طالت التغيرات التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الأولى وانتهاء عصر الإمبراطوريات وبدء عصر الدولة القومية، العالم العربي أيضًا أثناء انفصاله عن الإمبراطورية العثمانية المنهارة. وقد شهدت العلاقات العربية - التركية مستويات مختلفة خلال تلك المرحلة الشائكة انتهت، لأسباب كثيرة، بقطيعة استمرت لعقود.
وقد كتب مؤرخو الطرفين العديد من الدراسات وفقًا لمدرسة التاريخ القومي، التي أغفلت العديد من الجوانب المهمة في تاريخ تلك العلاقات. إلا أن بعض المؤرخين الآن، من العرب والأتراك، يحاولون فتح هذا الملف من جديد وفقًا لوثائق وقراءات جديدة. ومن أبرز هذه المحاولات الدراسة المهمة التي أنجزها المؤرخ السوري محمد جمال باروت في كتابه "العلاقات العربية - التركية (1918 - 1923): السيرورة والتاريخ والمصائر"، الصادر عن "المركز العربي للأبحاث والدراسات". وفي هذا الحوار بعض الأسئلة حوله.
- درج قسم كبير من المثقفين العرب على وصف القرون العثمانية بـ"الانحطاط"، وطرح العثمانيين باعتبارهم "استعمارًا" كارهًا للعربية والعروبة. ألا ينطبق ذلك على الوضع في العقود الأخيرة القليلة من الحكم العثماني، أي خلال فترة جمعية "الاتحاد والترقي"؟ وفي المقابل، ينظر بعض المثقفين الأتراك إلى الثقافة العربية، التي تأثروا بها، باعتبارها السبب المباشر في الـ"تأخُّر". كيف تنظر إلى هذا الطرح، وأسباب انتشاره؟
هذا جزء من سوء التفاهم التاريخي الذي أجَّجته الكتابات الفكرية - السياسية للمثقفين القوميين العرب والأتراك في مجال التاريخ القومي، على حد سواء، فيما يتعلق بتاريخهم المديد المشترك الذي يعود إلى أكثر من عشرة قرون، وليس إلى أربعة قرون ونيف حين فتح السلطان سليم الأول مصر وبلاد الشام.
وقد نشأ سوء التفاهم هذا في مرحلة حكم جمعية "الاتحاد والترقي" في الدولة العثمانية، واتباع التيار القومي المتطرف فيه سياسات تتريكية مركزية للشعوب غير التركية، وليس قبلها بالنسبة إلى الولايات العربية العثمانية، فكان الرد عليها من قبل المثقفين العرب في طرح اللامركزية، وقد ألحَّ هؤلاء المثقفين في المجمل على أنهم ليسوا ضد الدولة العثمانية بل ضد سياسات جمعية "الاتحاد والترقي"، وكانوا قريبين جدًا من الاتجاه الليبرالي اللامركزي في جمعية "تركيا الفتاة" قبل أن تنشق إلى مركزيين وليبراليين لامركزيين.
وللأسف، تحول هذا النظر التأريخي التركي إلى العرب كخونة طعنوا الدولة، والنظر التأريخي العربي إلى العثمانيين كمحتلين أجانب لمدة لا تقل عن أربعة قرون، إلى تنميط عصابي مسف ومؤذ ومشوِّه للتاريخ، بل وإلى عقدة بسيكولوجية قومية جماعية بسبب ضخ هذه المعرفة الزائفة في أدبيات الأحزاب والقوى السياسية والفكرية المهيمنة، وفي نظام التعليم في كل من تركيا والبلدان العربية، أي أنها تحكمت بإيستوريوغرافيا كتابة التاريخ أو طريقة كتابة التاريخ.
وبسبب ثقل هذا التنميط، فإن هناك عددًا قليلًا من الكتابات التاريخية التركية الحديثة - في حدود ما أعرفه عنها - التي يصح أن نصنفها ضمن دراسات التاريخ التي أعادت النظر بهذا التنميط، وخرقت تلك العقدة الناجمة عنه. بينما من المنصف القول إن المؤرخين العرب المعتبرين كانوا سباقين في خرق هذه العقدة، وأذكر منهم: زين نور الدين زين، ووجيه كوثراني، وسمية الوحيشي، وعبد الرحيم بنحادة، وعبد الكريم رافق، وعبد الكريم غرايبة، وغيرهم. بل وسبقهم ساطع الحصري الذي أصدر كتابًا عن الدولة العثمانية والبلدان العربية ذا قيمة مرجعية ولا تجد فيه - مع أن الحصري غدا أحد أبرز مفكري ومنظري الحركة القومية العربية - كلمة واحدة مما شاع استنساخه لاحقًا عن الاحتلال والاستعمار العثمانيين المزعومين.
إن تفكيك هذه العقدة يبدأ من عمل المؤرخين الذي لن يكون عملًا معتبرًا إلا إذا كان موضوعيًّا، أي مستقلًا عن العواطف الأيديولوجية والسياسية. فهذا التاريخ الموضوعي يفكك في حد ذاته الإيستوغرافيا القوموية للتاريخ. سيكون ذلك في الوقت نفسه تفكيكًا لإيستوريوغرافيا الكتابة التاريخية العربية والتركية القوموية التي أُدرج نفسي في سياقها.
- قبل الدخول في تفاصيل كتابك الجديد عن العلاقات العربية - التركية، الصادر حديثًا بعنوان "العلاقات العربية - التركية (1918 - 1923): السيرورة والتاريخ والمصائر"، هل من الممكن أن تذكر لمن لم تسمح لهم فرصة الاطلاع على كتابك، سبب اختيارك لهذه السنوات الخمس تحديدًا "1918 - 1923" من عمر العلاقات العربية - التركية؟
هذه المرحلة، بكلِّ بساطة، هي المرحلة التي تغيَّر فيها العالم كله وليس العالم العثماني فحسب، فهي مرحلة فاصلة كبرى في التاريخ العالمي كله، فقد انهارت فيها أربع إمبرطوريات، هي الإمبراطورية الروسية القيصرية، وإمبرطورية النمسا - المجر، والإمبراطورية الألمانية. وكانت الإمبراطورية العثمانية آخر الإمبراطوريات المنهارة، والتي صُفيِّت قانونيًّا في "معاهدة لوزان" ( 24 تموز/يوليو 1923).
وقد كُتب الكثير عن "معاهدة لوزان" بين من يعتبرها نهاية المسألة الشرقية ونهاية تاريخ العصور الوسطى، وبين من يعتبرها الانتصار التاريخي الأخير لنظام الدول القومية على نظام الإمبراطوريات، مع ملاحظة أن ممثل بريطانيا في نص معاهدة لوزان وقَّع باسم الإمبرطورية البريطانية، وبين من يعتبرها أساس ولادة الشرق الأدنى الحديث. وهي كلها تحمل جوانب صحيحة، لكن الأصح فيها هو ولادة نظام الدولة الإقليمية في الشرق الأدنى الحديث. وهي في معظمها دول ولدت بقرقعة الحروب والرصاص والقوة الغاشمة والمساومات التي تشكل دومًا محددات أساسية فيما أُطلق عليه "اللعبة الكبرى"، وليس على أساس حقائق الجغرافيا والثقافة والتاريخ، والأهم: تقرير المصير.
وبسبب مفصلية هذه المرحلة التي حصرتُها بين خمس سنوات، وسميتُها بالسنوات الخمس، وتأثيرها المصيري على العالمين التركي والعربي العثمانيين السابقين؛ اخترت دراستها من منطلق النظر إليها كعملية تاريخية. وركَّزتُ الجهد البحثي على العلاقات العربية - التركية فيها وتعقداتها، محاولًا تخطِّي تلك العقدة التاريخية والتنميط القومي للتاريخ في كشف أن الوجه الآخر لتاريخ الانقسام والصراع هو تاريخ العلاقات والتحالفات ومحاولة الوصول المشترك إلى كلٍّ من الاستقلالين التركي الذي تحقق والعربي الذي لم يتحقق، أو تشكيل كونفيدرالية عربية- تركية بين دولتين تركية وعربية مستقلتين.
- أشرت في كتابك إلى أن الدراسات التركية الحديثة تغفل العلاقات العربية - التركية، أو أن المؤرخين الأتراك الذين تناولوا تلك العلاقات، لم يفهموا جوهرها. هل من الممكن أن تشرح لنا هذه الفكرة بالتفصيل؟
ما أردت قوله هو إن المؤرخين العرب والأتراك لا يعرفون بعضهم بعضًا، وإن معظمهم قد أنتج تأريخه في إطار رؤية منهجية قوموية للتاريخ، تتحكم فيها - بالنسبة إلى معظم المؤرخين الأتراك الذين أعرف كتاباتهم - بؤرة أيديولوجية تنظر إلى العرب كخونة للدولة، والأمر نفسه بالنسبة إلى المؤرخين العرب الذين ضخوا ترسيمة الاحتلال والاستعمار العثماني للبلاد العربية. كما أردت، على المستوى العلمي البحت، الإشارة إلى أن معرفة المؤرخين بما يمكن تسميته بأرشيفات أو محفوظات بعضهم البعض ضعيفة.
في الآونة الأخيرة، قرأتُ كثيرًا من الكتابات التاريخية التركية ذات الصلة بالإشكالية التي تطرحها في سؤالك. بعضها متحرر جدًا من العقدة الإيستوريوغرافية القوموية السابقة، مثل كتابات هادية يلماز وكتابات فاضل بيات على سبيل المثال لا الحصر، مع أن اعتماد كل منهما على المحفوظات العربية بالمعنى الواسع محدود جدًا. وبعضها لا يزال محصورًا بتلك العقدة التي تؤثر في كتابته للتاريخ وتتحكم بصورة انتقائية بأية مصادر يعود إليها.
أذكر لك مثالًا عن مؤرخ تركي أحترمه جدًا وأقرأ له بعناية هو سينا أقشين. إنه يكتب، مثلًا، عن مشروع اتفاقية فيصل - مصطفى كمال بالاعتماد بدرجة أساسية على المحفوظات التركية بمعناها الواسع متشبثًا من الناحية المرجعية بها، لكنه يعود إلى أرشيف بريطاني، بينما لا يعود إلى أي مرجع عربي يمكن تصنيفه ضمن المحفوظات بالمعنى الواسع. ولهذا ارتكب خطًأ كبيرًا بشطبه في فقرة واحدة أية استمرارية للعلاقات أو التواصلات العربية - التركية بعد طرد الفرنسيين الملك فيصل في سوريا، شاطبًا التاريخ الملحمي لما تصنفه الأدبيات التاريخية والعسكرية التركية تحت اسم الجبهة الجنوبية، أو ما تصنفه الأدبيات التاريخية السورية تحت اسم ثورة الشمال بقيادة إبراهيم هنانو، والتي قامت على أساس اتفاق تركي (كمالي) عربي سوري. فتجاهَلَ هذه الثورة وتعقيدات التحالف العربي - التركي فيها، وأثرها التاريخي بالنسبة إلى تركيا المعاصرة، كما الثورة التي تلتها بعد إخمادها في الانتصار الكمالي على الفرنسيين. جيل ما بعد أقشين، مثل هادية يلماز، يمتلك رؤية أرحب وتعمقًا أكثر من رؤية أقشين. أظن لو قيض لأقشين أن يعرف المراجع العربية لسار بحثه في سياق آخر.
والنقطة النقدية التي توجه لأعمال المؤرخين الأتراك، في النظر إلى الإشكالية التي أثرتُها، أنهم يختارون مذكرات مرجعية منها مذكرات شفيق علي (أوزدمير)، ومذكرات علي قلج. هاتان شخصيتان لعبتا، وفق المحفوظات العربية، دورًا هائلًا في الاتصالات والتحالفات العسكرية الميدانية العربية - التركية، بل وفي العمل على تحالف سياسي ميثاقي. لكنهما كتبا مذكراتهما في مرحلة سيطرة مدرسة التاريخ القومي التركي على كتابة التاريخ وتعليمه في مقررات التاريخ، فحذفا - ما عدا إشارات عابرة - كل ما له علاقة بدور العرب في حركتي التحرر الوطنية العربية والتركية. فلم يتم، حتى وفق القواعد الأساسية في المدرسة المنهجية الكلاسيكية التي ينطلق منها مثلًا أقشين، لا النقد الخارجي ولا النقد الداخلي. وفي عداده ما تطمسه تلك المذكرات لكونها كتبت انتقائيًّا في تاريخ لاحق، بينما المذكراتيون العرب الذين كانوا لاعبين في الأحداث توسعوا في ذلك، وإن كان يمكن لهم التوسع أكثر لولا سيادة العقدة الإستوريوغرافية القوموية في أن الأتراك محتلون وفق العرب، والعرب خونة وفق الأتراك.
إن الحوار والتفاعل بين المؤرخين الأتراك والعرب لتفكيك تلك العقدة الإيستوريوغرافية أكثر من ضروري في هذه المرحلة التي تشهد عودة الدراسات العثمانية إلى صدارة الاهتمام التاريخي، وينطلق في سياقها نظر جديد للتاريخ.
- تحدثت في كتابك كثيرًا عن جمعيتين سريتينِ فاعلتينِ، وهما "العهد" و"العربية الفتاة"، عملتا على الاستقلال العربي الذاتي في إطار الدولة العثمانية من دون المساس بوحدتها أو القضاء عليها. هل من الممكن أن تبين لنا أبرز الفروق بين هاتين الجمعيتين، على مستوى الأفكار السياسية والطموحات؟
هذا سؤال يطول الجواب عنه، والأفضل أن نحيل القارئ إلى مكتبة جيدة عربية وإنكليزية حول هاتين الجمعيتين، لكن ما يمكنني قوله كخلاصة إجمالية هو أن حركة العرب القومية الحديثة جاءت متأخرة عن نشوب الحركات القومية الأخرى في العالم العثماني في المرحلة التي توصف بعصر القوميات في القرن التاسع عشر، ولا سيما في البلقان في مرحلة تعقد الصراع الإمبريالي على حل المسألة الشرقية ومحاولة تحويل الدولة العثمانية إلى دولة شبه مستعمرة.
وما كرَّسه جورج أنطونيوس بتأريخ هذه الحركة بجمعية بيروت هو موضع إعادة نظر تاريخية جذرية، فالحركة العربية قد نشأت متأخرة من الناحية الزمنية الصرفة كحركة ثقافية قومية بعد الانقلاب الدستوري (1909)، ثم خلع السلطان عبد الحميد الثاني. وكان ذلك بصورة أساسية بين الطلاب العرب في إسطنبول الذين اصطدموا بدورهم بيقظة حركة قومية تركية طورانية لدى الشبيبة التركية.
كانت "تركيا الفتاة" تجمع كلَّ الدستوريين من ترك وعرب وأكراد وحتى أرمن وغيرهم، كما كانت عثمانية ولم تكن جمعية قومية قط، لكن الصراع داخلها بين المركزيين المتأثرين بالنمط اليعقوبي المركزي للثورة الفرنسية، وبأيديولوجيا التقدم في القرن التاسع عشر، وبنمط الدولة التدخلي المبني على نظام الدولة - الأمة، وبين اللامركزيين الائتلافيين بزعامة الأمير صباح الدين الذين يمكن وصفهم، دون وقوع كبير في خطأ، بأنهم كانوا ليبراليين على الطريقة الأنكلو - ساكسونية، حتى في النظر إلى دور الدولة في اقتصاد السوق. إن المؤرخين يعرفون بصورة جيدة هذا التاريخ، لكن ما ساد في الكتابات التاريخية العربية هو تهميش هذا التمايز الذي تطور إلى انقسام وإلى انشقاق ضار بين الجناحين في "تركيا الفتاة"، فصوروا الجمعية على أنها منظمة اتحادية وفق ما عرفوه.
لن أسترسل في ذلك فمحله الكتب، لكن مرحلة 1908 - 1913 هي المرحلة الفاصلة في تعقد العلاقة بين هذين الجناحين، بل واحتدام الاستقطاب بينهما إلى درجة التهارش في جبهة البلقان في الحربين البلقانيتين الأولى والثانية. وما أريد قوله هو أن الحركة العربية كانت في فضاء اللامركزيين الائتلافيين وليس الاتحاديين القوميين المركزيين. فمن الظواهر الجديرة بالاهتمام أن معظم الضباط والمثقفين العرب الذين كانوا في "تركيا الفتاة" وحتى في "الاتحاد والترقي" قد خرجوا من الجمعية بعد بروز التيار القومي التركي الطوراني وهيمنته على الجمعية. وهؤلاء هم الذين شكلوا قوام الحركة العربية الجمعياتية. وكانت مطالب ما دُعي بالمؤتمر العربي الأول (1913)، وهو مؤتمر سوري بمعنى البلاد السورية (العثمانية)، مطالب لامركزية في إطار الجامعة العثمانية: العهد والفتاة؛ الأولى كجمعية مؤلفة من الضباط العرب في الجيش العثماني، وكان البكباشي عزيز علي المصري قد تصورها حين أعاد تأسيسها مفتوحة لمن ليسوا من العرب بل لكل من يقول بكونفيدرالية عربية - تركية حتى من الأتراك، وظل متمسكًا بذلك حتى نهاية الحرب، ولم تنقطع خلالها اتصالاته مع طلعت باشا الصدر الأعظم العثماني، والثانية كجمعية مدنية مؤلفة بدرجة أساسية من الطلاب العرب في إسطنبول وبيروت وباريس. وبعض المذكرات التي تقول إن الفتاة طرحت قيام استقلال عربي كامل منفصل عن الدولة العثمانية موضع إعادة نظر، فسقف الجمعيتين كان سقف اللامركزية الإدارية العثمانية بما فيها من حقوق قومية ثقافية محلية.
وهكذا كانت جمعية بيروت الإصلاحية، وكذلك جمعية الإخاء العربي - العثماني وغيرهما حتى من جمعيات صغيرة حمل بعضها بضعة من الضباط الحلبيين اسم جمعية الوحدة الإسلامية، وكانت تعبر عن اتجاه السياسة الإسلامية لجمعية الاتحاد والترقي في سياستها في مؤتمر 1911 تجاه العالم الإسلامي غير العثماني. وتعزز ذلك بعد الحربين البلقانيتين، فلقد غدت الدولة العثمانية بعدهما مؤلفة بدرجة أساسية من آسيا عربية - تركية عثمانية مع جيب أوروبي. كما كان العالم التركي العثماني زاخرًا جدًا بجمعيات وتيارات متعددة على هامش الاستقطاب الشرس في تركيا الفتاة، لكنها برزت كلها بُعيد اتفاق "هدنة مودروس" (30 تشرين الأول/أكتوبر 1918). وحتى الإعلانات الرسمية للشريف حسين بعد الثورة كانت تلح على أنها ضد حكومة "الاتحاد والترقي" وليس ضد الدولة العثمانية. أما ما حدث في اتفاقيات الحسين - مكماهون من مشروع دولة عربية مستقلة في آسيا العربية، فهذا لا يتناقض مع مبدأ بناء علاقة كونفدرالية مع دولة تركية مستقلة بعد الحرب في ضوء فرضية هزيمة تركيا في الحرب.
كما أنه لا بد من تفهم قلق الحركة العربية من مصير بلادها ووقوعها تحت الاحتلال في حال هزيمة تركيا في الحرب. مع ذلك، قررت الجمعيتان الأساسيتان في دعم الثورة العربية، وهما "العهد" و"الفتاة"، أنه إذا ما تهددت الأستانة فسيديرون اتجاههم للدفاع عنها.
شكلت إعدامات جمال باشا، الموصوف بـ"السفاح" في الأدبيات العربية، أخدودًا دمويًّا في العلاقات العربية - التركية. لن أدخل هنا في مشروعية الاتهام والحكم بالإعدام من عدمه فمحله الكتب. لكن لا يزال هذا الأمر حتى اليوم موضع جدل مثير محكوم بتلك العقدة الإيستوريوغرافية التي أشرت إليها. لم يتفهم بعض المؤرخين الأتراك الحديثين دلالات هذا الأخدود، وثبتوا العقدة الإيستوريوغرافية تلك من خلال سؤال شرعية الأحكام. أعني هنا يلماز أوزوتونا، فهذا نموذج مؤرخ متبحر بالمعنى الفرنسي، ولكنه يمر بصورة سريعة تقريرية عن ذلك تكشف عن أنه لم يفهم جوهريًّا دلالات ذلك الأخدود.
يمثل أوزتونا اتجاهًا في مدرسة التاريخ التركي. هل يمكن أن أكثف أحد أبعادها في رؤيته للتاريخ العثماني كتاريخ قومي تركي متصل كانت العثمانية مجاله الحيوي التاريخي؟ قد يكون ممكنًا ذلك. حاول أوزتونا، صاحب النظرة السيئة للاتحاديين، أن يبرىء جمال باشا بسطور قليلة. لم يكترث بما كتبه المرسيني وشكيب أرسلان وغيرهما كثير. حاول أن يثبت ما في رأسه، ويجعل منه تاريخًا.
أما المؤرخ الذي أتابع قراءته بنهم، وهو إلبر أورطايلي، فتدهشني وجهة نظره الأيديولوجية التي تتحكم بتدوينه للتاريخ، أي التي تتحكم بطريقة تدوينه للتاريخ أو ما نضعه تحت مصطلح إيستوريوغرافيا. فيطمس في كتابه "حقائق التاريخ التركي الحديث" كل ما هو إسلامي في حرب الاستقلال التي قادتها المقاومة الأناضولية بقيادة مصطفى كمال، تحت راية الاتحاد الإسلامي مع تجنب شديد للفظ تركيا وتركي. أشير إلى ذلك لأنه في حدود ما قرأته، فإن هذا الفصل أي فصل حركة الاتحاد الإسلامي مطموس تمامًا، ويمكن تفكيك ادعاءات أورطايلي وحتى معلوماته عن موقع لفظة تركيا خلال حرب الاستقلال. ما يهم هنا هو تسليط الضوء على وجهة النظر الأيديولوجية التي تتحكم بتدوين المؤرخ للتاريخ. هذا ينطبق على حالة أورطايلي الذي لم يستطع معرفة أن المؤرخ لن يكون كذلك إلا إن استطاع أن يكون "ملحدًا".
لا أعني بدلالة "ملحد" هنا المعنى المبتذل، ولا حتى المعرفي بأولوية المادة على الوعي الماركسية التقليدية، بل أعني ما قصده هوبسباوم بها، وهو أنه على المؤرخ حين يجلس إلى طاولته أن يتجرد من عواطفه ووجهات نظره المعيارية. لكنني أقول إنني سمعتُ هذا التعبير لأول مرة من المطران جورج خضر في جلسة مع آخرين معه: إن من الطبيعي بل والمطلوب أن تكون ملحدًا حين تكتب في التاريخ. وهذا يثير قصة الحيادية. أرفض بشدة هذا التزييف للإشكالية تحت اسم الحيادية، وأقول إن المصطلح الدقيق هو الموضوعية والاستقلالية في كتابة التاريخ.
- خصصت فصلًا كاملًا من كتابك لمشروع "اتفاق فيصل - مصطفى كمال"، في إطار تحليل العلاقات العربية - التركية، وذكرت أن تعرّف المؤرخين عليه حديثٌ نسبيًا، وأن هذا المشروع كان حلقة في مشاريع اتفاقيات سبقته، كمشروع اتفاق "المرسيني - فيصل"، ومشاريع اتفاقيات لحقته، إلا أننا لم نلمس نتائج ملموسة لهذا الاتفاق، وأن هناك أجواء من عدم الثقة وتباطؤ الطرفين في اتخاذ خطوات نحو هذا الاتفاق. هل من الممكن أن تذكر لنا وجهة نظرك حول أسباب هذا التباطؤ؟
كان اهتمامي بذلك مدفوعًا، من ناحية علمية، بمحاولة متابعة البحث في هذا المشروع الذي كان شيخنا الراحل عبد الكريم رافق أول من كتب عنه في المكتبة التاريخية العربية، فعدتُ إلى كلِّ ما كتب عنه ويمكن الوصول إليه من سياقات تاريخية وشذرات مذكرات وأخبار وتقارير استخبارات هي بدرجة أساسية الاستخبارات البريطانية بالنظر إلى إشكالية حركة الخلافة في الهند، وأخضعت المعلومات كلها في حدود قدراتي التي لا شك أنه مهما كانت كبيرة وفق ما يقوله البعض هي محدودة في النهاية؛ أخضعتُها بطريقة دقيقة جدًا حسبما أزعم إلى المنطق المنهجي للنقدين الداخلي والخارجي المعروف في المدرسة المنهجية الفرنسية الوضعية التي لا يزال لديها الكثير مما تعلمه لنا حتى في عصر انفجار المعلومات. أردت أن أقدم إضافة بحثية لذلك. كان هناك بحث جيد آخر لسينا أقشين حول مشروع هذا الاتفاق أو الاتفاقية. ثم أشار إليه فاضل بيات الذي ندين له بتعريفنا بقدر ما يمكن بمحتويات الأرشيف العثماني عن العرب. كان صاحب فضل كبير في ذلك، وكذلك هادية يلماز وغيرهما. ثم قرأت نص أقشين نفسه وسمح لي ذلك بمقارنة بينه وبين رافق.
لقد عدتُ لتفحُّص السياق التاريخي الجزئي والكلي للموضوع. فبعد ما حصل إثر "معاهدة لوزان" لم يتضمن خطاب النطق لمصطفى كمال (1927)، والذي هو أساس سردية حرب الاستقلال الرسمية التي همشت طويلًا، سرديات رفاقه الأساسيين الآخرين الذين لم يبق منهم أحد معه، سوى شذرات عن العلاقة مع السوريين، مع أن السوريين هم القوة الحقيقة الذين شكلوا، حسب المصطلحات التركية، الجبهة الجنوبية.
أما المكتبة العربية، والسورية تحديدًا، فما تساعدنا فيه قليل، لكن فيها إشارات إذا ما حللنا خلفيتها ستكون زاخرة بالمعلومات. لقد عدت إلى هذه الإشارات بطريقة التاريخ الجزئي، على مستوى التاريخين التركي والعربي. والمكتبة العربية غنية جدًا بتفاصيل تلك الأيام، وقد وجدت أن المشروع كان معروفًا، وهو في أوراق الأمير عادل أرسلان، وتحدث إبراهيم هنانو عنه.. إلخ. وكذلك إشارات له وإلى غيره في أكثر من كلمة لمصطفى كمال في افتتاحيات المجلس الوطني الكبير.
هذا هو جانب يمكنني أن أصفه بأنه تقليدي يتعلق بزعم الباحث أنه يقدم إضافة بحثية جديدة. لكن ما يضاف إليه أنه حين تبحرت فيه، وجدته حلقة في سلسلة لقاءات وأفكار وتبادلات واتصالات حدثت قبله حين اندلعت الثورة العربية وخلالها وبعد الحرب. وعبر البحث، وجدتُ استمرارية دائمة ومستمرة لذلك ميدانية وسياسية.
أنت تحدثني عما هي النتائج الملموسة. قولي إن علاقة التحالف الإشكالية بين الحكومة العربية وبين المقاومة الأناضولية التي تُرجمت ميدانيًا بصورة مباشرة، قد أخرت الاحتلال الفرنسي المباشر لسوريا الداخلية حيث قامت حكومة عربية (1918 - 1920) مثلت نواة لدولة عصرية حديثة بكل ما في الكلمة من معنى. بقدر ما مثلت قوامًا أساسيًا في معارك عنتاب خففت الضغط عن القوات الكمالية، وأحرزت انتصارات كبيرة لها على الفرنسيين إلى الدرجة التي أبدى فيها الجنرال غورو ضروب المساعدة لمصطفى كمال، بعد احتلال الحلفاء إسطنبول، لإنهاء الحرب التي شكل السوريون وقودها.
بعض المذكراتيين الأتراك يذكرون ما يعرفونه عن التواصلات التركية العربية وسط الصراع، لكن هذا ما يتجاهله لاعبان أساسيان هما قلج علي وأوزدمير في مذكراتهما خوفًا من تحدي خطاب النطق، لأنهما كتبا التاريخ حسب خطاب النطق، ومثل كثيرين من المحاربين، ليغنموا شيئًا ما رمزيًّا أم ماديًّا. هذا مألوف بين كثير من الفاعلين في حركات التحرر الوطني. في الخلاصة، أبرزت هذه الكتابات ما قبل المشروع، وهو أفكار عزيز علي المصري وحركاته حين كان وزيرًا للحربية في الحكومة العربية الهاشمية بالحجاز خلال الحرب، ثم مبادرة أحمد جمال باشا، ثم المبادرة الأخيرة لجمال باشا المرسيني المعروف عربيًا بجمال باشا (الصغير) الذي همشه جدًا وبطريقة تبخيسية مصطفى كمال في خطاب النطق. لكن المرسيني أصدر مع ذلك مذكراته في أوائل الثلاثينيات وسط الطغيان الكمالي الرسمي في مرحلة تأسيس الدولة. ما قاله تسنده الحقائق لكنه لم يقل كل ما يريده خوفًا من خطاب النطق. فمن في تركيا في الداخل يجرؤ دون عواقب أن يتحدى في الثلاثينيات خطاب النطق؟
لقد أبرزت في الكتاب بما في وسعي تفاصيل التفاصيل حول ذلك. وأظنه جديدًا جدًا. وخلاصتي التي تعبر عن استخلاصي المشتق من السيرورة التاريخية نفسها هو أن العلاقات العربية - التركية في مرحلتي الحكومة العربية وحرب الاستقلال كانت أعلى من علاقة براغماتية وأقل من علاقة استراتيجية. لقد كان كل من فيصل ومصطفى كمال يستخدمان العلاقة لصالح كل منهما، لكن مع ملاحظة أفق الكونفيدرالية العربية - التركية التي لم يكن فيصل من ناحية الفكرة معارضًا لها أبدًا، لكنه كان يعرف "اللعبة الكبرى" جيدًا. كما قبل مصطفى كمال بها أخيرًا. فالكونفدرالية اتحاد دولتين مستقلتين أخيرًا. وكانت النتيجة أن انهارت الحكومة العربية بعد الاحتلال، بينما دخلت المقاومة الأناضولية في حرب ضارية ضد الجنرال غورو الذي تغلغل في الشمال بالنسبة إلى سوريا أو الجنوب بالنسبة إلى تركيا. فجاءت ثورة هنانو بعد اتفاقه مع ممثلي المجلس الوطني الكبير لتقلب تغلغل غورو إلى معاناة صعبة بل وهزيمة. ثم إلى مكافأة مأساوية للاجئين السوريين الذين شكلوا قوام حركة المقاومة بعيد توقيع "معاهدة لوزان" بنفيهم تحت السياط إلى أماكن بعيدة في أرياف مرسين. وفي سياق ذلك، جرت مكافأة الشريف أحمد السنوسي الذي صدّره مصطفى كمال قيادة حركة الاتحاد الإسلامي، وكانت لديه صورة معه ومع صلاح الدين الأيوبي توزع في سوريا ولبنان وغيرهما بإبعاده عن تركيا، فلجأ إلى سوريا وكانت تحت سلطة الانتداب، فأخرج منها ليجد ملجأه في نجد.
- ذكرت في كتابك أن أعيان حلب كانت لديهم عواطف عثمانية قوية، وأنهم كانوا منعزلين بدرجة كبيرة عن الحركة العربية، على خلاف أعيان مدينة دمشق، ويظهر ذلك بوضوح في استقبال الدمشقيين لفيصل بن الشريف حسين بالزهور، بينما استقبل الحلبيون زيارة فيصل بتجهُّم وفتور. هل من الممكن أن تبين لنا أسباب هذا التباين بين المدينتين؟
الأمير فيصل نفسه حاول أن يفاتح الأعيان الحلبيين في ذلك، بأنهم لبعدهم الجغرافي عن الجزيرة العربية لم تبلغهم أهداف الثورة. نعم كان ذلك عامل مهم. فلقد كان لـ"العربية الفتاة" ولجمعيات عربية أخرى أعضاء ونشطاء وحتى شبكات في دمشق، بينما لم يتجاوز أعضاء الفتاة في حلب قبل الحرب عضوين.
لم تشعر حلب بوطأة مظالم أحمد جمال باشا كما شعرت بها دمشق. أعدم أحمد جمال باشا رؤوسًا ينتمون إلى أعيانها بينما لم يحصل ذلك في حلب، مع أنه أعدم أحد الشباب فقط. فيصل أتى من دمشق إلى حلب بعد إعلانه الحكومة العربية. أعيان حلب توجسوا الخوف من أن تكون حلب تابعة إلى دمشق في العهد الجديد بعد أن كانت مركز ولاية كبيرة، وكانت لا تزال ممتدة في الشمال.
حكاية العلاقة بين الأعيان المحليين والسلطة المركزية طويلة ولن يتسع حوارنا لها أبدًا سوى في تنبيه الباحثين الشباب إلى الاهتمام بذلك. أعيان دمشق دُرسوا جيدًا، أما أعيان حلب فلا زالوا ينتظرون دراسة مع بعض الدراسات الإنجليزية الجيدة التي تصدت لذلك. أنا مستعد لإبداء كل العون الفعال لمن يبحث في ذلك، بما فيه مصادر غير مرئية.
هذه الحكاية هي التي تفسر ذلك أكثر من أي مفتاح آخر بالنسبة إلى أعيان حلب. وبحكم العلاقة الجغرافية والاقتصادية والاثنية والاجتماعية والتصاهرية، كانت حلب أوثق صلة مع الأناضول، وكذلك مع الموصل، بينما كان وجه دمشق التجاري عروبيًّا نحو فلسطين ونجد والحجاز بواسطة خط الحديد. كما أن سياسات أحمد جمال باشا في حلب كانت في مجملها إيجابية من النواحي العمرانية والموارد المائية شديدة الأهمية لحلب، وفي عهده نشأت أكثر من مدرسة عربية تُعلّم باللغة العربية فقط. على العموم، كان السلطان العثماني مطمئنًا إلى حلب، فشدد عليها بإسباغ الباشوية، لكنه توسع بها من درجة مير ميران لدمشق بهدف كسب أعيانها أكثر.
كان خوف أعيان حلب حول موقع ولايتهم في العهد الجديد كبيرًا. لقد أيدوا وتبنوا برنامج الفتاة أو برنامج دمشق في الاجتماعات مع لجنة كينغ كراين، لكنهم ألحوا على التمسك بحدود الولاية الطبيعية حتى جبال طوروس، بينما كانت دمشق مركز لواء. لكن الحكومة العربية راعت ذلك، وحافظت على تصنيف حلب كولاية، فحلت جزءًا من المشكلة.
- وصفت إقرار فيصل للتفاهم غير المباشر مع الكماليين بـ"أعلى من علاقة براغماتية وأقل من تحالف استراتيجي"، وشاهدنا ما وصفه المؤرخون بـ"لعب فيصل على الحبلين" بين ضغوط الحلفاء والتفاوض معهم بما يسمح له بتتويجه ملكًا على سوريا لاحقًا، ومحاولة احتواء دعوات التحالف المباشر مع الكماليين، وتشتيت الجيش الفرنسي في الحرب على جبهتين فقط، وتخفيف الضغط على الكماليين. هذا ما ذكرته باستفاضة حول فيصل، ولكن هل من الممكن أن تحدثنا عن تحولات مصطفى كمال أتاتورك، بدء ًا بخطابه "الإسلاموي" الذي استخدمه في بداية المقاومة، واستخدام كلمات مثل "عثماني" بدل ًا من "تركي"، وصول ًا إلى المرحلة القومية الطورانية العلمانية؟
ألخص لك ادعائي المنهجي بأن الشخصيات المخضرمة التي تضطلع بأدوار مؤثرة يجب أن تُدرس وفق تصنيف، الحبيب بورقيبة أو خالد العظم هناك لكل منهما الأول ثم الثاني وربما الثالث، مع التغير الحاسم في الأدوار. وهذا ينطبق على موضع سؤالك عن مصطفى كمال، وعما لم تسأله من تموضع رفاقه الذين حدثت تصفيتهم.
ينطبق ذلك تمامًا على مصطفى كمال. فما أعنيه في الكتاب بمصطفى كمال الأول هو مصطفى كمال الذي ظل حريصًا بدقة على أنه عثماني متمسك بالخلافة، وهذا استمر لديه طويلًا جد ًا حتى تاريخ الفصل بين الخلافة والسلطنة، وإيلاء السلطات الزمنية للأمة ممثلة بالمجلس الوطني الكبير(1922).
حرص مصطفى كمال في "إعلان سيواس"، أو في تقرير الميثاق القومي أو الملِّي في "مؤتمر سيواس" (أيلول/سبتمبر 1919)، أو في النداء إلى الشعب السوري؛ على عدم ذكر كلمة تركي مطلقًا، فكان يذكر كلمة عثماني. وظل متشبثًا بذلك بإصرار حيث حمل في العام 1920 راية "الاتحاد الإسلامي"، ولم يذكر كلمة التركية إلا ثانويًّا. وكان النشيد الذي تعلق به الجميع نشيد اتحاد إسلامي لا أثر فيه حتى لمصطلح تركية. افتأت أورطايلي جدًا على التاريخ بتكريس مصطفى كمال للتركية مع أن اللفظ ورد في مادة ثانية، فلقد كان من قبيل حقيقة واقعة وليس من قبيل حقيقة قومية بالضرورة.
كان مصطفى كمال عثمانيًا مسلمًا خاضعًا للخلافة ويدعو الجميع لتحريرها من الأسر بعد احتلال إسطنبول (آذار/مارس 1920)، وظل في هذا الموقف حتى تاريخ الفصل بين الخلافة والسلطنة، فلقد كان خطابه قومويًا متشجنًا. البعض رأى على نحو ما، مثل كرايزر، أن مصطفى كمال اتبع تكتيكًا سريًّا في ذلك. أبرز كرايزر في كتابه الجيد عن مصطفى كمال أنه ذكر لعامل البرقيات أن ذلك أمر مؤقت لا أكثر. لكنه، وهو المؤرخ اليقظ، فسر تاريخ مصطفى كمال بنوايا باطنية مسبقة. خلفيات التنشئة وآثارها شيء والنوايا المنهجية المعماة شيء آخر. خلط كرايزر بذلك. الأصح أن تطورات مصطفى كمال من المسائل التي تمت مع تطورات السيرورة التاريخية. في كل الأحوال، خطاب مصطفى كمال في الجلسة القاطعة المانعة للفصل بين الخلافة والسلطنة كان خطاب مصطفى كمال القومي وليس الإسلامي السابق عنه. وكان قومويًا مليئًا بالمزاعم والترهات القومية. لكن بعد أن حقق مصطفى كمال ذلك، دعم حركة الاتحاد الإسلامي بصورة قوية، فلقد حاول أن يخفف من أثر ذلك بكسب بطولة العالم الإسلامي كما خلّده أحمد شوقي: "يا خالد الترك جدد خالد العرب".
- نتساءل، نحن العرب من غير المختصين في التاريخ، عن سبب نجاح مصطفى كمال في تشكيل جبهة مقاومة بالأناضول، بينما لم يتمكن العرب من فعل ذلك في تلك المرحلة، علم ًا بأن ظروف مصطفى كمال كانت قاسية أيض ًا، وقد وقع بين كماشتي الحلفاء وجيش السلطان. ماذا توفَّر آنذاك للأتراك ولم يتوفر للعرب من وجهة نظرك؟
جيد جدًّا هذا السؤال. ما يعرفه المؤرخون جيدًا هو أن أقسى شروط الإذلال قد فُرضت على الدولة العثمانية بدايةً بـ"هدنة مودروس" التي أتاحت احتلالها وحتى مشروع "معاهدة سيفر" (1920) التي كان من شأنها تصفية الدولة العثمانية كدولة. لكن ما يقوله المؤرخون للناس إن الحلفاء لم يستطيعوا نشر قواتهم في كل مكان، وإن تسريح الجيش قد نجت منه بعض الفرق الكاملة. وهنا، في المكان البعيد عن سلطة الحلفاء، بدأ مصطفى كمال حركة المقاومة، بالمناسبة، بقرار من تعيين الحكومة العثمانية له، ثم بدعم ما من الحكومة أو وزرائها المعنيين لها.
في كتابي سرد لبعض ذلك. ألخص؛ كانت مراكز المقاومة التركية منيعة وبعيدة عن أي احتلال، وحين كانت في المواجهات كان لها عمق، وكان عمق الدولة التنظيماتية المركزية العثمانية السابقة بما أحدثته من تغييرات يعمل لصالحها. أما المقاومة السورية، فلم يكن لها أي ميزة من ذلك، فهي نشأت في الأطراف بينما كان عمقها ضعيفًا جدًّا، ولم تكن تتكل على سلطة مركزية سابقة لها سوى في حدود خريجين ومسؤولين وخبراء، بينما وجدها مصطفى كمال قائمة بين يديه.
ما هو مهم أن مصطفى كمال كانت لديه قوات نظامية كبيرة لم تُسرَّح وكان أهمها فرقة بقيادة باكير، كما كانت لديه مناطق واسعة حرة لم تطأها قدم أي عسكري أجنبي، وبرع في تجنيد الميليشيا واستخدامها. أما لدى فيصل، فجيشه ناشىء وسط مقيدات بريطانية مشددة عليه، كي لا يكون أكثر من قوات درك معززة بتسمية جيش. وليس لديه جغرافيا عميقة، فحكومته محصورة فعليًا في جدران المدن الأربعة. وحاول فيصل تقليد مصطفى كمال في تركيب ميليشيا يدعمها الجيش النظامي، لكن الخلاصة كانت سيئة. والأهم كان الاتفاق الفرنسي - البريطاني على الإجهاز على فيصل قد حصل، وهو ما حدث بالفعل في الاحتلال الفرنسي المباشر بعد معركة ميسلون (تموز/يوليو 1920)، بينما كانت قوى الحلفاء المتصارعة حول مصير ما تبقى من الدولة العثمانية شديدًا، فاستفاد مصطفى كمال من ذلك ببراعة تامة.
- يرى المؤرخ التركي إلبر أورطايلي أن "القومية التركية ظهرت في مرحلة متأخرة، وتأخُّر ميلادها السياسي يرجع إلى المسؤولية السياسية للعنصر التركي الرئيسي للإمبراطورية. وأن الذين يصورون القومية التركية اليوم على أنها نشأت تحت تأثير تعليم التاريخ المدرسي، ليس لديهم أي علاقة بالواقع، لأن هذه القومية نشأت في الحروب وبين دماء الجنود"، أي أنها نشأت كردِّ فعل على قوميات أخرى داخل الدولة العثمانية. كيف تنظر إلى هذه الفكرة؟
أورطايلي بالنسبة لي مؤرخ جيد وأحب كتاباته جدًّا وأقتبس منها ما أقتنع بها، لكن شطحاته كبيرة جدًا ولا تلائم مؤرخًا أبدًا. ما يعرفه أورطايلي كثير حقًا، لكنه يتلاعب بفهمه له وتأويلاته العصرية إلى درجة لا يقبلها أي مؤرخ إن لم يكن يستنكرها. هو يخلط بين المؤرخ وبين متفلسف التاريخ. لا علاقة بينهما، سوى أن المتفلسف يستخدم بضاعة المؤرخ انتقائيًّا ويوجهها إلى الشطحات. أسأل ماذا الذي يريده أورطايلي، هل يريد أن يكون مؤرخًا؟ أم مؤرخا ديماغوجيًّا قوميًّا يكمل بطريقة أخرى ذكية وحرفية أكبر ترهات مصطفى كمال عن تاريخ الأمة؟ هو يريد أن يكون مفكرًا، قد يكون ذلك لكن حذارِ، فإن المؤرخ وإن كان لديه ما هو أكثر من المفكر وحتى المتفلسف والفيلسوف، وحتى حين يطرح أفكارًا في تلك الفضاءات، فإنه يجب أن يحرص على موقع المؤرخ.
- رغم اعتراف كثير من المؤرخين الأتراك بأن قومية العرب كانت "قومية ثقافية"، ظلَّت سلمية حتى الحرب العالمية الأولى، على عكس قوميات أخرى مُسلَّحة، كقومية البلقان مثل ًا؛ إلا أن النظرة السلبية لاحقت العرب وحدهم في الرواية الرسمية التركية حتى اليوم، التي تقول إنهم "طعنوا الأتراك من الخلف". كيف تفسر هذا التناقض؟
سأقول رأيي بكل بساطة. بعد "معاهدة لوزان" وجد الأتراك أنفسهم أمام مهمة بناء دولة مستقلة بنوها وفق نمط الدولة - الأمة النموذجي الفرنسي. ومثّل خطاب النطق الخطير لمصطفى كمال (1927) السردية الرسمية لحرب الاستقلال كحرب قومية مرتكزة على ذاتها، والذي لا يزال النقد المنهجي وفق المدرسة المنهجية الكلاسيكية يفككه حتى اليوم. وقد اتهم ومن اتهم وهمَّش من همَّش ولم يبق معه من رفاقه في اتفاق أماسيا أحد.
لن نستغرب في هذا السياق أن يهمل مصطفى كمال العرب بصورة مطلقة، وأن يهمل دورهم في استقلال تركيا. فلقد نشأت وقت خطاب النطق مشكلة أنطاكية ولواء الإسكندرونة حين وصفهما مصطفى كمال بالألزاس واللورين. كان مصطفى كمال يعتبر ما قبل أواخر 1922 أن جسم الدولة العثمانية هو العراق والشام، لكن رأسها هو إسطنبول، وكان لا يرى أي مستقبل لهذا الرأس من دون جسمه. وخلال حرب الاستقلال، كان السوريون هم القوة الفعالة في الجبهة الجنوبية لها. ومنذ النصف الثاني من عام 1920، بدأت مواقف الملك حسين تتغير وبصورة متسارعة، وصولًا إلى اتفاق عربي - تركي جديد توسط فيه رسل الاتحاد الإسلامي، وهذا شرحته في كتابي بإسهاب ولا ضرورة لإعادة تكراره.
بناء الأمة، هذا هو الجهد - الهدف المركزي لأية دولة - أمة ناشئة، وقد بلور مصطفى كمال محتوى علاقتها مع العرب في صورة عدوانية خطيرة، ويظهر ذلك مثل ًا من خلال أسطورة اللغة - الشمس، واعتبار اللغة العربية من مشتقاتها، إلى جانب ترهات أخرى، مثل ذكر حكاية خيانة العرب للدولة، وأنه يجب القطيعة معهم، وبعض المتطرفين طرحوا القطيعة مع دينهم. لكن يجب الحذر هنا، فالمثال كان فرنسيًّا يعقوبيًّا على نحو ما، لكنه لم يكن أصيلًا، ومن كان يدفع بإلغاء الآذان باللغة العربية هو نفسه من دافع في الأربعينيات عن العودة إليه.
لقد نشأت ما بعد معاهدة لوزان دول. وقد حُلَّت مشكلة الموصل مع تركيا بقرار قانوني دولي، بينما اشتد الصراع حول مصير أنطاكية ولواء إسكندرون المتمتعين بنظام إداري ومالي خاص إثر توقيع المعاهدة الفرنسة - السورية (1936). وأخيرًا، ضُمَّ اللواء إلى تركيا، فزاد ذلك من حدة التوترات العربية السورية - التركية حتى فترة قريبة.