كم يبدو لبنان لغزًا! صغير في حجمه لكنه شديد التأثير. ضعيف في كل ما يظهر منه لكنه قوي إلى الحد الذي احتمل قرنًا كاملًا من عمره لم يعرف فيه سوى العواصف والأزمات.
عرفناه بلدًا يتحدى ويعيش، وعرفناه معقلًا للحريات في محيط يطغى عليه القمع والتحريم. يغري الحالمات والحالمين فيجذبهم بنداءات الحرية والجماليات الفنية التي لا يتوقف عن إطلاقها. يوصم أحيانًا بالعنصرية والتعالي. ويُستعمل كمثال على فداحة الانقسامات، ولعلَّ "اللبننة" التي اشتقت من اسمه هي أول كلمة تهديدية في هذا المجال في العربية.
مسرح التناقضات؛ بلد الحرية والانفتاح، وهو أيضًا بلد المآسي والانقسامات. لوحة متعددة الطبقات والألوان يتجاور فيها الشعر والموسيقى مع البؤس السياسي والمذابح. وفي تاريخه أمثلة فريدة على التعايش الاجتماعي مع التوتر الطائفي.
لبنان متعب ومضطرب وفوضوي وهشّ.. لكنه ساحر!
وبعيدًا عن الشكل الشائع للحرية التي يقصدها الجميع حين يذهبون إلى تقريضه، من حيث إنه مركز دائم للصحافة والكتب التي لا يمكن نشرها في دول أخرى، وحاضنٌ وفيّ لإنتاجات الأدب الجريئة وأعمال المفكرين الهاربين من قيود الرقابة في بلدانهم الأصلية؛ بعيدًا عن ذلك كله، يأخذ التحرّر الاجتماعي في لبنان منحى مريحًا وإنسانيًّا، ومن اللباس والأكل والشراب إلى الأفكار، تتعايش القيم الفردية والأحلام الجماعية في شوارعه وفضاءاته مثلما تعيش الكائنات الحية في بيئاتها الطبيعية.
بيروت أكبر من كونها عاصمةً لبلد، تؤدي وظائف إدارية واجتماعية. هي رمز ومثال للمدينة الحديثة في العالم العربي، الذي لم يعثر ناسه بعد على فضائهم المديني الذي يستطيعون فيه أن يكونوا ما يريدون دون أقنعة.
وفي قلب ألبوم صور لبنان تبرز صورة نسائه، اللواتي تميزن بالشجاعة في ساحات العمل والحياة العامة والخيارات الشخصية، خاصة خلال الحرب الأهلية. وبفضل هذه التجربة والإرث النسوي الراسخ، أصبحت اللبنانية تساهم بفاعلية في جميع جوانب الحياة، دون أن تُحاصر في الأدوار التقليدية التي تخنق النساء في المجتمعات الأخرى. في شوارع بيروت، تراهن يسرْنَ حرّاتٍ تمامًا دون اكتراث بأية محاكمات أخلاقية، وكأن كلًّا منهنّ تقول: هذا ليس استعراضًا، بل فعل سياسي مدفوع بالإصرار على الحق في التعبير الشخصي، وأنّ الجسد ليس أداة للسيطرة بل مساحة للتحرّر والاختيار.
منذ عقود طويلة، وبيروت مفتوحة للجميع بغض النظر عن الخلفيات. وسوى استقلالية النساء ومشاركتهن الفارقة في الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية، تتمتع الفئات المهمشة جنسيًا بقدر أكبر من الحضور العلني مقارنةً بغيرها من العواصم المحيطة.
صورة لبنان الأشهر أنه جنة. فلا يمكن لأحد الحديث عنه بمعزل عن صوره الشعرية الفردوسية، وهي صورة واقعية لا مجازات فيها، فجباله الشاهقة، وسواحله المتنوعة، وسهوله وكرومه الملوّنة بألوان مزروعاتها.. تدخل بقوة في هوية لبنان، وأغنية فيروز التي تقول: " لبنان يا أخضر حلو" لا تفتري على الواقع، ومثلها ذلك البيت الشعري الذي خرج خطأ من فم شاعر نازي مثل سعيد عقل: "ربّي.. سماك الـ فوق حلوة/ بس ظلّك تذكر شو حلو لبنان!".
لطالما كانت الفنون والأدب في صميم الهوية اللبنانية، إذ قدمت هذه الأرض شخصيات خالدة في تاريخ الأدب والفن، حتى بتنا نمزج بين شكل البلد وشكل القصيدة والأغنية.
وما كان لتداخل الأدب والموسيقى إلا أن يشكّل وعي لبنان وهويته. ينعكس ذلك في لغة اللبنانيين اليومية التي تتسم بالمجازات العميقة والذكية، ويظهر بقوة في فن الزجل الذي يعكس غنى وجمالية الثقافة الشعبية.
ويمكن أن نزيد ونتحدث بلا كللٍ عن تحديث الفنون والكتابة هنا، فأدباء المهجر، وعلى رأسهم جبران ونعيمة، أسّسوا لمرحلة جديدة من الأدب العربي حملت هويتها الخاصة، وجمعت بين التراث العربي والأفكار الحديثة. وذلك استكمال للدور الريادي والنهضوي المتواصل منذ نهايات القرن التاسع عشر، الذي برز فيه بطرس البستاني كأحد الأقطاب الرئيسيين في النهضة العربية في عمله متعدد الاهتمامات وسعيه الدؤوب لجعل المعرفة في متناول الجميع، بغض النظر عن الدين أو الجنس. فالرجل آمنَ بضرورة التعليم كوسيلة للنهضة والتعددية كقاعدة للوحدة، وأسس مشاريعه حول هذه المبادئ. ترك البستاني إرثًا ثقافيًا وفكريًا يتجاوز حدود لبنان ليصبح أحد أركان النهضة الفكرية في العالم العربي.ومثله لعب أحمد فارس الشدياق دورًا محوريًا في تطوير الصحافة والأدب واللغة العربيين، وأسّس صحيفته "الجوائب" التي فتحت نقاشات بالغة الأهمية. نقد الحكم المطلق، ودعا إلى التعدد، والعدالة الاجتماعية، ودعم المرأة، وكان مثالًا في التسامح والانفتاح.
ينقل الكاتبان عزيز العظمة وفواز طرابلسي هذه القصة في مقال نشر في مجلة "الناقد": "يروي السياسي السوري المخضرم فارس الخوري أنه كان في الثامنة عشرة من العمر عندما وصلت رفات أحمد فارس الشدياق إلى بيروت. فتنازع المسلمون والمسيحون من يصلي عليه وأين يدفن. فقرّ الرأي أخيرًا على تشييعه من قبل رجال الدين نصارى ومسلمين معًا، ودُفن حيث أوصى: في الحازمية، تلك الفسحة الحيادية بين شطري جبل لبنان المسيحي والدرزي". ثم يضيف المقال: "تدل هذه الحادثة على مقدار استعصاء الشدياق على التصنيف المبسّط من تصنيفات الهوية السائدة، وعلى مدى ما يثيره شخصه وسيرته ونتاجه من استفزاز وجدل. فهذا اللامنتمي، أو قل المتضارب الانتماءات، المعاكس والمشاغب أبدًا، وُلد مارونيًّا وانحاز إلى مذهب البروتستانتيين. وهو إذ ينقلب على المذهبين ويُبلور منظورًا ماديًّا متشككًا في شؤون الماورائيات، يفاجئك باعتناق الإسلام". وتكاد تلتبس علينا الأمور فنخلط الرجل بلبنان نفسه، ففي السيرتين ما يتطابق ويتماهى إلى حدّ محو الفروق.
مع فيروز والأخوين رحباني، يظهر لبنان معقلًا للإبداع المتجدد. فيروز لم تتميز بصوتها وحسب، بل بغوص كلمات أغانيها في الأعماق البشرية، وتعبيرها عن الحياة بحلوها ومرها، وقدرتها على أن تعكس بمنتهى معاني الحب والأمل والحنين، مع الكثير من الرسائل الاجتماعية. أما الأخوان رحباني فتميزا بقدرة سحرية على خلق موسيقى من عمق أرياف جبل لبنان، أو استلهامها من تراث العالم و"لبننتها". كأنهما عاملان على طريق مفتوح يأخذان فيه لبنان إلى العالم أو يجلبانه إليه. وكل ذلك في مادة وحيدة نعرفها ونعيش معها، لكنها من بين أيديهم نعود إلى سر أسرار الوجود: "العالم صوت".
في المسرح الرحباني، استُخدم الفولكلور والتاريخ الاجتماعي لنقد الطائفية والانقسامات السياسية والسلطة، واتخذت المسرحيات شكلًا أقرب إلى رحلات رمزية من أجل تعزيز الهوية اللبنانية.
أما سليلُهم زياد الرحباني فغرقت أغانيه وموسيقاه في أوحال المدينة والحداثة، مجسِّدًا الواقع ولغته واضطراباته، في حين عمل في مسرحياته على تقديم نقد لاذع للطائفية والحياة اللبنانية اليومية.
ولعل الفارق هو أن الأولَيْن قدما الملحمة، بما فيها من رمزية ومثالية، بينما سعى الأخير إلى طرح رواية حديثة، ملأى بالتفاصيل والتناقضات والعيوب الإنسانية، كما يشير الناقد كريستوفر ستون. هذا التنوع لا يختلف عن لبنان نفسه، فهو رغم كل مخاضاته العسيرة ظلَّ مصرًّا على الجمع بين الأسطوريّ والواقعيّ، بين المستحيل والممكن، ومستمرًا في خلق نفسه من جديد، كما يفعل منذ الأزل.
وكثيرًا ما يتساءل محبو زياد، وهم تيار واسع وممتد، كيف ابتكر هذه الطريقة الفريدة في السخرية؟ وكيف استطاع الوصول إليها بهذه السلاسة والعذوبة؟ وتتضارب الإجابات بين من يردها إلى تكوينه السياسي اليساري، أو من يجد الحل في ربطها بعبثية حياته الشخصية. في حين أن الإجابة التي تبدو متوارية ومخفية هي في كل مكان في لبنان، ومن يحمل السؤال ويزور أحد أقاليمه سيجدها تخرج بعفوية ومباشرة من معظم اللبنانيات واللبنانيين.
ببساطة شديدة، ما فعله زياد هو أنه كان لبنانيًا إلى الحد الأقصى، فتطبّع بهذه الروحية حتى صار جزءًا منها، وليس العكس.
ولبنان يبقى مركز تحديث الحياة ونفض الغبار عنها. فيه تحولت ثقافة الترفيه إلى جزء من هويته الثقافية. وفيها كان جريئًا على الدوام في تجاوز المحظورات. إلى وقت طويل كانت صناعة السينما العربية الهاربة من الرقابة تتم فيه. كثير من الأفلام الإشكالية والجريئة وجدت في بيروت متنفسًا لصنّاعها. كما كانت بيروت منصة للعديد من نجوم الساحة العربية. وفي لبنان وضعت قواعد الإعلام العربي منذ عصر الفضائيات، وفيه صيغت أسس الترفيه.
وجد عالم الأزياء، البعيد نسبيًّا عن الأجواء العربية، في بيروت عاصمة للأناقة. المصممون اللبنانيون مثل إيلي صعب وزهير مراد وجورج حبيقة ساهموا في إضافة لمسات شعرية لمشهد الأزياء العالمي، من خلال تصاميمهم تمزج الابتكار والعمق الثقافي.
ولبنان لا يُختصر بحدوده الجغرافية المعروفة وحسب، بل يمتد في مساحات لا مرئية عبر العالم، لأن مغتربيه يشكلون جزءًا أساسيًا من هويته وكيانه. تحمل هذه الدياسبورا لبنانها وتحوله إلى قيم ثقافية، إلى جانب الدعم الاقتصادي الذي تمده به.
سرد مزايا لبنان مغرٍّ لشدة طول القائمة، لكنه أيضًا يعاني من تاريخ مضطرب وحاضر مليء بالانقسامات. اندلعت حربه الأهلية (1975 - 1990) بهدف إنهاء الانقسامات بالعنف، ثم انتهت بتعقيد الوضع وتفكك الروابط الاجتماعية، إلى جانب الأزمات الاقتصادية التي تركت البلد غير قادر على الخروج من دوامة عدم الاستقرار. وأثبتت فشل كل طرف في فرض رأيه على الطرف الآخر.
هذا إلى جانب تعرضه لموجات من الحروب والانتهاكات الإسرائيلية، في قانا عام 1996، وفي حرب عام 2006 التي دمّرت أجزاء واسعة من البلاد.
يقترح علينا لبنان شكلًا مبكرًا من أشكال موت الدولة وميلاد المليشيات، ويرينا في تجاربه المريرة كيف تطاحنت هذه المليشيات لخمسة عشرة عامًا، دون أن يصل أي منها إلى مبتغى، بل خرج البلد من تلك الحرب متعبًا يُثقله الإنهاك.
كما يرينا بأم العين كيف أن بيروت كانت أول عاصمة في العالم العربي قابلة للسقوط والانهيار أمام القوات الغازية، حتى بدا بعدها السقوط المشابه لبغداد عام 2003 طبيعيًا، وستحدث "سقوطات" أخرى كالذي تعيشه دمشق، وغيرها من المدن التي تبدو مستقرة وآمنة، إذ تغرق في الخنوع والفشل والخوف.
كان لبنان مختبرًا لحياة عربية أمامها الحلول كلها، وفي استطاعتها الأخذ بها، والعمل عليها، غير أنها أبت واستكبرت، ومشت بإصرار نحو التحول إلى ملعب لقوى كبرى تريد ترتيب العالم مرة أخرى، كأن العالم خزانة ونحن مجرد صناديق فيها.
ومرة أخرى نعود إلى متون كمال الصليبي، وهذه المرة في كتابه "بيت بمنازل كثيرة"، لنطالع رأيه الواضح الذي يؤكد أنه لا يمكن بناء أوطان على تاريخ سياسي مختلف عليه، فعلى اللبنانيين أن يعرفوا من هم، ولماذا هم لبنانيون، وأنهم كانوا عشائر متفرقة، وإن لم يفعلوا ذلك سيبقون عشار متفرقة (دار نوفل: ص 268). وهذا بالضبط ما يحتاج إليه المشرق العربي على نحو إسعافي عاجل.
يعكس لبنان فوضى وتعقيدات وهشاشة المنطقة، وتظهر فيه كل مفارقاتها، فيتحالف الأعداء في غفلة حين يتخاصم الأصدقاء، وتغدو السياسة الداخلية رهينةً للسياسات الخارجية المؤثرة، دون أن يكون إرادة في تقرير مصيرهم.
إلا أننا يجب أن نُسجّل أن روح التحدي اللبنانية لم تعرف ضمورًا، أو استسلامًا، فالنضال الاجتماعي قوة متواصلة يدفعها أجيال من الشباب الرافضين للانقسام والنظام الطائفي، ووصلت ذروة هذا المسعى في الاحتجاجات الشعبية عام 2019، التي تمثّل أكثر اللحظات إشراقًا في التاريخ اللبناني الحديث.
وتبقى أسئلة الهوية تتفجر في السائل والمجيب: أي لبنان نريد؟ كيف نتصوّر نظامه السياسي الأمثل؟ ما هي هويته؟ كيف يمكننا التعايش وإيجاد إطار جديد للمواطنة؟
كأنه بلد لم يولد والجميع بانتظاره. لكن أليس محيطه العربي كذلك؟
كل الصور الجميلة والشنيعة تكمل بعضها البعض اليوم، لترسم ملامح لبنان الفريد، لبنان الخاص والجميل والقاسي في آن. هذا البلد الذي شهد أسمى لحظات الإبداع، كما عرف أقسى درجات الألم، يحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى أن نقف معه. فالحياة، كما عرفناها، ناقصة بدونه.
خلال انفجار مرفأ بيروت في صيف عام 2020، روى أحد الناجين ممن فقدوا أحبة وممتلكات: "سنواصل الحياة رغم كل شيء، لأن هذا هو قدرنا في لبنان".
أمام الصور الكثيرة والمتعددة لا نعرف بالضبط أي لبنان هو الذي نكره، لأنّ الكراهية تظلّ غير عادلة دون النظر في اللامرئي من التاريخ والواقع. وهكذا من الممكن أننا لا نعرف بالضبط أي لبنان هو الذي نكره، لكن من الأكيد أننا نعرف تمامًا أي لبنان هو الذي نحب!
اكتشاف هذا البلد من جديد هو جزء أساسي من إعادة اكتشاف حقيقة المنطقة التي نعيش فيها، من أجل تجاوز محنها.
لبنان؛ إنه ذلك الذي اختصره نزار قباني في بيتين:
إنّ كونًا ليس لبنان به
سوف يبقى عدمًا أو مستحيلا.