فاز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية ليكون الرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة، في واحدة من أكثر الانتخابات منافسة وصعوبة في تاريخ أميركا، والتي تأتي في ظل ظروف دولية وإقليمية غير مسبوقة، ولو أن ثقلها النوعي بالنسبة للناخب الأميركي لا يتجاوز ربما عتبة 20% مقارنةً بقضايا اقتصادية واجتماعية وسياسية داخلية، مثل ملفات الاقتصاد والهجرة والحقوق المدنية؛ إلا أنها تعتبر مصيرية بالنسبة لقضايا مثل الحرب الروسية – الأوكرانية، والنزاع مع إيران والصين، وطبعًا القضية الفلسطينية وقدرة إسرائيل على التوسّع في خططها.
ومع أن نهاية حقبة ترامب الرئاسية الأولى باقتحام أنصاره مبنى الكابيتول، وممارسة العنف والفوضى بشكل غير مسبوق، ومواجهته لعدة تهم جنائية، جعلت حظوظه في الفوز بالانتخابات الخاصة بالحزب الجمهوري أولًا، ثم الرئاسية تاليًا، أمرًا شبه مستبعد؛ لكن على ما يبدو أن أداء إدارة بايدن وهاريس كان بالنسبة للناخب الأميركي أسوأ من أن تكافأ بالتصويت لها من إعادة انتخاب ترامب.
ما الذي أطاح بكاميلا؟
من راقب الرئيس جو بايدن وهو يتحدث على التلفاز شعر بالتأكيد بالملل من بطئه وثقل لسانه وتأخره في تذكّر ما يريد قوله، هذا إن قاله بشكل صحيح. لكن هذا التأخّر طال حتى قراره في عدم الترشّح ومنح فرصة لوجه آخر ودماء جديدة لتنال ترشيح الحزب الديمقراطي، ولم يتخذه إلا بعدما تعرض لخسارة فادحة في مناظرته مع ترامب أمام ملايين الناخبين المرتقبين. وإلى أن تخلّى عن ترشّحه، كان منافسه قد قطع أشواطًا طويلة في التحضير ليوم الانتخابات، على عكس المرشّحة "البديلة" كامالا هاريس.
هاريس بدورها لم تكن أفضل حالًا من بايدن على صعيد الشعبية والرضا عن أدائها خلال السنوات الأربع الماضية. لكنها، بصفتها نائب الرئيس، كانت الأكثر جهوزية لدخول سباق الانتخابات في وقت متأخر، في الوقت الذي ترى فيه الدراسات أن قرار الناخب الأميركي هو نتيجة لصورة تراكمية عن المرشحين وليس نتيجة ظرفية للحظة الانتخاب. أي أن الفكرة السائدة عن المرشح هي الأساس في قرار الناخب، وليس المناظرات والدعاية لحظة الانتخابات، فهذه لم يكن لها طبقًا للدراسات الكمية إلا تأثير هامشي على خيارات الناخب الأميركي بين المتنافسين على الرئاسة، بحسب ما نشره أستاذ الدراسات الاستشرافية وليد عبد الحي.
وبالنسبة للناخب الأميركي، فإن ترامب "على علاته" قاد إدارة قوية للبيت الأبيض، وحقق أرقامًا جيدة على صعيد الوظائف والنمو الاقتصادي ومكافحة الهجرة غير الشرعية وغيرها من القضايا الأساسية للناخب الأميركي، على عكس هاريس التي كانت شبه غائبة وليس لها أي إنجاز يذكر.
على صعيد آخر، اتضحت شخصية كاميلا المتناقضة أكثر خلال حملاتها الانتخابية. فبينما بدأتها بالهجوم على شركات الأدوية الكبرى وول ستريت وطبقة الـ1% الأكثر ثراءً وتوعدتهم بضرائب عالية، ما لبثت أن تراجعت في الأسابيع التالية متراجعةً عن أي شيء يمكن أن يلمح إلى أجندة اقتصادية مناهضة للنخب الاقتصادية، وأي التزامات قدمتها بشأن تخفيض الأسعار وزيادة ضرائب الأرباح الرأسمالية. بل إنها، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، لجأت إلى أصدقائها في وول ستريت للحصول على استراتيجيات لحملتها الانتخابية ونصائح سياسية، وهو ما أضرّ بثقة الناخبين في مرشحة ليس لديها موقف واضح تجاه الوضع الراهن. وعندما سُئلت كيف ستختلف إدارة هاريس عن إدارة بايدن، قالت "لا شيء يخطر ببالي"، قبل أن تتراجع وتعلن أنها تخطط لتعيين وزير جمهوري في حكومتها.
يمكن القول إن هاريس قضت على حظوظها بيدها، فلم تكتفِ بكل الإخفاقات المذكورة، بل قررت قضاء الأسبوع الذي يسبق يوم الانتخابات في جولة على الولايات المعروفة بأنها ديموقراطية "الجدار الأزرق" لجذب المستقلين والجمهوريين المعتدلين، لكنها نسيت أن تأخذ معها أجندة فيها أي مقترحات سياسة، واكتفت بإطلاق التحذيرات بشأن ما يمكن أن يعنيه عودة ترامب مرة ثانية. وقد أشار استطلاع أجرته مجلة "جاكوبين" أن هذه الاستراتيجية كانت خطًأ كبيرًا عاد بنتائج سيئة على حظوظها مع كسب أصوات الفئة التي استهدفتهم.
إضافةً إلى كل هذا، فقدت هاريس الكثير من أصوات اتحادات النقابات، خصوصًا في الولايات المتأرجحة، لأسباب يتعلق بعضها بوجود عنصرية وتمييز جندري داخل صفوف العمال، لكن جزءًا كبيرًا منها مرتبط بتراجع هاريس عن وعودها فيما يتعلق بجشع الشركات وضرائب الدخل، وارتكابها لنفس خطأها في "الجدار الأزرق" عندما استبدلت استعراض رؤيتها بمجرد التهديد من عودة ترامب.
ووفقًا لمعظم الأميركيين، فإن الأجور لا تتناسب مع معدلات التضخم والغلاء. وبما أن هذا التراجع الاقتصادي حدث تحت إدارة بايدن، فإن العديد من ناخبي النقابات في الولايات المتأرجحة شعروا أنهم كانوا أفضل حالًا تحت إدارة ترامب، حتى لو لم يكن ذلك صحيحًا تمامًا، لكن كاميلا لم تبذل أي جهد لوضع أرقام تفند فيها هذه المخاوف، ولم تطرح أي سياسة تعد الناخب بحال اقتصادي أفضل.
وعلى صعيد السياسة الخارجية، فشل الديمقراطيون في إرضاء إسرائيل ومناهضيها على حد سواء، فإدارة بايدن وكاميلا لم تضع حدًا لأكبر مجازر جماعية وتطهير عرقي شهدها العالم منذ عقود، ولا كان أداؤها مرضيًا كفاية لحكومة الائتلاف اليميني في إسرائيل بإطلاق يد الأخيرة لتهجير الفلسطينيين وتهويد الدولة وتفكيك البرنامج النووي الإيراني. بل إن وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف، إيتمار بن غفير، صرّح لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية أن البيت الأبيض "يفيد حركة حماس"، وأن إسرائيل: "ستكون في وضع أفضل مع ولاية ثانية لدونالد ترامب".
هذا الهجوم من وزير إسرائيلي على إدارة بايدن تزامن مع نية معلنة من نتنياهو لدعم ترامب وحثه اللوبي اليهودي لانتخابه، ما تسبب بشق الصف في الجالية اليهودية التي عبّر كبار زعمائها عن غضبهم من تسميم إسرائيل علاقاتها مع المجتمع الدولي والحزب الديمقراطي وإحراج يهود الولايات المتحدة، فدعم جزء منهم هاريس بينما فضّل التيار الأكثر تشددًا تجاه الصهيونية دعم ترامب، في حين قاطع البعض الآخر الانتخابات، أو صوت لمستقلين.
وأدى توزّع الأصوات هذا إلى فقدان هاريس نسبة مهمة من الناخبين، إلى جانب الناخبين العرب الذين قرروا معاقبة الإدارة الأميركية إما بالامتناع عن التصويت، أو اختيار جيل ستاين أو ترامب. ومرة أخرى، تسبب تعدد شخصيات هاريس وتقلب آرائها في فقدانها ثقة الصهيونية والمناهضين لها، فتارةً توعدت بوقف إمداد السلاح لإسرائيل، وتارة أخرى أكدت دعمها المطلق لها، لتفقد في النهاية الطرفين.
كيف سيعود ترامب؟
يمكن القول إن اللحظة التي سخر فيها الرئيس الأسبق باراك أوباما من دونالد ترامب في أحد المؤتمرات أمام الملأ، كانت اللحظة التي جلبت ترامب إلى البيت الأبيض للمرة الأولى. حينها، قال أوباما أمام الجمهور وبحضور ترامب إن وصول الأخير إلى البيت الأبيض يعني تحويل البيت الأبيض إلى كازينو. ضحك الجمهور وغادر ترامب مبكرًا، وقرر الترشح لانتخابات 2016.
كانت الغالبية العظمى من الناس في حينها تعتبر ذلك مجرد مزحة من رجل مشهور بالظهور الإعلامي الترفيهي، حتى داخل الحزب الجمهوري لم يأخذ أحد الأمر بجديّة. إلا أن ترامب بدأ في تقديم حملته بطريقة "ذكية" أجبرت السياسيين والناخبين على الاهتمام بما يفعله، فتفنّن بخطاباته الهجومية المعتمدة على توجيه الإهانات المباشرة لمنافسته هيلاري كلينتون، فالشعبوية التي ارتبطت باسمه جعلت منه ظاهرة قريبة من الناس وهموم المواطن، ولو أنها في باطنها تخدم مصالح النخب الاقتصادية وأصحاب رؤوس المال.
لكن تركيزه على التحدث إلى الناخب من منطلق "فلنجعل أميركا عظيمة مجددًا"، واللعب على وتر الدين مع شعب غالبيّته من المسيحيين البروتستانت والبيض، أو المهاجرين الفارين من أنظمة اشتراكية علمانية، وإخبارهم عن أهمية الأسرة و"السيطرة الدينية"، وأن "أميركا ستكون أكثر قوة إذا عادت إلى الكنيسة"؛ فإنه غطّى ببساطة على عدم خبرته السياسية كونه رجل صفقات بلا سياسة، وأنه لم يكن يومًا جمهوريًا أو متدينًا حتى.
منذ دخوله إلى البيت الأبيض عام 2016، صوّر ترامب نفسه على أنه بطل للناس العاديين يقاتل ضد "مؤسسة غير وطنية تهدف لتدمير المجتمع وقيمه"، مستفيدًا من سيطرة الديمقراطيين على مراكز القيادة في العديد من المؤسسات في الحكومية والقانونية والخيرية والإعلامية والأكاديمية والصناعية، وحتى المالية. وطالما كانت المشاكل التي يعاني منها المجتمع الأميركي مرتبطة بهذه المؤسسات، فإن ترامب نجح باستقطاب مشاعر العداء لهذه النخب، فسمح الديمقراطيون لترامب بالاستيلاء على الراية الشعبوية في حين كانت سياساته الاقتصادية أكثر فائدة لصالح الشركات الكبرى من تلك التي يتبناها الديمقراطيون، وهو ما يكشفه مشروع 2025 الذي أعدهه فريق ترامب، والذي يتجه نحو تشديد القوانين المتعلقة بالعمال المهاجرين، والتحرك نحو فرض شرط أن يكون 95% من موظفي المتعاقدين الفيدراليين من المواطنين الأمريكيين، وتخفيف القيود التنظيمية لمكافحة التمييز وتخفيف القوانين المتعلقة بالأجور الإضافية وتخفيف القيود على عمالة الأطفال وتشجيع بدائل للنقابات العمالية.
ليس من السهل تحديد ما ستكون عليه سياسة دونالد ترامب خلال ولايته الرئاسية الثانية، حيث يميل إلى إطلاق الأفكار التي تطرأ على ذهنه بشكل عشوائي وله مواقف متناقضة كثيرة، ومن أهم الأمثلة عليها تغيير موقفه من العملات المشفرة. فبعد ستة أشهر من مغادرته منصبه، وصف ترامب عملة البيتكوين بأنها "احتيال"، وأن الدولار هو "عملة العالم" ويجب أن يبقى كذلك، معتبرًا العملات المشفرة عالمًا مليئًا بالجريمة و"قائمًا على الوهم".
لكن في تجمع للبيتكوين في ناشفيل بولاية تينيسي في تموز/يوليو 2024، أشاد ترامب بالعملة واعتبرها: "معجزة من معجزات الإنسانية"، ووعدَ المشاركين بأن يجعلها "تحلق لأعلى مما تتوقعون"، بل وانجرف في حماسته ليتحدث عن سداد الدين الوطني البالغ 35 تريليون دولار باستخدامها، على الرغم من أن قيمتها السوقية الإجمالية تبلغ حوالي 1.1 تريليون دولار فقط.
على صعيد أكثر وضوحًا، تقع ضريبة الدخل في صميم الأجندة الاقتصادية لترامب، والتي تدفع العديد من الرأسماليين لتجاهل تقلباته نتيجة لإيمانه الفعلي بخفض الضرائب على الأرباح، وكان قد اقترح فرض تعريفة بنسبة 10% على جميع الواردات، و60% على الواردات الصينية. وفي اجتماع مع الجمهوريين في الكونغرس في حزيران/يونيو الفائت، اقترح إلغاء ضريبة الدخل تمامًا واستبدالها بزيادة كبيرة في التعريفات الجمركية، بينما تشير الحسابات التقريبية إلى أن فرض ضريبة بنسبة 60% على الواردات الصينية و10% على جميع الواردات الأخرى لن يعوض عن إيرادات ضريبة الدخل المفقودة، حيث لن تشكل دخلًا أكثر من 28% من ما توفره ضريبة الدخل.
ووفقًا لمحاكاة "معهد بيترسون" لهذه المقترحات، سيخسر الخُمس الأفقر من السكان حوالي 9% من دخولهم، بينما سيخسر الخُمس الأوسط نحو 5%، في حين سيحصل 1% الأعلى دخلًا على زيادة قدرها 14% في دخولهم. وتشير "مؤسسة سياسات أميركا أولًا"، وهي مؤسسة توصف بأنها "البيت الأبيض البديل لترامب"، إلى توجهات الولاية الثانية له على الصعيد الاقتصادي، والتي ستتركز على مجالات التنقيب، وإزالة القيود على الأرباح والتجارة، وتخفيض الضرائب، وتقليل الإنفاق، وتعزيز السياسة النقدية بعيدًا عن السياسة المناخية ووقف دعم النقابات الفيدرالية ورفع التعريفات الجمركية، وهي جميعها أمور ستدمّر اقتصاديًا الناخب الذي جذبه خطاب ترامب أو قرر معاقبة هاريس. وبالضرورة، ستمسّ بشكل موجع الديمقراطية، ليس فقط في أميركا بل في العالم بأسره، خاصةً بوجود جيه. دي. فانس كنائب للرئيس، وهو شخص يحب ربط مشكلة والدته مع المخدرات بسياسة الهجرة في الولايات المتحدة، وأنه كاد أن يفقد والدته بسبب السم الذي يعبر عبر الحدود، ويلوم كامالا هاريس على نقل وظائف البيض إلى شعوب في الصين والمكسيك، وإيلاء المهاجرين غير الشرعيين عليهم فيما تبقى من الفرص "عندما لا يكونون مشغولين بقلي قططهم" على حد وصفه المفرط في العنصرية، دون أن ننسى أن فانس مدعوم من ملياردير التكنولوجيا بيتر ثيل الذي يرى أن الديمقراطية انتهت.
على صعيد السياسات الخارجية، فإن عودة ترامب لا تعني بالضرورة ما تأمل به إسرائيل من اختفاء مشاكل شحنات السلاح والقضايا الإنسانية المرتبطة بجرائمها في غزة ولبنان. ويرى المحلل العسكري الإسرائيلي رون بن يشاي أن ترامب يحمل الكثير من التحفظات على نتنياهو والتناقضات من الحرب على غزة. ففي البداية أيد الحرب ثم قال إنه يجب على إسرائيل إنهاء الحرب الآن، ثم عاد وأيد استمرار الحرب وتدمير حركة "حماس".
من هنا، فالمشكلة الكبيرة معه هي أنه لا يُعرف على أيّ جانب سيستيقظ كل صباح، لكن من الواضح أن جاريد كوشنير سيعود مع ترامب، وهو إلى جانب كونه مهندس "اتفاقيات أبراهام"، فإنه أيضًا أكبر داعية إلى إظهار القوة الأميركية في منطقة الخليج والشرق الأوسط.
إلى جانب ذلك، أكد ترامب أن لديه "فكرة معينة" تتعلق بالصين دون تقديم تفاصيل إضافية، مؤكدًا أن الحفاظ على سرية خططه هو جزء من إستراتيجيته. كما وعد ترامب بإنهاء الحرب الروسية الأكرانية عبر "خطة محددة للغاية" رفض الكشف عن تفاصيلها، مفضلًا إبقاءها "مفاجأة".
وهاجم الرئيس الأوكراني متهمًا إياه بـ"رفض إبرام اتفاق" مع موسكو، فيما أشار نائبه فانس إلى أن الخطة قد تشمل إنشاء "منطقة منزوعة السلاح" ضمن الأراضي الأوكرانية التي تحتلها القوات الروسية في الوقت الحالي، ومحافظة كييف على استقلالها مقابل الحياد والتراجع عن سعيها للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو" أو غيره من التحالفات.