تُظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أن الفارق بين كامالا هاريس ودونالد ترامب في الولايات السبع المتأرجحة والحاسمة لا يتجاوز نقطة أو نقطتان. وإن دلت هذه الفوارق الآخذة في التقلص على شيء، فإنما تدل على صعوبة الجزم بفوز أحد المرشحيْن قبل نهاية فرز آخر الأصوات يوم غد الثلاثاء. كما يعد هذا التقارب في النتائج مؤشرًا على مستوى التردد لدى الناخب الأميركي في ولايات الحسم، وذلك عائد لأسباب عديدة بعضها يتعلق بشخص ترامب وهاريس والأوضاع الداخلية عمومًا، خاصةً أن هذا العام الانتخابي كان عامًا مشحونًا بالأحداث والتطورات، بدءًا بانسحاب بايدن من السباق الرئاسي، مرورًا بمحاولة اغتيال ترامب لمرتين، وليس انتهاءً بما يروج له بعض أنصار ترامب من مؤامرةٍ لخطف الفوز منه، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان أحداث اقتحام أنصار ترامب لمبنى الكابيتول عام 2020، ويدق ناقوس خطر من انزلاق الأمور نحو مربع العنف السياسي مجددًا.
أما الجانب الآخر من أسباب تردد الناخب الأميركي في حسم اختياره، فيبدو حسب المتابعين، على صلة بالسياسة الخارجية الأميركية، لا سيما منها الدعم الأميركي اللامحدود لإسرائيل في جريمة الإبادة الجماعية في غزة، والعدوان مؤخرًا على لبنان، وخروج الوضع عن السيطرة عمومًا في منطقة الشرق الأوسط بما يزيد من احتمالات نشوب حرب إقليمية بين إسرائيل وإيران، تتحمل واشنطن، حسب "ناشيونال إنتريست"، المسؤولية عنها حال وقوعها.
ولايات الحسم السبع
ركّز ترامب وهاريس فيما تبقى من عمر الحملة الانتخابية على ما يعرف أميركيًا بالولايات المتأرجحة، التي تعود إليها الكلمة الأخيرة في حسم السباق الرئاسي لأنها لا تصوت بشكل واضح لأحد الحزبين الجمهوري أو الديمقراطي، وذلك خلافًا للولايات المعروفة بتأييدها للديمقراطيين مثل كاليفورنيا ونيويورك، أو تلك المحسوبة للجمهوريين على غرار كنتاكي وأوكلاهوما.
والولايات السبع المتأرجحة التي تشهد حاليًا منافسةً حادة بين ترامب وهاريس هي بنسلفانيا (تملك 17 صوتًا في المجمع الانتخابي)، وجورجيا وكارولينا الشمالية بـ16 صوتًا لكلٍ منهما، وميشيغان بـ15 صوتًا، وأريزونا بـ11 صوتًا، وويسكونسن بـ10 أصوات، وأخيرًا ولاية نيفادا بـ6 أصوات فقط.
ويشار إلى أن الانتخابات الرئاسية الأميركية تقوم على نظامٍ للاقتراع غير المباشر، يُعتبر فريدًا من نوعه بحسب الباحثين في العلوم السياسية، إذ يعتمد على ما يسمى "أصوات كبار الناخبين في المجمع الانتخابي" التي تصل إلى 538 صوتًا، يُطالب المرشّح الفائز بالسباق الرئاسي بحصد 270 منها كي يسمّى رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، وذلك بغض النظر عن ما إذا كان حصل على أغلبية أصوات الناخبين في الفرز العام أم لا.
وفيما يلي من هذه الإحاطة، نحاول رصد السيناريوهات المتوقعة لفوز ترامب أو هاريس أو التعادل بينهما، مع الإشارة إلى أنه في حالة التعادل يُترك الحسم لما يسمّى أميركيًا بـ"الانتخابات الطارئة"، التي يَنتخب فيها مجلس النواب رئيس البلاد، عبر إدلاء كلّ وفدٍ ولائي (ممثلٍ لولاية) بصوت واحد، ومن يحظى بأغلبية الأصوات يُعلن رئيسًا للبلاد.
ما الذي قد يصنع فوز كامالا هاريس؟
تعتقد صحيفة "واشنطن بوست" - وهي إحدى وسائل الإعلام الأميركية غير اليمينية حتى لا نقول اليسارية - أن فوز هاريس هو الأكثر ترجيحًا، مستندةً في ذلك على متوسطات استطلاعات الرأي التي أنجزتها خلال الأيام القليلة الماضية. لكن واشنطن بوست تنبه إلى ضآلة الفوارق بين هاريس وترامب، معتبرةً أن ذلك كفيل بعدم المجازفة بتأكيد فوز هاريس، فكل الاحتمالات تبقى واردة لآخر لحظة من يوم غد الثلاثاء 5 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري.
تتقدم هاريس حاليًا بشكل طفيف في أربع ولايات من الولايات السبع المتأرجحة، وهي بالتحديد ميشيغان ونيفادا وويسكونسن وبنسلفانيا. وفي حال حافظت هاريس على هذا التقدم، فستكون على مرمى حجر من دخول البيت الأبيض، بتحقيق 276 صوتًا في المجمع الانتخابي، مع الإشارة إلى أنها مطالبة فقط بـ270 صوتًا لا أقل ولا أكثر.
ولتحقيق هذا الهدف تحتاج هاريس إلى ولايات "الجدار الأزرق" الثلاث الشمالية، بالإضافة طبعًا إلى الدائرة الثانية في الكونغرس في نبراسكا، حيث تتقدم هاريس بنحو 10 نقاط، الأمر الذي يمكّنها من الحصول على 270 صوتًا في المجمع الانتخابي.
وبالغوص قليلًا في العوامل التي قد تدفع هاريس إلى الظفر بولايات الجدار الأزرق الثلاثة، أو تلك التي قد تجعلها تخسرها، يمكن الحديث أساسًا عن عامل مركّب هو "الناخبون البيض وكبار السن". فعلى الرغم من أن هذه الشريحة السكانية معروفة بتفضيلها للجمهوريين، إلا أن الديمقراطيين تمكنوا من اختراق حصونها نسبيًا.
لوحظ في السنوات الأخيرة أن ولايات الجدار الأزرق الشمالية، ميشيغان وويسكونسن وبنسلفانيا، تشهد تغيرات سكانية دراماتيكية. فبعد تناقص أعداد السود واللاتينيين والشباب فيها، باتت الولايات الثلاث تمتاز بكثرة المسنين والبيض مقارنةً ببقية الولايات المتأرجحة الأخرى.
ومن النقاط التي تُحسب للديمقراطيين أنّهم نجحوا في استقطاب أعداد متزايدة من الناخبين البيض والمسنين، وعلى وجه خاص البيض الذين لا يحملون شهادات جامعية، ممن كانوا وما يزالون يمثلون قاعدة رئيسية للمرشح المنافس دونالد ترامب في ولايات الجدار الأزرق الشمالية.
وقبل مجيئ ترامب في العام 2016، ظلت ولايات الجدار الأزرق الثلاثة زرقاء نسبيًا، فقد حقق فيها باراك أوباما فارقًا بخمس نقاط تواليًا في انتخابات عام 2008 وعام 2012. وتأمل هاريس أن تعيد ذات السيرة يوم غد الثلاثاء.
حتى ولاية نيفادا، وهي الولاية الرابعة المتأرجحة، كانت من الولايات الزرقاء قبيل مجيئ ترامب، واليوم تتقدم فيها هاريس بهامش ضئيل، غير مطمئن للديمقراطيين بالمرة.
ما العوامل التي قد تقلب المعادلة لصالح ترامب؟
على الرغم من الجلبة التي أحدثها ترامب في الأسابيع الأخيرة وتحسن نتائجه في بعض استطلاعات الرأي، إلا أن فوزه بالانتخابات الرئاسية لا يزال مستبعدًا. وفي حال حقق الفوز يوم الثلاثاء المرتقب، فسيكون عنصر المفاجأة لا الحسابات الرياضية هو المفسر الرئيس لفوزه. ومع ذلك يرى الجمهوريون أن فوز ترامب يمر بالضرورة عبر خطف بطاقات ثلاث ولايات، وهي جورجيا ونورث كارولينا وبنسلفانيا.
ووفقًا لآخر استطلاعات رأي أجريت في الولايات المتأرجحة، فإن هذا الهدف ليس مستعصيًا بعدما قلّص ترامب الفارق بينه مع هاريس في بنسلفانيا إلى أقل من نقطة واحدة. أما في جورجيا ونورث كارولينا، فالتوقعات تشير إلى مُضي ترامب في توسيع الفجوة مع هاريس لصالحه بالطبع.
وللمفارقة، فإن إنجاز ترامب هذا إن تحقق، فسيلعب فيه السود دورًا حاسمًا. فمن بين الولايات السبع المتأرجحة، يوجد في جورجيا وكارولينا العدد الأكبر من السود، وفي بنسلفانيا يمثل الناخبون السود نحو 10% من الكتلة التصويتية.
يجيد ترامب استخدام السلاح الواحد لأكثر من غرض. فعلى الرغم من تعييره لهاريس بسواد البشرة وبأصولها الآفرو-هندية، إلا أنه عندما توجه مؤخرًا لمغازلة السود، ادعى أن هاريس تبنت مؤخرًا فقط هذه الهوية.
عاملٌ آخر من العوامل التي تجعل ترامب يتمتع بجاذبية لدى السود هو سجله مع الملاحقة القضائية، فهذا السجل يُغري، حسب ترامب وحلفائه، الرجال السود ممن يشعرون بأنهم مستهدفون بشكل غير عادل من قبل نظام العدالة، بالتصويت لترامب.
وفي السياق نفسه، تذكر صحيفة "واشنطن بوست" أن الديمقراطيين أعربوا عن قلقهم من أن الرجال السود، على وجه الخصوص، أكثر ترددًا في التصويت لامرأة لمنصب الرئيس، ولعل هذا ما يفسر تركيز الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما مؤخرًا على التحذير من مثل هذه التوجهات، بعبارات لا تخلو من قوة وحدّة.
يتقدّم ترامب بشكل واضح في استطلاعات الرأي الخاصة بما يسمى أميركيًا "ولايات حزام الشمس"، وبشكل خاص ولايات أريزونا وكارولينا الشمالية وجورجيا، وبدرجة أقل نيفادا، لكن ترامب في حاجة ماسة لولاية شمالية (بنسلفانيا أو ويسكونسن) لتعبيد طريقه نحو البيت الأبيض لعهدة رئاسية ثانية ينتظرها على أحرّ من الجمر "للانتقام من خصومه"، الذين تعهد بفتح أبواب الجحيم عليهم، الأمر الذي يعتبره الديمقراطيون دليل إدانة ضد ترامب يُثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنه خطر على الديمقراطية الأميركية.
إن القاسم المشترك بين ولايات "حزام الشمس" هو تنوعها مقارنةً بالولايات الشمالية. وبدلًا من أن يكون ذلك التنوع لصالح هاريس، تشير الاستطلاعات إلى أن ترامب هو أكبر المستفيدين منه، نظرًا للمكاسب والاختراقات التي حققها بين الناخبين السود واللاتينيين.
لا يقتصر الأمر على هذا المحدد لوحده، بل يشمل معطيات أخرى، على رأسها ارتفاع تكلفة الإسكان مقارنةً بالولايات الشمالية، وهو أمر تحمله حملة ترامب للإدارة الديمقراطية، هذا بالإضافة طبعًا إلى معطى الهجرة غير النظامية الذي يحظى بأهمية بالغة لدى سكان الولايات الحدودية (أريزونا ونيفادا) اللتين قد ينجح ترامب في تحويلهما إلى اللون الأحمر، مستفيدًا من دعايته ضد الأجانب والمهاجرين غير المسجلين الذين تعيش النسبة الأكبر منهم هناك.
لم تتحول أريزونا وجورجيا إلى اللون الأزرق منذ التسعينيات. أما بالنسبة لولاية كارولينا، فقد تحولت إلى اللون الأزرق مرة واحدة فقط عام 2008، وذلك منذ فترة السبعينيات. وبالتالي، لا يعد تفوق ترامب في تلك الولايات مستغربًا، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي الولاية الشمالية التي يمكن لترامب إضافتها إلى رصيده لحسم السباق في مواجهة هاريس؟
تنحصر الفرص أمام ترامب في إحدى ولايتين شماليتين هما ويسكونسن التي خسرها عام 2020 بهامش ضئيل جدًا هو 0.6 نقطة، لكن استطلاعات الرأي تُرجح أن تكون بنسلفانيا هي حصان طروادة الخاص بترامب للإطاحة بهاريس.
وتصر التحليلات القادمة من واشنطن على أن أي نصر لترامب ستكون كلمة السر فيه هي "السود واللاتينيين وخاصةً الرجال منهم"، ومجموعات أخرى غير مرئية قد تُحجم عن التصويت لهاريس لا لشيء إلا لأنها امرأة.
ماذا عن إمكانية التعادل؟
قد يحدث ما هو غير متوقع بالنسبة لهاريس وترامب. فخسارة هاريس لإحدى الولايات الشمالية قد يجري تعويضها بالفوز بولاية نيفادا أو كارولينا الشمالية التي تُقلق الجمهوريين بسبب التغير الشديد لأعداد سكانها، وتضرر المناطق المؤيدة لترامب فيها بإعصار هيلين المدمر ما قد يؤثر سلبًا على نسبة المشاركة فيها.
زد على ذلك أن نتائج الاستطلاعات غير دقيقة، فالأخطاء فيها كثيرة، وبالتالي تظل المفاجآت ممكنة، بما فيها إمكانية مفاجأة "التعادل". فعلى الرغم من أن هذا السيناريو مستبعد شيئًا ما، إلا أنه يبقى قائمًا من الناحية النظرية، وذلك بحصول كلا المرشحين على 269 صوتًا في المجمع الانتخابي.
ترى صحيفة "واشنطن بوست" أن سيناريو التعادل قد يحدث عند فوز هاريس في ميشيغان وبنسلفانيا وويسكونسن وفي الدائرة الثانية في نبراسكا، حيث تتمتع المرشحة الديمقراطية بتقدم كبير في استطلاعات الرأي، لكن مع خسارتها لبقية الولايات المتأرجحة.
وفي حال فازت هاريس في الدائرة الثانية في نبراسكا، فإن السيناريو الأكثر ترجيحًا للتعادل هو أن يفوز ترامب في بنسلفانيا وميشيغان وكارولينا الشمالية أو جورجيا، دون أن يفوز في أي ولاية متأرجحة أخرى.
وعند التعادل، يتم اللجوء إلى الانتخابات الطارئة، وهي انتخابات يتولى فيها مجلس النواب انتخاب الرئيس عبر إدلاء كل وفد ولاية بصوت واحد. وتبدو حظوظ الجمهوريين في هذه الحالة أعلى من حظوظ الديمقراطيين.