نكتة سريالية: قابل حلزون سلحفاة في الصحراء، فسألها: "هل تلعبين معي شقف وكباب"، فردت السلحفاة: "لماذا وهل تعتقد أني غواصة؟!"، وأخذت الغسالة الأتوماتيك وانصرفت غاضبة!
ليس مؤكدًا أن أحدًا يضحك على هذه النكتة الآن، أو يعتبرها نكتة من أصله، وبالتالي وعلى الأرجح فإن لا أحد يروي مثلها هذه الأيام.
لكنها كانت نكاتًا مزدهرة في سنوات خلت، يوم كانت السريالية لا تزال على قيد التوهج. فكان البعض يستوحون غموضها، وتركيبها لعناصر متنافرة، في صناعة ضحك من نوع خاص. وكذلك فقد كانت تلك النكات، عند آخرين، سلاحًا ضد السريالية يصرّفون، عبرها، شيئًا من غضبهم وحنقهم إزاء مفاهيم وتراكيب وشعارات يشعرون أنها عصية على أفهامهم، وبالتالي تنطوي على تعال لا يستسيغونه.
والحقيقة أن التنكيت على السريالية، بمعنى السخرية منها، لم يكن ظلمًا صرفًا، فإذا كان هذا التيار الأدبي الفني قد قام على أكتاف مبدعين أصلاء أنتجوا أساليب مبتكرة ومفاهيم طازجة وطرائق طريفة؛ فإن كثيرًا من المدعين وعديمي الموهبة، بل والدجالين، كانوا هناك أيضًا.
في مقالة قديمة تعود إلى العام 1961 منشورة في "مجلة العربي"، كتب جبرا إبراهيم جبرا: "لقد كانت السريالية، شأن الكثير من الحركات التجديدية، موضع هزء وسخرية عند العديد من الناس، كما كانت طريقة من طرائق الدجل عند العديد من مدعي الأدب والفن. وحتى اليوم، يقول الكثيرون كلما جوبهوا بعمل فني لا يفهمونه: "سرياليزم"! ويضحكون. فقد أضحت السريالية رمز الغموض، واللافهم، وأحيانًا رمز السخف".
ويقول جبرا إن بعض السرياليين تعمدوا أن يتخذوا من الغموض واللافهم والسخف منطلقات لهم، وذلك في سبيل تكوين نظرة جديدة إلى العالم تكون الحرية، بأوسع معانيها، حافزها الأول، مؤكدين أن السريالية ليست: "مدرسة من مدارس الأدب، أو أسلوبًا من أساليب النقد. إنها حالة ذهنية. فالخيال وحده، في عصرنا هذا، يستطيع أن يستعيد للبشرية المهددة فكرة الحرية". إنها، إذن، فلسفة شاملة في الحياة.
والسريالية، أو السرياليزم، مصطلح كان قد نحته الشاعر أبولينيير، مأخوذ من كلمة فرنسية تعني ما فوق الواقع، أو الحقيقة التي وراء الحقيقة. ووفق هذه الدلالة، فإن السرياليين صرفوا نظرهم عن الصور والحقائق والمعطيات الحسية المباشرة، وتوجهوا إلى اللاوعي، اللاشعور، الأحلام، تعبيرات الأطفال وخيالاتهم.. فهناك، كما رأوا، توجد حقائق أكثر عمقًا وإدهاشًا، حقائق فالتة من قيود العقل وأغلال الحواس التي اعتادت تقديم معطيات ساذجة وخادعة وعابرة.
وفكرة العالم وراء هذا العالم، الحقيقة فوق أو تحت هذه الحقيقة، هي فكرة قديمة نادى بها فلاسفة وشعراء وفنانون ومتصوفة كثيرون، والقاسم المشترك بينهم هو عدم الثقة بالعقل وبالحواس، والانتصار للعاطفة، للنفس، واتخاذ الإشراق والكشف المفاجئ والبداهة الحرة.. وسائل لإدراك من نوع مختلف تمامًا عن ذلك المتحصل عن المحاكمة العقلية والمنطقية.
في إحدى محاوراته، كتب أفلاطون: "فالشعراء المجيدون كلهم ينظمون قصائدهم الحسان، لا بالصنعة، ولكن بأنهم ملهمون أو مأخوذون، فالشاعر لا يبدع إلى أن يُلهَم، ويخرج عن رشده، ويتخلى عن عقله. وإذا لم يبلغ الحالة تلك، فهو عاجز عديم القوة، قاصر عن النطق بمعجزات الوحي".
إذن، فالسريالية: "لم تكن شيئًا جديدًا كل الجدة. والشعراء والقصاصون منذ القدم عرفوا، ولا ريب، هذا البحران الأشبه بالحمى الذي يطلق ألسنتهم بغرائب القول وغوامضه". (السريالية، جبرا).
ولادة صاخبة
يرى موريس نادو في كتابه "تاريخ السريالية" (ترجمة نتيجة الحلاق، منشورات وزارة الثقافة السورية) أن السريالية لم تكن وليدة عقول منعزلة، بل إنها ابنة شرعية لمرحلة تاريخية معينة، هي مرحلة ما بين الحربين العالميتين، بظروفها وشروطها ومناخها.
ولقد كانت الحرب العظمى (العالمية الأولى) زلزالًا كبيرًا للعالم برمته، ولأوروبا خاصة، وقادت المصادفة عددًا كبيرًا من الشعراء الشباب إلى الانخراط في هذه الحرب، كل في مكانه وجبهته، ليخرجوا منها محطمين نفسيًا ومعنويًا، مع فقدان تام للإيمان بكل ما كان مرسخًا وسائدًا ومرعيًا قبل اندلاع شرارة هذه المقتلة العظيمة.
لقد رأى هؤلاء جنون النظام السياسي الذي نسق قواه لا لشيء إلا لاستخدامها في "الحط من الإنسان وتحطيمه"، وكذلك رأوا كيف أخفقت النخبة في فعل شيء إزاء المجزرة، (بل إنها راحت تصفق لها وتشجع استمرارها)، وكيف أخفق العلم الذي تجسدت أهم إنجازاته في إيجاد نوعية جديدة لأحد المتفجرات وفي تحسين آلية الدمار. وكيف أخفقت الفلسفة والفن والأدب. إنه، باختصار، انهيار شامل للحضارة.
وإضافةً إلى الحرب، فقد كان لحدث آخر أهمية بارزة في التمهيد لنشوء السريالية، وهو ما تمثل في التطورات التي شهدها الطب النفسي، وصعود التحليل النفسي، ومعه صعود نجم الطبيب النمساوي الشهير سيغموند فرويد الذي دشن رؤية جديدة للإنسان والنفس البشرية، متحدثًا عن اللاشعور، وموليًا اهتمامًا بالغًا للمكبوت والمتخفي، وللغة الأحلام وزلات اللسان، وكذلك للقوى والرغبات الجنسية الكامنة.
لكن بين كل ذلك ونشوء السريالية ثمة حلقة مهمة يجب التعريج عليها، ألا وهي الدادائية. ويقول ديفيد هوبكنز في كتابه "الدادئية والسريالية" (ترجمة أحمد الروبي، مؤسسة هنداوي) إن أسطورة أصول الدادائية تتمحور حول رجل واحد هو الشاعر والمنظر هوغو بال، الذي ساهم في تصميم ملهى ليلي في زيوريخ بسويسرا، سُمي "كباريه فولتير"، وهناك تحلق حوله عدد من الشعراء والفنانين وصانعي الأفلام، منهم: الرومانيان تريستان تزارا (شاعر) ومارسيل يانكو (فنان)، والشاعر والفنان الألزاسي هانز جان آرب، ومصممة الأزياء والراقصة السويدية صوفي تاوبر، والشاعر الألماني ريتشارد هولسنبك، والكاتب الألماني فالتر سيرنر، وصانعا الأفلام هانز ريشتر (المانيا) وفايكنغ ايغلينغ (السويد).
وقدم هؤلاء وغيرهم عروضًا عديدة في الملهى السويسري، فقرات من أنشطة متنوعة: قصائد، أناشيد شعبية، رسومات ولوحات تشكيلية.. وحملت جميعها سمات اللا مألوف والعجائبي والصادم والمستفز.
يكتب الشاعر تزارا واصفًا أحد تلك العروض: "في حضور عدد من المشاهدين، طلبنا أن نعطى الحق بأن نبول بعدة ألوان مختلفة.. صراخ وعراك في القاعة، ووافق الصف الأول على منح الحق، وأعلن الصف الثاني عجزه، وصاح البقية الباقية: مَن الأقوى؟".
كان هدف الدادائية (كلمة انتقاها أحدهم من المعجم عشوائيًا) المعلن هو تحطيم الأعراف والقيم الأدبية والفنية والفكرية السائدة، وتبصير الجمهور بأن ما اعتقدوا أنه فردوس عقلي وعلمي أرسته الحضارة الغربية ما هو في الحقيقة إلا مجموعة خرائب تنبعث منها رائحة الجيف!
ووصلت الدادائية إلى باريس، فانضم إليها أندريه بريتون ولويس أراغون وفيليب سوبو وبنجامين بييريه. وهنا حدث الانعطاف الكبير، فقد شعر بريتون ورفاقه أن الدادائية قد أنجزت مهمتها في التحطيم وكنس القديم، وصار لزامًا بالتالي بناء شيء جديد. زرع بذرة جديدة في الأرض التي صارت خالية من أي زرع، وهكذا ولدت السريالية في باريس، العام 1924، وكان البيان الشهير الذي كتبه بريتون هو الإعلان الرسمي عن ولادتها.
بيان السريالية
كتب بريتون في بيانه: "السريالية هي آلية نفسية مجردة نقصد بواسطتها التعبير، نطقًا أو كتابة أو بأي طريقة أخرى، عن عمل الفكر الحقيقي. فالسريالية هي ما يمليه الفكر، بعيدًا عن كل مراقبة يمارسها العقل وخارجًا عن كل اهتمام جمالي أو أخلاقي".
وترتكز السريالية "على الاعتقاد بالواقع المتفوق لبعض أشكال الأفكار المتداعية المهملة حتى الآن، وعلى القدرة الخارقة للحلم وعلى عمل الفكر العفوي. وترمي إلى تحطيم تام لجميع المحركات النفسانية لتحل مكانها في إيجاد حل للمشاكل الرئيسية في الحياة".
ويهاجم بريتون الواقعية بضراوة لأنها "مناوئة لكل ازدهار فكري وأخلاقي"، وهي مركبة من "الرداءة والكراهية، والاكتفاء التافه". ويهاجم كذلك ما يعده أحد أهم منتجات الواقعية، وهو فن الرواية الذي أصبح الشكل الأدبي المميز، فالرواية ثرثارة ومليئة بالأوصاف والتفاصيل، وهي في النهاية لا تقدم إلا دمى مسبقة الصنع، لا دهشة ولا مفاجأة في احتكاكها ببعضها البعض، فهل "أعطيت اللغة للإنسان لاستعمال تافه كهذا؟".
ألم تعطى اللغة من أجل شحذ المخيلة وإطلاقها كرائد لنا في دخول الأمكنة المحجوبة والتي لم يكن لنا أن نلجها دون المخيلة؟
ويكتب بريتون: "أسرار الفن السحري السريالي، تأليف سريالي مكتوب، أو محاولة أولى وأخيرة: اسحضر ما تحتاج إليه للكتابة، وبعد أن تستقر في مكان ملائم قدر الإمكان لتركيز فكرك على ذاته، ضع نفسك، ما أمكنك، في الحالة الأكثر انفعالًا وقابلية للتأثر، تغاض عن عبقريتك ومواهبك ومواهب الآخرين، قل في نفسك: إن الأدب أتعس الوسائل التي تقود إلى كل شيء. اكتب ما شئت بسرعة دون أي موضوع سبق أن تصورته، ولتكن سرعتك في الكتابة كافية لئلا تحفظ شيئًا مما كتبت، أو تسول لك نفسك بإعادة القراءة. وستأتي العبارة الأولى دون أي جهد، ويصعب علينا إبداء الرأي في حالة الجملة التالية، لا تهتم بهذا الأمر. تابع ما طاب لك ذلك. اعتمد على طابع الهمسات الذي لا ينضب". (موريس نادو، تاريخ السريالية).
إذن فالسريالية تنتصر للشعر ضد الرواية، وللتلقائية ضد التروي والإمعان في التفكير، وللعاطفة ضد العقل، وللعجيب والنافر ضد المألوف والتقليدي، ولـ اللاواعي واللاشعوري ضد الإدراك الممنطق.
وفي شأن الرواية، فإن السرياليين لم يكتفوا بهجائها، وإنما تنبأ بعضهم بموتها سريعًا، وهي نبوءة لم تتحقق لحسن الحظ.
وإذا كان الشعراء هم من افتتح السريالية وأرسى دعائمها، فإن الفنانين التشكيليين سرعان ما انخرطوا في الحركة، مستلهمين منطلقاتها ونداءاتها، وسائرين كذلك على خطا الرسام الإيطالي كيريكو الذي كان سرياليًا قبل ولادة السريالية نفسها، وكان من بين الفنانين السرياليين إيف تانغي وجاك دلفو. غير أن السريالية ستصل إلى أوج شهرتها مع الفنان الإسباني سلفادور دالي، الذي عرف بلوحاته الغريبة وتشكيلاته المفاجئة ورؤاه الصادمة المحيرة، وكذلك عرف بغرائبية سلوكه وخروجه على التقاليد وكل مألوف في الحياة الخاصة والعامة. وكانت حواراته الصحفية وتعليقاته لا تقل أهمية عن لوحاته في صناعة شهرته.
وقد تعرض فن الرسم السريالي للنقد، إذ قال البعض أنه يشكل ردة نحو الماضي، ذلك أن المدارس الحديثة كانت قد نأت بنفسها عن المضمون، مولية كل اهتمامها للشكل. فالمدرسة الوحشية، مثلًا، عنيت بالخط واللون، وبنوع من الزخرفة المستخرجة من أشكال الطبيعة، والتكعيبيون يحولون الأشكال إلى تركيب معقد من المكعبات والمخروطات المتراصة. فالشكل لديهم جميعًا هو الكل بالكل. وإذا السرياليون: "يخرجون على ذلك كله، ويأتون برسم يشبه أحيانًا خرابيش الأطفال عن قصد، ويخلطون بين الأشكال والمواضيع، ويهملون القواعد والأصول، أملا في أن توحي الصورة للمشاهد بحالة ذهنية يحاول وصفها بالكلمات". أي أننا صرنا أمام نوع من المضمون مجددًا! (السريالية، جبرا).
الانشقاق والأفول
لم تكن السريالية حركة فرنسية خالصة، فقد امتد أثرها وصار لها أتباع كثر في كل من ألمانيا وبريطانيا وبلجيكا وإسبانيا وسويسرا.. بل إنها لم تكن حركة أوروبية وحسب، إذ وصل وهجها إلى اليابان والمكسيك والبرازيل والولايات المتحدة وبلدان في القارة الإفريقية، وهو ما جسده المعرض الدولي للسريالية الذي عقد في باريس العام 1938، إذ شارك فيه 14 بلدًا من مختلف القارات.
وكذلك فقد امتد أثر السريالية إلى السينما، وكان المخرج الإسباني لويس بونويل واحدًا من رموزها. وفي مذكراته، وتحت عنوان "أنا والسريالية"، يسرد المخرج الشهير حكايته مع هذه المدرسة الإبداعية وروادها، وخاصة أندريه بريتون وبول إيلوار. ويقول إنه كتب أشعارًا سريالية قبل أن يسمع حتى بالسريالية. وكذلك فعندما كتب هو ودالي فيلم "كلب أندلسي"، فقد فعلا ذلك على الطريقة السريالية ولكن دون أن يضعا يافطتها، ولقد احتفى السرياليون بباكورة إنتاج بونويل، وعدوه واحدًا من عناوين مذهبهم الفني. وبعد سنوات طويلة من مغادرته السريالية، وبينما هو يخط مذكراته، أكد المخرج الإسباني أن علامات سريالية عديدة لا تزال محفورة في شخصه. هناك التحدي الشجاع للقيم البورجوازية، وهناك أيضًا هذا الصراع المحتدم بين الأخلاق الشخصية والأخلاق المكتسبة.. الفطرية مقابل المصنوعة بالثقافة.
غير أن نجم السريالية لم يبق في صعود، ففي عقد الثلاثينات بدأت ملامح الانشقاق والتباين بين رموزها. حدث الانقسام أولًا بين الألمان والفرنسيين، ثم راحت الشيوعية وأيديولوجيات أخرى تستقطب أعضاء في الحركة. اقترب سلفادور دالي من الفاشية، وصار أراغون شيوعيًا رسميًا، فيما تذبذب بريتون بين الانتماءات، وإن ظل خصمًا عنيدًا للفاشية، وخصمًا بالتالي لزميله دالي.
وما إن جاءت الحرب العالمية الثانية حتى تشتت شمل كثير من الزملاء القدامى، حتى أن بريتون نفسه غادر إلى الولايات المتحدة. ويرى دارسون ونقاد أن السريالية انتهت فعليًا في ذلك الوقت. غير أن آخرين، وفي الوقت الذي يقرون فيه بانحسار السريالية وخفوت صوتها، إلا أنهم يرصدون ملامحها وسماتها في اتجاهات ونتاجات من الستينيات والسبعينيات، وحتى الثمانينيات من القرن العشرين.
ويرى البعض أن السريالية إذا كانت قد انتهت كحركة فعلية، فإن جوهر موقفها من العالم والفن والأدب لا يزال قائمًا، وإن تحت مسميات أخرى.