دور أم كلثوم في نشر القومية العربية

يقول الأديب المصري عباس محمود العقاد عن أم كلثوم: "لقد أثبتت أن الغناء هو فن عقول وقلوب، وليس فن حناجر وأفواه فحسب". 

تختصر هذه الجملة العميقة أهمية صوت أم كلثوم في مخاطبة العقلانية والعاطفة معًا. مخاطبتها للعقل والقلب ميّزة لم يكن ليغفلها نظام الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، الذي استثمر صوتها الشجي الرنان في بيوت ومقاهي ومسارح الوطن العربي.

في سياق إطراء العقاد وتوظيف عبد الناصر، تطرح المقالة التساؤل التالي: كيف طُوِّع صوت أم كلثوم في نشر القومية العربية؟ 

القوة الناعمة في السياق السياسي

في الحقل النظري، كان الأميركي جوزيف ناي أهم منظرٍ في حقل العلاقات الدولية، وهو الذي صاغ نهج التأثير الناعم في إطار مصطلح علمي بات يُعرف باسم "القوة الناعمة".

يرى ناي أن القوة الناعمة سياسة تأثير في أفكار الآخرين عبر جذبهم واستثارة عواطفهم بغية إقناعهم دون تهديد أو إرغام. بالنسبة له، فإن القوة الناعم تقوم على عناصر مهمة مثل القائد الملهم والمنظومة الثقافية المؤسسية والفن والإعلام والقيم المهيمنة. ويوضح ناي أن تحوّل القوة الناعمة إلى حالة عملية يعتمد على الخطوات التالية: إتحاف الدولة بكتلةٍ من عناصر ثقافية تُساهم في الإشارة إليها تعبيرًا عن تميّزها، وتشكيل الثقافة يتم عبر الفن ووسائل الإعلام التي تنشر الثقافة. وثانيًا، توظيف عناصر الثقافة في إذاعة صيت منظومة متكاملة من القيّم السياسية التي تكفل جذب الشعوب والدول الأخرى. وأخيرًا، الوصول إلى النتيجة المبتغاة المنطويّة على حيازةِ تحركات الدولة مشروعية وروح أخلاقية مقبولة لدى المجتمعات المُستهدفة.  

جمال عبد الناصر والقومية العربية

يقترن اسم جمال عبد الناصر بمفهوم القومية العربية، إذ كان أول زعيم عربي يُنادي بهذا النهج قاصدًا تطبيقه في مصر، وساعيًا إلى نشره في ربوع العالم العربي.

لقد سبق جمال عبد الناصر زمنيًا ما حُرر عن القوة الناعمة وأدواتها، إلا أن سياساته الخارجية اعتمدت بصورة جلية على أدوات القوة الناعمة بغية اكسابها، أي سياسته الخارجية، الزخم والإقبال في قلوب العرب، إذ إن الذي يصل إلى القلب يسيطر على العقل كما أوضح ناي. 

أراد عبد الناصر بفكر القومية العربية أن يتحول إلى زعيم مُلهم يُوحد بلاد العرب في إطار هدف الاستقلال عن الاستعمار، وتحت شعار العمل من أجل تحرير فلسطين ومسح هزيمة العرب في نكبة 1948 من الذاكرة العربية. 

وفي عام 1956، تعرضت مصر لعدوان ثلاثي من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. وبفعل الضغط الدبلوماسي للاتحاد السوفيتي وتجنب الولايات المتحدة التدخل في الحرب، كُتب النصر لمصر، وهو الأمر الذي استغله عبد الناصر إعلاميًا وسياسيًا بهدف تجييش الشعوب العربية خلف مشروعه القومي الذي يسعى إلى توحيد راية أكبر عددٍ ممكن من الدول العربية تحت لواء مصر. 

من أجل هذا المشروع، ذهب جمال عبد الناصر إلى تأسيس هوية عربية ثقافية مُتجانسة من خلال الحملات الدعائية الإعلامية، ولذلك كان بحاجة إلى النخبة الوظيفية، مثقفين ومذيعين وفنانين ومغنين وغيرهم، في سبيل إنتاج قيم سياسية تُمهد الطريق لتحقيق ما يسعى إليه. أما أم كلثوم، فكانت من أهم الأدوات التي ركن عبد الناصر إليها لتحقيق غايته. 

دور صوت أم كلثوم في نشر القومية العربية

بعد تولي جمال عبد الناصر مقاليد الحكم، سجلت أم كلثوم كثيرًا من الأغاني التي باتت الأكثر بثًا على إذاعتي "القاهرة" و"صوت العرب".

نتج عن العلاقة القوية بين أم كلثوم ونظام عبد الناصر، بل وشخص عبد الناصر نفسه، حزمة من الأغاني التي زادت من أهمية دور كوكب الشرق في تعزيز مشروع عبد الناصر القومي. وكان الأمر واضحًا بتثبيت برنامج بث أغاني أم كلثوم عند الساعة العاشرة من كل مساء. 

وإذا أخذنا حالة الشجن التي تصنعها في عين الاعتبار، فإن أغانيها بألحانها وكلماتها هي قوة تجمع مشاعر الجماهير حول مَنْ يوجهها. وتزداد حالة الاحتشاد الجماهيري حول الأغاني والأناشيد التي تُخاطب مشاعر الوطنية عند الشعوب، التي تخوض حروب التحرير والاستقلال.

كانت أم كلثوم صوت الوحدة العربية بالنسبة للعرب في تلك الفترة، إذ إن طيفًا كبيرًا منهم كان يرى أن حدود الدول الوطنية، التي رُسمت بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى، هي حدود وهمية. كما كان هناك حنين لحالة الوحدة العربية، فبزغ نجم أم كلثوم بصوتٍ شجي فريد أعاد للعرب وحدتهم، وجمعهم على الاستماع لها كل مساءٍ، من المنامة حتى الدار البيضاء، بفضل إذاعة "صوت العرب".

اهتمت أم كلثوم باختيار كلمات شاعرية كتبها أهم الشعراء وكتّاب الأغنية في تلك الحقبة. وقد احتوت على روح الوحدة العربية التي زادت شاعريتها بأسلوب أم كلثوم في الغناء، وبصوتها الطربي. وقد لاحت باكورة توظيف صوت أم كلثوم في نشر القومية العربية حين صدحت بأغنية هدفها إلى رفع هيبة الجيش المصري بما يجعله في منزلة الجيش الذي يُمثل العرب جميعًا.

جاءت هذه الأغنية عام 1959، أي بعد عام من توحيد سوريا ومصر في إطار الجمهورية العربية المتحدة، وكان نظام عبد الناصر حينها يريد رفع مكانة الجيش ليكون هناك احتضان شعبي له بصفته جيش العرب، الذي سيحمي مصالحهم ويدافع عنهم أمام مخاطر العدوان الخارجي المتربص بهم، سواء من "إسرائيل" أو أي دولة غربية.

ترجمت كلمات الأغنية أهداف نظام عبد الناصر في الارتقاء بمكانة الجيش المصري، وجاء في كلماتها:

"مشي المجد في يومه المرتقب

وأشرق في عيده ما غرب

فقم حي جيشك جيش العرب

حمي الدماء وجيش السلام

سلام سلام سلام سلام".

يصف الشطر الثالث من الأغنية الجيش المصري بأنه جيش العرب جميعًا، والمقصود هنا أن القاهرة هي عاصمة العرب، وجيشها هو جيش جميع العرب، يحميهم ويدافع عنهم.

وفي مقطوعة أخرى من الأغنية، تقول أم كلثوم: "وتحمي العروبة أجناده". وهنا يظهر ربط الجيش المصري بالانتماء العربي، بمعنى أن توجه الجيش المصري وقيمه وأخلاقه هي أخلاق العرب، حيث التسامح مع المُسالم والجلد مع المُعتدي.

وفي دوام الأغنية، هناك مقطوعة تقول: "سلوا عين جالوت عن أمسه"، في إشارة إلى استرجاع أمجاد العرب في تاريخهم الإسلامي القديم، حيث معركة عين جالوت التي هزم فيها جيش المماليك المغول، والإسقاط على عين جالوت يُعظم قيمة مصر نظرًا لأن جيش المماليك انطلق منها نحو دحر المغول عن أرض فلسطين التي باتت محتلة بعد عام 1948، وتحتاج إلى من يحررها.

اللاوعي البشري يتحمس ويشعر بالانتماء للأشعار التي تحمل روح الوطنية وعاطفة الحنين للماضي، وهذا ما تلعب على وتره هذه الأغنية بإحيائها روح الماضي وربطه بالجيش المصري على أنه جيش عربي يحمل هدف التحرك في سبيل قضايا العرب وهمومهم، لا سيما قضية تحرير فلسطين.

أما الأغنية التي غنتها أم كلثوم لترميز عبد الناصر بصفته قائد الوطنية والقومية العربية، فكانت "بعد الصبر ما طال". غنّت أم كلثوم بهذه الأغنية في عام 1958، ووصفت فيها عبد الناصر بأنه الأمل الذي هل على الوطن العربي بعدما انتظار طويل. 

السمة الأساسية التي لُوحظت في جميع أغاني أم كلثوم عن عبد الناصر، هي أنها تمحورت حول جعله قيمة عربية تترسخ في اللاوعي العربي، وبأنه القائد العظيم الذي جاء لتخليص العرب من معاناتهم. تقول الأغنية:

"بعد الصبر ما طال نهض الشرق وقال

حققنا الآمال برياستك يا جمال

الشعب اللي رفع الراية لصلاح الدين

اودعها يمين عبد الناصر ويمينه يمين

السعد معاه والشعب وراه والله معين

النور أهو لاح والقلب ارتاح والشر أهو زال

بعد الصبر ما طال حققنا الآمال

برياستك يا جمال".

في المقطوعة الأولى، عبّرت أم كلثوم عن العرب بكلمة الشرق الذي قالت إنه ينتظر، منذ سنوات طويلة، المخلص، الذي لم يكن سوى جمال عبد الناصر، وهو الأمل أيضًا. والأمل شعور عاطفي يُحيي في روح الإنسان التفاؤل وتوقع النتائج الإيجابية.

وطالما أن هذا الأمل بعد سنوات من القحط والمعاناة، فإنه من الطبيعي أن يكون التمسك به قويًا به. والأغنية، ببساطة، تقول للعربي: ها هو جمال عبد الناصر الذي أتى يحقق أمنياتك بأمل استرجاع الماضي، ذلك الماضي الذي سيكون مشابهًا لما حققه صلاح الدين الأيوبي الذي ظهر في ظل تفتت للمسلمين، فكان مُوحدهم وقائدهم. بل إن عبد الناصر هو صلاح الدين العصر الحالي، لكنه بثوبِ قائد العرب الذي سيأخذ بهم نحو بر الأمان.

وهنا ثمة ربط ثقافي واضح في إطار تأسيس قيم تاريخية وحضارية وسلوكية فنية، تُوضع في قالب ثقافي موسيقي يُعلي من شأن تحركات مصر في المحيط، ويكسبها شرعية لدى طيف كبير من المواطنين العرب، بل وقادتهم أيضًا.

الترميز القيادي ذاته رسمته أم كلثوم في أغنية "بطل السلام" لعام 1958، إذ صوّرت جمال عبد الناصر بأنه قائد العرب البطل الذي يسعى من أجل سلامهم وحريتهم، وأنه القائد الذي أضحى أمينًا على قضايا العرب وأمنهم ومستقبلهم. 

تقول أم كلثوم في أغنيتها عن جمال عبد الناصر بصفته البطل:

"لما بطلنا يتكلم.. ينبه الشرق ويرسم

خط السلام والحرية على الأراضي العربية

اللي بقت عنده أمانة.. أهلاً وسهلاً من قلبي".

زاد نغم أم كلثوم شعور الانتماء العربي لدى كثيرين من خلال نشيدها الوطني للجمهورية العربية المتحدة، الذي ظهرت عام 1958 باسم "خلي السلاح صاحي". وفي عام 1961، اعتُمد النشيد رسميًا في الجمهورية العربية المُتحدة. وبعد انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المُتحدة، ظل النشيد يُستخدم في مصر حتى عام 1971.

وفي أغنية أخرى باسم "خلي السلاح صاحي"، أحيت أم كلثوم روح الثورة والكفاح لدى المُستمع، فهي تستجدي المقاومة والتحدي الصارخ للأعداء، إذ لا سبيل للخلاص والاستقلال والحرية والكرامة سوى السلاح والنضال. تقول كلمات الأغنية:

"والله زمان يا سلاحي

اشتقت لك في كفاحي

انطق وقول أنا صاحي

يا حرب والله زمان

والله زمان ع الجنود

زاحفة بترعد رعود".

وفي عام 1961، ساندت أم كلثوم نشيد "خلي السلاح صاحي" بأغنية جديدة تحمل ذات الإيقاع المقاوم الداعم لنضالات الشعوب العربية في الجزائر وفلسطين وكافة بقاع الوطن العربي، وكان اسم الأغنية المذكورة "ثوار.. ثوار".

تحمل الأغنية في طياتها هدف التأكيد على قداسة الأراضي العربية انطلاقًا من احتضانها الرسالات السماوية المسيحية والإسلامية. وفي سياق الهدف ذاته، سعت الأغنية إلى جذب اللاوعي العربي إلى اعتبار مصر حاملة لواء الحفاظ على هذه القداسة بتبني نهج الثورة على كافة الأصعدة الصلبة، العسكرية، والناعمة من علم وفن وثقافة ودين. على أن الهدف النهائي هو تدشين هوية عربية مستقلة مُتحدة. كما أن الأغنية تدعو العرب إلى السير في الدرب ذاته ضد كل من يحاول طمس هويّتهم وسلب حقوقهم. تقول الأغنية:

"ثوار ثوار ولآخر مدى ثوار

مطرح ما نمشي يفتح النوار

ننهض في كل صباح بحلم جديد

ثوار نعيدك يا انتصار ونزيد

وطول ما أيد شعب العرب بالأيد

الثورة قايمة والكفاح دوار

من أرضنا هل الإيمان والدين

عيسى ومحمد ثورتين خالدين

والعلم ثورة ومن هنا قامت".

غنّت أم كلثوم في عام 1966 أغنية "أرض الجدود" بحالةٍ حالمةٍ من الشجن وطِّدت بصولوهات قصيرة للناي والعود. بين ضفاف كلمات الأغنية، يتدفق صوت أم كلثوم هادئًا رقيقًا يلهب مشاعر الحنين لأمجاد الماضي وسموِّه في الاستقلال والكرامة والعز. تقول الأغنية:

"شدا لك المجد وغنى الظفر فاختال بدو وتباهى حضر

أرض الجدود والليالي سير ما أشرقت إلا عليك الدير

قالوا الكويت قلت ذا كوكب تهفو له النجو حين تنظر

العز في ساحاته منابت طابت مجانيها وطاب الشجر 

أرض الجدود لا برحت للهوى منازل يخطر فيها القمر

عشنا على ثراك بعد عونًا له هوى على نفوسنا مقدر".

لقد وجِّهت هذه الأغنية إلى الكويت، إلا أنها كانت مهمة جدًا لدخول أرض الخليج التي كانت ملكية، وكانت هناك حالة من التوتر الشديد بين السعودية ومصر في قيادة الوطن العربي. وبعلو صوت أم كلثوم الراقي في أرجاء الخليج، كان لنظام عبد الناصر نجاحًا نسبيًا في تحقيق مسعاه في الوصول إلى عدد من المواطنين العرب في الخليج.

تأثير صوت أم كلثوم في العالم العربي

ذكرت مجلة "لايف" في عددها الصادر في حزيران/يونيو 1962 أن تأثير صوت أم كلثوم في العالم العربي بات كالسحر الذي يجذب الملايين، حيث إن الجماهير العربية بتجّارها ومثقفيها وفلاحيها وكل طبقات المجتمع وشرائحه، من المغرب حتى البحرين، تترك أعمالها والشوارع في تمام الساعة العاشرة لتجتمع حول المذياع لسماع فقرة أم كلثوم.

وذكرت المجلة أيضًا أن كثيرًا من العرب حرصوا على شراء المذياع بهدف الاستماع إلى أغاني أم كلثوم، التي كانت تُريح الأعصاب وتفتح اللاوعي الجمعي بشكلٍ مناسب جدًا لاستقبال الرسائل المُبطنة داخلها أو ما بين فقراتها. بل وأضافت المجلة أن إذاعتي صوت العرب والقاهرة علمتا بحجم التأثير فخصصتا 8 حفلات خاصة ببث أغاني أم كلثوم تستمر كل حفلة منها مدة خمس ساعات. وخلال هذه الساعات كانت شوارع المدن العربية، من كازابلانكا وحتى بغداد فارغة، ما يشير إلى تأثير ضخم لم يكن ليضيّع عبد الناصر فرصة استثماره. 

التأثير الملموس لأم كلثوم في إطار مشروع الروح القومية كان عمليًا، حيث كان يصلها يوميًا ما يقارب 3 آلاف مكتوب إلى الإذاعة، 31% من هذه المكاتيب كانت تأتي من مصر، بينما تأتي البقية من دول عربية أخرى، ما يؤكد بالدليل القاطع حجم تأثير صوت أم كلثوم في بناء هوية عربية قومية واحدة تدفع ملايين العرب إلى إرسال مكاتيب يومية لها.

والمكاتيب كانت وسيلة مهمة في تلك الحقبة لقياس حجم تأثير الإذاعات على مجتمعات مُعيّنة. قدوم أكثر من نصف هذه المكاتيب من شتى دول العالم العربي دليل ملموس على تشكيل صوت كوكب الشرق روح قيم ثقافة عربية مُشتركة، إذ باتت أم كلثوم المصرية العربية عنصرًا مُجمع عربيًا على شجن صوتها. 

يُرجع الباحث في العلوم السياسية، إسماعيل فايد، تأثير أم كلثوم الهائل إلى توظيف الوجد الصوفي وأساليب الإنشاد الديني كإطار تقني وأدائي في أغانيها، فكانت أغانيها تصل كل البيوت بثوب الالتزام والحشمة والوتر الموسيقي الذي يجذب كافة شرائح المجتمع، بغض النظر عن انتمائهم السياسي، سواء يساري أو يميني إسلامي.  

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن إذاعة "صوت العرب"، بالعموم، كانت وظيفتها نشر الروح القومية بين العرب، حيث كانت تستضيف النخب الثقافية والسياسية والدينية. وعبر هذه النخب، كان صوت العرب يلعب دورًا كبيرًا في تحديد قسم من أجندة السياسات الداخلية والخارجية، ومن ضمن هذه النخب صوت أم كلثوم الذي كان له تأثير كبير.

وإلى جانب الأفلام المصرية، لعبت أغاني أم كلثوم دورًا مهمًا في جعل اللهجة المصرية مفهومة ومقبولة من قبل جميع العرب، إذ بات يسمعها كثيرون، وأصبحت لهجة دارجة بالنسبة لهم، يطربون بها ويرددونها على ألسنتهم، ما سهل عليهم فهم الخطابات السياسية لجمال عبد الناصر.

بلغ تأثير صوت أم كلثوم في نشر الروح القومية حدًا دفع العديد من أصحاب المقاهي والمطاعم لاستخدام صوتها أداةً للترويج، ليُصبح بث حفلاتها عبر المذياع في ساعات محددة أمر لا بد منه، ولتُمسي بذلك المقاهي مقراتٍ لاجتماع الاشتراكيين الناصريين العرب، وكذلك المُتأثرين بالفكر الناصري، حيث كانوا يلتقون في هذه المقاهي لتنظيم صفوفهم وممارسة حياتهم السياسية الثقافية والحزبية.

في هذا المقام، تجدر الإشارة إلى أن تأثير أم كلثوم جاء في إطار المرحلة الأولى من خريطة جوزيف ناي المرسومة من أجل فرض قيم سياسية معينة على الجماهير. وأم كلثوم كانت في العتبة الأولى، عتبة جذب الجماهير بالثقافة والفن والإعلام. وبقوة هذه العتبة، وبأغاني أم كلثوم الزاخرة بالرسائل السياسية، تم تأسيس نظام متكامل وقوي من القيم السياسية القائمة على رمزية جمال عبد الناصر بوصفه زعيمًا قوميًا، وزعيم القومية العربية، الذي يسعى في سبيل التحرير واسترجاع البطولات. 

وعبر نظام القيم السياسية رُسِّخ قبول شرعي وانتمائي قوي للقومية الناصرية في العراق على سبيل المثال، وقد عُكس ذلك من خلال انقلاب عام 1958 ضد "حلف بغداد" الأمني المُتحالف مع الغرب، وأيضًا قبول لدى سوريا للاتحاد مع مصر عام 1958. وهي الشرعية ذاتها التي حصلت عليها مصر عبد الناصر عندما لعبت دورًا في حماية الثورة اليمنية المُندلعة عام 1962 ضد النظام الملكي المدعوم من السعودية. 

وما يؤكد تأثير صوت أم كلثوم في إحياء روح القومية العربية، وفق النهج الناصري، هو استخدام نشيد "خلي السلاح صاحي" كنشيد وطني للعراق من عام 1963 وحتى عام 1981. وكان النشيد باللهجة المصرية، وهنا يتضح كيف أن صوت أم كلثوم كان عاملًا في نشر روح القومية العربية على اعتبار أن مصر هي الرمز القيادي لهذه القومية.

الخلاصة

إن التأثير الضخم الذي حققته أم كلثوم كان بحرص شخصي من جمال عبد الناصر، فأم كلثوم كانت بالنسبة له عنصر دعاية قوي جدًا في تحقيق هدفه القائم على تأسيس هوية جماعية يتوحد عليها العرب دون خلاف، وهذا بالضبط ما دفع "صوت العرب" إلى زيادة بث أغانيها في سبيل تجذير تأثيرها القومي.

ولا يزال تأثير صوت أم كلثوم حيًا في أرواح العرب حتى يومنا هذا، فكثيرٌ منهم ينتظر إلى اليوم بث أغانيها في المساء ولمدة ساعتين. وبهذه المدة وبصوتها العذب، لا تزال تهوى القلوب إلى مصر.