تحظى مسألة الدولة بأهمية كبيرة لدى المشتغلين بالفلسفة السياسية وعلم الاجتماع السياسي. ومن المفترض عربيًا أن يكون الاهتمام البحثي بهذه المسألة متجددًا، ذلك أنّها من أهمّ الخلفيات المفسرة لتعثر الانتقال الديمقراطي في دول مثل ليبيا واليمن وسوريا والعراق والسودان والقائمة تطول. وعدا عن ذلك، تتعلق مسألة الدولة عندنا بالحيلولة دون ما يسميه المفكر العربي عزمي بشارة "سريان الأخلاق العمومية وتحقيق الأمن والاستقرار الضروريين لسير الحياة". إنها، بالمجمل، قضية مصيرية تتطلّب إسهامات تأسيسية على مستوى النظرية.
وسأحاول في هذا المقال أن أستكشف بالتفصيل مع القرّاء مداخلة كل من عزمي بشارة وعبد الله العروي حول الدولة. والسبب في اختيار هاتين المداخلتين من بين سائر المداخلات العربية الأخرى حول موضوع الدولة هو أنّ مداخلة بشارة والعروي نظريتان في المقام الأول، إذ يسعى كلٌّ منهما بطريقته الخاصة إلى الإسهام نظريًّا في هذا المبحث، حيث تتجلى مساهمة بشارة النظرية في مسألة تطوير تعريف الدولة ودلالة شمول المواطنة في هذا التعريف، والتمايزات التي قادت إلى نشأة الدولة الوطنية الحديثة وتحديد العلاقة بين "السيادة والشرعية والمواطنة، ومسألة العلاقة بين الأمة والقومية".
أمّا العروي فيحاول من خلال تمييزه بين خطاب الأدلوجة وخطاب النظرية تبيين أنّ الدولة: "تواجهنا أول ما تواجهنا كأدلوجة، أي كفكرة مسبقة، كمعطى بديهي، يُطلب منا أن نقبله بلا نقاش، كما نقبل خِلقتنا، وحاجتنا إلى الأكل والنوم، واتكالنا على العائلة أو العشيرة". وعلى العكس من ذلك، يرى العروي أن خطاب النظرية حول الدولة يقوم بجلبها إلى حيز المساءلة عبر التساؤل عن أصلها، وهدفها، وتاريخ تطورها، ووظيفتها، ووسائلها، وعلاقتها بالفرد والمجتمع.
وعلى ذلك الأساس، يتوصل العروي إلى أنّ خطاب الأدلوجة هو خطاب الدولة المُفضّل، لأن الأدلوجة لا تسأل عن شرعية ومشروعية الدولة في مقولاتها وأفعالها، عكس خطاب النظرية الذي يعيد النظر فيما تمثله الدولة: "لا ككيان متعالٍ مجرد، وإنما كإمكان من إمكانات التنظيم في أحسن الحالات".
ومن هنا نبني محاججة المقال الرئيسية المتمثلة في أهمية الإسهامات النظريّة في أَنْسَنَةِ الدولة من ناحية، ودمقرطة النظام السياسي داخلها من ناحية أخرى، برفض أيّ مسوّغ للدكتاتورية ومصادرة الحريات بذريعة "المصلحة العليا للدولة" مثلًا، أو التحجج بأنّ الدولة سابقة على المجتمع ومطلقة الصلاحيات.
في أهمية خطاب النظرية
كان القول النظري هو بداية استئناف الحديث عن الدولة، لا من منطلق قبولها كمعطى أولي ووصفها على حالها كما هي، لكن من منطلق تاريخيتها كإنتاج بشري.
ولعل أحد أهم التحديدات المميزة للدولة الحديثة هو ذلك الذي وضعه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر عندما جعل من احتكار العنف الخاصية الرئيسية للدولة، وتمييز ذلك العنف باعتباره شرعيًا. لكن السؤال الجوهري الذي يُطرح – والذي من شأنه تعرية أيديولوجيا الدولة التي نجدها مبثوثة في خطاب السلطة وخطاب العديد من الدراسات القانونية – هو متى أصبح احتكار العنف ممكنًا؟ ومتى أصبح مشروعًا؟ وهل شرعيته مطلقة وغير محددة بأي ضوابط؟
تحيلنا هذه التساؤلات إلى فلسفة العقد الاجتماعي، وتصور التسوية اللاتاريخية التي حدثت وتنازل الناس بموجبها عن جانب كبير أو عن كامل حريتهم لصالح آلة العنف الكبيرة المسماة بالدولة.
لكن هذا العقد – على الأقل في صيغته الديمقراطية – مؤسس على جانب من الحقوق والواجبات على الدولة القيام بها لنيل شرعيتها ومشروعيتها.
يعدّ سؤال الحرية، حسب العروي، منطلق سؤال النظرية، وبالتالي فهو التمهيد الضروري لسقوط الأدلوجة في خطابات السلطة عن الدولة الحديثة. هذا ما يمكن الوصول إليه كنتيجة في البداية. ويضاف إلى سؤال الحرية سؤال التفلسف الذي يسأل الدولة عن هدفها، ويحاول تصور الدولة في ذاتها لإعادة التفكير فيها لا كمعطى ثابت، وإنّما كإمكان. وهي الوظيفة نفسها التي يؤديها سؤال التأريخ الذي يسائل الدولة في تطورها، فإذا كان المؤرخ لا يهتم بوظائف الدولة، ويحاول بدلًا من ذلك التعرف على أشكال تطورها، فإنه ينطلق من فرضية أساسية هي: تاريخية هذا الحدث المسمى بالدولة وعدم استقراره على نموذج واحد. وهذا بحد ذاته ينفي أسطورة الدولة عن نفسها كجوهر ثابت لا زمني.
كنتيجة، يتوصل العروي إلى أنه مهما اختلفت وتعددت المقاربات السوسيولوجية والفلسفية والتاريخية حول الدولة، في المنهج والسؤال، فإنها تقود إلى نتيجة واحدة، هي نقض خطاب الأدلوجة، الذي يجعل الدولة فوق التاريخ، وواقعة لا مفر منها إلا إليها دون قيد أو شرط. فهل يعني التساؤل حول الدولة نهاية الأدلوجة وبداية النظرية؟ وهل النظرية هي تحسين مستمر للشروط التاريخية لآلة العنف المسماة بالدولة لصالح الحرية والفرد والمجتمع؟ ذلك ما ندّعي أن مساهمة عزمي بشارة النظرية تجيب عليه بالكثير من التدبّر في سياقات الدولة الحديثة والتمايزات التي أوصلتها إلى ما هي عليه اليوم.
مساهمة عزمي بشارة النظرية في مسألة الدولة
يعدّ كتاب المفكر العربي عزمي بشارة "مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023)، آخر الكتب العربية الصادرة مؤخرًا حول هذا الموضوع. وقد حرّك هذا الكتاب، فور صدوره، ما كان راكدًا في النقاشات النظرية حول الدولة التي يعتبرها عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو كيانًا بالغ التعقيد. ذلك أنّ بشارة عمل في كتابه آنف الذكر على "تطوير رؤية مختلفة" في مسألة الدولة الحديثة، على صعيد التعريف والحفر في فكرتها ومفهومها ومؤسساتها وسياقاتها التاريخية المتعددة.
ولم يكن ذلك الأمر ليتسنى لبشارة إلا بمراجعة عميقة لما "توصلت إليه مدارس فلسفية مختلفة ودراسات عديدة في العلوم السياسية وعلم الاجتماع" حول الدولة. وكان التحدي الماثل أمام بشارة، وهو يُعمِل مشرط النقد في الأدبيات والنظريات المختلفة، متمثلًا في صياغة منظورٍ نقدي إنساني لمفهوم الدولة، ثمّ تطوير هذا المفهوم الجديد للدولة حتى يستوعب الوقائع المستجدة في الدول الحديثة، والتي سقطت من اعتبارات جلّ النظريات السابقة. وفي هذا الصدد، يستدمج بشارة المواطنة كمكونٍ أساسي في أي تعريف معاصر للدولة والوجه الآخر للسيادة.
الدولة ليست مجرّد سلطة خطابية
لقد أقر بيار بورديو، الذي انشغل في الكتابة عن الدولة، بأن "الدولة تفكر في نفسها عبر أولئك الذين يفكرون فيها"، وهذا في إشارة إلى الانشغال الفلسفي في التأريخ للدولة كإطار أيديولوجي أو خطابي غير مادي، كما هو الحال مثلًا في الانشغال بالتأريخ للعقد الاجتماعي الذي طور العقد الاجتماعي نفسه. لكن عالم الاجتماع الفرنسي نفسه يعود ويؤكد على "لا قابلية الدولة للتفكير". أما بشارة فيرفض اختزال الدولة إلى غموضها الخطابي، ويعيدها إلى حيز التفكير من جديد، أي إلى التفكير في ماديتها. ويجادل بأن الأطر الفكرية مثل العقد الاجتماعي هي أطر تالية لا سابقة للدولة، أي أنها حاولت تفسير الشروط التاريخية التي كانت قد وجدت بالفعل. وبالتالي من وجهة نظر بشارة، لا بد من قراءة تاريخية للدولة تضع الأطر الأيدولوجية نفسها لا كخطابات منفصلة، كما تميل المقاربات ما بعد البنيوية، لكن كنتيجة للتطور السوسيوتاريخي والمساومات التي نتجت عبرها ومعها الدولة. أي أن الدولة ليست مجرد سلطة خطابية ورمزية، لكنها توجد عبر السياق المادي والمعيشي.
يقودنا عزمي بشارة بكثير من الدقة المنهجية إلى معرفة كيف نشأت الدولة كرابطة مؤسسية ومعنوية تشمل الحكّام والمحكومين، مع الانتباه إلى أن نشوء هذا المشترك هو من مقدمات نشأة الدول الحديثة، فقبل ذلك لم يكن يوجد مشتركٌ مؤسّسيّ أو متخيّلٌ يجمع هاتين الفئتين من الناس، فالنصاب القانوني المسمى سلطةً أو دولةً والمتجسد غالبًا في شخص ـ سمّه ملكًا أو قيصرًا أو أميرًا ـ هو نصابٌ منفصلٌ عن الجماعة أو المجتمع، يعلوها ولا يخضع للقانون الذي تخضع له. وبالتالي يمكن القول إن وجود السلطة يعدّ أساسًا تاريخيًا للدولة، لكن لا يمكن أن نختزل الدول الحديثة في هذه الثنائية التي كانت السلطة تُلحمُها.
صيرورة التمايزات
إن الدولة كواقعة سياسية واجتماعية هي وليدةُ صيرورةٍ من التمايزات في الوظائف التي تؤديها والمؤسسات التي تتشكّل منها وتُشكّلها أو تُولّدها كمؤسسات تابعة لها وينتمي لها الحاكمون والمحكومون في آنٍ واحد، ولعلّ أول تميّزٍ/تمايزٍ في الصيرورة التي قادت إلى نشأة الدولة الحديثة هو تميز السياسة بوصفها مجالًا قائمًا بذاته، وذلك مع نشوء وبروز شريحة القانونيين والمستشارين والسياسيين الذين يمثلون نواة بيروقراطية الدولة، وما تلا ذلك من تمايز هذه البيروقراطية، مؤسسيًا ووظائفيًا، من خلال مؤسسات متخصصة يشغلها متعلمون، يعرفون في الأدبيات بـ"خدّام الملك" من كتبةٍ ومستشارين وأمناء سر. وإلى جانب المؤسسات المتخصصة نجد أخيرًا فئة الموظفين للدولة الذين كانوا غالبًا يتميزون بأزياء وألقاب ورتب.
واستمرّ التمايز في شكل السلطة ونطاقها الجغرافي بتعيين حدودٍ إقليمية وتمركزِ التشريع واستخدام العنف في أيدي سلطة مركزية، وتميز الشرعي في العنف من غير الشرعي، حتى وصلت "مركزة السلطة إلى حدّ احتكار وسائل العنف".
يرى بشارة أنه في الدولة الحديثة وحدها: "تميّزت الدولة من شخص الحاكم، بأن تحوّلت من التجسّد في صاحب السلطة العليا إلى التجسد في المؤسسات، ولم يعد حكم القانون يعني أوامر الحاكم الذي كان صاحب السيادة بالمعنى القديم للكلمة، أي كون الحاكم فوق القانون". وما يميز الدولة الحديثة فعلًا في سيرورة التمايز هذه هو الانفصال ما بين الدولة وشخص الحاكم، فلم نعد أمام دولة فلان أو أسرة.. إلخ، إذ تحوّلت الدولة من التجسّد في صاحب السلطة العليا إلى التجسد في المؤسسات، ولم يعد حكم القانون يعني أوامر الحاكم الذي كان صاحب السيادة بالمعنى القديم للكلمة، أي كون الحاكم فوق القانون"، واكتملت هذه الصيرورة بنشأة المواطنة الحديثة المتميز عن صنوف "المواطنات القديمة" بما في ذلك تلك التي تجلّت في البولس Polis اليوناني وروما والمدن الحرة في عصر النهضة والتي كانت في طابعها الاجتماعي أقرب إلى العضوية في جماعة أهليّة.
المواطنة الحديثة تتميز واجباتها بكونها ليست مجرد الطاعة للحاكم، كما تتميز بإحلال الحقوق اللصيقة بالفرد محلّ الامتيازات أو الحرمان منها بموجب الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها الشخص، ويقابل كل ذلك في وجهة نظر بشارة: "تميز الدولة من الحكّام وحتى من طبيعة نظام الحكم، فالدولة من دون هذه التمايزات هي مجرد سلطة". يتضح مما سبق أن التمايزات التي قادت إلى الدولة الحديثة هي، حسب بشارة، نتاج: "صيرورة تفاعل نُظم الحكم وآليات السيطرة، مع تطور المجتمعات ثقافيًا واقتصاديًا، وكذلك مع التطور التكنولوجي والمعرفي".
التعريف المعاصر للدولة
اعتبر ماكس فيبر أنّ خاصية احتكار العنف الشرعي هي أهم خاصية للدولة، ومثّلت "مصادرته" تلك مصدر إغراء كبير لدى الباحثين الذين تواطأ معظمهم معه على ذلك التحديد. أو، في أحسن الأحوال، وسّعوا منه ليشمل العنف الرمزي كما فعل بيير بورديو، وكان ذلك الأمر بالضرورة على حساب خصائص لا تقل أهمية عن خاصية احتكار العنف المادي الشرعي.
والقارئ لكتاب عزمي بشارة "مسألة الدولة" يكشف بوضوح عدم مسايرته للتوجه الفيبري، فهو لا يقصر الدولة على احتكار العنف، بل ينطلق من فرضية أنّ الدولة: "تُعرَّفُ بالسيادة أي بالحق الحصري في التشريع وتنفيذ التشريعات والولاية القضائية على إقليم ترابي محدد سياسيًا يشمل مؤسسات وحاكمين ومحكومين". ويضيف بشارة لبعد السيادة بعد المواطنة، ذلك المكون الذي أهملته التعريفات الرائجة للدولة، فلم يعد ممكنًا في رأيه: "تعريف الدولة من دون المواطنة"، إذ يرى أنّ تحول الشعب من كونه جمعًا من رعايا للحاكم إلى مواطنين في دولة ينتمي إليها الحكام والشعب معًا، هو من أهم مميزات الدولة الحديثة التي غدت فيها المواطنة تجسيدًا للسيادة في مركب من الحقوق والواجبات. إن المواطنة حسب بشارة هي: "التعبير المعاصر الأرقى عن سيادة الدولة بمعناها الحديث"، فالمواطنون في الدولة الحديثة فاعلون، ذوو حقوق وعليهم واجبات، وليسوا مجرّد موضوع للسلطة، كما كان عليه الحال في الدول ما قبل الحديثة.
وعلى الرغم من أنّ هذه المواطنة المؤلفة من التزامات متبادلة بين الدولة والمواطن قد تتسع أو تضيق حسب طبيعة نظام الحكم في الدولة الحديثة، إلا أنه لا تقوم "دولة حديثة بدون مواطنين"، ويقرر بشارة أنه: "كلّما أمعنت سلطات الدولة في معاملة المحكومين بوصفهم رعايا، اقتربت أكثر من مفهوم السلطة وابتعدت عن مفهوم الدولة".
ويمكن القول في نهاية التحليل الخاص بهذه الجزئية إنّ تضمين المواطنة في تعريف الدولة الحديثة من طرف عزمي بشارة يعكس وفاءً منه للخيار الديمقراطي من ناحية، وتأكيدًا على الرابطة المواطنية صلب الدولة الحديثة في مقابل الولاءات الأخرى الأوّلية التي قد تنافس المواطنة وتكون سببًا في إضعاف الدولة، من ناحية أخرى. كما أنها السبيل الوحيد إلى عدم اختزال الدولة إلى مجرد سلطة بيد الحاكمين.
الأسس المادية للدولة
يجادل بعض المفكرين بأنّ الدولة ليست شيئًا ماديًا بل فكرة مفهومية مجردة. ومن بين هؤلاء باتريك دونليفي وبرندان أوليري وعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو الذي يعتبر الدولة "وهمًا فاعلًا"، لكن ذلك لا يعني البتّة، حسب عزمي بشارة، أنه: "لا يوجد أساس مادي لهذا المفهوم"، فالسلطة، ذلك النصاب المستقل عن الجماعة والذي بمقتضاه يمارس الحاكمون على المحكومين الأحكام، هي أول أساس مادي للدولة. أما أساسها الثاني المادي فيتمثل في المؤسسات التي تولّدها وهي كيانات واقعية قائمة بذاتها، وتعبّر في الوقت ذاته عن علاقات اجتماعية وسياسية واقتصادية سائدة، وتسهم كذلك في الحفاظ عليها وتعديلها، وأخيرًا، تعدّ المواطنة بوصفها "علاقة مركبة تجمع الحاكمين والمحكومين" أساسًا ماديًا ثالثًا للدولة الحديثة لا تخطئه العين.
تاريخ حديث للدولة الوطنية
قد يخيّل إلى البعض أن للدولة الحديثة تاريخًا سحيقًا، لكن الحقيقة خلاف ذلك، فجذور هذه الدولة تعود فقط إلى المرحلة الوسيطة، ولا سيما الفترة الواقعة بعد عام 1100م. وفي هذا الصدد، يرى جوزيف شتراير أنّ: "جميع الدول الأوروبية كانت تتجه إلى أن تصبح دولًا ذات سيادة منذ عام 1300م". ولأنّ الدولة الحديثة ليست معطى جاهزا مبنيًّا بل هي بانية ومبنيّة في الوقت ذاته، يرى عزمي بشارة أنّ: "الدولة الحديثة الأولى لم تقم تعبيرًا عن حق قومية إثنية جاهزة في تقرير المصير، بل تشكّلت هذه القومية الإثنية غالبًا في خضم الصراع على الدولة، و/أو شكلتها الدولة ذاتها". ويلاحظ بشارة أنّ الدولة الأوروبية الحديثة توطدت وأصبحت نموذجًا في القرن الثامن عشر. وبحلول القرن التاسع عشر، أصبح العالم كله: "مقسمًا إلى دول سيادية بالاحتلالات الاستعمارية ثم حركات الاستقلال في القرن العشرين".
لقد أصبحت الدول ظاهرة تغطي الكوكب كله، كما تغطي المجموعات البشرية كلها، إذ إنه: "فمن الممكن في عصرنا، خلافًا للعصور السابقة، العيش من دون قبيلة أو طائفة، أما العيش من دون دولة (Stateless والمقصود بهذا المصطلح الإنجليزي هو في الحقيقة من دون مواطنة في دولة)، فقد أصبح أمرًا عسيراً".
وعلى العكس مما بشرت به بعض الأيديولوجيات بانحلال الدولة وزوالها أو ذوبانها في مجتمع المساواة الكاملة ونهاية الملكية الخاصة، فالملاحظ أن وظائف الدول قد زادت، وبات الحديث منصبًا على خطورة غياب الدولة، وخطورة الاستغناء عنها في هذا العصر، ونتائج هذا الغياب المروعة لناحية الفوضى التي تُظهر آفات المجتمع، والتي تخيب توقعات الذين يميلون إلى رومانسية أمثلة المجتمع في مقابل الدولة.
وكان من بين الأسباب التي دفعت إلى رواج الأطروحات المتكهنة بزوال الدول أو تراجعها العولمة، وعصر ما بعد الحداثة، وصعود النيوليبرالية بعد أزمة دولة الرفاه. لكن تبين أن الدولة تتعايش مع العولمة "بغض النظر عن تعريف العولمة". ومع ذلك يؤكد عزمي بشارة أنّ: "الدولة الحديثة ذاتها تعرضت لتغيرات جذرية خلال القرن العشرين نتيجة للثورة في سبل الإدارة والتكنولوجيا، ولا سيما وسائل السيطرة والاتصالات".
ويمكن القول بكثير من الراحة إن كتاب "مسألة الدولة" لعزمي بشارة هو تتويج لفلسفته السياسية، فهذا الكتاب، كما تقول مقدمته، مكمّل لكتاب "المجتمع المدني" بوصف الدولة كما ورد فيه شرط المجتمع المدني، والدولة القوية بمؤسساتها وشرعيتها هي شرط المجتمع القوي، منتقدًا مقولة أنّ في مقابل المجتمع الضعيف هناك دولة قوية، أو في مقابل المجتمع القوي هناك دولة ضعيفة. ويمكن اعتبار هذا الكتاب مكمّلًا أيضا لكتاب "الدين والعلمانية في سياق تاريخي"، ولكتاب "المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي" الذي ميّز بشارة في أحد فصوله بين الأمة والقومية، وأخيرًا يعدّ مكملًا لكتاب "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته"، حيث كرّر بشارة أنّ: "رسوخ الدولة شرط لنجاح الانتقال الديمقراطي، وأنه لا يمكن الوصول إلى تعددية ديمقراطية إلا تحت سقف الدولة القادرة على تأطيرها، لأنّ التعددية الديمقراطية في ظل شروخ اجتماعية عميقة وشرعية تجعل الدولة هشة، وتؤدي إلى انحلال عقدها، وليس إلى نشوء نظام ديمقراطي تعددي".
ويمهّد هذا الكتاب الذي خصصه بشارة لنظرية الدولة لكتاب آخر حول الدولة العربية الحديثة التي يرى بشارة أنّ الإشكال فيها يرتبط بعدة قضايا، على رأسها: الشروخ الاجتماعية العمودية، ووهن مؤسسات الدولة غير الأمنية، وتحول النظام الرئاسي المستبد في بعض الحالات إلى نظام شبه سلطاني، وضمور المواطنة لناحية كونها الصلة بين الدولة والفرد، متضمنةً الحقوق والواجبات، ولناحية كونها الحجر المكون الأساس للأمة. وتضاف للقضايا سالفة الذكر قضية تآكل ثقافة الدولة وتراجع ثقافة الخدمة العمومية لدى العاملين في مؤسسات الدولة، ما فتح المجال لصعود الفئوية الحزبية والجهوية والطائفية والمحسوبية والزبائنية في اعتبارات الحكم، وقضية قرن الأنظمة السلطوية الولاء للنظام السياسي القائم بالوطنية، وعدم الولاء بالخيانة الوطنية. وأخيرًا ونتيجة لذلك كله، وأحيانًا قبل كل ذلك حسب بشارة، فإن قضية ضعف الإجماع على الدولة بوجود قوى وكيانات اجتماعية نافرة من الدولة المركزية. وبدلا من أن تعزز سياسات الدولة الإجماع عليها، أضعفته.