في عام 1933، نشرت الصحافة التركية خبرًا عن مؤذن في أحد جوامع قرية تركية، تابعة لمدينة بَالِيكَسِير، صعد إلى المئذنة وبمجرد أن بدأ في رفع الأذان لصلاة الفجر، حتى تفاجأ برجال الشرطة الذين تجمَّعوا أمام المسجد للقبض عليه. ومما ورد في الخبر أيضًا أن المؤذن "الهارب" نزل مسرعًا من على المئذنة وخرج من باب خلفي للمسجد، وجرى البحث عنه في القرية وفي القرى المجاورة لها.
لم تكن جريمة هذا المؤذن سوى رفع الأذان باللغة العربية، وتجاهل التعميم الذي أصدرته وزارة الشؤون الدينية للمؤذنين، قبل عدة أشهر من هذه الحادثة، برفع الأذان باللغة التركية. وقد بدأ تتريك الأذان منذ عام 1932، وظلَّ يُرفع باللغة التركية لمدة 18 عامًا.
جذور فكرة "تتريك" الأذان
ذهب كثير من الباحثين الأتراك إلى أن الجذور التاريخية لمسألة رفع الأذان باللغة التركية تعود إلى نقاشات ترجمة لغة العبادات إلى اللغة التركية. ورغم أن هناك قبولًا عامًا بأن هذه النقاشات قد بدأت مع "عصر التنظيمات 1839-1876"، الذي تبنِّت فيه مؤسّسات الدولة العثمانية الحداثة الغربية، إلا أن البروفيسور التركي هدايت أيدار يرى في بحث له بعنوان "قضية العبادة باللغة الأم عند الأتراك.. من البداية إلى فترة الجمهورية"، أن مسألة استخدام اللغة التركية في العبادات قد طُرحت في الإمبراطورية العثمانية منذ نهاية القرن الخامس عشر من قبل بعض الفقهاء، مثل عبد الرحمن بن يوسف الأقسرائي، ويوسف بن دولت البهكسري، إلا أن هذه المبادرة لم تحظ بالقبول آنذاك.
وقد استمر طرح فكرة تتريك لغة العبادة في مراحل مختلفة من عمر الدولة العثمانية، حتى القرن التاسع عشر، الذي شهد العديد من النقاشات الفكرية حول أسباب تأخر العثمانيين. ويرى هدايت أيدار أن علي سوافي، أحد مثقفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قد اعتمد في مقالته التي نشرها في مجلة "العلوم"، ودافع فيها عن إمكانية ترجمة خطب الجمعة إلى اللغة التركية وأداء الصلاة بها، على آراء الإمام أبي حنيفة.
وفي مثل هذه الأجواء، أعرب الشاعر وعالم الاجتماع العثماني ضياء جوك ألب عن حنينه إلى بلد تُستخدم فيه اللغة التركية في كلِّ مجالات الحياة، وذلك في قصيدة له بعنوان "وطن" نشرها عام 1918، في كتاب شعري بعنوان "الحياة الجديدة"، ضمَّ أفكاره حول ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع العثماني. وقد عبَّر عن هذه الفكرة على النحو التالي:
"البلد الذي يُؤَذَّن في مساجده بالتركية
ويُتلى فيه القرآنُ بالتركية
ويَفهم القروي معنى القرآن في الصلاة
هذا هو وطنكم يا أبناء تركيا".
ومن المعروف عن ضياء جوك ألب تبنيه للأفكار القومية (لُقَّب بعد ذلك بـ"أبو القومية التركية")، في مقابل أفكار تيارات أخرى، عثمانية وإسلامية، شهدها المجتمع العثماني المنهار. وقد لاقت أفكار جوك ألب اهتمامًا كبيرًا من قبل المثقفين خلال فترة الجمهورية التي تبنى مؤسسوها فكرة تتريك لغة العبادة المطروحة في الفترات الأخيرة للدولة العثمانية، وعلى رأسهم أتاتورك.
الجمهورية التركية والإصلاح الديني
لم تتوقف جهود الإصلاح الديني في الجمهورية التركية التي قام مؤسسها مصطفى كمال بإلغاء الخلافة عام 1924، أي بعد عام واحد على تأسيس الجمهورية. وفي هذا السياق، يذكر الباحث التركي ستشيل أكجون أن مسألة ترجمة النصوص الدينية ولغة العبادة إلى اللغة التركية كانت ضمن أولويات مؤسسي الجمهورية التركية، وكان مصطفى كمال مهتمًا بهذه المسألة بشكل شخصي. وقد تقرر أن يتم، أولًا، ترجمة القرآن الكريم وصحيح البخاري إلى اللغة التركية، وكُلِّف الشاعر البارز محمد عاكف أرصوي، والشيخان حمدي يازر وأحمد نعيم أفندي بهذه المهمة (سافر عاكف إلى مصر بعد ذلك، وذكرت بعض المصادر أنه أحرق ترجمته للقرآن بعد إنهائها خوفًا من أن تُقام الصلاة باللغة التركية).
وخلال تلك الفترة، اتخذت حكومة الحزب الواحد برئاسة أتاتورك سلسلة من القرارات، بدءًا بإغلاق تكايا الدراويش، ومنع ارتداء العمامة والطربوش واستبدالهما بالقبعة الغربية عام 1925، مرورًا باعتماد التقويم الأوروبي، والقانون المدني السويسري، والجنائي الإيطالي.
وفي أول جمعة من شهر رمضان عام 1926، ألقى جمال الدين أفندي، إمام مسجد جوزتبة بإسطنبول، خطبة الجمعة باللغة التركية وأدى الصلاة بها أيضًا. ورغم أن هذه الحادثة قد أثارت ردود فعل شعبية واسعة، وتسببت في إقالة جمال الدين أفندي من منصبه في مديرية الشؤون الدينية، إلا أن الحكومة التركية لم تتوقف عن طرح الأمر في أكثر من مناسبة.
وفي عام 1928، شكَّل الكاتب والمفكر التركي إسماعيل حقي بلطجي أوغلو، أحد أكبر ممثلي حركة إصلاح التعليم في الجمهورية التركية، لجنة من أساتذة كلية الإلهيات في دار الفنون (جامعة إسطنبول حاليًا)، ضمَّت علماء دين وأساتذة علم النفس وتربية وفلسفة. وبعد اجتماعات عديدة ونقاشات حول "الإصلاح والتحديث في الإسلام"، أُعلن عن "لائحة الإصلاح الديني". ومما جاء في إحدى فقرات المادة الثالثة من هذه اللائحة: "يجب أن تكون لغة العبادة هي التركية، وأن تُستخدم الترجمة التركية في الصلاة والخطب".
وبأمر من أتاتورك، وبإدارة رشيد غالب وكيل المعارف، تم تكليف تسعة مؤذنين مشهورين بهذه المهمة. وفي عام 1932، ومع اهتمام أتاتورك الشخصي، رُفع أول أذان تركي بمسجد الفاتح في إسطنبول في 30 كانون الثاني/يناير 1932. كما بدأت قراءة القرآن باللغة التركية في بعض مساجد إسطنبول.
وفي العام التالي، أصدرت وزارة الشؤون الدينية تعميمًا للمؤذنين برفع الأذان والإقامة باللغة التركية. كما قامت وزارة الداخلية بإرسال التعميم إلى جميع مكاتب الإفتاء، وقد نصَّ على ضرورة رفع الأذان والإقامة باللغة التركية، وتحذير من لم يمتثل لهذا القرار بالعقاب بكلِّ حزم وصرامة.
ردود الأفعال على تتريك الأذان
يذكر الباحث صادق البيرق في كتابه "الصراع الديني في تركيا" أن أول رد فعل كبير على رفع الأذان باللغة التركية كان في مدينة بورصة بتاريخ 1 شباط/فبراير 1933، عندما قام أحد المؤذنين ويُدعى طوبال خليل برفع الأذان بالعربية، وتفاجأ بأحد رجال الشرطة بملابس مدنية ينتظره عند بوابة المئذنة، وقام بالقبض عليه ونقله إلى مركز الشرطة.
وردًا على ذلك، خرج الأهالي في مسيرة كبيرة إلى مكتب الوالي احتجاجًا على تدخل الحكومة في هذه القضية. وبعد أن طلب الوالي المساعدة من الحامية العسكرية، تم إبلاغ قائد الحامية الذي كان بجوار أتاتورك في إزمير في ذلك الوقت بالأمر. وعندما علم أتاتورك بالحادثة، قطع رحلته وجاء إلى بورصة.
وفي تصريحه لوكالة "الأناضول"، قال أتاتورك: "تلقيتُ معلومات من المعنيين حول حادثة بورصة. وهي ليست مهمة في حد ذاتها. على أية حال، لن يفلت هؤلاء الرجعيون من براثن عدالة الجمهورية. إن سبب اهتمامنا بهذه الحادثة على وجه التحديد، هو أن يُفهم مرة أخرى أننا لن نسمح أبدًا بأن يكون الدين والسياسية سببًا في تحريض الناس. إن ماهية هذه المسألة لا تتعلق بالدين، بل باللغة". وقد تعامل أتاتورك شخصيًا مع القضية وأعطى التعليمات اللازمة للسلطات.
وفي الوقت نفسه، تم فصل مفتي بورصة والمدعي العام والقاضي من وظائفهم، وحُكم على تسعة عشر شخصًا متورطين في الحادثة بالسجن المشدد والنفي بعد محاكمة استمرت لمدة عام في محكمة كوروم الجنائية.
ورغم أن أتاتورك قد تخلَّى عن محاولات تتريك لغة العبادة وأداء الصلاة باللغة التركية لعدم حصوله على النتائج المتوقعة، حيث أثارت الدراسات حول هذا الموضوع اضطرابات كبيرة في المجتمع، إلا أنه أصرَّ على استمرار رفع الأذان بالتركية رغم اعتراضات بعض أعضاء البرلمان، وقيام نائبين من المعترضين على القرار برفع الأذان بالعربية في البرلمان، وقد اتهمتهم الصحافة التركية آنذاك بالجنون. ورغم أن حادثة بورصة قد أظهرت بوضوح أنه لن يتم التسامح مع الذين يصرُّون على رفع الأذان باللغة العربية، إلا أن الاحتجاجات لم تتوقف خلال تلك الفترة في أكثر من مدينة تركية.
ويذكر الباحث التركي رفعت أطاي أن فئة كبيرة من الشعب قد اعترضت على تتريك الأذان بأساليب مختلفة، مثل رفعهم للأذان بالعربية أثناء مشاهدة مباراة كرة قدم في الاستاد، أو في أي تجمع كبير. كما اعترض على هذا القرار أيضًا بعض الكُتَّاب والمثقفين، من بينهم الشاعر البارز يحيى كمال بياتلي، الذي علَّق على هذه القضية بقوله: "الأذان صوت. وهو موسيقى تصعد من المآذن وتدخل قلوب المسلمين. يجب أن يبقى بالكلمات التي تُلي بها لأول مرة في آيا صوفيا".
عصمت إينونو وتشديد العقوبة
بعد رحيل أتاتورك، وتولِّي صديقه عصمت إينونو الحكم، تم التعامل مع القضية بشكل أكثر صرامة، حيث وصلت عقوبة من يؤذن باللغة العربية إلى الحبس ثلاثة أشهر. وبسبب عدم وجود تشريعات جنائية في عمليات ملاحقة المعارضين لحظر الأذان باللغة العربية، الذي دخل حيز التنفيذ بتعميم فقط، وتصرفوا بشكل مخالف لهذا الحظر، ظهرت الحاجة إلى إضافة مادة حول هذا الموضوع إلى قانون العقوبات التركي.
ونظرًا لضرورة إعداد التشريعات القانونية وفق مبدأ "لا عقوبة بلا قانون"، تم إدراج العقوبات الجزائية على من يؤذن باللغة العربية على جدول أعمال البرلمان عام 1939، وأصبح قانونًا في 1941. وهذا يعني أن قانون حظر الأذان باللغة العربية لم يُسن في عهد أتاتورك، كما يعتقد الكثيرون، بل في عهد خليفته عصمت إينونو.
ويمتلئ أرشيف الصحافة التركية بالأخبار حول مؤذنين سُجنوا في تلك الفترة لأكثر من مرة بسبب الأذان بالعربية، حتى إن يوسف أوزجان، مؤذن منطقة تشوبوك في أنقرة، سُجن لأكثر من ثمانين مرة بسبب رفعه للأذان بالعربية.ِِِ بل وقامت الحكومة التركية بإرسال هؤلاء المؤذنين الذين لم تردعهم العقوبة، وأصروا على الأذان بالعربية، إلى مستشفى الأمراض العقلية.
وبعد انتقال تركيا إلى فترة التعددية الحزبية عام 1946، تمت مناقشة رفع الأذان باللغة التركية بشكل متكرر بين الحزب الحاكم وكتلة المعارضة في البرلمان والصحافة. وبلا شك، كانت الإجراءات التي فرضها الحزب الحاكم منذ تأسيس الجمهورية، وبخاصة، التي تتعلق بمسألة هوية تركيا، أحد أهم أسباب غضب التيار المحافظ وشرائح كبيرة في المجتمع وتحديدًا في الأرياف. وهذا ما استغله الحزب الديمقراطي المعارض الذي غازل في حملاته الانتخابية هذه الشرائح، وكان أحد الإجراءات الأولى للحزب الديمقراطي، الذي وصل إلى السلطة في انتخابات 1950، برئاسة عدنان مندريس، هو رفع الحظر عن الأذان العربي. وبعد كثير من المناقشات، تمت الموافقة على إزالة عقوبة رفع الأذان بالعربية بالإجماع من قبل أعضاء البرلمان.
ورغم رفع الحظر عن الأذان العربي، إلا أن النقاشات حول هذه المسألة ظلَّت مطروحة في الدراسات الأكاديمية وعلى صفحات الجرائد بين المفكرين الأتراك. وحتى الآن، يرى بعضهم ضرورة تتريك، ليس فقط الأذان، بل لغة العبادة بأكملها حتى يسهل على المسلمين فهم اللغة التي يستخدمونها في الصلاة والدعاء بشكل صحيح، بينما يرى آخرون أن تتريك لغة العبادة يعني فقدان روح الإسلام.
وأخيرًا، يُلاحظ أن أغلب هذه النقاشات المستمرة في تركيا حتى اليوم، لا تختزل المسألة في ثنائية "الإسلام والعلمانية"، مثلما يحدث في كثير من النقاشات العربية التي تنظر إلى تحولات الجمهورية التركية وفقًا لهذه الثنائية فقط، والتي تتجاهل الجذور التاريخية لتلك النقاشات بين مثقفي القرن التاسع عشر، بل وفقهاء القرن الخامس عشر.