استندت الحركة الصهيونية، التي ظهرت كحركة سياسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلى فكرتين لتحقيق أهدافها، وهما: الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وطردهم، والتوسع الاستيطاني بجلب اليهود من الخارج لاستيطانها.
ويقول أول رئيس لإسرائيل، حاييم وايزمان، إن "جذور الحركة الصهيونية بمفهومها الداعي لعودة اليهود إلى فلسطين وإقامة الدولة اليهودية، قديمة وممتدة في أحاسيس وحياة الشعب اليهودي الذي لم يتخلَ عن حلم العودة إلى فلسطين"، إذ عملت الحركة الصهيونية على ترسيخ فكرة أن الاستيطان هو جوهرها، وسعت إلى ألا يتخذ احتلال فلسطين شكلًا من أشكال احتلال البلدان لنهب خيراته واستغلال إمكانياته الاقتصادية والبشرية، بل يكون الهدف هو الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وطردهم والحلول محلهم وإنشاء دولة تستوعب غالبية يهود العالم.
ورأى قادة المستوطنين الأوائل أنه من أجل تحقيق هذا الهدف عليهم العمل بشكل تدريجي وفق استراتيجية طويلة الأمد من دون تحديد معالم لعملية التوسع، وهو ما أشار إليه دافيد بن غوريون عندما قال "حدود إسرائيل ستحددها الأجيال القادمة".
الإرهاصات الأولى
لكن فكرة الاستيطان في فلسطين لم تبدأ مع الحركة الصهيونية، بل قبل ذلك بزمن طويل، وتحديدًا بعد ظهور حركة الإصلاح الديني في أوروبا على يد مارتن لوثر، التي استند أصحابها إلى معتقدات توراتية حول ضرورة العودة إلى الأرض الموعودة لتحقيق شرط مجيء المسيح. كما تم الترويج لفكرة تقول بأن "اليهود ليسوا جزءًا من النسيج الحضاري الغربي، لهم ما لهم من الحقوق وعليهم ما عليهم من الواجبات، وإنما هم شعب الله المختار، وطنهم المقدس فلسطين، يجب أن يعودوا إليه".
وكانت أولى الدعوات العلنية لتوطين اليهود في فلسطين عام 1619، حيث قام "التطهيريون البروتستانت" في إنجلترا بتقديم عريضة للحكومة البريطانية أبدوا فيها استعدادهم للمساعدة في "نقل أبناء إسرائيل وبناتها" إلى فلسطين. ومع أن هذه الدعوة لم تُترجم على الأرض، لكنها كانت مؤشرًا لبداية العمل على فكرة توطين اليهود في فلسطين.
وفيما بعد، ظهر التاجر الدنماركي أوليغر بولي الذي عمل في بداياته محاسبًا لشركة جزر الهند الغربية وشركة الهند الغربية الدنماركية في كوبنهاغن. ومع ازدهار الأعمال التجارية، تم تعيينه سكرتيرًا لشركة الهند الغربية الدنماركية، وأصبح خلال هذه الفترة واحدًا من أغنى التجار في الدنمارك. وبين عامي 1683 و1688، حقق ثروة طائلة من تجارة الرقيق المزدهرة في جزر الهند الغربية وعلى ساحل غينيا.
وبسبب نمط الحياة الباذخ، أفلس بولي وأصبح مختلًا ثم ترك عائلته وذهب إلى باريس، حيث اقترح خطة لتوطين اليهود في فلسطين وإعادة بناء الهيكل في القدس، قبل أن يعلن نفسه في عام 1694 مسيحًا جديدًا وملكًا لليهود، مدعيًا أن جده الأكبر سليل النبي داوود.
وفي عام 1695، أعلن عن نيته إنشاء مملكة يهودية جديدة في فلسطين، وأعد خطة لتوطين اليهود هناك، وقام بتسليم رسالة إلى ملوك أوروبا يعلمهم ويؤكد لهم أن القدس سيعاد بناؤها عام 1720، وأن المسيح سينزل في ذلك العام من السماء ليكون رئيس كهنة القدس.
وعاد بعد فشل مساعيه إلى كوبنهاغن، حيث واصل دعايته لتوطين اليهود في فلسطين، والتف حوله عدد من اليهود الذين تبنوا فكرته التي اعتبروها مقدسة، وبقي يعقد اجتماعات في منزله ومناطق أخرى لحث اليهود على الهجرة إلى فلسطين والاستيطان هناك.
حملة نابليون بونابرت على المشرق
بقيت فكرة إقامة وطن قومي لليهود راسخة في الدوائر الغربية، وكان الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت أول حاكم دولة يقترح بشكل جدي إقامة دولة لليهود في فلسطين. ويبدو أنه كان مطّلعًا على الاتصالات التي أجرتها حكومة بلاده والقادة اليهود عشية استلامه السلطة.
وفي 1798، قامت الحكومة الفرنسية بإعداد خطة سرية لإنشاء كومنولث يهودي في فلسطين في حال نجحت الحملة الفرنسية في احتلال مصر وبلاد الشام، وذلك مقابل تقديم رجال مال يهود قروضًا مالية للحكومة الفرنسية التي كانت تعاني من أزمة مالية خانقة، والمساهمة في تمويل الحملة الفرنسية بقيادة نابليون، بالإضافة إلى عمل اليهود المقيمين في الشرق كطابور خامس للمساعدة في نجاح الحملة.
وأبدى كثير من زعماء اليهود في فرنسا استعدادهم للتعاون مع الحكومة الفرنسية وفق الشروط المطروحة، بل دعوا إلى تكوين مجلس يضم جميع الطوائف والفئات اليهودية بحيث تكون باريس مقرًا له ليعمل بالتنسيق مع الحكومة الفرنسية من أجل تحقيق هدفها.
وخلال حصاره لمدينة عكا عام 1799، وجه نابليون بونابرت نداءً ليهود العالم يدعوهم فيها إلى المحاربة تحت لوائه وليكونوا عونًا له لتثبيت نفوذه وحكمه. ومما جاء في النداء: "العناية الإلهية التي أرسلتني إلى هنا على رأس هذا الجيش قد جعلت العدل رائدي، وكلفتني بالظفر، وجعلت من أورشليم مقري العام، والعناية الإلهية ستعينني على نقل هذا المقر فيما بعد إلى دمشق قلب الشرق". وخاطب نابليون اليهود بالقول "يا ورثة فلسطين الشرعيين"، داعيًا إياهم لمساندته والعمل على احتلال فلسطين، قائلًا "سارعوا، إن هذه هي اللحظة المناسبة التي قد لا تتكرر لآلاف السنين للمطالبة باستعادة حقوقكم التي سلبت منكم. هي وجودكم السياسي كأمة بين الأمم وحقكم الطبيعي المطلق في عبادة يهوه، طبقًا لعقيدتكم علنًا والى الأبد".
غير أن هزيمة نابليون على أسوار عكا سرعان ما قضت على فكرة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، لكن الوعد الذي قدمه نابليون كان مدخلًا شجع ساسة بريطانيا على تبني الفكرة.
الداعمون الأوائل لفكرة الاستيطان
في منتصف القرن التاسع عشر، حاول ساسة وحكام دول أوروبا الغربية، وعلى رأسهم القادة البريطانيون، التخفيف من أعباء استيعاب موجات الهجرة المتزايدة ليهود شرق أوروبا في روسيا وبولندا وأوكرانيا نحو وسط وغرب أوروبا، والتي أصبحت مشكلة ملحة تبحث عن حل جذري. وفي هذا السياق، عادت فكرة هجرة اليهود نحو فلسطين كحل لهذه المشكلة، والاستفادة منهم في الوقت نفسه كعنصر بشري يتم جلبه إلى بلاد الشام، وهي المنطقة المشرفة على طرق التجارة إلى الشرق الآسيوي.
وفي هذا الإطار، لعبت البعثات الاستكشافية التي تُعدّ إحدى أدوات الدول الاستعمارية، دورًا مهمًا في توطين اليهود بفلسطين، ومن أهم تلك البعثات من أرسلتهم مؤسسة صندوق استكشاف فلسطين الذي أسسته بريطانيا عام 1865، وضم مجموعة من الأكاديميين البريطانيين ورجال الدين، الذين دعموا وتعاطفوا مع طروحات المسيحيين اﻟﺒﺮوﺗﺴﺘﺎﻧﺖ الصهاينة. وركز عمل بعثات المؤسسة على القيام بعملية مسح طوبوغرافي شامل للمدن والبلدات والقرى الفلسطينية والذي جاء على شكل 26 خريطة مفصلة تفصيلًا دقيقًا، كما تم تصنيف الأماكن إلى 46 صنفًا مثل: مدينة، قرية، خربة، بير، مزار، قلعة، تل، نبع، نهر.
كما كان للبعثات الاستكشافية دورًا مهمًا في إقامة مراكز ثقافية ومدارس تعليمية وكنائس وأبرشيات في عدة مناطق من فلسطين، وتم العمل على ترسيخ فكرة تدعي أن: "فلسطين بلد مهمل خالي من السكان، تسكنها أقليات مهملة ومعزولة في مناطق تنتظر إحيائها"، وعلى هذا الأساس تم توجيه أنظار اليهود نحو فلسطين للهجرة والاستيطان فيها عن طريق تزويدهم بالمعلومات الجغرافية والتاريخية والسياسية التي كانوا يحتاجونها.
وانطلاقًا من الأفكار ذاتها، بدأ عمل القنصليات الأوروبية لتسهيل عمليات دخول اليهود إلى فلسطين وإتمام أوراق إقامتهم وتوطينهم وإيجاد الحلول للصعوبات والإشكاليات التي تعترض طريقهم، ومساعدتهم في إتمام الصفقات العقارية، وأصبح عمل القنصليات في هذا الإطار رئيسيًا.
ولعبت بريطانيا دورًا مهمًا في هذا المجال، حيث قام سياسيون بريطانيون بجهود مكثفة للمساعدة في هجرة اليهود نحو فلسطين والاستيطان هناك، ومن أبرز هؤلاء السياسيين اللورد شافتسبري الذي يعد أب عقيدة توطين اليهود في فلسطين، وصاحب فكرة حل المسألة الشرقيـة عن طريق احتلال اليهود لفلسطين.
بدأ شافتسبري حملته عام 1839، وذلك بنشره مقالًا تحت عنوان "دولة وآمال اليهود" لخص فيه فكرته عن عودة اليهود، وعن العرق العبري والشعب المنبوذ، معارضًا فكرة اندماج اليهود في الشعوب التي ينتمون إليها، بحجة أن اليهود سيبقون غرباء في كل مكان إلا في فلسطين.
وقدّم في عام 1840 مشروعًا لتوطين اليهود في فلسطين إلى وزير الخارجية البريطاني اللورد بالمرستون الذي حمل عنوان "وطن بلا شعب لشعب بلا وطن"، الذي حوله الصهاينة فيما بعد إلى شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، داعيًا إلى تبني بريطانيا للمشروع. وقد قام بالمرستون بتعيين أول قنصل بريطاني في القدس عام 1838 وتكليفه بمنح الحماية الرسمية لليهود في فلسطين،
وإلى جانل شافتسبري، برز اسم إدوارد ميتفورد الذي كان من بين دعاة توطين اليهود في فلسطين، وقدّم للحكومة البريطانية عام 1845 مذكرة طالب فيها بإعادة توطين اليهود في فلسطين بأي ثمن.
وكان ميتفورد من أوائل الذين عرضوا تهجير الفلسطينيين وتوطينهم في مناطق أخرى من الدولة العثمانية، ولخص فكرته بالقول: "البلد قليل السكان في الوقت الحاضر بالنسبة إلى مساحته، إلا أن الضغط الذي يولده إدخال كتلة بهذا الحجم من الغرباء على السكان الفعليين، قد تترتب عليه نتائج سيئة، لذا يستحسن قبل القيام بمحاولة للاستيطان، وأن يتم إعداد البلاد لاستقبال القادمين، ويمكن تحقيق ذلك بحث الحكومة العثمانية للعمل على جعل السكان المحمديين يتراجعون إلى تلك البلدان الشاسعة والمزروعة جزئيًا في آسيا الصغرى، حيث يتم تمليكم قطعًا وحصصًا من الأرض مساوية حسناتها، ومتفوقة إلى حد بعيد في قيمتها بالقياس مع الأراضي التي تخلوا عنها".
أما الحاكم البريطاني السابق لمستعمرة أستراليا الجنوبية، الكولونيل جورج جاولر، فقد أوصى في كتابه "تهدئة سوريا والشرق" الذي أصدره عام 1845 بإقامة مستعمرات يهودية بشكل تدريجي، على أن يُمنح اليهود الحكم الذاتي فيما بعد تحت الحماية البريطانية بموجب اتفاق مع الحكومة العثمانية. وقد كان جاولر يرى أن "فلسطين اليهودية" هي الضمان الوحيد لاستمرار نفوذ بريطانيا في الشرق. وقد كتب ليعقوب فرانكلين، وهو حاخام يهودي بريطاني، قائلًا: "إذا كان لي أن ألتمس المبررات لمساهمتي في تأسيس مستعمرة في أستراليا الجنوبية، ففي طليعتها احتمال أن يكون ذلك وسيلة لي للحث على استعمار فلسطين".
وبعد ظهور الحركة الصهيونية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، برزت شخصيات داعمة للمشروع الاستيطاني في فلسطين، من بينهم اللورد موشي مونتفيوري الذي كان رئيسًا للمجلس اليهودي في بريطانيا. وقد كرَّس جهوده في متابعة أوضاع اليهود في شرق أوروبا والعالم الإسلامي، وفي خدمة الجماعات اليهودية المنشرة في العالم، وقام بدعمهم بالأموال.
زار مونتفيوري فلسطين سبع مرات بين عامي 1827 و1875، وطلب من السلطات العثمانية ترخيصًا يسمح لليهود بشراء الأملاك والأراضي للزراعة وتملك المصابن والمعاصر مقابل دفع مبالغ للدولة العثمانية.
وقام في 1837 بالذهاب إلى إبراهيم باشا والي ولاية بلاد الشام، وتقدم بطلب لتأجير 100 أو 200 قرية في الجليل لمدة 50 عامًا، لكن إبراهيم باشا رفض طلبه، ومع ذلك لم ييأس مونتفيوري واستغل عودة فلسطين للسيطرة العثمانية، بدعم أوروبي عام 1840 وحصل على فرمان من السلطان عبد المجيد الأول يكفل حماية اليهود، والموافقة على انتخاب حاخام أكبر لهم في فلسطين، وأن تكون القدس مقرًا له باعتباره زعيمًا للجالية اليهودية في فلسطين.
وشكل هذا الفرمان ما يشبه الحكم الذاتي للجالية اليهودية في فلسطين. وبعد أن كان مونتفيوري يحلم فقط بشراء أراضي زراعية في زمن إبراهيم باشا، حقق اختراقًا داخل الإمبراطورية العثمانية، وأصبح دولة داخل الدولة، ليحقق أكبر إنجازاته بعد صدور مرسوم عثماني عام 1855 يسمح لمونتفيوري بشراء أرض خارج أسوار مدينة القدس ليبني عليها مستشفى لمرضى الجذام، لكنه عدل عن الفكرة بناءً على نصيحة قادة اليهود في القدس الذين اقترحوا عليه إقامة حي لليهود، ليبدأ في عام 1859 ببناء أول بؤرة استيطانية سميت باسمه، ولتحمل لاحقًا اسم مشكانوت شعنانيم، ويمكن اعتبار هذا التاريخ هو تاريخ بداية الاستيطان في فلسطين.
جلب مونتفيوري إلى الحي أول فوج من المهاجرين الأوروبيين "الأشكناز". وإلى غاية عام 1892، تم إنشاء 7 أحياء يهودية قرب القدس، وأقيم جزء منها بمساعدة صندوق مالي باسم "ذكرى موشي"، الذي أُسس تخليدًا لذكرى اللورد موشي مونتفيوري.
ومن بين المسؤولين الأوروبيين الذين شاركوا في دعم المشروع الاستيطاني في فلسطين الدبلوماسي البريطاني لورنس أوليفانت، الذي شغل أيضًا عضوية البرلمان البريطاني. وقد رأى أوليفانت بضرورة إنقاذ الدولة العثمانية من مشاكلها الاقتصادية المستعصية من خلال إقامة علاقة مع اليهود لما يمثلونه من نشاط اقتصادي بارز، وهو ما سيعود بفائدة مزدوجة على كل من اليهود والدولة العثمانية، حيث سيؤدي إلى قيام تحالف حيوي قائم على خدمة المصالح المتبادلة بين العثمانيين من جهة، والشعب اليهودي من جهة أخرى، ويتمتع بأهمية بالغة في المجالات المالية والتجارية والسياسية.
في عام 1879، سافر أوليفانت إلى الأستانة لحمل السلطان العثماني عبد الحميد الثاني على منح اليهود مساحات من الأراضي في شرق الأردن وفلسطين، وهو ما يمكنهم من البدء في تنفيذ عمليات الاستيطان، وتضمن المشروع إنشاء شركة استيطانية لتوطين اليهود برعاية بريطانية، وبتمويل من الخارج، على أن يكون مركزها إسطنبول.
ونشر في عام 1880 كتابه "أرض جلعاد" الذي نادى فيه بضرورة توطين اليهود في فلسطين، وشرح في الكتاب فكرته الأساسية التي تمحورت حول مشروعه الخاص بالسكان العرب، حيث عبّر عن عدم تعاطفه معهم باعتبارهم مسؤولين عن إفقار فلسطين، وقسمهم إلى قسمين: بدو وفلاحين. واقترح طرد البدو ووضع الفلاحين في معسكرات مثل معسكرات الهنود في كندا، على أن يتم استخدامهم كمصدر للعمالة الرخيصة تحت إشراف اليهود.
ولم يكتف أوليفانت بطرح أفكاره، بل حاول استئجار 200 قرية في الجليل لمدة 50 عامًا مقابل 10 إلى 20 بالمئة من إنتاجها لكن هذه المحاولة فشلت. ومع ذلك، استوطن مع زوجته آليس في فلسطين، حيث درس ظروف الاستيطان والاستعمار الزراعي فيها. وقضى أوليفانت وزوجته وقتهما ما بين بيت في المستعمرة الألمانية بحيفا وقرية دالية الكرمل في جبل الكرمل. وقد عاش معهما سكرتيره نفتالي هرتس إيمبر، وهو مؤلف النشيد الوطني الإسرائيلي.
ومن بين من تبنى مشروع توطين اليهود في فلسطين كذلك رئيس الوزراء البريطاني بنيامين دزرائيلي، الذي نشر عام 1877 مذكرة بعنوان "المسألة اليهودية في المسألة الشرقية" التي لم تدعو فقط إلى توطين اليهود في فلسطين بل لإقامة دولة يهودية تتولى بريطانيا حمايتها والإشراف عليها. ومما ورد في المذكرة: "أليس محتملًا أن ينمو في تلك الأرض خلال نصف قرن مثلًا شعب يهودي متراص، قوامه مليون إنسان بكامل عدتهم يتكلمون لغة واحدة، لغة حاميتهم إنجلترا، وتحركهم روح واحدة: الروح القومية النموذجية والرغبة في تحقيق الحكم الذاتي والاستقلال؟".
نشاط الجمعيات اليهودية الاستيطاني
لم يقتصر العمل على توطين اليهود على الساسة والقادة الغربيين، بل عملت جمعيات يهودية لاستمرار السيطرة على الأراضي الفلسطينية، وظهر عدد منها قبل تأسيس الحركة الصهيونية، لكن لم تكن بعيدة عنها من ناحية الفكر والهدف.
في عام 1860، تأسست الجمعية الصهيونية الفرنسية المعروفة باسم الاتحاد الإسرائيلي العالمي "الإليانس" الذي اشتهر بتأسيس عدة مدارس الإليانس باللغة الفرنسية للأطفال اليهود في البلقان ومصر وسوريا والعراق وفلسطين، حيث تحصلت على فرمان عثماني أقدمت من خلاله في عام 1870 على استئجار 2600 دونم من أراضي بلدة يازور القريبة من يافا لمدة 99 عامًا، بتمويل من البارون إدموند دي روتشيلد والبارون موريس دي هيرش، وأقام الاتحاد مدرسة "مكفيه يسرائيل" لتدريب اليهود المهاجرين على الزراعة.
بدورها، باشرت جمعية الهيكل الإنجيلية الألمانية برئاسة كريستوف هوفمان نشاطها الاستيطاني عام 1869 بعد صدور قانون عثماني يسمح للأجانب بتملّك الأراضي في الدولة العثمانية، وتمكن أفراد جمعية الهيكل من بناء مستوطنة في حيفا.
وفي عام 1878، قامت الجمعية بشراء 3375 دونمًا من أراضي قرية ملبس وتم تسجيلها باسم الصحفي النمساوي اليهودي يوآل موشيه سلومون، الذي تولى رئاسة أول صحيفة عبرية صادرة في القدس، اعتمادًا على قانون تملك الأجانب الذي أقرته الدولة العثمانية. وفي العام نفسه، اشترى سلومون قطعة أرض مجاورة للأولى مساحتها 10 آلاف دونم. وعلى قطعتي الأرض تم إنشاء أول مستوطنة زراعية حملت اسم "ﺑتاح ﺗﻜﻔﺎ ".
كما قامت جمعية "استثمار أرض إسرائيل" بالتعاون مع جمعية "الإليانس" بتأسيس أول مدرسة زراعية عام 1870، هي "ميكفا إسرائيل" على مساحة حوالي 2700 دونم من أراضي يافا، وذلك بغرض دراسة التربة الفلسطينية وتدريب المهاجرين اليهود على أنواع الزراعة.
كما استطاعت عائلة بيرغهايم الصهيونية، التي كانت تتمتع بالحماية الألمانية، في عام 1872 من شراء قطعة أرض في قرية أبو شوشة الواقعة جنوب شرق الرملة، تقدر مساحتها بـ2100 دونم من الحكومة العثمانية بعد أن عرضتها في المزاد العلني نتيجة تأخر أهالي القرية في دفع الضرائب للسلطة العثمانية.
واستمرت المحاولات اليهودية للسيطرة على الأراضي الفلسطينية حتى عام 1881، الذي يعتبره المؤرخ اليهودي والتر لاكور بداية التاريخ الرسمي للاستيطان اليهودي في فلسطين بعد أن وصل نحو 3000 يهودي من أوروبا الشرقية إلى فلسطين وقاموا بإنشاء عدد من المستوطنات.
وفي العام نفسه، اغتال مجموعة من الروس ينتمون لمنظمة "نارودنايا فوليا" القيصر ألكسندر الثاني في سانت بطرسبرغ، وكان ضمن مجموعة الاغتيال فتاة يهودية. وعلى إثر هذه الحادثة، تعرض اليهود لحملة واسعة من القتل والسلب والتهجير لفترة استمرت لعامين، وهو ما دفع جمعيات يهودية لتشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين هربًا من بطش الروس، وكانت أشهر تلك الجمعيات "البيلو" التي أسست مستوطنة "غديرة" في فلسطين عام 1884، ضمت طلائع اليهود الروس الهاربين من الأحداث.
وفي عام 1882، ساهمت جمعية "أحباء صهيون" في تأسيس مستوطنة "ريشون ليتسون"، على أراضي القرية الفلسطينية عيون قارة القريبة من يافا، وتمكنوا في العام نفسه من تأسيس مستوطنة "روش بينا" على أرض قرية الجاعونة القريبة من صفد. وكان الهدف تأسيس مستوطنات زراعية لتسهيل امتلاك الأراضي الفلسطينية لاحقًا.
واستمرت في الفترة ما بين 1882 و1884 عمليات الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية بشتى الطرق، منها الشراء أو الاستئجار لمدة طويلة. وقد لعبت الجمعيات اليهودية التي أنشئت لهذا الغرض دورًا كبيرًا في هذا النشاط، فيما أمّنت السلطات الاستعمارية البريطانية بعد ذلك غطاءً يهوديًا لتمويل نقل المهاجرين إلى فلسطين وتوطينهم عبر جمعية الاستيطان اليهودي في فلسطين "بيكا"، التي أسسها البارون إدموند دي روتشيلد الذي ينتمي إلى عائلة كبيرة من المصرفيين ورجال الأعمال لها فروع في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها من دول أوروبا. وقد تولى روتشيلد الإشراف والإنفاق على المستعمرات اليهودية في فلسطين بين عامي 1886 و1890، حيث أُقيمت على أراضي الجمعية مستوطنات: بنيامينا، بني براك، راماتايم، هرتسليا، كفار غانيم، برديس حنا، تل موند، نتانيا، وغيرها.
وتكفلت الجمعية اليهودية للاستيطان التي أسسها في لندن المصرفي اليهودي البارون موريس دي هيرش بدعم النشاط الاستيطاني، وفي نهاية تلك الفترة كان قد جرى شراء نحو 350 ألف دونم، وتم توطين 10 آلاف يهودي في عدد من المستعمرات الزراعية.
وساهمت الوكالة اليهودية التي انبثقت من المؤتمر الصهيوني العالمي الأول عام 1897، والصندوق القومي اليهودي "الكيرن كييمت"، وصندوق التأسيس اليهودي "كيرين هايسود" والشركة الإنجليزية الفلسطينية؛ في تطوير مؤسسات رأسمالية هدفت إلى تمويل مشاريع الاستيطان والإشراف عليه بصورة أوسع وبإنفاق أكبر بهدف تعزيز الوجود اليهودي في فلسطين. وأسس هذا النشاط لما يسمى بالهجرة الثانية لسد الفجوات التي خلفتها الهجرة الأولى التي كانت متعثرة، فقد فشلت تجربة المستوطنات الأولى التي هجرها سكانها وتركوها قاحلة.
غير أن المتتبع للمسار الزمني لبداية النشاط الاستيطاني داخل فلسطين يلاحظ أن مشاريع توطين اليهود في فلسطين لم تكن إلا ذريعة للسيطرة على هذه المنطقة من العالم، وكل الجهود التي بذلت لم تكن إلا لتحقيق الهدف الحقيقي وهو إيجاد كيان حليف يتم تسخيره لخدمة المصالح الاستعمارية الغربية في الشرق الأوسط.