رحلة الشاي الطويلة

رحلة الشاي الطويلة.. الأوراق المرة التي صنعت "كوب الإنسانية"

17 سبتمبر 2024

في العام 1897 توفي جمال الدين الأفغاني في إسطنبول عن عمر 59 سنة، ويقول تلميذه عبد القادر المغربي إن السيد مات "بعلة السرطان الناشب في فكه الأسفل"، وينقل التلميذ عن بعض الأطباء الذين عاينوا الراحل أن "علة السرطان نتجت عن كثرة شرب السيد للشاي وتدخينه بالسيكار الإفرنجي، واستكثاره من الملح في طعامه". وهذا ما دفع بأحد أصدقاء الأفغاني إلى تلخيص المسألة في بيت شعر معبر، وإن جاء ركيكًا:

"الملح والشاي مع الدخان / أودت بروح شيخنا الأفغاني". (المغربي، جمال الدين الأفغاني ـ أحاديث وذكريات).

ليس شائعًا اليوم، ولا في زمن الأفغاني على الأرجح، ربط الملح بالسرطان، وإن كان "أحد الأبيضين" متهمًا بإساءات كثيرة من مستوى أقل. أما الدخان، وبغض النظر عن مكابرة المدخنين، فهو المشتبه الأول، لا سيما مع الأسطورة الحديثة التي تقول: "إنه يحوي الكثير الكثير من المواد السامة والتي لم يُعرف منها حتى الآن سوى أربعمئة"!

لكن ماذا عن الشاي؟ هل سمعتم عن شخص أصيب بالسرطان من شرب الشاي؟ على الأغلب لا، وبالتالي فربما كان السيد جمال الدين هو أول وآخر رجل يموت بعلة الشاي؟ وما الذي دفع الأطباء إلى هذا الاشتباه الغريب؟

تقدم سيرة المصلح الأفغاني الشهير تفسيرًا: لقد كان مولعًا بشرب الشاي بصورة استثنائية. ويبدو أن عدد كاسات الشاي كانت من الكثرة بحيث كاد أن ينافس عدد السجائر.

على أي حال، لم يكن الرجل هو الوحيد في ذلك، ففي ذلك الزمن كان شرب الشاي قد صار هوسًا عالميًا، ليس في الصين واليابان والهند وحسب، بل وفي أوروبا وأميركا وبلدان مختلفة من العالم. وقد وصل هذا الهوس إلى أراضي السلطنة العثمانية، ومن ضمنها أقطار عربية عديدة، حيث صار مشروب النخبة والعامة، ولم يطل الأمر حتى غدا تقليدًا راسخًا من تقاليد الضيافة العربية.

جمال الدين الأفغاني
إذا كان الدخان هو الذي قتل الأفغاني، فإن شرب الشاي لم ينقذه (ميغازين)

ويقدم الشيخ الدمشقي جمال الدين القاسمي (1866 ـ 1914) نموذجًا من الشغف العربي (الشامي) المستجد بالشاي في أواخر القرن التاسع عشر، وذلك عندما أقدم على تأليف كتاب لا يخلو من طرافة عنونه بـ"رسالة في الشاي والقهوة والدخان".

وتَصدّر الشاي كتاب القاسمي بعشرة فصول جاء آخرها عرضًا لبعض الأشعار التي نُظمت فيه، ومنها تلك الأبيات التي قالها الشيخ محمد المبارك الجزائري في المقارنة بين الشاي والقهوة والتي ينتصر فيها الأول بالضربة القاضية:

قهوة الشاي وهي ألطف قهوه / لم تدع لي في قهوة البن شهوه

أبسوداء يعدل الشاي وهو ال / شاه كلا لتلك أعظم هفوه

لو درى الناس ما له من مزايا / ما خطوا نحوها لعمرك خطوه

وكذلك الأبيات التي نظمها عمر الأنسي البيروتي:

أدم شرب الأتاي (الشاي) فإن فيها / منافع ليس توجد في سواها

مآثر تمنح السفهاء حلما / وأرباب الحلوم علا وجاها

إذا جليت مشاربها تجلت / على جلساء حضرتها سناها

فلا لغو ولا تأثيم فيها / ولا ما يسلب العقلا نهاها

الشغف اعتذارًا عن التأخر

يقول الباحث حميد السيد رمضان في كتابه "الشاي في العالم"، (طبعة خاصة بالمؤلف، 1990)، إن الشاي دخل سوريا في القرن السادس عشر، لكنه لا يقدم أدلة على ذلك، ولا يتوسع في الحديث عن هذا الدخول المبكر. فقط مجرد معلومة عابرة. والراجح هو ما يذهب إليه باحثون كثر آخرون، من أن الوجود الفعلي (الانتشار الواسع) للشاي في العالم العربي قد تأخر حتى القرن التاسع عشر، وإذا كان جمال الدين القاسمي لم يحدد تاريخًا معينًا أو فنرة زمنية ما لمعرفة الشاي في البلاد الشامية، فإن في سياق حديثه وما ينقله من حماس معاصريه الشعراء للنبتة الوافدة، ما يشير إلى أننا أمام ظاهرة ليست قديمة، بل إن تجشم عالم دين مثله عناء تأليف كتاب في الشاي يقدم دلالة على أن في الأمر طرافة وجدة، وأن الكلام فيه لم يكن قد أصبح، بعد، من نافل القول.

يقول القاسمي: "اسمه وارد من لغة الصين ويسمونه بجملة أسماء مثل تا، وتيا، وتين.. وقال بعضهم الجاي لفظ فارسي الأصل، وليس لهذا الاسم ما يرادفه في اللغة العربية لأنه حديث النشأة في جزيرة العرب إذ لم يكن يعرف فيها، ولما كثر استعماله في الأقطار الحجازية والمصرية استبدل العرب جيمه شينًا، فسموه شايًا. وبعضهم زاد على ذلك بأن زاد عليه هاء مكسورة فدعاه الشاهي. وأهل المغرب يبدلون جيمه تاء مسبوقة بهمزة فيقولون أتاي".

ويبدو أن الإطلالة الأولى للشاي في المغرب جاءت مع أواخر القرن الثامن عشر. وفي كتابهما "من الشاي إلى الأتاي ـ العادة والتاريخ"، (كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ الرباط، 1999)، يورد الباحثان عبد الأحد السبتي وعبد الرحمان لخصاصي نصًا للمؤرخ عبد الكبير الفاسي (توفي سنة 1899)، يؤكد فيه أن الشاي ظهر في المغرب أيام السلطان محمد بن عبد الله (ت 1790): "وفي أيامه أيضًا أظهر الله بالمغرب عشبة الأتاي المشروب بسائر أقطاره، وهو من اختصاص صاحب الترجمة وآثاره. ولم يزل يبذل المجهود في إشاعته وتكثيره وإذاعته، إطفاء لما عمت به البلوى من شرب الخمور، التي هي أم الخبائث وأقبح الأمور، حتى نسخ الله تلك الظلمة بهذا الضياء، وأبدل الله ذلك الحرام".

وفي مصر صار الشاي مشروب الطبقة المخملية ودوائر النخبة بعد الاحتلال البريطاني سنة 1882، وسرعان ما تحول إلى مشروب شعبي واسع الانتشار مع ولادة القرن العشرين، ولا سيما إثر الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918).

وكذلك في السعودية، يعود تاريخ ظهور الشاي إلى زمن الحكم العثماني، وكان اسمه أول ظهوره "تاي"، ثم تغير إلى "شاي"، وصار يدل على كل مشروب ساخن مثل اليانسون والبابونج والكراوية.

ورغم تأخر دخول الشاي إلى العالم العربي، إلا أنه سرعان ما حقق انتشارًا واسعًا، مرسخًا نفسه كمشروب شعبي ومتفوقًا على مشروبات أقدم عهدًا، وكما في بلدان أخرى في العالم فإن بلدانًا عربية عديدة صارت تعتبر الشاي واحدًا من تقاليدها الوطنية.  

ووفقًا لتقارير صحفية دولية مهتمة، فإن دولتين عربيتين كانتا بين أكثر عشر دول في العالم استهلاكًا للشاي العام 2022، إذ احتلت المغرب المرتبة السابعة ومصر المرتبة العاشرة.  

ومعيار الترتيب هو حصة كل فرد من الشاي، وقد احتلت تركيا المرتبة الأولى بحصة بلغت (3.15 كغم) للفرد، ثم إيرلندا في المرتبة الثانية (2.19 كغم)، فبريطانيا في المرتبة الثالثة (1.94 كغم).

أما عربيًا فإن الدول الأكثر استهلاكًا للشاي جاءت كالتالي: 1 ـ المغرب (1.22 كغم). 2 ـ مصر (1.01 كغم). 3 ـ السعودية (0.90 كغم). 4 ـ الإمارات (0.72 كغم).

أصل الحكاية

تعزو الأسطورة الصينية إيجاد الشاي إلى داروما، مؤسس طائفة "زن" البوذية. فأثناء تأمله في مكان بالقرب من نانكنغ (الصين)، وجد نفسه مستغرقًا في النوم، وعند استيقاظه كان غاضبًا فعاقب نفسه بقص جفونه، وفي المكان الذي سقطت فيه الشعرات نبت نبات غريب، أوراقه أعطت شرابًا مخمرًا كان من ميزاته طرد النعاس.. وهكذا ولد نبات الشاي ومعه ولد طقس شربه.

أما القصة التاريخية لاكتشاف الشاي فتقول إن الامبراطور الصيني، شن توانغ، كان من عادته أن يغلي الماء قبل شربه في حلة كبيرة، وحدث، في يوم من عام 2727 ق. م، أن سقطت ورقة من أوراق الشجر في هذه الحلة أثناء غليان الماء. في أول الأمر انزعج الامبراطور لكنه ما لبث أن لاحظ سرعة تغير لون المياه إلى اللون الأحمر.. فوضع أوراقًا أخرى، فحصل على الشاي.. وبذلك كان الامبراطور أول من شربه في التاريخ. (حميد السيد رمضان، الشاي في العالم).

وثمة شكلان أساسيان للشاي من حيث الأصل: بري، ومزروع. البري ينمو أساسًا في مقاطعة آسام في الهند، حيث تسمى النبتة "كاميليا آسام"، وإذا سمح لها بالنمو بشكل طبيعي فإنها ترتفع إلى نحو 25 قدما (سبعة أمتار تقريبًا) وهي تثمر على مدار العام.

أما المزروع (الشكل الصيني) فيتميز بشجيرات مورقة مزهرة دائما، (كاميليا سينينسيس)، ولا يسمح لها غالبا بأن يتجاوز طولها 100 سم، وتُقلم بين الفترة والأخرى لمنعها من الارتفاع من أجل تسهيل عملية القطف.

وسواء كنا أمام شاي أسود أو أحمر أو أخضر أو أبيض.. فإن الأصل واحد، وهو نبتة الكاميليا سينينسيس، وما التمايز إلا بسبب اختلاف مناطق النبات وظروف نموه، وعمليات إنتاجه.

ومن غير المعروف بالضبط أين كان ذلك المكان الذي نبت فيه الشاي لأول مرة، ولكن ثمة إشارات قوية نحو الجنوب الشرقي من آسيا، في أراضي شمال شرق الهند وشمال بورما والجنوب الغربي للصين والتبت.

غير أن الصين هي وطن الشاي، تاريخيًا ورمزيًا، فمن هناك خرجت أكبر القوافل لتغزو به العالم. وهناك ولدت أساطيره وحكاياته وطقوسه الأولى. وحتى أواسط القرن التاسع عشر، كانت معظم المساحات المزروعة من الشاي موجودة داخل الأراضي الصينية، مقابل مساحات محدودة خارجها. (الشاي في العالم).

واليابان نقطة علام بارزة على طريق الشاي الطويل. أخذه اليابانيون من الصين في القرن السادس الميلادي. وكان، بداية، مشروب رجال الدين، ليغدو بعد ذلك مشروب المثقفين المفضل (الأخضر أساسًا)، وصولًا لتتويجه كرمز للأمة اليابانية بأسرها.

وإذا كان اليابانيون قد أضافوا للشاي رونقًا وأسبغوا عليه معان جديدة، فإنهم أيضًا قدموا عنه واحدًا من أجمل الكتب.

انتقل الياباني أوكاكورا كاكوزو (1862 ـ 1913) إلى بوسطن في الولايات المتحدة الأميركية، وانضم إلى الأوساط الفنية هناك، وفي العام 1905 أصبح قيما مساعدا على القسم الصيني والياباني في متحف بوسطن للفنون الجميلة. وفي العام 1906 ألف "كتاب الشاي" باللغة الإنجليزية، (ترجمه إلى العربية سامر أبو هواش، مشروع كلمة). والكتاب يذهب أبعد من رواية تاريخ النبتة الصينية، أو عرض طرائق زراعتها وطقوس شربها. إنه كتاب عن الثقافة اليابانية، عن روح اليابان المكثفة في كوب شاي.

يروي الكتاب، من بين ما يروي، حكاية انتشار الشاي في العالم: في حقبة الاكتشافات العظمى، بدأت الشعوب الأوروبية تعرف أكثر عن الشرق الأقصى. "ففي نهاية القرن السادس عشر جاء الهولنديون بالأخبار التي تفيد بأن ثمة شرابًا طيب المذاق يصنع في الشرق من أوراق شجرة ما". وفي سنة 1610 حملت سفن تابعة لـ"الشركة الهولندية لشرق الهند" أولى شحنات الشاي إلى أوروبا. وبات الشاي "معروفًا في فرنسا في العام 1636، ووصل إلى روسيا في 1638. أما إنجلترا فقد رحبت به في العام 1650، ووصفته بأنه ذلك الشراب الصيني الممتاز الذي يصدق عليه جميع الأطباء، يسميه الصينيون (تشا) وتسميه الأمم الأخرى (تاي) والمعروف باسم (تي)".

ورغم معوقات عديدة فقد انتشر شرب الشاي بسرعة مذهلة. وتحولت بيوت القهوة في لندن، في النصف الأول من القرن الثامن عشر، إلى بيوت شاي، وأصبح الشاي ملاذ مفكرين من أمثال جوزيف أديسون وريتشارد ستيل، وكذلك صموئيل جونسون الذي يصور نفسه كشخص لا يتورع عن شرب الكثير من الشاي، وظل طوال عشرين عامًا يمزج وجباته بهذا "النقيع الناتج عن هذه النبتة المذهلة"، وكان "يستعين بالشاي لتمضية المساء ثم منتصف الليل، وبه يستقبل الصباح". 

والواقع أن هذا الشراب تحول إلى ضرورة حياتية، وفتيلًا لإشعال الثورات: "وقد استسلمت أمريكا المستعمرة للاضطهاد حتى نفد الصبر الإنساني قبل فرض الضرائب الكبيرة على الشاي. ويعود تاريخ الاستقلال الأمريكي إلى رمي حاويات الشاي في ميناء بوسطن". (كتاب الشاي، كاكوزو).

أكبر من نبتة.. أهم من مشروب

في نهار صيفي من عشرينات القرن المنصرم، اجتمع عدد من أساتذة الجامعة وزوجاتهم على طاولة شاي في مدينة كامبريدج البريطانية. وصلت الأحاديث المتقافزة إلى موضوع الشاي، فقالت امرأة من المجتمعين إن مذاق الشاي إذا صببناه فوق الحليب يختلف تمامًا عن مذاقه إذا صببنا الحليب فوقه. وكما هو متوقع فقد سخر الآخرون منها، معتبرين أن هذا مجرد هراء، إذ ما الفرق بين الأمرين؟ فقط أستاذ واحد منهم أخذ الموضوع على محمل الجد وراح يجري التجارب ليحسم مسألة الشاي والحليب!

يورد ديفيد سالسبورغ هذه الحكاية في كتابه "ذواقة الشاي"، (تعريب رنا النوري، مكتبة العبيكان)، لكنه يذهب منها إلى شأن آخر لا يعنينا هنا. ما يعنينا الآن هو تلك المرأة التي سخر رفاقها منها. إنها تنتمي إلى تلك الشريحة من الذواقة التي تعتقد أن الشاي ليس مجر ماء يغلي و"ظرف شاي" يوضع فيه على عجل. بل هو طقس خاص مترع بالتفاصيل الدقيقة الفارقة ويعتمد أساسًا على رهافة الحس.

وهناك رجل شهير يدعم المرأة الإنجليزية في رؤيتها هذه. إنه مواطنها الكاتب الشهير جورج أورويل (1903 ـ 1950) صاحب روايتي "1984" و"مزرعة الحيوانات".

في مقال تحت عنوان "كوب لطيف من الشاي"، يقول أورويل إن الشاي هو أحد الدعائم الأساسية للحضارة في إنجلترا، ومن هنا فإن تحضيره ليست مسألة عشوائية. وهو يتبرع لتقديم قواعده الخاصة الإحدى عشرة، والتي "أعتبر كل واحدة منها ذهبًا خالصًا".

جورج أورويل
يقول أورويل إن الشاي هو أحد الدعائم الأساسية للحضارة في إنجلترا (ميغازين)

من بين القواعد الأورويلية أنه ينبغي على المرء استخدام شاي هندي أو سيلاني. الشاي الصيني له ميزاته التي لا يجدر بالمرء ازدراؤها، فهو اقتصادي ويمكن شربه دون إضافة حليب، لكنه لا ينشط كثيرًا، ومع أنه صيني فإن شاربه لا يشعر "أنه أكثر حكمة أو شجاعة أو تفاؤلًا بعد شربه". والقاعدة الثانية أنه يجب تحضير الشاي بكميات صغيرة، أي في إبريق الشاي. الشاي المقدم من الجرار لا طعم له دائمًا، بينما "شاي الجيش الذي يطبخ في قدر، يشوبه مذاق الشحم والغسيل الأبيض". 

قاعدة ثالثة: يجب تحمية الإبريق مسبقًا، ويفضل أن يتم ذلك عبر وضع الإبريق على الموقد بدلًا من الطريقة الشائعة القائمة على شطفه بالماء الساخن. ورابعة: ينبغي أن يكون الشاي ثقيلًا.. والقاعدة الخامسة تنص على وجوب وضع الشاي مباشرة في الإبريق، لا مصافي أو أكياس موسلين أو آليات أخرى لحبس أوراق الشاي.

ثم يصل أورويل إلى النقطة نفسها التي أثارتها امرأة كامبريدج، الحليب والشاي، فيقول في القاعدة العاشرة إنه يتوجب سكب الشاي أولًا في الفنجان، "هذه أحد أكثر النقاط إثارة للجدل، وبالفعل في كل عائلة في بريطانيا هناك مدرستان فكريتان حول الموضوع: مدرسة الحليب أولا تقدم حججًا دامغة، لكنني أرى أن حجتي أنا لا غبار عليها وهي أنه عبر سكب المرء للشاي أولا وتحريكه وهو يسكب الحليب، بإمكان المر التحكم بدقة بمقدار الحليب المضاف، في حين أن المرء معرض لإضافة أكثر مما يحتاج من الحليب لو أنه قام باستخدام الطريقة المعاكسة".  

غير أن أوكاكورا كاكوزو، في "كتاب الشاي"، يعلو بشرب الشاي فوق هذا بكثير. إنه ليس مجرد طقس عميق بتفاصيل دقيقة، وليس عادة ترهف الحس. إن شرب الشاي هو فلسفة متكاملة، رؤية معينة للعالم، طريقة في الحياة.. حتى يصح القول بوجود أناس "شايين" وآخرين غير "شايين".

وفي فصل تحت عنوان "كوب الإنسانية"، يكتب: "وقد انبثقت طائفة الشاي من صلب تقدير سمو الجمال في خضم الحقائق الدنيئة للحياة اليومية. وهي طائفة تحتفي بالنقاء والتناغم، وبسر الكرم المتبادل، وبرومانسية النظام الاجتماعي".

ويختم الفصل بالقول: "في هذه الأثناء دعونا نرتشف بعض الشاي. إن ضوء بعد الظهر يشع خلال القصب، والينابيع تبقبق بالمسرات، ويمكننا سماع أنين الصنوبرات في غلاية الشاي. فلنحلم بالفناء، ولنمكث قليلا في الحماقة الرائعة للأشياء".

إذا ما بحثنا على "غوغل" عن فوائد الشاي، فسنجد الكثير من التقريظ، وبعض الكتابات تبالغ في المنافع لدرجة ننتظر معها أن تقول لنا إن شرب الشاي يضمن الخلود!

وبغض النظر عن المبالغة، فلا شك أن للشاي فوائد كثيرة، وهو على الأرجح بريء من قتل جمال الدين الأفغاني. ومع ذلك فقصة الأفغاني تضع حدودًا لأسطورة الشاي: فإذا كان الدخان هو الذي قتله فإن شرب الشاي لم ينقذه!

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

2

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

تحدّث الرومان واليونانيون قديمًا بإعجاب عن بخور وطيوب سبأ، لدرجة أنهم وصفوا سكانها بأنهم من أثرى شعوب العالم، وأنهم يأكلون في أوعية من الذهب، ويسكنون بيوت فارهة

3

من يمتلك الإنترنت؟

تقول ولادة شبكة الإنترنت الكثير من ناحية تحولها إلى مجال للسيطرة والربح، خصوصًا حين نضع نصب أعيننا أنها استراتيجية اتصالية أميركية

4

"يا ما في الجراب يا حاوي".. الحواة من إبهار الشارع إلى شاشات التليفزيون

لم يكن الحواة فئة طارئة على المجتمع المصري، فقد تواجدوا في الشوارع والميادين العامة منذ القرن التاسع عشر الميلادي

5

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم

اقرأ/ي أيضًا

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

تحدّث الرومان واليونانيون قديمًا بإعجاب عن بخور وطيوب سبأ، لدرجة أنهم وصفوا سكانها بأنهم من أثرى شعوب العالم، وأنهم يأكلون في أوعية من الذهب، ويسكنون بيوت فارهة

هديل عطا الله

الحاوي
الحاوي

"يا ما في الجراب يا حاوي".. الحواة من إبهار الشارع إلى شاشات التليفزيون

لم يكن الحواة فئة طارئة على المجتمع المصري، فقد تواجدوا في الشوارع والميادين العامة منذ القرن التاسع عشر الميلادي

محب جميل

طيف جيم كرو

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم

محسن القيشاوي

غزة تحت الإدارة المصرية

تسعة عشر عامًا من الزمن.. غزة تحت الإدارة المصرية

يستعرض النص أبرز المحطات التاريخية بارزة للعلاقات المصرية الفلسطينية في ظل الإدارة المصرية لقطاع غزة، التي بدأت بعد نكبة 1948، واستمرت حتى نكسة 1967

عبد الرحمن الطويل

الإسلام المغربي في إفريقيا

الإسلام المغربي في إفريقيا.. جسور روحية من فاس إلى تمبكتو

عمل المغرب على نشر الإسلام الصوفي في دول غرب إفريقيا، مما جعل الزوايا والطرق الصوفية مع الوقت فاعلًا رئيسيًا في استمرارية الروابط الروحية والثقافية بينه وبين عدة دول إفريقية

عبد المومن محو

المزيد من الكاتب

سلمان عز الدين

صحافي سوري

أفول السحر.. هل انتهت الواقعية السحرية وما الذي جاء بعدها؟

مع أن مصطلح "الواقعية السحرية" ظهر في ألمانيا ضمن حقل الفن التشكيلي إلا أنه ارتبط بنوع روائي ظهر في أميركا الجنوبية، نموذجه الأبرز هو رواية "مائة عام من العزلة"

مئة عام على بيان أندريه بريتون: ما الذي بقي من السريالية؟

صرف السرياليون نظرهم عن الصور والحقائق والمعطيات الحسية المباشرة، وتوجهوا إلى اللاواعي، اللاشعور، الأحلام، تعبيرات الأطفال وخيالاتهم

الدراما السورية.. الهروب من الواقع

تعدّدت اتجاهات الدراما السورية ما بعد 2011، لكنها أفضت كلها إلى المكان ذاته: حائط مسدود. وتشاركت جميعها السمة نفسها: الهروب من الواقع!

فيلم "رحلة 404".. لا شأن للسياسة بما يحدث!

شخّص فيلم رحلة 404 حال المجتمع، وبين بوضوح أنه مريض جدًا، ولكنه أغفل تحديد الأسباب التي جعلت المرض حالة اجتماعية عامة

كوميديا ممدوح حمادة.. عن جزر معزولة وسط محيط صاخب

أثبت ممدوح حمادة أن لديه ما يقوله بعيدًا عن القوالب الجاهزة والأُطر المحددة سلفًا، إذ قدّم سيناريوهات عدة لأعمال كوميدية ذات شخصيات محلية أصيلة، وسمات مشتركة تُشير إلى أسلوب مميز ورؤية خاصة للواقع