات على الحياد ويعمل مفتشًا للتموين في الجمالية.
ويعدّ فهمي الفيشاوي واحدًا من أشهر الفتوات في حي الحسين. فقد كان رجلًا أسمر اللون، مفتول العضلات، حسن الهندام ويزيّن أصابعه بخواتم من الأحجار النفيسة. ففي حديثٍ له مع مجلة الدنيا المصورة (21 آب/أغسطس 1929) تذكر الفيشاوي أولى معاركة، حيث بدأ نجارًا مع والده وإخوته، قبل أن يفتح بعدها محلًا لبيع الحلويات. وحينها شعر أفراد الشلة الخاصة به أنه تكبر عليهم بعد أن انسحب تدريجيًّا من حياته السابقة والتفت لأشغاله. فقاموا بافتعال شِجار معه وكان عددهم عشرة أفراد، فأظهر شجاعة كبيرة في التصدي لهم، لكنّه أُصيب في ساقه بطعنة سكين. وبدأت شهرته تطوف الآفاق وعُرف بفتوة الحي. وعلى الرغم من ذلك، لم تكن كل معارك الفتوات انتصارات. فلا بد من معركةٍ داميةٍ، تعرضوا فيها للضرب ولا ينسوها أبدًا. يقول الفيشاوي: "لا يا بيه، الواحد زي ما يضرب ينضرب. في ذات مرة من المرات رحت أنا والجدعان بتوعي مولد سيدي إسماعيل الإنباني في إنبابة، وقعدنا في بار العربي وكان هناك الحاج رمضان موسى (أحد الفتوات المشهورين) مع مشاديده وكنا ضربانهم في الأزبكية من مدة سنة فحبوا ياخدوا تارهم في الليلة دي، ونهايته مسكنا في بعض وهات يا ضرب، وبعدين الأولاد بتوعي لما زاد عليهم الضرب هربوا وفضلت وحدي أضرب وانضرب لما وقعت على الأرض".
وأصبح الفيشاوي هو فتوة حي الحسين عقب انتصاره على الحاج مهدي سليمان العجمي. والذي عُرف بأنه رجل ضخم المنكبين، واسع العينين ومخيف الطلعة. وقد ظلّ يروع الحي أعوامًا، حتى تصدّى له الفيشاوي وهزمه هزيمة نكراء، فما كان منه إلا أن عاد إلى الإسكندرية. ولم ينسَ يومًا ثأره، فوشى عند المسؤولين عن التجنيد بوزارة الحربية وأشاع لهم بأن الفيشاوي هارب من التجنيد ولم يؤدِ خدمته العسكرية. فبث البوليس اثنين من مخبريه ليتتبعانه في كل مكان، قبل أن يلقوا القبض عليه، بعد أن اختبأ في الجبل.
منظومة لا تتغير
وقد عاش الفتوات ضمن منظومة أخلاقية وقضائية خاصة بهم، فلم يكن يتقدم أحدهم بشكوى إلى البوليس أو يرفع قضية في محكمة للبت في نزاع قائم. وذلك لإيمانهم بأن الفتوة يجب أن ينتصر لنفسه ومن العار أن يذهب أحدهم طواعية إلى قسم البوليس، ليبلغ عن خصومة أو يطلب حقوقه المسلوبة. وإذا حدث أن ساقهم البوليس إلى القسم، فإنهم يخفون هوية المعتدي. ويحدث كذلك أن يتعللوا بأنهم كانوا في "الزفة" أو "المولد" ولم يتبينوا هوية المعتدي، نظرًا لشدة الضربات المتتالية وكثرتها. كما أنهم لا يتقاضون أي مبلغ مقابل الانتقام من أحد، فهم غواة لا يعنيهم المال مقابل خدمة الشخص. فإذا نجح أحدهم في إقناعهم بأنه صاحب حق ومظلوم، فإنهم يهرعون لنجدته على أكمل وجه دون أتعاب مالية!
الزفة من الزغاريد إلى النحيب
في حديثه السابق، تطرق الفيشاوي إلى طبيعة المعارك التي كانت تدور وأسباب اندلاعها، حيث يقول: "تبدأ المعركة في الزفة حيث يتقدم واحد من الفتوات فيدفع (النُقطة) باسم الحي الذي يقيم فيه هو وباسم فتواته دون ذِكر الأحياء الأخرى وفتواتها وعندئذ تثور ثائرة الفريق الثاني احتجاجًا على إغفال ذِكره، وتبدأ المعركة بالأيدي والعصي وتتكسر الأعضاء وتتناثر الدماء".
ولعل مشهد الزفة هذا، من أكثر المشاهد المألوفة في حياة الفتوات. ولذا كان من البديهي أن يتم تجسيده في أكثر من عملٍ سينمائي أو تليفزيوني. وبحسب تقرير نشرته مجلة الدنيا المصورة (20 نيسان/أبريل 1932) فإن الفتوات كانوا يستمتعون بالرقص في الزفة التي تمر أمامهم في المقهى. بل ويعتبرون رقصهم بالعصي من أكبر مظاهر الفتونة. وكانوا يطلبون من فرقة الموسيقى أن تعزف لهم لحنًا خاصًا، فيقف كل واحدٍ منهم ليؤدي رقصته الخاصة في وسط الموكب الاحتفالي بالعروس. ولا يبرح الموكب مكانه، حتى يهتف من به بحياة الفتوات. أما الهتاف الشهير الذي عُرف به الفتوات في مقدمة كل زفة، فهو: "الجدعان.. وكمان الجدعان.. وأصحاب الجدعان.. وأنا وأنتَ". فكان كل واحد من الفتوات يدفع مبلغًا من المال إلى الفرقة الموسيقية وهو يهتف باسم فتوات الحي الذي يمر منه الموكب. وكلما مروا بفتوة اعتزل الفتونة، فإنهم يهتفون باسمه. وفي حال مرورهم بمنزل أحد الفتوات المتوفين، فإنهم يقفوا ساكنين تكريمًا له واحترامًا لروحه. وهكذا حتى يصل الموكب إلى منزل الزواج. أما إذا رفض أهالي الفرح تنفيذ طلبهم في الرقص وأمر الموكب في مواصلة السير، فيتحوّل المشهد إلى لوحةٍ من العراك والدماء، نتيجة للشجار المتواصل بين الفتوات والحاضرين. فالفتوات كانوا يرون في هذا التصرف إساءة بالغة في حقهم. وخاصة إذا رفض أحد المدعوين طلبهم في الرقص. فمن المعروف أن الزفة تكون في حماية فتوات آخرين. وإذا حدث ونشبت المعركة بينهم جميعًا، فإن الخسائر تطال ممتلكات الآخرين بما فيها المحال والمقاهي. وهنا تتحول الزغاريد إلى عويل وبكاء. ويحدث كذلك أن يلجؤوا إلى فريق ثالث يتدخل للصلح بين الفريقين المتنازعين، حيث يعقدون مجلسًا عُرفيًا في أحد المقاهي. وهناك يستمع أحد القدماء إلى شكوى الطرفين، قبل أن يقرروا في النهاية إدانة هذا الطرف أو ذاك ويعتبرونه "المحقوق" ويجب عليه أن يعمل للطرف الآخر "الحق". وهذا يعني أن الطرف المُدان عليه أن يحيي ليلة ساهرة، يدعو خلالها خصومه السابقين، قبل أن يأتي بأحد المغنين والموسيقيين ويقدم الدعوة إلى فتوات الأحياء الأخرى. وتلك الحفلة، كان يُطلق عليها "صهبا". وفيها يضع صاحبها مائدة عريضة ترتص عليها القناديل والشموع والأزهار. وينشد المنشدون أغنيات ويضربون على دفوفهم أنغامًا وإيقاعاتٍ خاصة بالفتوات. ويُنفق فيها المال دون حساب بهدف إرضاء الحضور.
الفتونة ليست للرجال فقط
ويظن البعض أن الفتونة كانت مقتصرة على الرجال فقط، لكن هذا ليس صحيحًا. فتخبرنا مجلة الدنيا المصورة (4 أيلول/سبتمبر 1929) بأن زكية فتواية سوق الخضار، كانت امرأة قاهرة للرجال. وعُرفت عنها الجدعنة ومواقفها الحاسمة في حي المناصرة وسوق الخضار. وكانت تقبل على الجميع وتسلم بيدها في عنف وحزم، مضيفة عبارة "حبا يا صبوة" و"إزيك يا مجدع فينك يا واد من زمان محدش شافك".
والآن بعد هذه الرحلة المثيرة في عالم الفتوات وماضيهم، هل سمعتم حكايات مروية عن فتوات عاشوا قديمًا. وكانت سيرتهم تملأ السمع والبصر قبل أن يطويهم النسيان؟!