الثابت الوحيد في السياسة هو المتغيّر الدائم الذي ينجم عن تبدل الأحوال والظروف. لعل هذه الجملة من أكثر الجمل التي يرددها خبراء السياسة وممارسوها في إشارة إلى حالة التطور المستمر في معادلات السياسة وأدواتها. ويكمن التطور الأهم في عالم السياسة وما يرتبط بها من علاقات دولية في ارتفاع منسوب الأهمية التي تحظى به الأدوات الناعمة في تحقيق المصالح وتثبيت المواقف السياسية، ومن أهم هذه الأدوات في عصر المعلومة هي تحديد السردية ونشرها بل وفرضها على الآخرين.
ووفق الطرح المذكور آنفًا، يُدور التساؤل الأساسي للمقال حول ماهية السردية باعتبارها باتت قوة نفوذ في الساحة الدولية.
الأجندة أو السردية
الأجندة، بمفهومها اللغوي، تعني جدول أعمال يتضمن ترتيب الأولويات. أما نظرية الأجندة فتجادل بأن وسائل الإعلام ومنصاتها المختلفة لديها قوة كبيرة في تشكيل الرأي العام، حول القضايا التي يواجها المجتمع من خلال تحديد حجم تغطيتها لحدث معين. وبالتالي، فإن الأجندة الإعلامية تُعنى بتحديد المواضيع المُتناولة بتراتبية مقصودة أو منحازة.
نطاق المساحة الممنوحة لخبر معين أو مجموعة أخبار بعينها يرسم توجهات المشاهدين. والمشاهدون أمام الإعلام إما تحت التخدير الكلي أو التخدير الجزئي الذي يصيب اللاوعي أكثر من الوعي، ما يجعل رسائل وسائل الإعلام الموجهة إلى هؤلاء المشاهدين كالرصاصة إما تقتل فكرهم بالكامل لصالح هدف تلك الوسائل أو تخترقه على الأقل كما يبيّن عالم الاجتماع الأميركي هارولد لاسويل في نظريته "الرصاصة السحرية".
وعادةً ما تلعب أولوية الإشباع دورًا في تحديد الأجندة، إذ إن جرعات الأخبار الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية أو الترفيهية موزعة بما يمنح المشاهد حالات متوازنة من الحزن والفرح، الخوف والسكينة، القلق والاطمئنان، الابتهاج والاكتئاب، الغضب والمفاجأة. لكن هذه الحالة ليست شرطًا ضروريًا، فإذا كان هناك توجه مجيّر من قبل بعض وسائل الإعلام فإنها تزيد جرعات التغطية وتسعى إلى إضفاء النمط العاطفي لحالة على حساب أخرى في محاولة منها لتوجيه المشاهد نحو تبني السردية المنشودة.
والسردية، كما هو معروف، هي القصة أو الرواية أو الصيغة اللغوية التي تُستخدم في تحديد شكل الخطاب أو الأخبار المرصوصة ضمن توجه الأجندة.
وتحديد الأجندة مع السردية عنصر قوة تتوق الكيانات السياسية وتحديدًا الدول، للظفر به التماسًا لإكساب تحركاتهم الشرعية والقبول الأخلاقي مهما كانت طبيعة هذه التحركات.
اليوم، أصبح معظم المشاهدين مستخدمين نهمين لوسائل التواصل الاجتماعي. وبخلاف وسائل الإعلام التقليدية، فإن لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي دور في صنع الأجندة، أو الأحرى ليس جميع المستخدمين بل نخبة معيّنة مكونة من أذرع وسائل الإعلام والفئة الجديدة التي باتت تُعرف بـ"المؤثرين". وقد أفقدت هذه الحالة نظرية "التنافر المعرفي" قيمتها، حيث تدعي هذه النظرية أن المشاهد يرغب في تلقي ما يخاطب توجهاته الفكرية ورغباته الداخلية، لكن الواقع اليوم يؤكد أن المشاهد بات معرضًا لكثير من "الرصاصات الإعلامية" التي تنوع أبعاد تشكيل وعيه الواقعي ولاوعيه العاطفي - المثالي. وبالتالي، فإن الخطابات التقليدية لوسائل الإعلام لم تعد مؤثرة كما في السابق، ما جعل العالم يدور في حنايا صراعٍ محتدمٍ لتحديد الأجندة، الأولويات والتوجهات، وأيضًا صنع السردية المدعمة لهذه الأجندة.
الأجندة هي ما يجب أن يكون أولوية أو على رأس الأخبار والأحداث والسلوكيات والقرارات والحسابات. أما السردية فتتعلق بماهية الخطابات والمصطلحات الداعمة إعلاميًا ولغويًا وسياسيًا لتعزيز هذه الأولوية في القلوب والعقول. على سبيل المثال: حياة اليهود تتعرض للخطر من قبل معادي السامية؛ حياة اليهود هنا أجندة أساسية، أما معاداة السامية فهي سردية تصف المعارضين/ المنتقدين لسياسات واشنطن وإسرائيل بأنهم عنصريين بحيث تصبح تحركات إسرائيل في النهاية وكأنها شرعية مهما كان شكلها.
السردية باعتبارها مصدر للقوة
قبل قرون، أوجز عالم الاجتماع الفيلسوف ولي الدين عبد الرحمن الحضرمي "ابن خلدون" تعريف القوة بقوله: "القوة هي حجر أساس أي كيان سياسي. إذا غُلِّفَت القوة بأهداف سياسة وسلطة أصبحت قوة سياسية. والقوة السياسية هي عملية من خلالها تُنظم القوى، المسيطرة على إدارة الدولة، توجيه التدفق العام وترعى تنفيذ القرارات السياسية وتحقيق المصالح عبر الوسائل الصلبة والناعمة".
تعريف ابن خلدون، المطروح في القرن الثاني عشر بين حنايا كتابه الشهير "المقدمة"، أسس ركائز مفهوم القوة في سياسات الدول الداخلية والخارجية، وبذلك سبق ابن خلدون كثيرين في استنباط آلية التوازن في امتلاك القوة ما بين أدوات السلطة الصلبة وتلك الناعمة القائمة على الإقناع بخطابات مؤثرة وقيم ثقافية جاذبة وخدمات مع مصالح متبادلة. وربما ما أورده ابن خلدون في تعريفه بالقول: "توجيه التدفق العام"، يتقاطع مع مفهوم السردية الذي يتناوله المقال.
ما طرحه ابن خلدون بات أكثر تداولًا في قاموس تعريف القوة بعد ثمانينيات القرن الماضي، ويعود ذلك إلى تغيّر شكل معادلة العلاقات الدولية بتطور وسائل الاتصال وتناقل المعلومات، إضافةً إلى تزايد عدد المنظمات الدولية، ما أدى إلى ترسيخ كثير من قواعد وتقاليد النظام الدولية. وقد دفعت العوامل المذكورة مجتمعةً الدول إلى الانتقال من السياسة المنتصبة على منوال القوة الصلبة - القهر، إلى السياسة الناعمة. وتتجلى القوة الصلبة تتجلّى بالاحتلال أو الغزو أو التهديد والردع أو المساعدات المالية المشروطة.
مع هذا التغيّر، وعلى نهج ابن خلدون، سار جوزيف ناي وطوّر مفهوم القوة الناعمة موضحًا أهمية السردية في طيات هذا المفهوم. وفي سبيل تحقيق استخدام فعال للقوة الناعمة، رتب ناي مراحل امتلاكها بدءًا بتطوير/ صناعة عناصر ثقافة متنوعة، ثم يليه إلباس هذه العناصر ثوب القيّم السياسية الرسمية التي تعبر عن الدولة داخليًا وخارجيًا عبر رعايتها بشكلٍ علني وبارز، وأخيرًا توظيف ما حققته القوة الناعمة من جاذبية لإضفاء الشرعية على السياسة الخارجية بحيث القبول التلقائي من الآخرين.
تأكيدًا على ما أورده ناي، يُشير خبير الحوكمة الدولية ستيفن لوكس "Stephen Lux" إلى أن تحديد الأجندة وعناصر السردية من أهم معايير امتلاك القوة التي تؤثر بشكلٍ حيويٍ في نتائج تحرك الدول على الساحة الدولية، إذ شهد العصر الحالي تطورًا كبيرًا في مفهوم العلاقات الدولية، بحيث لم تعد القوة الصلبة المعتمدة على القهر والتهديد تؤتي أكلها بالكامل، بل على العكس أمسى هناك عناصر ثقافية وتكنولوجية تنشر وتبث المعلومات والبيانات على نحوٍ واسعٍ ينفذ في عقول الشعوب والنخبة على حدٍ سواء.
وبناءً عليه، فإن الدولة التي تمسك بزمام نشر المعلومات دوليًا وفق مصطلحاتٍ وسرديةٍ وروايةٍ تُحدد فروعها وعناصرها على نحوٍ يتناغم مع أهداف السياسة الخارجية أو الأمنية لهذه الدولة؛ تُعدّ قويةً ومؤثرةً، بل ويسهل عليها تنفيذ ما تصبو إليه، ذلك أنها تكون قد دشنّت أو فرضت مسبقًا حالة القبول لدى الشعوب وصناع القرار في الدول الأخرى. وبالفعل أحيانًا لا تستطيع دولة أو عدة دول مجتمعة في بعض الأحيان مواجهة أجندة أو سردية مطروحة من قبل دولة أخرى، فبينما تمضي الدولة الفارضة لأجندتها في تحقيق مصالحها عبر انخراط دولٍ أخرى، طواعيةً أو كراهية، في هذا المضمار باعتباره أولوية لضمان استقرار المعادلة الدولية؛ تدخل الدول المناهضة لهذه الأجندة أو السردية معترك الدفاع عن موقفها ضد المفروض، فإما تستطيع التغيير نسبيًا، وهذا يحتاج لأدوات إعلامية وتكنولوجية ضخمة، أو تُهزم أمام القدرات الإعلامية والتكنولوجية والثقافية والخطابية الهائلة التي تملكها الدولة الفارضة لأجندتها/سرديتها على نطاقٍ عالمي.
وبدا واضحًا منذ الحرب الباردة استناد الدول الغربية تحديدًا؛ وهي الأقوى صراحةً في فرض السردية، إلى المكارثية التي تعني الترهيب الثقافي بتوجيه اتهامات دعم الإرهاب أو الظلامية أو التخلف أو الخيانة للأطراف المعارضة للسياسات الأميركية أو الغربية بغض النظر عن وجود دليل حقيقي لذلك.
إذن، تحديد الأجندة أو السردية هو أحد عناصر القوة التي تحتاجها الدول لإكساب تحركاتها على الساحة الدولة الشرعية والقبول. ومن خلال ذلك، تسعى الدولة الفارضة للأجندة أو السردية إلى حماية نفسها من ضغوط الدول الأخرى ومجتمعاتها. لكن مرةً أخرى، جعل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بصورةٍ مؤثرة وساحقة من الصعب بمكان أن تتفرد دولة أو أي جهة مهما كان معدل قوتها بالقدرة على تحديد الأجندة أو السردية على المدى الطويل، إذ إن تقلب الأحداث متسارعٍ وبالتالي الدحض المتبادل لما يُطرح بات متاحًا بسهولة.
وفي معرض ذلك، لا بد من ذكر ملحوظة موجزة مفادها أن الدول العظمى أو الكبرى قد تفرض أجندتها ليس لتمتعها بوسائل النشر المؤثرة، بل لكونها قوة عسكرية واقتصادية تفرض هيمنتها وردعها على الدول الصغيرة أو الهامشية بصورةٍ مسبقة. وفي هذه الحالة، يناط بالوحدات السياسية والمجتمعية الداخلية داخل الدول الصغيرة (الأحزاب أو منظمات المجتمع المدني أو جماعات المصالح وكذلك الأفراد) مجابهة أجندة الدول العُظمى بما يمكن أن يشكّل ضغطًا على الحكومة بتبني موقف لا يتناغم بالضرورة مع رغبة الدول العُظمى، حيث إن امتلاك قوة تحديد السردية يؤسس عناصر الشرعية والأخلاقية، بحيث تصبح عدة دول تخشى الحياد عنها. وبغض النظر عن عكس عناصر الشرعية والأخلاقية حالة حقيقية للأخلاق، فإن فرضهم من قبل دولة قوية وفق مصالحها يجعل الأمر بمثابة سلاح ترهيب ضد الدول الأخرى في سياق أن عدم السير في ظله يعني مخالفة الأخلاق، وبالتالي التعرض لتهديد وإجراءات عقابية. فعلى سبيل المثال، غزت واشنطن أفغانستان لـ"محاربة الإرهاب"، وفي حال اعترضت دولة كبيرة أو صغيرة، فإنها ستُتهم تلقائيًا بدعم الإرهاب، وهكذا.
معارك السرديات من الحرب العالمية الثانية حتى اليوم
لقد كان وزير الدعاية الألماني جوزف غوبلز أول من أشعل شرارة معارك صنع الأجندة ونسج السردية سعيًا لتوظيفهما في تسويغ تحركات الدولة على الساحة الدولية. ويُضرَب المثل بغوبلز لبراعته في هندسة الدعاية السياسية المحصنة بسردية صنعت شعبية عارمة لهتلر داخليًا، وأضفت شرعية ورهبة لسياساته الخارجية، معتمدًا في ذلك على الإذاعة والأفلام والموسيقى المفعمة برسائل تعزز سردية هتلر، مما أفضى إلى فرض قوة السردية والظفر بمناعة التصدي للدعايات الأجنبية المضادة على الصعيدين الداخلي والخارجي.
لم تغب أهمية تدشين الأجندة وصنع السردية على طرفي الكتلتين الغربية والشرقية إبان الحرب الباردة. وإدراكًا منها لأهمية الأمر في كسب شرعية المناورة وتوسيع نطاق النفوذ على الساحة الدولية، اتجهت الكتلتان لتأسيس مكاتب إعلامية وافتتاح إذاعات منتشرة وكذلك صياغة خطابات معدة بدقة. وقد افتتح الاتحاد السوفيتي "الكومنفورم" (Cominform)، مكتب الإعلام الشيوعي، وبدأ يدافع عن أهداف الاتحاد بكونها تسعى إلى تحرير الشعوب من وطأة الهيمنة الرأسمالية التوسعية التي لا تعير للإنسان وكرامته وكدِّه أي أهمية.
في المقابل، اعتمدت الكتلة الغربية اعتمدت سردية الحرية والديمقراطية التي رُوج لها بقوة من خلال إذاعة أوروبا الحرة، وهيئة الإذاعة البريطانية، وصوت أميركا. وكان كلا الطرفين يحاول تعزيز سرديته ونشرها قدر الإمكان بهدف كسب القلوب قبل الإقدام على أي تحرك كان. وبالتالي، يُصبح هناك إقبال وقبول. وربما من النتائج الملموسة لتحريك كلا الطرفين الشعوب عبر دعايتهما، تأسيس الكتلة الغربية للخطاب الذي اعتمدته الثورة المجرية عام 1956، حيث نادت بالحرية الفردية والاقتصادية والديمقراطية التمثيلية، بينما كان نهج ثورات غواتيمالا وإندونيسيا التصدي للإمبريالية والهيمنة الغربية الاستعمارية. ولعل أبرز مثال على قوة استخدام السردية بين الطرفين وصف الإعلام الغربي غواتيمالا بـ"جمهورية الموز" سعيًا لتوجيه اغتيال معنوي ضد ثورتها المندلعة عام 1954. لكن هذا المصطلح لا يزال قيد التداول حتى اليوم لوصف الدول الفاشلة التي تفتقد رعاية القانون والعمل المؤسسي.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتأسيس الولايات المتحدة لهيمنتها وصولًا إلى يومنا الحالي، زاد تأثير وسائل الاتصالات والإعلام. أما اليوم، وفي سياق تأطير سرديتها سعيًا لإحاطة تحركاتها الأمنية والعسكرية بطوق الشرعية الذي يجنبها الانتقاد أو المسائلة القانونية ويمنحها ركائز الدفاع عن بواعث تحركها، تنتهج الدول ما بات يُعرف بـ"الأمننة".
والأمننة هي نظرية طرحتها مدرسة كوبنهاغن الفكرية، وبات واضحًا بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر الاستعمال الكبير لهذه النظرية ومنطقها. وباختصار، تقوم مراحل هذه النظرية على تعريف الطرف الخصم بأنه تهديد وجودي أو خطر جسيم على الأمن القومي والاستقرار الدولي، لتنطلق أدوات الإعلام والترويج بعها صوب شيطنة هذا الطرف بادعاءات وأساليب مبالغ بها، ومن ثم يتم التحرك ضد هذا الخصم قانونيًا وعسكريًا وأمنيًا، وكأن التحركات القائمة بالغة مبلغ الشرعية. وهذا ما طبقه الاحتلال الإسرائيلي وداعمه الأكبر، الولايات المتحدة، ضد غزة قبل شن حربهما على شعبها.
خاتمة
السردية هي العناصر التي تحصّن التحركات السياسية بلغةٍ إعلامية وخطابية تكسبها الشرعية. وصراع السردية ليس وليد اللحظة بل يعود إلى اليوم الأول لنشوء العلاقات الدولية بشكلها الحالي.
في السابق، كانت الدولة تجد سهولةً في توجيه سرديتها استنادًا إلى فكرة أن الرصاصات السحرية "الخطابات والمضامين الإعلامية" التي تقذفها لتدعيم تحركاتها، تتجه نحو المتلقي الذي لا يملك قدرةً على الرد. كما كانت الدولة تعتمد أيضًا على التنافر المعرفي الذي يعني أن كثيرًا من المتلقين، خاصةً مواطنيها ومواطني حلفائها، يرغبون في تلقي خطابات تتقاطع مع أفكارهم المسبقة، وبالتالي هم غير متاحين لتلقي خطابات تخالف توجههم.
لكن هذا التنافر المعرفي لم يعد اليوم، في عصر العولمة وسرعة انتقال المعلومة، وأيضًا في ظل مساهمة المتلقي في صنع الأجندة وتحديد السردية؛ لم يعد فاعلًا وبات المتلقي عُرضة لرصاصات سحرية متنوعة تشكّل وعيه وبالتالي تمكّنه من تقدير الأمور على نحوٍ يتواكب مع إدراكٍ أفضل للحقيقة، ويجعله قادرًا على التصدي لسحر رصاصات السردية المهيمنة بل ويصنع سردية مضادةً لها، وهنا يكمّن الاستثمار السياسي الحقيقي للمستقبل.