اجْتَرَحتْ الأنظمة الاجتماعية والسياسية طرقًا متنوعة للرّبط والضّبط. وتُعدّ الأسماء العائلية جزءًا أساسيًا من مركّب الربط والضبط ذاك، فهي رباط اجتماعي لعدد كبير من الأفراد الذين يحملون اللقب العائلي ذاته. لكنها أيضًا تسهِّل ضبط المجتمع بتوليد الصّلات وتثبيتها واختزالها وتحديد الانتماءات، سواء كانت مستندة إلى القبيلة أو المكان الذي يُعبَّر عنه بمسقط الرأس.
ولقد كانت أسماء العائلات موضوع رهانٍ لدى مختلف الفاعلين. ففي بعض النظم الاجتماعية، لا سيما القَبَلية والتقليدية منها، يكشف اللقب العائلي عن انتماء حامله، كما يؤشّر على المكانة والرتبة الاجتماعية الموروثة، بحيث يمنح قيمةً اعتبارية لحامله إذا كان من ذوي المقامات، والعكس صحيح.
وفي مرحلة الاستعمار، تدخّل المستعمِر في المنظومة الاسمية للعائلات على نحوٍ أعاد تشكيلها من جديد لأسباب بعضها يتعلق بالملكية العقارية وإنشاء نظام الحالة المدنية، وبعضها الآخر يتعلق بتفتيت المجتمع واقتلاع الأفراد من جذورهم الاجتماعية. وأحيانًا إهانتهم بإلصاق ألقاب مشينة أو مذلّة أو جارحة بهم، كما هو شأن الألقاب التي وضعها المستعمِر الفرنسي لعائلات كثيرة في الجزائر مع إقرار قانون الحالة المدنية الصادر في عام 1882.
وبعد مرحلة الاستقلال، قامت العديد من الدول العربية بإصدار قوانين للحالة المدنية تضمنت قرارات رسمية بإثبات الاسم العائلي على بطاقة الهوية وجواز السفر لغايات الربط والضبط معًا، ولكن أيضًا من أجل فتح المجال لتغيير الألقاب العائلية. ويمكن القول، دون مبالغة، إن النظام التَّسْمَوِيّ العربي متشابه في جميع الدول العربية تقريبًا، ذلك أنه يقوم إما على النسبة إلى القبيلة، أو المكان، أو الحرفة والوظيفة.. إلخ.
تطوّر التسميات العائلية عربيًّا
تقترح المصادر التاريخية فرضية مفادها أن الألقاب العائلية شهدت تطورًا من النسبة القبلية إلى أشكال حديثة من النسبة بالصفات والمهن. فمن الناحية التاريخية، كانت النسبة القبلية هي السائدة في المجتمعات العربية، ومن الأمثلة عليها لقب: القرشي، الهاشمي، الأنصاري، الأيوبي، الهُذلي، البكري، المخزومي، الكندي.. إلخ.
وفي مرحلة ثانية، انتشرت النسبة العائلية استنادًا إلى المكان والمِصر، فيقال: الحجازي، الدّمشقي، البصري، السّوسي، القيرواني، الولاتي.. إلخ. وفي مرحلة ثالثة، ظهرت التسميات العائلية استنادًا إلى رؤساء الأسر أو الأسماء البارزة فيها، سواء كانت شخصيات قيادية حربية أو سياسية أو علمية، فأصبحنا نجد ألقابًا عائلية من قبيل: الأحمدي، الشافعي، اليحياوي.. إلخ. وفي مرحلة رابعة، غدا النسب بالمهن والحرف مشهورًا وجاريًا على نطاق واسع، فنصادف ألقاب: الحطّاب، الصيّاد، الخبّاز، البنّاء، الحلّاق، البوابيري، الدّبّاغ، الزيّات، اللحّام، النحّاس، الحدّاد.. إلخ.، وفي مرحلة موالية، وجِدت الألقاب بناءً على الوظيفة كـ:المحاسبي، القاضي، الفقيه، الخطيب.. إلخ.
وحديثًا، جرى إلصاق صفات بعائلات لاشتهارها عند أفرادها مثل: عائلة الطويل، الأطرش، الأخرس، الأحول.. إلخ. ولا يفوتنا أن نشير إلى وجود ألقاب حديثة هي الأخرى أيضًا، لكنها تربط الألقاب العائلية بالحيوانات مثل: عائلة الجمل، والبس، وصرصور، ولا يخفى البعد الازدرائي في مثل بعض تلك الألقاب. وفي مرحلة لاحقة من العصر الحديث، ولا سيما في بلاد المغرب العربي، أصبح نظام التسميات قائمًا على نظام الاسم الثلاثي متمثلًا في اسم الابن، واسم الأب، واسم الجد. وظل هذا النظام معمولًا به حتى قدوم الاستعمار الفرنسي الذي فرض في الجزائر إدخال اللقب العائلي. وبعد قيام الدولة الوطنية في تلك المنطقة، أُقرّت قوانين الحالة المدنية التي فرضت هي أيضًا الألقاب العائلية في بطاقات الهوية.
الاستعمار وهندسة الأسماء العائلية
لا يكتفي الاحتلال الاستعماري باستنزاف ثروات الشعوب المستعمَرة وسلب أراضيها، بل يعمد المستعمِر أيضًا، وفي حالات كثيرة، إلى التدخل في البناء الاجتماعي للمستعمَرين مطبّقًا سياسة فرّق تسد. وفي الاستعمار الاستيطاني بالتحديد، تزداد حدة التدخل أكثر لا من أجل تفتيت المجتمع، وإنما من أجل اقتلاعه من جذوره وضرب روابطه القرابية والعائلية والتضامنية.
وتعدّ تجربة الجزائريين مع الاحتلال الفرنسي دالّة في هذا الصدد. فبذريعة "قانون وارني" الخاص بالملكية العقارية الذي أقرّ سنة 1873، توصّل الاحتلال الفرنسي إلى أنّ "الأهالي لا يملكون أسماء عائلية" في استنتاج استعماري غريب. فقبل الاستعمار، كانت أسماء الجزائريين "تحمل سلسلة الآباء والقبيلة والمكان حيث النظام التسموي مماثل للنظام المعمول به في جميع الدول العربية".
لكنّ الاحتلال الفرنسي أبى إلا أن يشوّه نظام التسمية في المجتمع الجزائري، فعمد إلى إصدار قانون للحالة المدنية عام 1882 فَرَض وضْع ألقاب عائلية إجبارية تَفنّن في استعمالها كسلاح "لإذلال" الجزائريين على غرار باقي أسلحته التدميرية التي حصدت أكثر من مليون شهيد. ويقرّ أحد المؤرخين الفرنسيين في الحقبة الاستعمارية الفرنسية، وهو إرنست مارسييه (Ernest Mercier)، بأنّ مسألة الملكية العقارية لم تكن إلا غطاءً استعماريًا لتفتيت العائلات الجزائرية واختزالها بإعطاء أسماء عائلية مختلفة لأبناء العم الحقيقيين، وفوق ذلك تجريد الجزائريين من حقوق ملكية الأرض. يقول مارسييه: "كان علينا خلاف ذلك، عدم إكثار الأسماء، كان علينا أن نصل الروابط التي توحّد الأسر بدلًا من تكسيرها". زد على ذلك أنّه ثمّة حسب المؤرخ نفسه: "أسماءً ممتازة وتاريخية تمّ طمسها وإتلاف نسبها وأصولها".
ويختم مارسييه استطراداته على نظام تسمية العائلات الاستعماري بالقول: "لقد كان على المكلّفين بتطبيق قانون فارنيي لسنة 1873 الخاص بتشكيل الملكية العقارية أن يعطوا اسمًا عائليًا للأهالي الذين لا يملكون اسمًا". وبالمحصّلة، أسفرت هذه العملية التي كُلّف بها موظفون غير مطلعين على الشؤون الأهلية عن آثار عجيبة. لقد أطلقوا أسماء حيوانات على عائلات أهالي من باب الترويح عن النّفس، فمن بواعث التسميات التي شوّهت عائلات جزائرية بأكملها ترويح الضباط الفرنسيين عن أنفسهم بإطلاق ألقاب مهينة على الأهالي من قبيل: "لقب نعيجة، جاجة، سردوك، قنفوذ، حلوفة، وألقاب صفات قادحة مثل: لعور..". ولذلك، وبعد الاستقلال، مكّنت الحكومات الجزائرية المتعاقبة الجزائريين من تغيير ألقابهم العائلية لإزالة الوصم الذي ألحق بها من طرف الاستعمار الاستيطاني الفرنسي.
الدولة المدنية الحديثة وضبط الألقاب العائلية
يمكن أن نفسّر اهتمام الدول الحديثة بالألقاب العائلية بمسألتين، الأولى هي مسألة الضبط وهذه مضطردة في كلّ الحالات وهي العامل الأهم. أما المسألة الثانية، وهي هامشية بالمقارنة مع الأولى، فهي متعلقة بفسح الباب أمام الولاء الوطني ومجتمع المواطنين ليحل محلّ الولاء القبلي والعشائري والجهوي الذي كانت تستند عليه الألقاب والتسميات العائلية.
لكننا نجد أنه في تونس، وعلى الرغم من قيام دولة الاستقلال على يد نظام تبنّى التحديث والعلمنة ومحاربة القبلية، قد حرص النظام ذاته في الحالة المدنية على إثبات اللقب العروشي والقبلي في الأوراق الثبوتية للمواطنين التونسيين، ربما من منطلق أنّ "مفهوم الكلب لا ينبح وإنما الذي ينبح هو الكلب". وبالتالي، فإن إماتة العروشية والقبلية تقتضي عدم التحرج منها كإرث وملمح ثقافي وتاريخي. كما يساعد نظام التسمية العائلية العروشية، وهذا هو المهم، في إحكام ضبط المجتمع أكثر.
أمّا في المغرب، وعلى الرغم من محاولات مبكرة في بداية القرن العشرين، لم تبدأ إجبارية اختيار الاسم العائلي إلا في أيلول/سبتمبر عام 1958. وفي دول عربية أخرى، ظلّت التسمية العائلية لفترة طويلة غير ثابتة على نمط واحد، وغير خاضعة لضابط قانوني رسمي من طرف الدولة. ونذكر من بين هذه الدول موريتانيا التي لم تبدأ فيها إجبارية اختيار الاسم العائلي في الأوراق الثبوتية إلا في العام 2011، مع رقمنة الحالة المدنية وإنشاء مشروع الوثائق المؤمّنة والإحصاء البيومتري، الذي يمكّن الدول من إحكام ضبط السكان وإقامة أنظمة تشجير للعائلات على أساس الألقاب.
ومن خارج السياق العربي، يُشار إلى أنّ تركيا أقرّت قانون إجبار الأتراك على اختيار الاسم العائلي وتقييده بشكل رسمي في العام 1934، بالتزامن مع قيام الجمهورية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. وحدث ذلك أيضًا بالتزامن مع تعرض المجتمع حينها لتغييرات ثقافية ومجتمعية كبيرة تتعلق بكتابة اللغة التركية بالحرف اللاتيني بدلًا من الحرف العربي، وتبنّي العلمانية الصلبة التي تقوم على فصل الدين عن الدولة. وبالتالي، كان من مقتضيات هذه الخيارات تغيير الألقاب العائلية التي كانت عشوائية بألقاب تركية جديدة. وفي هذا الصدد، تَلَقّب مؤسس الجمهورية مصطفى كمال بلقب "أتاتورك" الذي يعني "أبو الأتراك"، قبل أن يُسنّ قانون جديد يحظر على أي تركي التلقّب بلقب "أتاتورك" الذي حُصر على مؤسس الجمهورية.
خارج بيروقراطية الدولة والاستعمار
يقوم الاسم العائلي في المجتمعات القبلية التقليدية مقام بطاقة الهوية لناحية تعريفه بالشخص وأصله وفصله. وبالتالي، تعبّر الألقاب في تلك المجتمعات عن حدود الانتماء، فمن خلال اللقب تعرِف الجماعة أو القبيلة مَن منها ومَن ليس منها. لكنّ وظيفة الألقاب العائلية تتجاوز ذلك إلى ترتيب قائمة من الحقوق والواجبات، على صعيد الزيجات أساسًا، ودفع الديات، والاستفادة من الحماية ومن الملكية الجماعية للأرض (المياه والمرعى). كما تولِّد الألقاب العائلية أشكالًا معينة من التضامن بين حامليها، والمقصود هنا تلك التضامنات التي يصفها عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم بالآلية أو الميكانيكية لأنها قائمة على المعرفة والعلاقة المباشرة وجهًا لوجه، عكس التضامنات العضوية المميزة للمجتمعات الحديثة والناشئة عن تقسيم العمل ضمن المجتمع الصناعي.
ولذلك، تسود التضامنات الآلية في الجماعات والمجموعات صغيرة الحجم نسبيًا كالقبيلة والقرية، بينما تسود التضامنات العضوية في المجتمعات كبيرة الحجم، حيث بطاقة هوية الشخص ليست اسمه ولا أصله أو فصله وإنما دوره في العمل المقسّم اجتماعيًا على نحو تخصّصي، وتكامله مع باقي أعضاء مجتمع العمل. وتُستثمَر الألقاب العائلية، التي كانت أساسًا قبلية، في الصراعات بين القبائل والعائلات، فيُذَمّ الشخص بلقبه العائلي أو القبلي، ونجد ذلك كثيرًا في شعر الهجاء العربي. ولذلك، يُحاط اللقب العائلي بهالة رمزية كبيرة، ويتولى نظام التربية والتنشئة في الأسرة والقبيلة تذويتَ أو ترسيخَ مضامينه ومقتضياته في أذهان وأجساد حاملي اللقب كعلامة مميزة، أي كترسيمات تفكير وسلوك.
ولذلك، يتطابق الفرد مع اللقب الحامل له، ويُنَشّأ ويربّى على ضرورة المحافظة عليه والافتخار به وعدم تلويثه أو السماح للآخرين بالتطاول عليه وإهانته. فاللقب العائلي هو أداة الجماعة لوضع يدها على أفرادها وامتلاكهم وانصهارهم فيها. إنّه العلامة الفاقعة لما يسميه دوركهايم الضمير الجمعي المستتر دائمًا، لكنه ورغم طابعه الخفي يقوم بوظيفة الضبط والتحكّم في الأفراد إلى حدّ: "مصادرة أصواتهم، فالذي يتكلّم بالضمير يتكلّم بصوت المجتمع لا بصوته كفرد".
والألقاب العائلية، كظاهرة اجتماعية، تحوز أيضًا نفس خصائص وقوة الظاهرة لناحية أنها توجد خارج إرادة الفرد، وبالتالي تتمتع باستقلالها الذاتي بعيدًا عن رغبات الأفراد وإرادتهم، وهي فوق ذلك تتمتع بخاصية القهر والإلزام الاجتماعي، فلا أحد يستطيع أن ينسلّ من لقبه العائلي إلا أصبح عرضة للإبعاد والوصم الاجتماعي، فيغدو بذلك شريدًا بلا هوية، عاريًا من الانتماءات الجماعوية التي ترتّب حقوقًا وواجبات.
ولعلّ الصعاليك في المجتمعات العربية، في فترة ما تسمى الجاهلية، يمثِّلون أحسن تمثيل لهذا الشكل من التمردات على نظام القبيلة وألقابها ومثُلها وضوابطها وقيودها ومواضعاتها، ما اضطرّ قبائلهم في بعض الحالات إلى التبرّء منهم لتحرمهم بذلك من حمايتها "عملية تجريد من اللقب".
أما بعض الصعاليك الذين نَبَذهم آباؤهم ولم يُلحِقوهم بهم لأنهم أبناء حبشيات سود، مثل الشنفرى والسُّليك وتأبّط شرًّا، فهؤلاء يمثّلون طائفة من المحرومين من الألقاب القبلية. والصعلوك، كما جاء في قاموس "لسان العرب" لابن منظور، هو: "الفقير الذي لا مال له ولا اعتماد"، فهو لا يتكئ لا على قبيلة ولا على عائلة. والشنفرى، وهو عمرو بن مالك الأزدي، يعلن صراحةً تحرره من الروابط العائلية والقبلية السائدة في مجتمعه واستبدالها بأخرى عند قوله:
ولي دونَكم أَهْلونَ سِيدٌ عَمَلّسٌ: وأرقطُ زُهْلُولٌ وعَرْفاءُ جَيْأَلُ
هم الأهل لا مستودع السرّ ذائعٌ: لديهم ولا الجاني بما جرّ يُخذَل.