جبهة الإسناد

جبهة إسناد غزة.. من الالتزام بقواعد الاشتباك إلى الأيام العشرة القاسية في عمر الحزب

10 أكتوبر 2024

جاءت الذكرى السنوية الأولى لعملية "طوفان الأقصى" في ظل تغيرات كبرى شهدتها الساحة الفلسطينية والإقليمية، والتي أعادت ترتيب الأولويات وقلبت حسابات الأطراف المعنية. 

لم تقتصر تداعيات العملية، التي وُصفت بأنها نقطة تحول في الصراع العربي الإسرائيلي على الميدان فحسب، بل امتدت لتشمل المشهد السياسي والدبلوماسي، سواء من حيث ردود الأفعال الإقليمية أو التحركات الدولية. وعلى المستوى الفلسطيني الداخلي، أحدثت العملية زخمًا شعبيًا كبيرًا، وخلقت معادلات جديدة في مواجهة الاحتلال، خاصة بعد فترة من الجمود التي فرضتها ظروف معقدة وصعوبات سياسية متراكمة.

كما ساهمت العملية في كسر حالة التهميش التي عانت منها القضية الفلسطينية على المستوى العربي والإقليمي، حيث أعادت التأكيد على مركزية القضية في المنطقة، وأعطت دفعة جديدة للقوى المقاومة لمواصلة النضال، ما قد ينعكس في شكل تحركات ومبادرات جديدة في المرحلة المقبلة. 

وبالتوازي مع ذلك، وعلى الرغم من أن العملية قد فاجأت حتى الحلفاء، إذ لم يكن هنالك تنسيق مسبق لإدارة المعركة في الميدان، لكن قرار حلفاء المقاومة اتخذ سريعًا ومن اللحظة الأولى لبدء العدوان. وذلك بفتح جبهة إسناد لغزة من جنوب لبنان، على قاعدة كيف يكون هذا الدعم مفيدًا ومؤثرًا في سير المعركة، لا على قاعدة الربح والخسارة.

منذ البداية، وضعت جبهة الإسناد خططًا وقواعد مدروسة لسير عملياتها. استهدفت صواريخ الحزب الرادارات الخاصة بوحدات المراقبة التابعة للقوات الجوية الإسرائيلية، في الوقت نفسه، عمل حزب الله على تدمير أنظمة المراقبة في عدد كبير من المواقع على طول الخط الحدودي والتي عرفت بخطة "التعمية"، وهدفت إلى ضرب قدرات المراقبة لدى جيش الاحتلال الإسرائيلي. وبالفعل أتاح ذلك لعناصر الحزب هامش من حرية التحرك لشن الهجمات وإطلاق الطائرات المسيّرة والصواريخ تجاه المواقع الإسرائيلية.

ولاحقًا تم استهدف معسكرات جيش الاحتلال وتحصيناته وتجهيزاته وجنوده المتمركزين على الحدود الشمالية، وسجل الحزب 105 هجمة خلال الشهر الأول من العدوان على عزة، وهي وتيرة غير مسبوقة في العمليات التي تستهدف إسرائيل.

لم تقتصر جبهة إسناد غزة من جنوب لبنان على حزب الله فقط، فقد شاركت تنظيمات فلسطينية ممثلة في حركتي حماس والجهاد الإسلامي ولبنانية ممثلة في كتائب "الفجر"، الجناح العسكري للجماعة الإسلامية التي شنت هجمات على إسرائيل، وإن كان على نطاق محدود، لإعطاء دلالة أن جبهة إسناد غزة لا تقتصر على حزب الله. 

وكإجراء وقائي خوفًا من عملية مماثلة لعملية طوفان الأقصى تستهدف مستوطنات شمال فلسطين المحتلة، قررت حكومة بنيامين نتنياهو، تفعيل خطة لإخلاء المستوطنين من 28 مستوطنة تبعد عن الحدود اللبنانية مسافة كيلومترين، ثم توسعت عمليات الإخلاء لاحقًا لتشمل 43 مستوطنة، مما أدى إلى تهجير أكثر من 100 ألف مستوطن إسرائيلي، ليصبح شمال فلسطين المحتلة خالٍ من المستوطنين، وبذلك برهنت جبهة الإسناد، أنها تملك تحديد مسار المواجهة لتضع الحكومة الإسرائيلية تحت الضغط.

لكن مطلع العام 2024 حمل معه تطورات دراماتيكية، إذ أقدمت إسرائيل على اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري، رفقة إثنين من قادة كتائب عزالدين القسام في لبنان، عبر قصف بطائرة مسيّرة لشقة، هي عبارة عن مكتب لحركة حماس بالضاحية الجنوبية تم إخلاؤها بعد بدء إسرائيل عدوانها على قطاع غزة، وهو ما وضع الحزب، وأمينه العام حسن نصر الله، في موقف محرج. فقد تعهد الأخير، في وقتٍ سابق، من أن أي استهداف لشخصية فلسطينية داخل الأراضي اللبنانية هو تصعيد في المواجهة، وهو ما يعني تغير قواعد الاشتباك. وكان نتنياهو قد هدد قبل عملية طوفان الأقصى بتصفية العاروري لدوره في توجيه ودعم المجموعات الفلسطينية المسلحة بالضفة الغربية، التي كثفت من عملياتها ضد جنود الاحتلال ومستوطنيه خلال السنوات الثلاث الأخيرة.

كان التصعيد على الجبهة اللبنانية حاصلًا، لذا كان خاطب حسن نصر الله بعد عملية الاغتيال منتظرًا لمعرفة الخطوة القادمة. ومما جاء في خطاب نصر الله، قوله: "نحن نحسب حسابًا للمصالح اللبنانية، لكن إذا شنت الحرب على لبنان فإن مقتضى المصالح اللبنانية الوطنية أن نذهب بالحرب إلى الأخير"، وأضاف: "نقاتل في الجبهة بحسابات مضبوطة ولذلك ندفع ثمنًا من أرواح شبابنا، ولكن إذا فكر العدو أن يشن حربًا على لبنان فسيكون قتالنا بلا سقف وبلا قواعد وبلا حدود وبلا ضوابط". 

وقد أشار الأمين العام لحزب الله أن مقاتلي الحزب نفذوا نحو 670 عملية عسكرية على الحدود اللبنانية مع شمال فلسطين المحتلة، منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2013، أي بعد يوم واحد من عملية طوفان الأقصى.

لكن اللافت في خطاب حسن نصر الله، تركيزه على نقطتين، هما أن الحزب يحسب حساب للمصالح اللبنانية، وأن القتال على الجبهة يجري وفق حسابات مضبوطة. وهي إشارة إلى أن الحزب يتعرض لضغوط شديدة على الجبهة الداخلية في لبنان لعدم المبادرة إلى حرب شاملة ستدمر الدولة الموجودة في حالة انهيار أصلًا.

رد الحزب على اغتيال صالح العاروري بقصف قاعدة "ميرون" للمراقبة الجوية بالجليل بصواريخ كاتيوشا وأخرى موجهة. واعترفت إسرائيل بوقوع أضرار بالقاعدة. وتغطي القاعدة عمليات الطيران الحربي الإسرائيلي من شمال فلسطين المحتلة إلى سوريا ولبنان وشرق المتوسط. فمنها يتم اتخاذ قرارات شن العمليات العسكرية بعد استلامها المعلومات وصور كاميرات المراقبة.

وقد دخل التصعيد طورًا جديدًا، فردت إسرائيل على استهداف قاعدة "ميرون" الاستراتيجية، باغتيال أحد قادة وحدة "الرضوان" الخاصة، وسام الطويل، عبر طائرة مسيّرة استهدفت سيارته في بلدة خربة سلم بقضاء مرجعيون. ويعد الطويل أكبر قائد عسكري من حزب الله تغتاله إسرائيل منذ بدء المواجهات على الحدود بعد فتح جبهة الإسناد. وقد تولى الطويل مسؤولية قيادة إدارة العمليات في الجنوب ضمن وحدة "الرضوان". 

وبعد هذه العملية دخلت المواجهة في إطار الفعل ورد الفعل، فقد رد الحزب على اغتيال وسام الطويل، بقصف مقر قيادة المنطقة الشمالية في جيش الاحتلال الإسرائيلي بمدينة صفد، بطائرتين مسيّرتين، وهي المرة الأولى التي تصل فيها صواريخ الحزب إلى تلك المناطق، وهو ما مثّل فشلًا ذريعًا لأنظمة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية.

وعلى الرغم من أن حزب الله حافظ على قواعد الاشتباك، لكن كان لجبهة الإسناد أثرًا عسكريًا واستراتيجيًا وحربًا نفسية على إسرائيل، فقد أدت الجبهة المشتعلة، منذ اليوم الأول للعدوان، إلى استنزاف أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية، كما تم استدعاء فرق عسكرية إسرائيلية من غزة نحو الشمال وهو ما خفف الضغط على المقاومة في غزة. بالإضافة إلى أن تهجير 100 ألف من سكان مستوطنات الشمال شكّل عامل ضغط على الحكومة الإسرائيلية.

وفي محاولة منها للخروج من هذا المأزق، وسعت إسرائيل من دائرة استهدافها لنحو 100 كلم من الحدود، فقد هاجم الطيران الإسرائيلي، في شهر شباط/فبراير، مدينة بعلبك بسهل البقاع، وهي من أبرز معاقل الحزب، وهو ما اعتبره حزب خرقًا لقواعد الاشتباك، فوسع هو كذلك من نطاق هجماته، واستهدف بعشرات الصواريخ ثكنة "كيلع" في الجولان السوري المحتل.

وشهد شهر أيار/ مايو، تصعيدًا عسكريًا كبيرًا في إطار تبادل الرسائل النارية مع إسرائيل، فقد اعتمد حزب الله على تكتيكات عسكرية جديدة تتوافق مع تطورات الميدانية بهدف تكريس معادلة "الرد بالمثل"، أي الرد على الغارات الإسرائيلية التي تستهدف منازل المواطنين اللبنانيين في القرى والبلدات الحدودية، وذلك باستهداف مبان في المستوطنات المقابلة، وفي العمق الإسرائيلي مقابل كل عملية تستهدف العمق اللبناني، لكن وفق قواعد مضبوطة، بحيث لا يؤدي ذلك إلى حرب واسعة. 

واستكمالًا لعمليات تعطيل منظومة المراقبة، عبر استهداف أجهزة التجسس البديلة عن كاميرات المراقبة المثبتة على آليات ورافعات والتي يتم استهدافها بشكل يومي كلما نصبتها إسرائيل قبالة المناطق الحدودية الجنوبية، أدخل الحزب أسلحة جديدة في معركة جبهة الإسناد، وقصف بصواريخ موجهة موقع تشغيل منطاد تجسس في مستوطنة "أدميت"، بعد تحديد مكان طاقم إدارته ‏والتحكم به، وخرج المنطاد عن السيطرة وسقط بين بلدتي رميش وعين إبل داخل الأراضي اللبنانية.

وبعد يومين من عملية منطاد مستوطنة "أدميت"، قام الحزب بعملية نوعية، وقصف طائرتين مسيّرتين موقع منظومة منطاد الكشف والإنذار "تل شمايم" على بعد 50 كلم من الحدود. وهذا المنطاد متطور يقوم يرصد الحركة الجوية من لبنان حتى حدود إيران. وقد دخل الخدمة قبل مدة قصيرة.

اعترف جيش الاحتلال بتضرر المنطاد، الذي كلف تجميع وتطوير نظام المراقبة داخله مدى سنوات من التعاون الإسرائيلي والأميركي، عشرات الملايين من الدولارات. ويعتبر هذا المنطاد الأكبر من نوعه في العالم. واعتبر محللون ومسؤولون إسرائيليون أن استهداف المنطاد يعتبر "انجازًا استراتيجيًا" للحزب بعد أن اخترقت مسيّراته نظام الدفاع الجوي. وأحدثت تلك الهجمات ثغرةً في قدرات الرصد والمراقبة الإسرائيلية.

وبفعل هذه الهجمات، هدد أكثر من مسؤول إسرائيلي بشن عملية عسكرية واسعة في جنوب لبنان، بهدف إبعاد الحزب عن منطقة جنوب الليطاني. وخلال تفقده لجبهة الشمال، أشار وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، إلى "الاستعداد لكل الخيارات"، موضحًا أنه "يجب ضرب مطلقي الصواريخ والمسيّرات باستمرار".

وأمام المأزق الذي واجهها بفعل تصاعد عمليات جبهة الاسناد كمًا ونوعًا، عادت إسرائيل لأسلوب الاغتيالات، ففي 11 حزيران/يونيو، استهدفت غارة جوية منزلًا في بلدة جويا، وأدت العملية إلى استشهاد قائد وحدة "نصر"، طالب سامي عبد الله (الحاج أبو طالب)، مع ثلاثة من معاونيه. وقال الجيش الإسرائيلي إن القيادي العسكري في الحزب كان وراء العديد من الهجمات على الشمال، منذ تشرين الأول/أكتوبر. ويعد الحاج أبوطالب أرفع قائد عسكري في حزب الله تغتاله إسرائيل، منذ بدء جبهة الإسناد عملياتها. ونعته حركة حماس، وأشادت بـ"الدور المحوري له في إسناد الشعب الفلسطيني ومقاومته خلال معركة طوفان الأقصى". وتشرف وحدة "نصر" على منطقة عمليات تمتد من منطقة بنت جبيل إلى مزارع شبعا.

وردًا على عملية اغتيال أبو طالب، نفد الحزب أكبر هجوم له في يوم واحد، إذا أطلق نحو 270 صاروخًا وطائرة مسيّرة على المواقع والقواعد العسكرية الإسرائيلية في شمال فلسطين المحتلة، ألحق بعضها أضرارًا مادية بعدد من المواقع المستهدفة ودمرت بطارقة للقبة الحديدية. 

ومع تكثيف الحزب لوتيرة هجمات على شمال فلسطين، واصلت إسرائيل عمليات الاغتيال، ففي 3 تموز/يوليو، نفذت طائرات الاحتلال غارة على سيارة في بلدة الحوش، واستهدفت قائد وحدة "عزيز"، محمد نعمة ناصر (الحاج أبو نعمة). وزعمت إسرائيل أن الحاج أبو نعمة مسؤول عن إطلاق الصواريخ من جنوب غرب لبنان، ويتولى منصبًا يوازي الذي كان يتولاه قائد "وحدة نصر"، الحاج طالب، الذي اغتيل قبل نحو شهر، معتبرة أن الاثنان يعتبران من أرفع القيادات لحزب الله في جبهة جنوب لبنان.

وتشرف وحدة "عزيز"، على منطقة القطاع الأوسط والغربي. ومكلفة بأن تكون في الخط الأمامي خلال أي تقدم ميداني، لما تملكه من كثافة النيران بالهاون والمدفعية والمسيّرات.

واعتبارًا من صيف الماضي، كانت هناك إشارات بأن إسرائيل تحضر لعمل على الجبهة الشمالية، فقد عززت تمركزها الهجومي هناك بنشر قوات كبيرة ضمت ألوية من الفرقة 98 الخاصة، التي تضم ألوية مضلين وكوماندوس، والتي خاضت المعارك مع المقاومة الفلسطينية في خانيونس بقطاع غزة، والفرقة 36 النظامية والفرقة 146 مدرعة، إضافة إلى ألوية من الفرقتين 91 و210. وشكلت تلك القوات أكبر ثلاث مرت تقريبًا من حجم القوات التي شاركت في الاجتياح البري لجنوب لبنان في حرب تموز 2006. فيما حين تزايدت تصريحات المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين بضرورة انسحاب حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، مشددين على أن حربًا شاملة سيشهدها لبنان أصبحت حتمية ما لم يعود سكان مستوطنات الشمال. ليعاد سيناريو عملية الليطاني عام 1978، يفرض نفسه بقوة على المشهد.

في 30 تموز/يوليو، حدث خرق أمني كبير داخل الحزب، اذ استهدفت الطائرات الإسرائيلية بناية في حارة حريك بضاحية بيروت الجنوبية، وأدى القصف إلى اغتيال القائد العسكري لحزب الله، فؤاد شكر (سيد محسن)، وهو القيادي الذي عاش في الظل لأربعة عقود، فهو شخصية غير معروفة اعلاميًا ولا يملك أحدًا صورًا حديثة له.

وكانت كل التوقعات تشير إلى أن رد الحزب على اغتيال قائده العسكري سيكون كبيرًا. وبعد فترة من الترقب شن الحزب هجومًا على قاعدة "غليلوت" قرب تل أبيب، حيث تتواجد الوحدة "8200"، المعنية بالجمع العلني والتنصت والتجسس. وقال الحزب إن استهداف الوحدة "8200" كان هدفًا أساسيًا في عملية الرد على اغتيال فؤاد شكر. وقال حسن نصر: "قررنا أن يكون الهدف في العمق وقريبًا من تل أبيب.. حرصنا على استهداف مواقع للمخابرات العسكرية وسلاح الجو الإسرائيلي لصلتهما باغتيال القيادي شكر".

وعن تأخر الرد، برر الأمين العام ذلك، بالقول: "تأخير الرد على اغتيال القيادي فؤاد شكر، يعود إلى أسباب، بينها الاستنفار الأميركي والإسرائيلي"، وأضاف أن الحزب حرص أيضًا على "إعطاء الفرصة كاملة للمفاوضات بشأن غزة لوقف إطلاق النار وتبادل أسرى"، وتابع: "قررنا القيام بعمليتنا ضد إسرائيل بشكل منفرد، وكل طرف في المحور سيقرر متى رده والاستنفار قد يستمرّ لأشهر".

في 17 أيلول/سبتمبر حدث ما لم يكن متوقعًا، انفجرت على نحو متزامن آلاف أجهزة النداء من نوع "بيجر"، يستخدمها عناصر حزب الله في عدد من المناطق اللبنانية وحتى سوريا، أدت إلى استشهاد أكثر من 30 لبنانيًا وجرح المئات بينهم عناصر من الحزب ومواطنون مدنيون، وفيما كان الحزب يستجمع قواه ليستوعب ما جرى، انفجرت بعد 24 ساعة على نحو مماثل المئات من أجهزة الاتصال اللاسلكي التي يستخدمها عناصر الحزب في عدد من المناطق اللبنانية، وأسفرت العملية عن استشهاد العشرات وجرح المئات.

وكانت العملية مدبرة من قبل جهاز الاستخبارات الإسرائيلية، على نحو دقيق استمر العمل عليها على مدى عقد من الزمن، وفق خطة مدروسة لاختراق حزب الله. وقد بدأت العملية منذ عام 2015، بتنفيذ الجزء الأول من الخطة، عبر إدخال أجهزة اتصال لاسلكية مفخخة إلى لبنان. احتوت هذه الأجهزة المحمولة ثنائية الاتجاه على حزم بطاريات كبيرة الحجم ومتفجرات مخفية ونظام إرسال، أتاح لـ"الموساد" الوصول الكامل إلى اتصالات حزب الله منذ ذلك الوقت.

ونقلت صحيفة "الواشنطن بوست"، عن مصادرها الخاصة، أن الإسرائيليين اكتفوا طوال 9 سنوات بالتنصت على اتصالات حزب الله، بينما احتفظوا بخيار تحويل أجهزة الاتصال اللاسلكي إلى قنابل في أزمة مستقبلية. ولكن بعد ذلك جاءت فرصة جديدة ومنتج جديد، وهو جهاز النداء "بيجر"، صغير مجهز بمتفجرات قوية، قامت بتصنيع داخل إسرائيل.

في عام 2023، بدأ الحزب بتلقي عروض البيع بالجملة لأجهزة استدعاء من شركة "أبولو"، ذات العلامات التجارية التايوانية، وهي علامة تجارية وخط إنتاج معترف بهما مع توزيع عالمي، ولا توجد روابط واضحة مع جهات إسرائيلية. وقال مسؤولون إن الشركة التايوانية لم تكن بالفعل على علم بالخطة.

وعرضت عميلة من "الموساد" على الحزب شراء جهاز "بيجر" من نوع "AR924"، ادعت أنها مصنعة في المجر، تتميز ببطارية كبيرة السعة تمنح حاملها القدرة على البقاء في ساحة المعركة لمدة تصل إلى شهر دون الحاجة لإعادة شحنها، بالإضافة لمقاومتها للماء. 

بالفعل اشترى الحزب 5 آلاف وحدة من الجهاز، وبدأ بتسليمها للمقاتلين والقيادات في الصف المتوسط وأفراد الدعم منذ شباط/ فبراير الماضي، لتحدث الكارثة بعد سبعة أشهر.

لم يتوقف الأمر عند تفجير أجهزة النداء واللاسلكي، ففي 20 أيلول/سبتمبر الماضي، شنت الطائرات الإسرائيلية غارة جوية بناية في ضاحية بيروت الجنوبية، استهدفت الرجل الثاني في الهيكلية العسكرية للحزب، وقائد عملياتها، إبراهيم عقيل (الحاج عبد القادر)، الذي كان في اجتماع رفقة حوالي عشرين من قادة فرقة "الرضوان" الخاصة، بينهم القيادي أحمد محمود وهبي، الذي تولى مسؤولية "وحدة التدريب المركزي" في فرقة "الرضوان". وبهذا تعرض الحزب في هذه المدة القصيرة لضربات تجاوزت شدتها ما تعرض له خلال كل مسيرته الطويلة في الحرب مع إسرائيل.

وبعد ثلاثة أيام من العملية، شنت إسرائيل عدوانها الشامل على لبنان، حيث نفذت مئات الغارات على مدن وبلدات جنوب وشرق لبنان، وأدى العدوان إلى استشهاد مئات اللبنانيين وجرح الآلاف وموجة نزوح غير مسبوقة.

وكثفت إسرائيل من ضغطها، واستغلت الضربات المتتالية القاسية التي تعرض لها الحزب، لتشن في 27 أيلول/سبتمبر الماضي، غارة قام بها سرب من الطائرات واستهدفت ما قال إنه مقر القيادة المركزية لحزب الله في الضاحية الجنوبية، بأكثر من 80 قنبلة تزن الواحد منها طنًا. وأدت العملية إلى اغتيال الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، والقيادي البارز في الجهاز العسكري للحزب على كركي (أبو الفضل)، وعدد من المرافقين.

بغض النظر هل كان حجم الاختراق داخل الحزب كبير وصل إلى الصف القيادي الأول أو أن التفوق الاستخباراتي الذي ربط الأدوات العسكرية بالذكاء الصناعي وتطوره، إلا أن الحزب تعرض لتلك الضربات القاسية لحسابات تكتيكية لم يقدرها بشكل جيد. 

كل تصريحات المسؤولين الحاليين والسابقين الإسرائيليين كانت توحي بأنها الحرب على لبنان مسألة وقت فقط. من الممكن أنّ فتح جبهة الإسناد عجّل بحدوثها. وهنا حتى في هذا القرار لم يكن الحزب يريد أن يدخل في حرب مفتوحة مع الإسرائيليين. الواقع الميداني وتصريحات نصر الله كانت واضحة في هذا السياق، هناك التزام بقواعد الاشتباك ما لم تخرقه إسرائيل.

لكن للأسف لم يلتقط الحزب الخطوات التي ذهبت فيها إسرائيل، وباعتقادي أن خرق قواعد الاشتباك حدث حين اغتالت إسرائيل، صالح العاروي، في الضاحية الجنوبية بداية العام الحالي. وكما هو معروف أن إسرائيل تعمل بطريقة الانتقال خطوة وراء خطوة. رسم أمين عام حزب الله معادلة واضحة مضمونها أي استهداف في الضاحية يقابله استهداف في تل أبيب. لم يلتزم الحزب بهذه المعادلة أو تساهل معها ولم تدفع إسرائيل ثمن ما قامت به في الضاحية، وهو ما جعلها تصعد من خطواتها، لتأتي مرحلة استهداف قادة حزب الله في الميدان، وكان الرد على كل عملية اغتيال لا يخرج عن دائرة قواعد الاشتباك حتى حين وصل الأمر لاغتيال القائد العسكري لحزب الله، فؤاد شكر، الذي اعتبر أن التأخير ونوعية الرد، مهد إلى العشرة أيام الأقسى في عمر الحزب، التي بدأت بتفجيرات أجهزة "البيجر" واللاسلكي واستهداف قادة "الرضوان"، وصولًا إلى اغتيال أمين عام الحزب، حسن نصر الله.

ورغم كل هذه الضربات التي تلقاها الحزب لكنه ظل على نشاطه في جبهة الإسناد، بل صعّد من عملياته، بالموازاة مع إدارته للمعركة البرية بشكل يُحسب له. مؤكدًا أن وقف إطلاق النار في جنوب لبنان مرتبط بوقف إطلاق النار في غزة. إلا أن خروج نائب الأمين العام، نعيم قاسم، الأخير وحديثه عن تفويض رئيس مجلس النواب، نبيه بري، في مساعيه للتوصل لوقف إطلاق النار، دون الحديث عن وقف لإطلاق النار في غزة يُعطي إشارات أن هناك تغيرًا ما قد يحدث في موقف الحزب. لن نستبق الأحداث فالأيام حبلى بالتطورات الكثيرة، سواء على الساحة اللبنانية أو الفلسطينية أو حتى على الصعيد الإقليمي.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

كل شيء رائحة.. العطور العربية في حياتها وموتها

تحدّث الرومان واليونانيون قديمًا بإعجاب عن بخور وطيوب سبأ، لدرجة أنهم وصفوا سكانها بأنهم من أثرى شعوب العالم، وأنهم يأكلون في أوعية من الذهب، ويسكنون بيوت فارهة

2

من يمتلك الإنترنت؟

تقول ولادة شبكة الإنترنت الكثير من ناحية تحولها إلى مجال للسيطرة والربح، خصوصًا حين نضع نصب أعيننا أنها استراتيجية اتصالية أميركية

3

"يا ما في الجراب يا حاوي".. الحواة من إبهار الشارع إلى شاشات التليفزيون

لم يكن الحواة فئة طارئة على المجتمع المصري، فقد تواجدوا في الشوارع والميادين العامة منذ القرن التاسع عشر الميلادي

4

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم

5

ماذا يعني "بريكس" الشرق أوسطي؟

تتباين أجندات الدول المنضمة من المنطقة إلى بريكس بلس بشكل كبير يصل إلى حد التناقض، مقارنةً بأجندات الدول المؤسسة للمجموعة، التي تتسم هي الأخرى بالتباين

اقرأ/ي أيضًا

من يمتلك الإنترنت؟

من يمتلك الإنترنت؟

تقول ولادة شبكة الإنترنت الكثير من ناحية تحولها إلى مجال للسيطرة والربح، خصوصًا حين نضع نصب أعيننا أنها استراتيجية اتصالية أميركية

رائد وحش

قادة دول بريكس
قادة دول بريكس

ماذا يعني "بريكس" الشرق أوسطي؟

تتباين أجندات الدول المنضمة من المنطقة إلى بريكس بلس بشكل كبير يصل إلى حد التناقض، مقارنةً بأجندات الدول المؤسسة للمجموعة، التي تتسم هي الأخرى بالتباين

طارق الكحلاوي

دونالد ترامب

ترامب رئيسًا.. هل أفسحت كامالا هاريس الطريق لعودته؟

يبدو أن أداء إدارة بايدن وهاريس كان بالنسبة للناخب الأميركي أسوأ من أن تكافأ بالتصويت لها من إعادة انتخاب ترامب

حسن زايد

ولايات الحسم السبع

ولايات الحسم السبع.. ما الحسابات التي قد ترجّح فوز ترامب أو هاريس في الانتخابات؟

أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة تقاربًا شديدًا بين كامالا هاريس ودونالد ترامب في الولايات السبع المتأرجحة، مما يصعّب التنبؤ بالفائز قبل اكتمال فرز الأصوات غدًا الثلاثاء

محمد يحيى حسني

جبانات القاهرة التاريخية

استراتيجية هدم حكومية.. مستقبل مظلم ينتظر جبانات القاهرة التراثية

مع استمرار عمليات هدم الجبانات التاريخية، تقترب القاهرة من فقدان جزءٍ من هويتها لصالح مشاريع تجارية واستهلاكية تشوّه ثقافة المكان وتطمس معالمه

حسن حافظ

المزيد من الكاتب

محسن القيشاوي

كاتب وصحافي فلسطيني

قبل الكارثة.. عن الحاجة إلى إعادة إحياء منظمة التحرير

جرى الحديث في الكثير من المناسبات عن ضرورة إصلاح منظمة التحرير، لكن الأمر ظل مجرد حبر على ورق

قطاع غزة.. تاريخ مقاوم

راكمت غزة على مدار أكثر من 100 عام تجارب مختلفة في العمل المقاوم، بدأت مع الانتداب البريطاني، ثم النكبة، فعدوان 1956، وصولًا إلى النكسة وما بعدها

الاستيطان في فلسطين.. مشروع استعماري لإعادة رسم خارطة المنطقة

كل الجهود التي بُذلت لتوطين اليهود في فلسطين لم تكن سوى ذريعة لإيجاد كيان حليف يتم تسخيره لخدمة المصالح الاستعمارية الغربية في الشرق الأوسط

المرتزقة الكولومبيون.. قتلة تحت الطلب

تحوّلت كولومبيا إلى خزان للمرتزقة الذين وظّفوا خبراتهم، التي اكتسبوها في القتال ضد اليساريين وتجار المخدرات أثناء خدمتهم في الجيش، في العمل كقتلة تحت الطلب

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم