كان لوصول باراك أوباما إلى المكتب البيضاوي، كأول رئيس من أصول إفريقية، أثر في تصدير صورة مشرقة لغرب ديمقراطي يوفّر الفرص بالتساوي للجميع، ثم صار بعدها وجود "الملونين" في المناصب الكبيرة، وفي واجهة العمل السياسي في الغرب، أمرًا مثيرًا لدهشة القابعين في دكتاتوريات وأنصاف ديمقراطيات جنوب العالم، ومحفزًا لهم – بالتزامن مع ظروف الحياة الصعبة وغياب السلم وانتشار الصراعات – للهجرة والبحث عن فرص في هذا العالم متكافئ الحقوق والواجبات.
لكنّ ثمّة منظور آخر للقضية لا يأخذ تغطية كافية، وربّما كان للوجوه الملوّنة الجديدة التي تلت أوباما فضل كبير في تسليط الضوء عليه، ألا وهو أن هؤلاء المنحدرين من أصول جنوبية لم يصلوا إلى سدة الحكم والمواقع الرسمية المتقدّمة لأنهم يحملون آراءً وسياسات مناهضة للنّفس الغربي الاستعماري، بل لأنهم يمثّلون سياسات الغرب ذاتها ويستميتون في الدفاع عنها، أي أن التنوّع المحتفى به ما هو إلا تنوع بصري وليس أيديولوجي.
يمكن بسهولة ملاحظة أنه، ورغم مرور عقود على إلغاء قوانين الفصل العنصري في أميركا، إلا أنه لا يزال مصطلح "أول" مقترنًا بتعيين الملونين والمهاجرين في المناصب العليا، فكان كولن باول "أول" رئيس هيئة أركان من أصول إفريقية في عهد بوش الأب بعد 23 عامًا من انتصار "حركة الحقوق المدنية"، و"أول" وزير خارجية لا ينتمي للبيض في عهد بوش الابن، أي بعد أكثر من 30 عامًا على إلغاء التمييز العنصري رسميًا، وأن خليفته كونداليزا رايس "أول" امرأة من أصول إفريقية تشغل منصب وزيرة الخارجية، وأن أوباما "أول" إفريقي يصبح رئيسًا للولايات المتحدة، ونيكي هيلي "أول" حاكمة هندية لولاية كارولينا الجنوبية.
والمفارقة أن جميع هذه الشخصيات تشترك بولائها المطلق لإرث السياسة الأميركية، على عكس ملوّني البشرة في "الجناح اليساري" في الحزب الديمقراطي من أمثال إلهان عمر ورشيدة طليب وأليكسندريا كورتيز، المهمشات سياسيًا والمتهمات تارةً بدعم الإرهاب وتارةً بمعاداة السامية وتارةً أخرى بالماركسية، لكونهنّ على خلاف ونقيض تام مع السياسة الأميركية.
وفي بريطانيا، كان رئيس الوزراء السابق ريشي سوناك "أوّل" رئيس حكومة من أصول هنديّة، وعيَّن في فريقه سويلا برافرمان وزيرة للداخلية، وهي "أوّل" وزيرة داخلية من أصول هندية أيضًا. ويمكن لنظرة سطحية أن تحسم بأن هذه النماذج تعبير عن ديمقراطية الغرب والتنوع في الحياة الحزبية والسياسية فيه، وتساوي الفرص أمام الجميع بغض النظر عن الدين والعرق والجنس. لكن ثمّة منظور آخر أكثر عمقًا يشرّح هذه الظاهرة ويكشف عن نمط ثابت وراء بروز هذه الشخصيات، يتعدى لون البشرة والانتماء لعائلات مهاجرة، وهي أنهم غربيّون وكولونياليون تجاه "العالم الجنوبي" الذي ينحدرون منه، وأنه ليس من بينهم أي شخصية لديها سياسات مناهضة لممارسات الغرب، بل إنهم يعبّرون عن عنصرية اليمين الأميركي أكثر من العرق الأبيض وكأنهم يردّون للبيض الجميل بالسّماح لهم بالوصول إلى هذا المكان.
من منظور أيديولوجي أميركي، قد يُحسب أوباما على "اليسار" وربمّا يتّهم بالماركسية من قبل التيار اليميني المحافظ، ولكنه عمليًا أثبت خلال سنوات حكمه وما تلاها، أنه ليس بعيدًا أبدًا عن سياسات أميركيا الاستعمارية والليبرالية الحديثة، ويمكن بسهولة هدم الصورة المشرقة التي بناها العديد من الليبراليين عنه والتي تزعم بأنه كان "تقدميًا محاصرًا بالقيود السياسية التي تفرضها الرئاسة".
وبدلاً عن هذه السردية الخيالية، وعلى العكس تمامًا، يمكن إثبات أنه مدافع شرس عن الوضع الراهن، ذلك أن مرحلة ما بعد الرئاسة تقدّم الكثير من الأدلّة عن شخصية أثارت إعجاب الكثيرين، خصوصًا في جنوب العالم، فهو الآن متحرر من قيود الرئاسة ويتحدث بحريّة ويفكّر بما يؤمن به، وينطق بذاته الحقيقية متحررًا من الضرورة المؤسسية التي ادعى أنصاره أنها كانت تخنقه، فلا نجد منه إلا إدانة صريحة لـ"الجناح اليساري" في الحزب الديمقراطي، وعبّر في أكثر من مناسبة عن مخاوفه من أن الإرث السياسي الأميركي "في خطر نتيجة من يقفون على يساره"، متخذًا بذلك موقف الجمهوريين وتياراتهم اليمينية.
وهناك، في أقصى يمين الحزب الجمهوري، تتعمّد نيكي هيلي الإشارة إلى العبوديّة في خطاباتها ولقاءاتها، وتُرجع الحرب الأهلية الأميركية لأسباب مبهمة وعامّة مرتبطة بـ"حقوق الشعب مقابل تصرفات الدولة"، محاولةً التحايل على حقيقة أن العبوديّة والصراع على قوى العمل كانت وراء الحرب. كما تتجنّب أي إشارة تتعلّق باسمها الهندي الأصلي "نيماراتا رانداهاوا"، ولا تترددّ أبدًا في تبني خطاب اليمين الأبيض ونفي تهمة العنصرية عن أميركا بالمطلق، رغم أن خصمها في انتخابات الحزب الجمهوري دونالد ترامب أعطاها المسوّغات لانتقاد العنصرية البغيضة على طبق من ذهب، عندما استخدم اسم ميلادها الهندي للإشارة لها بسخرية أثناء حملته الانتخابية الأخيرة.
هذه ليست المرّة الأولى التي تضع هيلي نفسها في موقف دفاع عن الغرب بشكل محرج ومبالغ فيه. فأثناء عملها في الجمعية العامة، دفعت رئيسة لجنة الأمم المتحدة للاستقالة بسبب ذكرها لوجود فصل عنصري في إسرائيل، كما تفخر بأنها أول حاكم ولاية يوقّع تشريعًا لحظر حركة مناهضة إسرائيل "بي دي إس"، الأمر الذي جعل إسرائيل أول مرحب بترشيحها لمنصب سفيرة الأمم المتحدة.
وفي خطاب تثبيتها سفيرة للمنصب الأممي، قالت: "لن أذهب إلى نيويورك وسأمتنع عن التصويت عندما تسعى الأمم المتحدة إلى خلق بيئة دولية تشجع على مقاطعة إسرائيل". واستخدمت هيلي حق النقض "الفيتو" ضد مشروع قرار السفير الكويتي الداعي إلى توفير حماية دولية للشعب الفلسطيني. كما شككت بأعداد اللاجئين الفلسطينيين، واتهمت وكالة "الأونروا" بالمبالغة في أعدادهم، وأعلنت رفضها عودتهم إلى أراضيهم، ليصفها الصّحفي الإسرائيلي جدعون ليفي في مقاله بصحيفة "هآرتس" بأنها "جاهلة بالقضية الفلسطينية"، و"أكثر إسرائيلية من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو".
بالعودة إلى أوباما الكاريزماتي الليبرالي، فإنه لا يمكن فهم مواقفه وتصريحاته المعادية لليسار والداعية لتقويضه، إلا كداعم ليمين الوسط النيوليبرالي. فالرجل ذو الأصول الكينية أيّد الرئيس الفرنسي القادم من يمين الوسط، إيمانويل ماكرون، أثناء موجة احتجاجات السترات الصفراء وحربه على المهاجرين، ودعم تيريزا ماي ليلة انتخابات 2017 للتقليل من التوقعات الانتخابية لحزب العمال، ودعم سياساتها بما فيها من خطط مناهضة للهجرة، إضافةً إلى مواقفه في السياسة الخارجية المناقضة لخطابه الليبرالي الحقوقي، وتقرّبه من السعودية أثناء حربها على اليمن وعقده صفقة أسلحة قياسية وصلت إلى 60 مليار دولار آنذاك، وأنه عرَّاب استخدام "الدرونز" التي تضاعف استخدامها في عهده عشرة مرات "563 ضربة"، مقارنةً بسلفه الجمهوري بوش الابن "57 ضربة"، والتي تسببّت بمقتل عشرات المدنيين والأبرياء في أفغانستان والعراق تحت ذريعة استهداف "خلايا إرهابية". وبالتالي، فإنه لا شيء في سياسات باراك حسين أوباما يخالف سياسات الغرب تجاه أبناء جلدته.
وعلى نحو أكثر فظاظة، تحتقر نيكي هيلي المهاجرين وتتوّعد في خطاباتها – قبل انسحابها من سباق الانتخابات – بالحد من أعدادهم، مرّوجةً بذلك للخطاب ذاته الذي استعملته وزيرة الداخلية البريطانية السابقة سويلا برافرمان – والتي للمفارقة تتشارك مع هيلي كونها من أصول هندية – التي وصمت المهاجرين بأنهم "غُزاة متحرّشون"، وشاركت في وضع قوانين معادية لهم ودعمت خططًا لتوجيه تهم جنائية لهم وترحيلهم بالقوة إلى رواندا، كما أعلنت علانية رفضها التنوع الثقافي كونه "خطر على أوروبا"، وهاجمت شرطتها بوحشية المظاهرات المناصرة لفلسطين، وكانت هذه آخر ممارساتها السياسية التي تسعى من خلالها لمحو ما تبقّى من عرقها المهاجر والتصرّف كبريطانيّة صافية، قبل أن تُقال من منصبها.
قصة ريشي سوناك تعبّر كذلك عن سياسي آخر وصل أبواه إلى بريطانيا قادمين من المستعمرة الهندية جنوب العالم، لكنّه وعلى نحو متوقّع من شخص اتجه لعالم المال والأعمال، تبنّى القيم المحافظة للنخبة الحاكمة أكثر من تعبيره عن رؤيته السياسية لمشاكل الجنوب الذي ينحدر منه. كما تبنّى سياسة صارمة ضد المهاجرين رغم أنه "أول" رئيس وزراء بريطاني من أصول مهاجرة، فدخل البرلمان بخطة لإرسال طالبي اللجوء إلى رواندا في إعادة تمثيل للسياسة الاستعمارية التي احتلت بلده الأم من قبل، كما حولت سياسته ضد الهجرة والمهاجرين الدولة البريطانية إلى أدوات إنفاذ قانون متطرّفة تفضّل موت الناس غرقًا في البحر على أن يصلوا إلى أراضيها.
قاسم مشترك آخر نجده بين سوناك والنماذج السابقة، وهو دعمه منقطع النظير لأسوأ وأوضح أشكال الكولونيالية المعاصرة وهي الاحتلال الإسرائيلي، بدءًا من موقفه الرافض لوقف إطلاق النار والمخالف لأكثر من 70% من موقف الشعب البريطاني، وصولًا إلى التحريض الديني والعرقي ضد الداعمين لفلسطين كما حدث عندما سخرَ من نائبة مسلمة طالبت بوقف إطلاق النار في غزة ناصحًا إياها بالتوجّه في حديثها إلى "الحوثيين" و"حماس" بدلًا من توجيه الكلام لإسرائيل، في إشارة للخلفية الدينية للنائبة.
ومثل هيلي، يتبنى سوناك سياسة صارمة ضد المهاجرين عندما كان على رأس منذ تولّيه وزارة الخزانة حيث وافق على تمويل الجهود الحكومية لمنع وصول اللاجئين عبر البحر، ولم يعارض قانون الحدود الذي يسمح بسحب الجنسية من أي بريطاني دون إخطاره، إضافةً لتشاركه معها دعمه المستميت لإسرائيل منذ توليه منصبه، فقد عبّر في تمّوز/يوليو 2023 صراحةً عن تأييده المطلق لـ "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد المنظمات الإرهابية"، ودعمًا للحرب التي شنتها إسرائيل على غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، قام بزيارة تضامنية إلى تل أبيب ونشرَ تغريدة قال فيها: "إنني أحزن معكم وأقف معكم ضد شر الإرهاب، اليوم ودائمًا".
مفارقة أخرى نجدها في سوناك وهي علاقته الوطيدة مع حزب رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، والمنحدر من تراث فاشي يروج لـ"نظرية الاستبدال العظيم" ويحتقر الأعراق "الأدنى" التي ينحدر منها سوناك. وعندما زارت ميلوني لندن في نيسان/أبريل 2023، طلب فريق سوناك تأييدها لخطته لإرسال طالبي اللجوء المرفوضين إلى رواندا بغض النظر عن بلدهم الأصلي. وبدورها، التزمت ميلوني بذلك وتطوّعت بإضافة تعليق أن كلمة "الترحيل" لا تنطبق ببساطة على إبعاد المهاجرين الذين وصلوا بشكل غير قانوني. وتجد آراء ميلوني وسوناك المتطرفة بشأن الهجرة، وبسهولة، قبولًا في أوساط الأوروبيين اليمينيين والوسطيين حتى، على أمل أن ينتج عن دعايتهم القائمة على كره الأجانب كتلة سياسية قبل الانتخابات الأوروبية في حزيران/يونيو القادم.
في فرنسا، هناك رئيس الوزراء السابق غابرييل آتال، سليل أسرة يهودية مهاجرة من تونس، الذي لم يصبح مجرّد "أوّل" رئيس وزراء من المهاجرين بل أيضًا "أصغر" رئيس وزراء (35 عامًا)، و"أوّل" رئيس وزراء مثلي؛ ثلاث صفات اقترنت به دفعة واحدة مع تقلّده المنصب في بلاد يستشري فيها اليمين المتطرّف.
صاحب الخلفية السياسية اليسارية منذ صغره، والذي انضم في سن الـ17 إلى صفوف الحزب الاشتراكي ودعم مرشحته الرئاسية آنذاك سيغولين رويال في الانتخابات الرئاسية عام 2007، وجد في التحوّل من الاشتراكية إلى يمين الوسط فرصًا أكبر للنجاح، فانضمّ إلى حركة ماكرون "إلى الأمام" في عام 2016 وانتُخب عضوًا في الجمعية الوطنية عام 2017، قبل أن يصبح أخيرًا رئيسًا لحكومة يمينية على خجل لكنها تسترضي اليمين المتطرّف الذي، وللمفارقة، يعادي المهاجرين والمثليين – كما هو حال غابرييل – إذ صوّت حزب ماكرون في كانون الأول/ديسمبر 2023 لصالح التعديلات القانونية الأكثر صرامة ضد المهاجرين الذين ينحدر منهم غابرييل، والتي تمنع المهاجرين المقيمين في فرنسا من إحضار عائلاتهم إلى البلاد، ويميّز بين المواطنين والمهاجرين – حتى الشرعيين منهم – في تحديد الأهلية للحصول على مزايا الرعاية الاجتماعية.
إن الحلم الأميركي بحد ذاته قائم على إطلاق إمكانيات المهاجرين، ولم يسبق أن تقلّد أي مواطن أصلي منصبًا رئاسيًا أو وزاريًا أو قياديًا في الحزبين الحاكمين. لكن هذا الحلم يتحدّث عن مهاجرين بيض حصرًا، وما كولن باول وكونداليزا رايس وباراك أوباما ونيكي هيلي إلا مهاجرين نجحوا في إقناع المهاجرين البيض أن لون بشرتهم ليس عائقًا أمام إطلاق قدراتهم لحماية الوضع الراهن للحلم الأميركي. وهذا ينطبق على كل نماذج المهاجرين الذين تقلّدوا مناصب عليا في أوروبا أيضًا، والذين كان عليهم ليصلوا إلى هنا برهنة أنهم على أتم الاستعداد لردّ الجميل للمواطن الأوروبي الذي سمح لهم بالوصول إلى ما هم عليه، وأنهم خرجوا من منازلهم في موطنهم الأصلي وأغلقوا الأبواب، بل وعلى من فيها إلى الأبد، وعلى استعداد لخنقهم فيها إذا تطلّب الأمر.