اسمهُ خالد؛ راعٍ إثيوبي لم نكن لنسمع به لو لم تأكل معزاته ثمرات توتية حمراء اللون، في مكان ما في مرتفعات إثيوبيا بين عامي 800 – 1000 بعد الميلاد، جعلتها على غير عادتها وفي حالة لم يألفها الشاب من قبل، إذ صارت نشيطة كثيرة الحركة غير قادرة على النوم أيضًا، ما دفع الراعي إلى تجربة هذه الثمرات التي أحدثت في بدنه ما أحدثته في بدن معزاته، أو هذا ما تقوله الحكاية الشائعة عن اكتشاف القهوة (برليان ويليامز، "فلسفة القهوة"). ورغم بُعدها الأسطوري، ووجود قصص أخرى تُخبرنا بأن القهوة اكتُشِفت في اليمن، إلا أنه ثمة شبه إجماع بين الباحثين على صحتها.
لهذه الحكاية/الأسطورة أكثر من نسخة تتفق، جميعها، على الجزئية المتعلقة باكتشاف حبوب القهوة، لكنها تختلف حول اكتشاف مشروبها، إذ تقول إحداها إنه اكتُشِف على يد شيخ صوفي حمل إليه الراعي حبوب القهوة فرماها في النار ليتأكد مما إذا كان لها أثرٌ كحولي، لكنه تفاجأ بقوة رائحتها. بينما تقول أخرى إن الشيخ رمى حبوب القهوة في النار بعدما صنع منها مشروبًا له طعم سيئ، لكنه عاد وأخرجها بسبب قوة وفرادة رائحته (فلسفة القهوة). وفي الحالتين، كانت الرائحة السبب الرئيسي وراء ولادة القهوة.
ويُروى في نسخة أخرى أن الشيخ هو من قصد الراعي ليتأكد مما بلغه عما جرى له ولمعزاته بعد أكل ثمرات القهوة، ويجربها لعلها تساعده على البقاء يقظًا خلال ممارسة الطقوس والشعائر الصوفية التي تستمر طوال الليل. وكان للشيخ بالفعل ما أراد، فقام حينها بتحويل الحبوب إلى مشروب سيُلازم المشايخ الصوفيين خلال ممارسة طقوسهم وشعائرهم (فلسفة القهوة) لسنوات، أو الأحرى لعقود طويلة.
القهوة والإسلام.. الصوفيون أصل الحكاية
رغم اختلاف هذه القصص حول اكتشاف مشروب القهوة، لكنها تُجمع على أن من اكتشفه مسلمٌ صوفي. وإذا كانت القصص محض أساطير، وهو أمر غير معلوم، فإن اكتشاف المسلمين للقهوة أمر مؤكد في روايات تاريخية مختلفة وموثوقة تربط اكتشاف المشروب بالإسلام، وإن اختلفت في شخص من اكتشفه لكونها تُميِّز بين قهوة مصنوعة من قشر البن، وأخرى من لُبِّه، إلى جانب تلك التي كانت تُصنع من نبتة القات.
يعود اكتشاف القهوة القشرية وانتشارها إلى الشيخ اليمني جمال الدين بن أبي عبد الله محمد السعيد المعروف بـ"الذبحاني" (عبد القادر بن محمد الأنصاري الحنبلي الجزيري، "عمدة الصفوة في حل القهوة")، الذي أقام مرة في بر عجم فوجد أن أهلها يستخدمونها، لكنها لم تُثر اهتمامه إلا بعد عودته إلى عدن، حيث تذكّرها أثناء مرضه فشربها واكتشف أنها نافعة وقادرة على طرد النعاس والكسل من البدن، وجعله نشيطًا خفيفًا (عمدة الصفوة في حل القهوة) رغم المرض.
أما المتخذة من البن، فقد اكتشفها أبو بكر بن عبد الله الشيخ صالح الشاذلي العيدروسي، الذي تقول الروايات إنه صادف في طريقه ثمار البن متروكة وكثيرة، فاقتات بها واكتشف أنها تستدعي السهر وتقوي البدن على العبادة ما دفعه إلى اتخاذها طعامًا وشرابًا ثم أرشد إليها (نجم الدين الغزي، "الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة"، ج1 - ص 115) أتباعه، وقد انتشرت منذ ذلك الحين في اليمن ثم الحجاز وصولًا إلى مصر والشام.
وهناك أيضًا القهوة المصنوعة من نبتة القات، السابقة على قهوتي البن وقشره، التي اكتشفها وأشاعها وأشهرها في أرض اليمن الشيخ علي بن عمر الشاذلي، تلميذ الشيخ ناصر الدين بن ميلق أحد سادة المشايخ الشاذلية (عمدة الصفوة في حل القهوة)، واستمر الصوفيون في صناعة القهوة من القات حتى اكتشاف الذبحاني لقشر البن الذي كان أقل ثمنًا من القات.
قد تختلف تفاصيل إحدى الحكايات السابقة، لكن الثابت فيها أن أبطالها جميعهم كانوا مشايخ صوفيين، ما يعني أن التصوّف وطقوسه كانا خلف انتشار القهوة بعد أن وجد مشايخه فيها ما يساعدهم على ممارسة طقوسهم ليلًا عبر إبقاء الجسد نشيطًا ويقظًا لوقت طويل، وخاصةً أتباع الطريقة الشاذلية.
وفي إشارة إلى قوة العلاقة بين القهوة والطريقة الشاذلية، روى يوسف موسى خنشت أنه من طقوس شرب القهوة في ضواحي دمشق في القرن التاسع عشر، أن يصب الرجل: "قليلًا في الفنجان ويحرّكه حتى يتلون داخله منها ويصب ما فيه في الفنجان الثاني، ويعمل به كما عمل بالأول ويرمي ما فيه على الأرض وهذه يسمونها حصة الشاذلي لاعتقادهم أن الشاذلي هو الذي ابتدع شرب القهوة، أو هو أول من شربها، وأنهم إذا لم يرموا هذه الفناجين إلى الأرض ينقلب الإبريق وتراق منه القهوة" (يوسف موسى خنشت، "طرائف الأمس غرائب اليوم: أو صور من حياة النبك وجبال القلمون في أواسط القرن التاسع عشر"، ص 30).
اكتُشِفت القهوة إذًا في اليمن، وانتشرت فيها وصولًا إلى الحجاز، حيث أصبح لها مع الوقت بيوت تُشرب فيها وطقوس ملازمة لشربها، عدا عن حضورها في حلقات الذكر والموالد التي لم تكن تُقام إلا بحضورها (عمدة الصفوة في حل القهوة). وقد حمل اليمنيون والحجازيون القهوة إلى مصر التي ظهرت فيها نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، حيث ظهرت في أحد أحياء المسجد الأزهر كان يقيم فيه يمنيون وحجازيون يشربونها ليلة كل إثنين وجمعة مع ذكر: "لا إله إلا الملك الحق المبين" (عمدة الصفوة في حل القهوة).
في مصر والشام، واصلت القهوة انتشارها وازداد عدد مستهلكيها داخل وخارج إطار الجماعات الدينية الصوفية الذين رافق انتشارها بينهم، مع الوقت، مظاهر وعادات كان لها دور كبير في إعادة تشكيل وصياغة المجتمعات المحلية، خاصةً بيوت القهوة (المقاهي) التي وفّرت للرجال من مختلف الطبقات والمذاهب والأعراق، وعلى اختلاف وظائفهم وجنسياتهم، فضاءً عموميًا لم يكن متاحًا من قبل ظهور القهوة (فلسفة القهوة).
وإذا كان الفضل في اكتشاف القهوة وانتشارها يعود إلى الصوفيين، فإن الفضل في انتشار المقاهي وتشكّل الصورة الشائعة عنها اليوم، بوصفها حيّزًا خاصًا بالمثقفين يعود، إلى حد ما، إلى العلماء والفقهاء والأدباء الذين كانوا يقصدونها للكتابة، وكان ذلك في وقت مبكّر من انتشار المقاهي في القرن السادس عشر، إذ روى المؤرخ والشاعر الدمشقي الحسن البوريني أنه كانت من عادات الشيخ والأديب أحمد العناياتي: "في كل يوم على الصباح أن يجيب في الغالب علي داعي الفلاح، ثم يسير إلى بيت من بيوت القهوة يكون فيه الماء الجاري مع المليح الساقي والحلوة ويشرب من قهوة البن أقداحًا ويرتاح بها كأنه عاقر راحًا، ثم يشرع في الكتابة" (الحسن البوريني، "تراجم الأعيان من أبناء الزمان"، ج 1/ ص 93).
القهوة وسجال التحريم والإباحة
لم يكن أي أحد ممن اكتشفوا مشروب القهوة، من الصوفيين، يتوقع انتشاره بين العامة وتحوّله إلى عادة اجتماعية ستُمارس في المقاهي أو "بيوت القهوة" سابقًا. كل ما كانوا يعرفونه أنه لا يمكن أن يكون محرّمًا لا لأنهم كانوا واثقين من ذلك، وإنما لأنه لم يجادلهم أحد بشأن هذه المسألة. بيد أن ذلك لم يستمر طويلًا. فمع انتشار القهوة وتزايد عدد من يشربها، وما رافق شربها من ظواهر وعادات بدت مريبة في ذلك الوقت؛ أعاد بعض الشيوخ والفقهاء النظر فيها فانقسموا بين محلّل ومحرّم.
الشيخ شمس الدين بن الخطيب المصري، أحد شيوخ مكة، واحدٌ من الذين رأوا أنها محرمة وأول من أفتى بحرمتها أيضًا. كان ذلك في محرم من عام 915 للهجرة، 1509 ميلادية. وما لم يتوقعه الشيخ في حينها أن يُعارض بعض فقهاء مكة وشيوخها، وغالبية عامّتها، فتواه. فما كان منه إلا أن لجأ إلى الأمير المملوكي خاير بك المعمار، ناظر الحسبة وباش المماليك السلطانية في مكة، وأخذ يحرّضه على القهوة ومن يشربها (عبد العزيز بن نجم بن فهد المكي، "بلوغ القرى في ذيل إتحاف الورى بأخبار أم القرى"، ج 1/ ص 1663).
دعا خاير بك، عقب لقائه مع الخطيب، علماء وقضاة مكة للبحث في شأن القهوة في اجتماع رُجِّحت فيه كفة أولئك الذين أفتوا بجوازها، يتقدمهم الشيخ نور الدين علي بن ناصر المكي. وأمام غلبة هؤلاء، وتمسك الخطيب بموقفه وفتواه، يؤيده عددٌ من شيوخ مكة؛ أُحضر شخصين ليشهدا على أن القهوة مسكرة ومضرة بالبدن، فرجحت كفة الخطيب لدى خاير بك الذي أمر بمنع بيع القهوة وأحرق قشورها بعد مصادرتها من باعتها (بلوغ القرى في ذيل إتحاف الورى بأخبار أم القرى، ج 1/ ص 1663 – 1664).
لم تتحقق، رغم ذلك، غاية الخطيب وجماعته مما أمر به خاير بك، إذ واصل المكّيون – عامةً ونخبة – شرب القهوة التي ازداد انتشارها في المدينة. كما واصل المحرِّمون، في المقابل، تحريضهم عليها بوصفها مسكرة ومضرّة بالبدن أيضًا. وفي عام 917، بعد نحو عامين على اجتماع علماء وفقهاء مكة لدى خاير بك بشأن القهوة، أعاد الشيخ نور الدين أحمد بن محمد بن خضر العمري الكازرويني الشافعي، الذي كان يُلقّب بـ"عين الأطباء" في مكة، تجديد الجدل حولها بمؤلف حمل عنوان "أصل في التحريم" (ابن طولون، "حوادث دمشق اليومية غداة الغزو العثماني للشام 926 – 951: صفحات مفقودة تُنشر للمرة الأولى من كتاب مفاكهة الخلان في حوادث الزمان"، ص 289).
وعلى الرغم من أن مؤلَّف الكازرويني لم يكن الأول، إذ سبقته عدة مؤلفات/مصنفات أخرى حول تحريم القهوة من بينها "قمع الإمارة بالسوء عن الشهوة: بيان حرام شرب القهوة" للشيخ مكي بن الزبير العدوي، و"قمع الشهوة عن شرب القهوة" لحسن بن كثير الحضرمي الأصل، و"زلة القدم والهفوة ممن يتعاطى شرب القهوة" لشمس الدين بن الخطيب (حوادث دمشق اليومية غداة الغزو العثماني للشام، 289)؛ إلا أنه استدعى ردة فعل العلماء والفقهاء الذين سبق أن أفتوا بجوازها، حيث توجه الشيخ نور الدين بن ناصر برفقة بعض الشيوخ إلى خاير بك وتحدثوا معه بشأنها. كما فعل المحرِّمون الأمر نفسه، حيث اجتمعوا مع الأمير المملوكي وبيّنوا له أضرار القهوة وأسباب تحريمها كما جاء في منصف العجمي الكازرويني (بلوغ القرى في ذيل إتحاف الورى بأخبار أم القرى، ج 1/ ص 1775).
لم يسفر لقاء نور الدين بن ناصر وجماعته مع خاير بك عن أي تغيّر في موقفه تجاه القهوة. فعدا عن موقف وفتاوى الشيوخ الذين اتفقوا على حرمتها، كان خاير بك نفسه كارهًا للقهوة على ما يظهر في الروايات التاريخية حول تحريمها في مكة. وسيتجلّى هذا الكره ليلة 23 ربيع الأول عام 917 للهجرة التي صادف فيها أثناء عودته إلى بيته، بعد صلاة العشاء، جمعًا من الناس في جانب الحرم قاموا بإطفاء الفوانيس عند رؤيته، ما أثار ريبته ودفعه نحوهم ليكتشف أنهم يشربون القهوة في كأس يُدار عليهم، فضرب المملوك الذي جمعهم، واسمه قرقماس الناصري (حوادث دمشق اليومية، ص 360)، وبعض من حضر من الفقراء وفرّقهم (بلوغ القرى في ذيل إتحاف الورى بأخبار أم القرى، ج 1/ ص 1775).
وفي صباح اليوم التالي، جمع خاير بك القاضي الشافعي والمالكي وإمام الحنفية وعدد من شيوخ وعلماء مدينة مكة للبت في أمر القهوة وشربها بالطريقة التي رأى الناس يشربونها بها الليلة الماضية. ومع أنهم أجمعوا، محللين ومحرمين، على حرمانية شرب القهوة بهذه الطريقة، لكنهم اختلفوا مجددًا حول البن الذي تُنصع القهوة من قشره، حيث رأى البعض أن حُكم البن هو حكم النباتات والأصل فيه الإباحة" (حوادث دمشق اليومية غداة الغزو العثماني للشام، ص 361).
ولحسم هذا الجدل، استدعى خاير بك الشيخ نور الدين أحمد العجمي الكازروني، وشقيقه علاء الدين، لسؤالهما عن البن بوصفهما أعيان الأطباء في مكة، ولم يكن على الحضور في مجلس الأمير المملوكي تخمين موقفهما، خاصةً نور الدين الذي سبق أن وضع مؤلفًا في تحريم القهوة، وكان جوابهما أن البن بارد يابس مضرٌ للبدن المعتدل (حوادث دمشق اليومية غداة الغزو العثماني للشام، ص 361).
أنهى خاير بك الجلسة التي دعا إليها بتحريم القهوة وشربها. وما يلفت الانتباه في جلستهم هذه، أولًا، أن الشيوخ الذين سبق أن أفتوا بجواز القهوة، أُجبروا مكرهين على النزول عند رأي المحرّمين (بلوغ القرى في ذيل إتحاف الورى بأخبار أم القرى، ص 1776) خوفًا من بطش الأمير المملوكي الذي كان سفيه اللسان، جريئًا على العلماء والقضاة، ومتعصبًا في هذه المسألة بعدما أقنعه المحرّمون بأن منعه لها أمرٌ عظيم سيعود عليه بثواب كبير (عمدة الصفوة في حل القهوة، ص 218).
وثانيًا، كتابة محضر حول الواقعة وإرساله إلى السلطان قانصوه الغوري في القاهرة، أرفقه شمس الدين الخطيب والحكيمين الأعجميين بسؤال للسلطان حول رأيه في القهوة، مطالبين بمرسوم سلطاني لمنعها في مكة (عمدة الصفوة في حل القهوة، ص 195). وما يلفت في السؤال هو التحريض على الشيخ نور الدين علي بن ناصر الذي كفّره بعض من كان في المجلس بسبب إباحته للقهوة، حيث وصفوه في الرسالة بأنه جاهل أباح أمرًا منكرًا، وطالبوا السلطان بردعه (عمدة الصفوة في حل القهوة، ص 218 – 220)،
لكن خاير بك لم ينتظر رد السلطان ومرسومه لمنع القهوة في مكة. فما إن فرغ مجلسه من علماء المدينة وشيوخها حتى نادى بمنعها. وما لم يكم الأمير المملوكي يعرفه أن المرسوم الذي ينتظره سيأتي على غير هواه، حيث وافق السلطان جماعة خاير بك على حرمة شرب القهوة بالطريقة المذكورة في رسالتهم إليه، لكنه لم يرَ في القهوة نفسها ما يستدعي التحريم (عمدة الصفوة في حل القهوة، ص 196).
وجد المكّيون، فقهاءً وعامة، في مرسوم السلطان فرصةً للعودة إلى شرب القهوة، وتجاسروا على شربها عندما علموا أنها غير ممنوعة في بلد السلطان نفسه، مصر. وشيئًا فشيئًا، انصرف خاير بك عن التسلط على شاربي القهوة فازدادت انتشارًا بين الناس، لكن ليس بمقدار انتشارها بعد قدوم الأمير قطلباي إلى مكة بديلًا لخاير بك سنة 918، وكان ممن يشربون القهوة (عمدة الصفوة في حل القهوة، 196 – 198).
وفي عام 932، أفتى محمد بن عراق بحرمة بيوت القهوة، لكنه أنكر حرمة المشروب نفسه. مع ذلك، لم تنته المسألة وظلّت تشغل بعضًا من العلماء في المدينة أو الوافدين إليها بين محلل ومحرم، بيد أن الناس أصبحوا مع الوقت أقل مبالاةً بفتاوى التحريم. وروى عبد القادر الجزيري أنه كان يشرب القهوة مع كبار علماء مكة: "التماسًا لوافر إذهاب الكسل وقوة النشاط والإعانة على الدعاء والوقف والرفع وغير ذلك مما يرتبط بالعمل الصالح غاية الارتباط، والذي أقوله إن الحق الذي لا مرية فيه ولا شبهة تعارضه وتنافيه إنها في حد ذاتها حلال وبها من نشاط على العبادة ما لا يشوبه نقص أو اختلال" (عمدة الصفوة في حل القهوة، ص 204).
فتنة في القاهرة
في الفترة التي خفت فيها النقاش حول القهوة في مكة، كان شيوخ وفقهاء مصر والشام قد انقسموا بين محللين ومحرمين كما كان الحال في مكة، حيث رأى البعض في القهوة شراب مبارك يعين المسلم على ذكر الله وعبادته، وأفتى آخرون بأنها خمرٌ تضر البدن والعقل وتصرف المسلم عن المساجد والعبادة.
في مصر، حيث خرجت القهوة من بيوت اليمنيين والحجازيين، وشُربت في حارة المسجد الأزهر، وبيعت في أسواق القاهرة علنًا، اكتفى بعض الشيوخ والعلماء بتحريمها بينما تطرّف آخرون في التحريم إلى درجة التحريض على شاربي القهوة وباعتها. وكان الشيخ شهاب الدين بن أحمد عبد الحق السنباطي أحد الذين تعصبوا لرأيهم تجاه القهوة وبيوتها وباعتها.
أفتى السنباطي في عام 939 بتحريم القهوة، وعدَّها "مسكرة". وبعد نحو عامين، في عام 941، سُئل عن القهوة مجددًا فجدَّد موقفه مفتيًا بحرمتها. وما يتضح مما أعقب الفتوى أن السنباطي قد غالى في هجومه على القهوة وباعتها ومن يشربها، وإلا ما خرج بعض الحضور من مجلسه لمهاجمة بيوت القهوة، فكسّروا أوانيها وضربوا من كان في داخلها (عمدة الصفوة في حل القهوة، ص 202).
أثار الهجوم على بيوت القهوة وشاربيها في القاهرة فتنة كبيرة استدعت تدخل مفتي مصر، الشيخ محمد بن الياس الحنفي، الذي سأل عنها عددًا من علماء المدينة المعتمدين وأخذ برأي من أفتى بجوازها. بعد ذلك، أفتى الشيخ الحنفي بطبخ القهوة في بيته وسقاها لبعض الأشخاص ثم أخذ يحدثهم ليتبين بنفسه ما إذا كانت مسكرة أم لا. وإذ رأى أنها لم تغير سلوكهم، أفتى بحلّها (عمدة الصفوة في حل القهوة، ص 203 – 204).
بدت الفتوى في حينها كافية إن لم يكن لحسم الجدل، فعلى الأقل لضمان عدم تكرار الحادثة التي استدعتها. وباستثناء ضرب صاحب العسس لعدد من شاربي القهوة وإخراجهم من بيوتها في القاهرة، في إحدى ليالي رمضان عام 945، مقيدين بالحديد واحتجازهم حتى صباح اليوم التالي، لم تتعرض بيوت القهوة في القاهرة لأي حوادث مشابهة، بل ازداد عددها بازدياد عدد مستهلكيها، وبينهم شيوخ وعلماء يُعتد برأيهم.
من دمشق إلى الباب العالي
لم يكن الجدل في دمشق آنذاك أفضل مما هو في مكة. سقوط الدولة المملوكية وصعود الدولة العثمانية لم يصرف فقهاء المدينة وشيوخها عن هذا السجال الذي بدأ في مكة، كما لم يصرف من قبلهم فقهاء وشيوخ القاهرة، عاصمة الدولة الآفلة. وما يلفت في دمشق تحول المسألة إلى قضية سياسية وفقهية شائكة خلّفت حالة من الانقسام والتجاذب الديني والسياسي أكثر مما هي خلاف في الرأي (محمد الأرناؤوط، "التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي"، ص 20). ومع اتساع رقعة الخلاف وكثرة الفتاوى، أصبحت القهوة شأنًا دينيًا وسياسيًا واجتماعيًا عامًا تجاوز حدود دمشق إلى الباب العالي في إسطنبول.
في مكان مثل دمشق يزدحم بالعلماء والفقهاء والشيوخ من مذاهب مختلفة وخلفيات متباينة، كان السجال حول القهوة ما يلبث أن يخفت حتى يعاود الظهور مجددًا فيتسع، في كل مرة، عدد المشاركين فيه بين محللين ومحرمين. وغالبًا ما كان الجدل يبدأ بفتوى تنقض أخرى سبقتها، تبيح القهوة إن كانت ممنوعة، أو العكس. أما صاحب هذه الفتوى، فغالبًا ما يكون أيضًا قاضي المدينة.
مُنعت القهوة في دمشق لأول مرة يوم السابع من ربيع الأول عام 953 للهجرة بفتوى الشيخ محمد بن الأول الحسيني، الذي وصل دمشق لتولي القضاء فيها قبل فتواه هذه بعام واحد قادمًا من حلب، التي نادى أيضًا بمنع شرب القهوة فيها حين كان قاضيًا للمدينة بين 949 – 252 للهجرة. ولم يكتف الحسيني بفتواه، بل أرسل إلى السلطان سليمان القانوني يطلب منه منعها، وكان له ما أراد، حيث نودي بمنع القهوة في شوال من العام نفسه (الكواكب السائرة، ج2 – ص 38).
وربما يكون لموقف شيخ الإسلام آنذاك، محمد أبو السعود، من القهوة تأثيره على قرار سليمان القانوني، إذ كان السعود معارضًا لشرب القهوة، لكنه لم يفت بحرمتها، إذ أجاب عندما سُئل عن القهوة، وقيل له إن الفساق يجمعون على شربها، بقوله: "ما أكب أهل الفجور على تعاطيه ينبغي أن يتجنبه من يخشى الله، ويتقيه" (الكواكب السائرة، ج3 – ص 32)، ما معناه أن الأولى تركها حذرًا من التشبه بالفجار.
إذن، العادات الاجتماعية التي رافقت شرب القهوة، لا القهوة نفسها، هي ما أقلق معظم الشيوخ والفقهاء، وخاصةً المقاهي التي رأى البعض أنها تجمع الفساق وتصرف الناس عن المساجد. وكان قاضي القدس ممن أقلقهم انتشار المقاهي، حيث كتب للسلطان سليمان القانوني يطلب منه إغلاقها، وكان عددها آنذاك 5. استجاب السلطان وأصدر قرارًا بإغلاقها في عام 973 للهجرة، 3 كانون الثاني/يناير 1565 (التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي، ص 40).
وكان موقف السلطان العثماني من القهوة عاملًا مؤثرًا في ترجيح كفة أحد الفريقين على الآخر، وكذلك الولاة. ففي دمشق، كانت القهوة مباحة في عهد الوالي لالا مصطفى، لكنها لم تكن كذلك في عهد سنان باشا (التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي، ص 34 – 41). وما يلفت في دمشق أن السجال كان قائمًا بينما تزداد المقاهي انتشارًا، وأنه استمر لسنوات طويلة رغم غلبة عدد المحللين بالعدد والحجة أيضًا. ومع الوقت، بدأ السجال بين الطرفين يأخذ طابعًا مختلفًا، حيث أصبح بعض شيوخ المدينة ينظرون إلى القهوة على أنها من مظاهر الحداثة (حسان القالش، "سياسة علماء دمشق: أسئلة الإصلاح والهوية والعروبة").
الشيخ عبد الغني النابلسي أحد هؤلاء الذين رأوا إلى القهوة بوصفها مظهرًا من مظاهر الحداثة، ودافع عنها خلال هجوم حركة قاضي زاده عليها في سياق هجوم أوسع على الصوفيين، على اعتبار أنهم من اكتشفها وأشاعها وقبل بالعادات التي رافقت انتشارها وتبنيها كذلك. وكانت الحكومة العثمانية آنذاك توافق أنصار الحركة الرأي لا لاقتناعها بحرمة شرب القهوة بل لأسباب سياسية، حيث أثارت القهوة قلقها لكونها أتاحت للناس مناقشة الشؤون السياسية، وخوفًا من استخدامها كمراكز للتأثير على الرأي العام ضدها (سياسة علماء دمشق).
استمرت القهوة وشربها وانتشار المقاهي، وما رافقها من مظاهر وعادات اجتماعية مختلفة، في إثارة الجدل بين حين وآخر. لكن تأثير هذا الجدل على المشروب نفسه، ومن يشربه، أخذ يتضاءل بمرور الزمن، خاصةً مع ازدياد عدد مستهلكيها من الشيوخ والفقهاء، وانتشارها الواسع بين عامة الناس كذلك، ما جعل منعها أمرًا صعبًا، سيما أن الذرائع التي استند إليها المحرمون لتحريمها، لم تثبت صحتها.