الغزو الأميركي للعراق

علم السياسة الأميركي.. فوّهة بندقية الأطماع التوسعية

30 سبتمبر 2024

إذا كانت المعرفة الكولونيالية قد جرى تفكيكها عبر خطابات المعرفة التحرّرية، فإن جانبًا آخر من الدراسات المرتبطة بخطاب الدولة والسلطة، متمثلًا في العلوم السياسية وموضوعة الديمقراطية بشكل أدق في هذه العلوم، لم يتم تفكيكه بالشكل الكافي. فالعديد من نظريات هذه الدراسات تتعلق بخطاب السلطة وإكراهات المؤسسية والترويج لشكل محدّد من صور الديمقراطية، باعتباره الشكل المطلوب والمرغوب فيه.

ولا يفوتنا في هذا الإطار الإشارة إلى ما نبّه إليه إدوارد سعيد من أنّ الأشكال المُميّزة للمعرفة السياسية انطبعت بفكر الإمبراطورية (كولن مويرز، الإمبرياليون الجدد: إيديولوجيات الإمبراطورية)، وعلى ذلك الأساس أطلق دعوته الشهيرة للباحثين لنقل انتباههم من الشرق إلى الطرق التي دُرِس بها.

وتأكيدًا لاستنتاج سعيد، توصلت ليزا ودين إلى نتيجة مفادها أنّ قطاعًا كبيرًا من الدراسات حول واقعة الديمقراطية والانتقال الديمقراطي انطبعت بمُحدّدات علاقات القوة، كما كانت انعكاسًا للاختيارات السياسية الليبرالية الأميركية بالتحديد، خاصةً عندما تتوجه تلك الدراسات المعرفية إلى الشرق الأوسط أو الآخر، أي عندما تكون استشراقية بلغة إدوارد سعيد. 

ويجادل كثير من الباحثين بأنّ جهود علم السياسة لتوخّي الموضوعية العلمية تمتزج مع فرضيات ليبرالية مُسبقة، وذلك لدعم نظام عالمي مُؤَمَّن إمبراطوريًا من الولايات المتحدة الأميركية. وبمعنى آخر، يعتقد من يقولون بهذا الرأي بأن المنهج ومنطلقات الإبستمولوجيا الوضعية في علم السياسة تعدّ روحًا لأيديولوجيا إمبراطورية.

ولقد عبّرت ليزا ودين عن ذلك بمقولة "الرّبط القسري بين قيم الليبرالية والعلم كمنهج لإنتاج الحقيقة الموضوعية عن العالم الواقعي"، وهو أمر يبدو أنه لم يحدث مصادفة وإنما بسبق إصرار وترصّد ربّما، فكيف أعاق مثل هذا الربط تقديم فهم "أفضل" حول الديمقراطية والانتقال الديمقراطي في الشرق الأوسط مثلًا؟ وكيف ينسجم ذلك الربط القسري مع ادّعاء الموضوعية والحياد والنظر للواقع كما هو عليه؟

بمعنى آخر، كيف يمكن لعلم السياسة أن يدّعي الالتزام بالموضوعية العلمية في الوقت الذي يعمل فيه على إنتاج وحماية النظام الليبرالي الأميركي كشكل وحيد ومُمكن للدّمقرطة في العالم؟

وبالتالي، فإن المهمة التي سيقوم بها هذا المقال تتمثل في تعرية خطاب المعرفة السياسية كخطاب قائم على التناقضات، وهي تناقضات مع مبادئ "الحياد، والموضوعية" التي تدّعيها العلوم السياسية التي تتبنى الخيار الوضعي.

وسنركز على حالة دراسات المناطق ودراسات الديمقراطية والانتقال الديمقراطي بمنطقة الشرق الأوسط، كمثال لطغيان حالة من التناقض وإرادة الهيمنة.

دراسات المناطق وإشكالاتها في علم السياسة الأميركي

تطرح دراسات المناطق العديد من الصعوبات وتثير الكثير من الإشكاليات المنهجية والعلمية في مجال العلوم الاجتماعية. وتتعمّق تلك الصعوبات والإشكاليات أكثر عندما تكون تلك الدراسات صادرة أو مُسقطة من "المركز" على "الأطراف" لما قد تحمله من صور نمطيّة أو تقود إليه من نتائج وتدخلات، خاصةً عندما يكون المركز أو المصدر معروفًا بأطماعه التوسعية والإمبراطورية، وعندما يكون الاختصاص أو العلم المُستخدم يُنظر إليه "نظرة تَشَكُّك وريبة"، باعتباره مرتبطًا بأشكال من الخطابات الأيديولوجية الكبرى كالليبرالية والأيديولوجيات الإمبراطورية والإمبريالية. وفي هذا المجال بالذات، اعتُبرت دراسة الشرق الأوسط مشروعًا إشكاليًا باستمرار بالنسبة لعلم السياسة الأميركي على وجه الخصوص. 

وذلك نابعٌ، بحسب ليزا ودين، من التزامات علم السياسة الأميركي بالموضوعية العلمية من جهة، وبإنتاج أو على الأقل بحماية النظام الليبرالي الأميركي من ناحية أخرى. إذْ كيف يُمكن التوفيق بين دعوى علم السياسة الأميركي بالتقيد والالتزام بالموضوعية وعدم التحيز، مع العمل على ترويج أطروحات سياسية معيّنة – كالشكل المرغوب فيه من الحكم والممارسة السياسية – وتشكيل صور نمطية حول منطقة الدراسة تتوافق وتخدم مصالح وأجندة وسياسات غير متعلقة بالعلم بقدر ما هي متعلقة بالإدارة الأميركية ومصالحها مثلًا؟

وعلى هذا الأساس، هل يُصبح ادِّعاء علم السياسة الأميركي الموضوعية وفصل القيمة عن الحقيقة مغالطة؟ أم أنه بالإمكان تحقيق شروط البحث العلمي مع الالتزام برؤية سياسية معيّنة؟ وبالانتقال إلى مستوى آخر من التساؤل: هل تتضمن الخطابات المعرفية قوة سياسية ضمنيّة أم أنها لا تكتسب تلك القوة إلا عبر ارتباطها بخطاب مؤسسات سياسية والتزامها بمشاريع تلك المؤسسات؟ 

تتتبّع ليزا ودين على نحو دقيق ارتباطات علم السياسة الأميركي حول منطقة الشرق الأوسط بفرضيات والتزامات على صلة مباشرة بالليبرالية والهيمنة الإمبراطورية الأميركية. وبعبارة أخرى، تواطؤ علم السياسة الأميركي مع أطماع توسعية للإدارة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.

وهنا تقدم ليزا ودين أطروحتها القائلة بأن الخطابات المعرفية السائدة في علم السياسة الأميركي هي خطابات قوة قبل أن تكون خطابات معرفة علمية. وهي بهذه الأطروحة تُشدّد على التوجه الذي دعا إليه إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" بدعوة الباحثين إلى نقل انتباههم من الشرق إلى الطرق التي دُرس بها. 

وهي دعوة منسجمة مع توجهات ما بعد البنيوية مع ميشال فوكو والتيارات النقدية في مدرسة فرانكفورت وامتداداتها، وذلك من منطلق أن تلك الخطابات المعرفية كرّست فكرة المناطق كمكان يتطلب التّدخّل، وكمكان مختلف عن الغرب بشكل راديكالي وغير قابل للقياس، ويجب أن تعيد: "الحضارة أو الديمقراطية الأميركية الآن صنعه على صورتها"، علمًا بأنّ دراسات المناطق، كما تقول ودين، صارت سمة رئيسية من مبادرات وكالة الأمن القومي الأميركي وعلامة على مخاوف الحرب الباردة، وحماية مناطق النفوذ، إضافةً إلى أن دراسة المناطق في علم السياسة الأميركي ترافقت مع واقع وفكرة "الهيمنة المستمرة لأميركا على منطقة".

لكن هذه المسائل، على الرغم من أهميتها، لم تكن هي محور اهتمام ليزا ودين التي توجهت "بنقدها التفكيكي" إلى خطابات اختصاص علم السياسة الأميركي التي تَدّعي الصرامة العلمية والموضوعية وتبرر دراستها للمناطق على أساس علمي يتمثل في اختبار فرضيات علمية بغرض التعميم مثلًا، ومن منطلق أن العلم كوني، وأدواته المنهجية محايدة تجاه الواقع.

 هذا التصور الذي يقدمه علماء السياسة الأميركيون هو ما عملت ليزا ودين على مساءلته وفحصه، لتبين أنه في كل مراحله التاريخية كان مسكونًا وموجهًا بهواجس وخيارات "النموذج الأميركي" تارةً بالتصورات المثالية حول "المجتمع الجيد" و"الحكم الجيد"، وتارةً أخرى تحت مقولات ونظريات الخيار العقلاني والفاعلين العقلانيين، ومؤخرًا من خلال النظريات الثقافوية السياسية التي وجدت في كتاب هنتنغتون "صدام الحضارات" ضالّتها، فبدأت تتّخذ من القيم والثقافة والدين وغيرها من الظواهر الثقافية مدخلًا للقول بأن شعوب "منطقة الشرق الأوسط" تفتقر للقيم المدنية التي تجعل الديمقراطية فيها مُمكنة، وهو ما يجعل من تدخل القوى العظمى – وفي هذه الحالة الولايات المتحدة – مبرّرًا تحت عناوين "دمقرطة المنطقة" و"تحرير شعوب منطقة الشرق الأوسط"، وغيرها من العناوين. والحرب على العراق والتبريرات التي استُخدمت لغزو هذا البلد الشرق الأوسطي، أفضل مثال على تلك الدعاية. 

وهذا الدور ليس بجديد على علم السياسة الأميركي الذي كان، منذ نشأته وحتى اليوم، متماشيًا ومتوافقًا مع نزعة الإمبراطورية، وعنصرًا من عناصرها الفعالة. فالارتباط بين الليبرالية والعلم كان سمة علم السياسة منذ بزوغه، وتُعتبر النزعة السلوكية في علم السياسة الصورة النموذجية لذلك الارتباط، حيث تم الإقرار منذ البداية بضرورة الفصل بين الحقيقة والقيمة كشرط للمعرفة الموضوعية والتركيز على سلوك الفاعل الاجتماعي – وإن كان عدد من علماء السياسة الآرنتيون، نسبة لحنة أرندت، وبعض الواقعيين مثل هانز مورغنتاو، قد رفضوا هذا الادعاء واختزال السياسة في أفكار ليبرالية وحسابات مصالح ذرائعية، بل وصل الأمر حدّ تشكيك مورغنتاو بتطلعات علم السياسة إلى العلم والتزاماته الأخلاقية بالليبرالية – من أجل القدرة على إنتاج مفاهيم ومصطلحات وصفية ونتائج سببية علمية دقيقة بالاعتماد أساسًا على الطرائق الكمّية في المنهج المتّبع.

وترى ليزا ودين أنّ النزعة السلوكية في علم السياسة قادت إلى تبني افتراضات الليبرالية حول الحكم الجيد والفرد الجيد والديمقراطية، في تحليلاتها الإحصائية، لأنها اتخذت من النموذج الأميركي والغربي القائم مثالها في تحقيق "غايات الإنسان". وبالتالي، فإن السلوك الذي اتخذته هذه الدول هو السلوك الأمثل لتحقيق تلك الغايات والأهداف، وهذا ما فتح الباب واسعًا لالتقاء عدد من علماء السياسة بمؤسسات الأمن القومي كمنظرين وموجّهين. وهذا هو الانحراف الأول لعلم السياسة الأميركي من وجهة نظر ودين، والذي أوقعه في مأزق التناقض بين ادعاء العلمية من ناحية، والعمل كجهاز هيمنة تبريري من ناحية أخرى في خدمة مؤسسات سياسية لا تستند إلى قواعد ومعايير العلم.

ويُعتبر ترويج النظام السياسي الأميركي مقابل النظام الشيوعي السوفيتي والتصدي للتحديات اليسارية المحلية للنظام الأميركي، أحد الجبهات النموذجية التي قاتل فيها علم السياسة الأميركي بنزعته السلوكية في ذلك الوقت.

أما اللحظة الثانية من مسار هذا التطور والارتباط، فقد كان في السبعينيات والثمانينيات مع انتشار نظريات الخيار العقلاني والتفات علم السياسة الأميركي إلى الاقتصاد بحثًا عن الإلهام لمعالجة اهتمامات اقتصاد سياسي من ناحية، ومحاولة فرض "منهج اقتصادي" على دراسة المجتمع، من ناحية أخرى. 

وأهم ما قاد إليه هذا الاتجاه هو تكريس المقولات التي تُرسخ انتصار الرأسمالية والآليات التي تضمن التحول بالنسبة للمناطق الأخرى على غرار البلدان الليبرالية الرأسمالية. وفي هذا الإطار بالذات، تكرّس نمط من التفكير الإجرائي في بعض القضايا مثل الديمقراطية وإهمال المضامين التي تقوم عليها الديمقراطية، حيث أصبحت "كفاءة الجمهورية الإجرائية" بتعبير مايكل سندل هي الأساس. 

وتشكل أدبيات التحول الديمقراطي في هذا المضمار الصورة البارزة لهذا الطرح الذي ينسجم بسلاسة مع الصورة المعاصرة للديمقراطية الليبرالية الأميركية حسب ليزا ودين. 

ولعل نقطة البداية الأمثل لتناول الدراسات المتعلقة بالديمقراطية والانتقال الديمقراطي حول الشرق الأوسط وإشكالاتها، تتمثل في تناول المؤسسات التي تقف خلفها أولًا، والتصورات العامة التي تحكم توجهاتها ثانيًا.

وفي هذا الصدد، يمكن أخذ مؤشر "فريدوم هاوس Freedom House" السنوي حول الديمقراطية في العالم كمثال، حيث تصدِر هذه المؤسسة مؤشرًا سنويًا لقياس الدمقرطة في العالم لتحديد الدول الأكثر ديمقراطية والأقل ديمقراطية، وينخرط في إعداد هذا المؤشر عدد كبير من الباحثين في مجال دراسات العلوم السياسية من كل أنحاء العالم تقريبًا.

ومع ذلك، يظل خطاب المؤسسة، الذي يندرج في خطاب أوسع منه باعتبارها مؤسسة مموّلة أميركيًا، هو الذي يُحدد اتجاه المشاركين من الباحثين ويرسم لهم الصورة العامة التي تُمثّل الديمقراطية كما تراها المؤسسة. ومن شأن هذا الموقف أن يُؤثر بشكل مباشر في منهجية المؤشر وفي تقويم ظاهرة الديمقراطية والانتقال الديمقراطي الذي يُعتبر مسألة مُركّبة من أبعاد عدّة لا تقدر المنهجية الكمية المعتمدة في المؤشر على رصدها كما ينبغي، حيث تتداخل مجموعة من الأبعاد التاريخية والسياسية والثقافية والاقتصادية في ظاهرة الانتقال الديمقراطي، وهي أبعاد لا يمكن التعامل معها بمنطق تكميمي بحت. 

ولا يقتصِر هذا الخطاب حول فهم الديمقراطية على المقاربات الاستطلاعية فقط التي تقوم بها مؤسسات كـ"فريدوم هاوس"، وإنما يُمكن رصده في بعض المقاربات والدراسات النظرية التي حاولت دراسة هذه الظاهرة في منطقة الشرق الأوسط، التي تعتبر مجال صراع بين عدة قوى لها أطماع اقتصادية واستراتيجية فيها. 

وتكاد تغلب سمة واحدة على مثل تلك الدراسات، وهي تقديم كل المبرّرات والمعطيات التي تعتبر أن الديمقراطية في هذه المنطقة ضرورة لكنها مستعصية، وذلك في مفارقة غريبة، بسبب الهويات الطائفية والدينية والعرقية المتصارعة فيها. 

وتكاد تتطابق هذه النتيجة مع ادعاءات الإدارة الأميركية حول هذه المنطقة، وذلك بإعاقتها للانتقال الديمقراطي في العديد من المرّات حفاظًا على مصالحها، خاصةً مع تجربة الثورات العربية التي أوصلت بعض التيارات غير المرغوب فيها أميركيًا إلى الحكم، "الإسلاميين مثلًا"، وذلك على الرغم من ادعاء واشنطن بأنها حاملة رسالة الديمقراطية في العالم

لكن التغير البارز والمعاصر لارتباط علم السياسة الأميركي حول الشرق الأوسط بأهداف "غير علمية" مرتبطة أساسًا بحماية الأمن القومي الأميركي وضمان توسع "الإمبراطورية الأميركية"، ارتبط أساسًا بمقولة "الثقافة السياسية" وتأثير القيم والمعتقدات والثقافة في التوافق أو عدم التوافق مع الديمقراطية والليبرالية والرأسمالية، أي إنتاجات الحداثة الغربية بشكل عام.

والواضح أن مرتكز هذه المقاربات الثقافوية كان الرجوع إلى ماكس فيبر وكتابه الشهير "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، الذي أقام ما يشبه نمطًا من "العلاقة السببية" بين نمط معين من الأخلاق والقيم الروحية والقابلية للرأسمالية وقيم الحداثة بشكل عام، بما فيها الديمقراطية. 

وفي هذا المجال أيضًا، شكّل كتاب "صدام الحضارات" لهنتغتون "شرارة الحريق" الذي سيطر على معظم دراسات علم السياسة الأميركي حول الشرق الأوسط، حيث تم النظر إلى عناصر ثقافية وقيمية حيوية بمنطقة الشرق الأوسط كالإسلام والثقافة البطريركية والقبلية والطائفية باعتبارها عوائق فعلية أمام تحرر المنطقة وتحولها نحو الديمقراطية، وهي وجهة نظر "بميولها الماهوية" شكّلت البيئة المواتية لإشعال هذه المنطقة وتبرير تدخل القوى الخارجية فيها كالتدخل الأميركي في العراق، ومؤخرًا تدخل حلف الناتو في ليبيا.

ويرى الاتجاه النقدي في العلوم السياسية أن هذا المدخل كان خاطئًا منذ البداية في فهم المنطقة، ولم يكن بريئًا كذلك حيث كان مرتبطًا بنزعة تريد استعادة الإمبراطورية الأميركية وهيمنتها المستمرة. ويعتبر برنارد لويس أحد أوجه هذا التيار الداعي لتدخل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وإعادة أمجادها الإمبراطورية من جديد على أساس عسكري.

لكن الخيبات التي تعرّضت لها هذه السياسة وهذا النمط من الدراسات السياسية أعاد التفكير فيها من جديد، واستدعى حوارًا عميقًا بين المنتسبين لحقل العلوم السياسية التي تورطت بشكل كبير في أشياء بعيدة عن نطاقها كعلم، من شأنه إنتاج معرفة علمية، وليس من شأنه أن يكون فوّهة لبندقية الأطماع التوسعية.

لكن ليزا ودين ترى أن ما حصل بالفعل إنما هو نمط من الاستتار أو التراجع الخجول الذي لا يرقى إلى مستوى الفصل بين علم السياسة الأميركي وفكر الليبرالية والإمبراطورية.

لكن وإن كانت التيارات النقدية المستندة بالأساس لفكر ما بعد البنيوية الساعي لتعرية خطابات الهيمنة الكامنة وراء المعرفة العلمية، قد نجحت إلى حد ما في ذلك، لكنها في المقابل لم تقدم بديلًا علميًا لفهم تحديات منطقة الشرق الأوسط، ودراسات المناطق في العلوم السياسية التي باتت تعتبر حاجة ملحة للبحث العلمي في مجال السياسة المقارنة، وإنما اكتفت بموقفها النقدي ومحاولة العثور في كل دراسة أو بحث حول المناطق عن طابع للهيمنة أو الأطماع التوسعية.

وإن كانت دعوتها إلى تعددية منهجية داخل الحقل تعتبر إسهامًا مهمًّا، إلا أنها لم تقدم الحل أو البديل عن الديمقراطية كفكرة علمية وقيمة سياسية أثبتت جدواها، وبالتالي قد لا يكون هنالك تعارض بين الالتزام بها وفي نفس الوقت الالتزام بالصفة العلمية. 

خاتمة

نرجّح أنّ المشكلة الأساسية في خطابات العلوم السياسية المتعلقة بواقعة الديمقراطية في الشرق الأوسط مصدرها ربط الانتقال الديمقراطي بالعمليات الفوقية وحتى الخارجية لتحقيقه، وهو ما يعني استبعادًا لصوت الشعوب والشارع العادي في صناعة مصيره. وهنا أتفق مع آصف بيات بأن أي ديمقراطية لا تنبع من الشارع ومن إرادة الشعوب لن تكون ديمقراطية حقيقية.

ومن الملاحظ أن معظم الدراسات التي تتناول الانتقال الديمقراطي في الشرق الأوسط، وإفريقيا أيضًا، لا تُلقي بالًا كبيرًا للعمليات التي تحدث أسفل في الحياة الاجتماعية، ولا بالفاعلين الهامشيين "كالشباب والفقراء وغيرهم من الجماعات الهامشية" المسؤولة فعليًا عن أي تغيير قد يحدث. وفي مقابل ذلك، تركز تلك الدراسات فقط على النخب والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية كمؤسسة الجيش والأحزاب. 

ولذلك فشلت كل نظريات الانتقال الديمقراطي، وكل مؤشرات قياس الديمقراطية، في التنبؤ بالربيع العربي الذي حدث في عدة بلدان عربية شرق أوسطية، لأنها لم تتوجّه إلى عصب الحياة السياسية، وهو الشارع والفاعلين الهامشيين واكتفت بالتقاط صورة فوتوغرافية تعميمية من فوق. 

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

2

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

تحدّث الرومان واليونانيون قديمًا بإعجاب عن بخور وطيوب سبأ، لدرجة أنهم وصفوا سكانها بأنهم من أثرى شعوب العالم، وأنهم يأكلون في أوعية من الذهب، ويسكنون بيوت فارهة

3

من يمتلك الإنترنت؟

تقول ولادة شبكة الإنترنت الكثير من ناحية تحولها إلى مجال للسيطرة والربح، خصوصًا حين نضع نصب أعيننا أنها استراتيجية اتصالية أميركية

4

"يا ما في الجراب يا حاوي".. الحواة من إبهار الشارع إلى شاشات التليفزيون

لم يكن الحواة فئة طارئة على المجتمع المصري، فقد تواجدوا في الشوارع والميادين العامة منذ القرن التاسع عشر الميلادي

5

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم

اقرأ/ي أيضًا

من يمتلك الإنترنت؟

من يمتلك الإنترنت؟

تقول ولادة شبكة الإنترنت الكثير من ناحية تحولها إلى مجال للسيطرة والربح، خصوصًا حين نضع نصب أعيننا أنها استراتيجية اتصالية أميركية

رائد وحش

قادة دول بريكس
قادة دول بريكس

ماذا يعني "بريكس" الشرق أوسطي؟

تتباين أجندات الدول المنضمة من المنطقة إلى بريكس بلس بشكل كبير يصل إلى حد التناقض، مقارنةً بأجندات الدول المؤسسة للمجموعة، التي تتسم هي الأخرى بالتباين

طارق الكحلاوي

جنود من الدروز يخدمون في الجيش الإسرائيلي

كيف نفهم خدمة الدروز والبدو في الجيش الإسرائيلي؟

انخرط الدروز والبدو الفلسطينيين في جيش دولة الاحتلال بسبب سياساتها الاستعمارية القائمة على تقسيم المجتمع الفلسطيني، واستغلال حاجة الأقليات/الجماعات الصغيرة للأمان والبقاء

هبة حمارشة

دونالد ترامب

ترامب رئيسًا.. هل أفسحت كامالا هاريس الطريق لعودته؟

يبدو أن أداء إدارة بايدن وهاريس كان بالنسبة للناخب الأميركي أسوأ من أن تكافأ بالتصويت لها من إعادة انتخاب ترامب

حسن زايد

ولايات الحسم السبع

ولايات الحسم السبع.. ما الحسابات التي قد ترجّح فوز ترامب أو هاريس في الانتخابات؟

أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة تقاربًا شديدًا بين كامالا هاريس ودونالد ترامب في الولايات السبع المتأرجحة، مما يصعّب التنبؤ بالفائز قبل اكتمال فرز الأصوات غدًا الثلاثاء

محمد يحيى حسني

المزيد من الكاتب

محمد يحيى حسني

كاتب موريتاني

مجتمع أسهل للضبط: تاريخ أسماء العائلات في الوطن العربي

​​تسهّل الأسماء العائلية ضبط المجتمع بتوليد الصلات وتثبيتها واختزالها وتحديد الانتماءات سواء كانت مستندة للقبيلة أو المكان الذي يُعبَّر عنه بمسقط الرأس

استهلاك اللحوم في الوطن العربي.. الجنس والاستعمار والذكورة

تلبّي التفضيلات في مجال الغذاء أغراضًا اجتماعية وسياسية تتجاوز الغذاء نفسه إلى رهانات أخرى ذات صلة وطيدة بثلاثي: الجنس، والحرب، والاستعمار

تاريخ الميني جيب عربيًا: من الموضة والطبقة إلى نوستالجيا ليبرالية

في السياق العربي مهدت مجموعة من التغيرات السياسية والمجتمعية لتقبّل موضة الميني جيب الوافدة سنة 1968، من قبيل ثورتيْ 1919 و1952 في مصر التي سُجّل فيها أول ارتداء للميني جيب

مسألة الدولة: نقاشات عربية في النظرية

يستكشف المقال مداخلة كل من عزمي بشارة وعبد الله العروي حول مسألة الدولة

شيء ما مفقود لا نعرفه.. التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للملل

الكائن البشري هو في صراع دائم مع طرفي معادلة الملل: التغلب عليه أو الاستسلام له

القوة في السياسة الدولية.. هل من إمكانية لتجاوز الواقعية؟

مفهوم "القوة" محوري لفهم سلوك الدول ضمن النظام الدولي، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وفهم الدوافع الجذرية التي تجعلها تتصرف بشكل عدواني وتنافسي